لنقلب قليلا في صفحات التاريخ حتى نصل إلى عام 1928م الذي خلف فيه هيدجر أستاذه هسرل في شغل كرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج، ففي الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1929م ألقى هيدجر محاضرته الافتتاحية في التدريس بالجامعة تحت عنوان «ما الميتافيزيقا؟»، وتزامنت هذه البداية لحياته العلمية مع بداية الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي بلغت ذروتها بعد انهيار البورصة في أكتوبر سنة 1929م والتفاف حبل المشنقة على رقبة الاقتصاد الألماني: البطالة الشاملة، الانهيارات اليومية للبنوك والمؤسسات، التضخم النقدي الرهيب ... وكان من الطبيعي أن يشعر هيدجر بالقلق والهم اللذين يطوقان وجوده، وهو الفقير الذي عاش على المنح الكنسية ليتمكن من إكمال دراسته، ومن الطبيعي أيضا أن تصطبغ تحليلاته الفلسفية قبل ذلك بسنتين اثنتين بالسواد الذي ليس بعده سواد.
واتفق أن تولى هيدجر منصب مدير الجامعة في نفس الوقت الذي استولى فيه هتلر على السلطة؛ إذ انتخب مديرا للجامعة في الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 1933م، وألقى في السابع والعشرين من شهر مايو خطبته الشهيرة عن تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها، ويبدو أن الظروف المحيطة قد نفثت فيه سموم الوهم الشيطاني بأنه هو «الفوهرر» (أي القائد) الروحي الأوحد للجامعة؛ فقد صدر في الواحد والعشرين من شهر أغسطس عن ولاية بادن التي تتبعها الجامعة قانون يجعل مدير الجامعة هو قائدها، كما يقلص من دور مجلسها بحيث يصبح مجرد دور استشاري، وتصور هيدجر في تلك الخطبة أن مجتمع الأساتذة والطلبة لا ينهض ولا يتقوى إلا بتجذرهما معا في ماهية الجامعة الألمانية، لكن هذه الماهية لا تتضح ولا تبلغ مكانتها وقوتها إلا عندما يصبح القادة أنفسهم مقودين، والذي يقودهم هي «ضراوة تلك المهمة الروحية التي تطبع قدر الشعب الألماني بطابع تاريخه الملزم».
لغة غريبة لا تصدر عن فيلسوف عميق النظرة أو بعيدها، ولا نعدم فيها أصداء من لغة هتلر التحريضية الخشنة المتشنجة، أضف إليها بعض تصرفات هيدجر أثناء إدارته للجامعة بما يوحي بوقوعه في وهم القيادة الروحية للجامعات الألمانية بأسرها، بيد أن غرقه في هذا الوهم الفاسد لم يستغرق العام بأكمله؛ إذ سرعان ما أفاق من سحر مخدره المسموم بتقديم استقالته في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة 1934م، وبذلك انتهت فترة النشاط السياسي الأسود والوحيد في حياته، وبعدها أسقطه النظام الإرهابي كذلك من حسابه، وإن واصل مضايقته ومراقبته له - كما سنرى بعد قليل في الحديث الذي أجرته معه مجلة شبيجل ونشرته بعد وفاته بخمسة أيام - كما لزم هو الصمت المطلق فلم تنبس شفتاه بحرف واحد عن حقيقة موقفه طوال ما يربو على الأربعين عاما، إلا عندما أفضى في شهر سبتمبر من عام 1966م بالحديث الذي أشرت الآن إليه.
وقبل أن نصل إلى هذا الحديث علينا أن نقف قليلا عند تحليلاته التي سبقت الإشارة إليها في «الوجود والزمان»، والعجيب في هذه التحليلات أنها كشفت كشفا أصيلا عن زمانية الموجود الإنساني المتناهية باعتبار أنها هي أساس تاريخيته، والأعجب من ذلك أن طريقته المنهجية الصارمة في هذا التحليل - التي تأثرت بغير شك بمنهجية فلسفة الظاهرات غير التاريخية بطبيعتها، بجانب تأثرها أيضا بمنهجية اللاهوت والعلوم الطبيعية والرياضية التي سبق له دراستها - لم تكشف له عن روح عصره التاريخي الذي عاش فيه، ومن ثم تولد عند قارئه انطباع بأنه يتحرك في عالم شبيه كل الشبه بعالم كافكا المزدحم بالكوابيس الثقيلة المعتمة؛ ولهذا تجثم على قلبه فظاعة ذلك القلق الذي يصفه الفيلسوف بأنه «الأسلوب اليومي الخفي لحياة الإنسان في العالم»، وأنه يلح على الموجود الإنساني الملقى به فيه ويهدد ضياعه المنسي من جانبه، ويلقي به في الشعور بالذنب، بل يصل به الأمر إلى حد القول بأن «الموجود الإنساني» - الدازاين - هو من حيث هو كذلك كائن مذنب.
هل كان التحليل الأطولوجي الأساسي مبررا لكل هذه الفظاعة والقتامة؟ وهل يكفي هو وحده لتفسيرها؟ وما الذي جعل هذه اللغة المزدحمة بالمفاهيم اللاهوتية لا تذكر «الله» مرة واحدة، بل تعطي الإحساس - الخاطئ - بالإنكار والتجديف والإلقاء بالإنسان في عالم منسي ومحكوم عليه بالضياع؟ ولماذا يكثر الفيلسوف من الكلام عن القلق والهم والذنب بوصفها «وجودات» أو مقولات أو مقومات وجودية أساسية ويحرمنا تماما من «وجودات» أخرى لا تقل عنها تعبيرا عن البناءات الأساسية في وجود الإنسان كالحب والأمل والفرح والثقة والمسئولية والانتماء «للآخر» المحبوب ... إلخ بل ربما فاقتها في أهميتها وقدرتها على الكشف عن ماهية الإنسان الموجود في العالم ومع الناس والمتجاوز له أو المتعالي عليه في آن واحد؟
لعل التفسير الوحيد لذلك كله - وهو تفسير غير قاطع وغير ملزم - أن يكون كامنا في روح العصر نفسه، فقد كان عصر القلق الشامل والهم المطبق الذي اتفق لصاحبنا أن يدون فيه كتابه الأساسي، هل نخلص في النهاية إلى أن «الوجود والزمان» ربما كان - عن غير وعي واضح من صاحبه! - مرآة عكست موقفا تاريخيا ووجوديا عصيبا حكمته محنة قاسية حاصرت ألمانيا وشعبها في الثلث الأول من القرن العشرين بأسوارها الاجتماعية والاقتصادية والميتافيزيقية المخيفة؟
لننظر مرة أخرى إلى هذا الكتاب في سياق الأدب المعاصر له؛ بغية إلقاء المزيد من الضوء عليه، فمنذ عهد الرومانسية المبكرة حتى تفجر الحركة التعبيرية في الفن التشكيلي وفي الأدب مع بدايات القرن العشرين، أخذت أصوات «الحداثة» الأدبية والفنية في ذلك الحين تردد الكلام عن وحدة الإنسان في العالم وغياب المعنى، وعن القلق واليأس والاقتلاع من الجذور والاغتراب عن البيت والوطن ... وراح التعبيريون يطلقون تهويماتهم وصيحاتهم ونداءاتهم «للإنسان الجديد» الذي أخذوا يترنمون في شعرهم ونثرهم باقتراب بعثه إلى الحياة وزحفه في مقدمة الصفوف: «أيها الإنسان الإنسان الإنسان، قف، وانهض على قدميك!» (الشاعر يوهانيس بيشر)، «أيها الإنسان حقق ماهيتك وكن إنسانا» (الشاعر أرنست شتادلر)، «أين هو القائد الذي يمكن أن يقود خطانا؟ إننا نبحث عنه في النور!» (الكاتب المسرحي جورج كايزر).
9
في هذا المناخ الذي يترقب فيه الناس البعث ويتغنون بالتجدد ويتنادون باليقظة والنهوض؛ قدم هيدجر تحليلاته لبناء الوجود الإنساني، وألقى خطبته السابقة التي دعا فيها إلى التصميم الهادف لتحقيق جوهر الوجود، وحث قراءه على الإصرار على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، وحذرهم من السقوط في حضيض «الناس المجهولين» وأسلوب حياتهم المطبوع باللغو والفضول والمفتقد للحرية والاختيار، صحيح أن تحليلاته بقيت تحليلات أنطولوجية خالصة، وأن دعوته لتحقيق الوجود الأصيل لم تقترن بأي تعليمات أو نصائح عملية، بل بقيت بعيدة كل البعد عن التهويمات المسيحانية (أو الخلاصية) التي أطلقها التعبيريون؛ غير أن بعد المستقبل الذي ركز عليه الفيلسوف في تحليلاته للبنية الزمانية والتاريخية للموجود الإنساني ربما يكون قد أغراه بالوقوع في الوعي الزائف بأن استيلاء النازيين على السلطة يمكن أن يقترن بالبعث والتجدد الحيوي والتصميم البطولي على تحقيق الحياة الأصيلة في مواجهة الموت والخطر، وربما يكون قد أغراه كذلك - في فترة زمنية محددة - بأن يكون هو نفسه القائد الروحي والفلسفي لهذا «الفوهرر» المبشر بالبعث الجديد أو أحد قادته على أقل تقدير!
بيد أن الوهم والوعي الزائف لم يستمرا طويلا كما قلت، فسرعان ما أفاق منهما الفيلسوف في ربيع سنة 1934م، وأدرك عمق الهاوية التي سقط فيها عندما تصور أنه يمكن أن يكون سندا لنظام فاشي مرعب تجلت له بشاعة عدميته بأشكال مختلفة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، ما الذي فتح عينيه على هذه العدمية المتحكمة في النظام وفي روح العصر ومحنته؟ وما الذي رد إليه الوعي التاريخي المفقود الذي طال غيابه عنه؟ إنها دراسته المتعمقة في تلك السنوات لعدمية نيتشه «آخر العدميين الأوروبيين» كما سمى نفسه بحق؛ فقد فسر نيتشه الميتافيزيقا والفلسفة الحديثة بأنها هي تاريخ الدوافع الخفية التي تهيمن عليها «إرادة القوة»، وتتمثل حقيقتها الأخيرة في «تجريد كل القيم من قيمتها»، أي في العدمية، وقد عكف هيدجر على دراسة نيتشه في الفترة الزمنية الممتدة من 1936م إلى 1940م عندما كتب مقاله الشهير عن كلمة نيتشه عن موت الإله (ونشر المقال في كتابه دروب مسدودة عام 1950م) وانصرف إلى محاضراته عن نيتشه (التي جمعها في كتاب من جزأين صدر في عام 1961م)، ولكنه - بالمنطق الكامن في فلسفته! - سحب العدمية على تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية بأسره، وأخذ يكشف في رسائل وبحوث متوالية عن العدمية الكامنة فيه منذ أفلاطون حتى فلسفة نيتشه نفسه الذي عده - بجانب ماركس كما سبق القول - خاتمة هذا التاريخ وآخر فصوله؛ إذ رأى أن نظرية نيتشه عن إرادة القوة بوصفها «جوهر كل ما هو واقع» وإرادة المزيد من الحياة، فقد بلغت بالميتافيزيقا الحديثة للذاتية غاية نهايتها وتمامها، بل لقد توسع في ذلك حتى ذهب إلى أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية - أو العقلانية الغربية كما وصفها ماكس فيبر - هو في حقيقته تاريخ نسيان الوجود الذي يتمثل في عصرنا في سيطرة الفكر العقلاني والتقني والحسابي الحديث (وكلها أفكار شديدة التأثر بفلسفة الحياة عند دلتاي وبرجسون وزيميل وكيزيرلنج ولودفيج كلاجيس بوجه خاص). من هنا توصل هيدجر إلى فهم مغاير للفاشية التي حاولت أن تستر عدميتها أو تعوض عنها بالتنظيم المطلق لكل شيء؛ ففي بحث كتبه في أواخر الثلاثينيات ولم ينشر إلا في سنة 1950م تحت عنوان «التخلي عن الوجود والضلال» نراه يحلل مبدأ القيادة مع تحليله للحرب والأيديولوجية التي تقسم البشرية إلى بشرية فوقية وأخرى تحتية، وهو يرجع هذا كله للفراغ الناجم عن التخلي عن الوجود وللعدمية المترتبة عليه، إن ظهور «الفوهرر» (بالجمع)، أي: القواد، هو النتيجة الضرورية لتحول الوجود إلى شكل من أشكال الضياع الذي ينتشر فيه الفراغ والخواء. القواد في هذه الرؤية هم العمال المسلحون بكل الوسائل الكفيلة بصيانة الموجود في كل مظاهره ومناطقه، وكانوا هم الذين يلمون به ويحسبونه؛ ومن ثم يسلمونه للفراغ والضياع والضلال، أما الحرب فهي فرع لاستغلال الموجود واستهلاكه، وهي حرب مستمرة حتى في الأوقات التي تسمى بأوقات السلام، وهكذا تكون الحرب المتمثلة في استغلال الموجود مع كل الطبائع القيادية التي تشرف عليها عملية يحركها ويحددها من داخلها ذلك الفراغ الكامل أو العدمية المطلقة الكامنة فيها، وهكذا أيضا تصبح الأرض هي بيئة الضلال، كما تصير من جهة تاريخ الوجود هي: «كوكب الضلال».
صفحة غير معروفة