وبعض الحيوانات التي نزلت إلى الماء بعد أن كانت تعيش على اليابسة تدلنا بسلوكها على طريق التدرج الذي اتخذته في الوصول إلى حالة القيطس؛ فإن القيطس يلد في الماء ولا يحتاج إلى الخروج إلى البر، ولكن لا يزال في العالم حيوانات لم تبلغ هذه المرتبة وإن كانت تسير في طريقها؛ ففرس النهر الذي يسميه الأطفال «السيد قشطة» يعيش في الماء واليابسة على السواء، ويبقى مدة طويلة ورأسه تحت الماء لطول نفسه، والدب كذلك لا يبالي السير على الأرض أو السباحة في الماء، ولكنهما يلدان على الأرض.
والتمساح واللجاة يعيشان في الماء، ولكنهما وقت البيض يخرجان إلى اليابسة، فتبيض الأنثى ويبقى ولدها مدة على البر، ثم ينزل الماء. والفقمة تعيش طيلة حياتها في الماء، ولكنها وقت اللقاح والولادة تخرج إلى البر، فهي لم تبلغ بعد مبلغ القيطس الذي يعيش ويلد في الماء.
فاحسب آلاف السنين التي مضت، وما مات من القياطس في هذا النزاع الطويل، حتى تمكنت من أن تجعل الماء وسطا ملائما لحياتها وأولادها.
واذكر هذه الأطوار التي يقطعها الآن أمثال فرس النهر والتمساح واللجاة والفقمة للوصول إلى حال القيطس، تعرف أن التطور لم ينقطع، وإنما هو سائر كما كان يسير في الماضي، وأنه سيأتي يوم تلد فيه الفقمة في الماء، ويتمكن فرس النهر - إذا لم تبده المدنية - من أن يعيش طيلة حياته في الماء.
ثم اعتبر الأسماك التي تعيش في قعور البحار العميقة، فإن قعر البحر إذا بلغ عمقه نحو أربعة كيلو مترات يكون مظلما، فلا تستطيع الأسماك رؤية طريقها حتى تتقي عدوها وتهجم على فريستها، فلم يكن لها بد من الاهتداء إلى طريقة تجعلها تلائم هذا الوسط المظلم، ولم تكن هذه الطريقة سوى اختراعها ضوءا يشع وينير لها هذه الظلمة.
واعتبر عنق الزرافة وخرطوم الفيل، فكلاهما يؤدي وظيفة واحدة وهي الوصول إلى الأغصان أو الأعشاب، وعنق الفيل قصير، وعنق الزرافة طويل، ولكنهما يحتويان كلاهما على سبع فقار مثل عنق الإنسان، فالطول والقصر تعديل يراد به الملائمة بين البيئة والحيوان، والأساس واحد وهو عظم الفقار، ولكن التعديل يختلف باختلاف البيئة، ولو لم نكن نحن والفيلة والزرافة من أصل واحد لكان لكل منا عدد من الفقار يوافق طول عنقه، بحيث يحتوي العنق الطويل على عدد أكبر من الفقار مما في العنق القصير.
ويمكن القارئ إذا تأمل في أحياء الطبيعة؛ نباتها وحيوانها، أن يرى الملاءمة الدائمة بين البيئة والحي، وهذه الملاءمة لم تبلغ درجتها الحاضرة إلا بعد انتخاب طبيعي عاش فيه ما لاءم الوسط وأنسل، وانقرض ذلك الذي لم يلائم وسطه.
فشجرة السنط - إذا كانت صغيرة يمكن الحيوان أن يأكلها - امتلأت شوكا يذود الحيوان عنها، فإذا كبرت ولم تعد تخشى الحيوان زال شوكها أو قل، وحشرات الليل؛ كالخنافس وغيرها، تكون سوداء لا تظهر في الظلمة، وديدان البطن تهضم بجلدها مع أنه كان لها قناة هضمية، بل القناة الهضمية ظهرت فيما هو أحط منها من طبقة الشائكة؛ مثل خيار البحر ونجمة البحر، ولكنها، لأنها تعيش في قناتنا الهضمية في الغذاء، صارت تهضم بجلدها؛ لأن هذا أسهل عليها من ابتلاع الغذاء بفمها، ثم هضمه، ثم تبرز نفايته.
ولون الإنسان من سمرة أو سواد هو ضرب من الملاءمة بين الوسط والحي؛ فأجسامنا تفرز هذه الصبغة من سمرة أو سواد على بشرتنا كي تقينا من ضوء الشمس وما فيه من سموم، نعرفها عندما نعمد إلى قتل الميكروبات الشفافة بتعريضها للشمس، وعندما نفتح النوافذ لتطهير غرفنا بها، بل القردة التي تعيش في إفريقيا لها وجوه سود أيضا مثل الزنوج؛ فبيض البشرة لا يمكنهم أن يتحملوا الضوء الشديد، ولذلك انقرضوا من البلاد الحارة، ولم يبق سوى الحاصلين على صبغة قليلة أو كثيرة.
والخلاصة أن الطبيعة في غربلة دائمة لا تنقطع؛ فما لاءم الوسط أبقته، وما لم يلائمه أبادته.
صفحة غير معروفة