تاريخ نظرية التطور
فكرة التطور وقيمتها
فلسفة التطور
تطور العالم
أصل الحياة وغايتها
نشأة الحياة الأولى
وجهتا التطور في الحيوان والنبات
التطور في قشرة الأرض
التطور في الدواجن
التطور في الشارع
التطور في الإنسان
تناسل الحيوان
لماذا تتطور الأحياء؟
تنازع البقاء
وثبات في التطور
عمالقة الأرض
التطور في الحيوان
سمكة السيلاكانت
التطور في النبات
البيئة والحي
تطور بعض الأعضاء
حواس الحيوان وعقله
ظهور الإنسان
ارتقاء العقل البشري
نحن والقردة
حياة الأورانج أوتان
مسألة الدماغ البشري
الوجه البشري
السلالات البشرية
نشأة المجتمع البشري
النار والطعام
أصل اللغة
العصر الحجري
ملابسات المجتمع الأول
أصل الحضارة
أصل الدين
تطور اللباس
تنازع البقاء في عصرنا
إنسان المستقبل
تشارلس داروين
تاريخ نظرية التطور
فكرة التطور وقيمتها
فلسفة التطور
تطور العالم
أصل الحياة وغايتها
نشأة الحياة الأولى
وجهتا التطور في الحيوان والنبات
التطور في قشرة الأرض
التطور في الدواجن
التطور في الشارع
التطور في الإنسان
تناسل الحيوان
لماذا تتطور الأحياء؟
تنازع البقاء
وثبات في التطور
عمالقة الأرض
التطور في الحيوان
سمكة السيلاكانت
التطور في النبات
البيئة والحي
تطور بعض الأعضاء
حواس الحيوان وعقله
ظهور الإنسان
ارتقاء العقل البشري
نحن والقردة
حياة الأورانج أوتان
مسألة الدماغ البشري
الوجه البشري
السلالات البشرية
نشأة المجتمع البشري
النار والطعام
أصل اللغة
العصر الحجري
ملابسات المجتمع الأول
أصل الحضارة
أصل الدين
تطور اللباس
تنازع البقاء في عصرنا
إنسان المستقبل
تشارلس داروين
نظرية التطور وأصل الإنسان
نظرية التطور وأصل الإنسان
تأليف
سلامة موسى
مقدمة الطبعة الأولى
بقلم سلامة موسى
1928
نظرية التطور من النظريات الكبرى التي تسيطر على الثقافة الأوربية، وتصبغ عقلية المفكرين في جميع أنحاء العالم الآن، وهي قائمة في الأصل على درس التاريخ الطبيعي للإنسان والحيوان والنبات، وهذا الدرس قليل أو لا وجود له في اللغة العربية؛ ولذلك بقيت نظرية التطور - على قدمها النسبي - غير معروفة أو غير مشروحة في كتاب قائم برأسه، وليس ينكر أحد فضل مجلة المقتطف والمرحوم شبلي شميل في شرح هذه النظرية، وإيراد الأمثلة المتوالية على حقيقتها ، ولكن مع كل ذلك ليس في العربية كتاب واف سهل عنها للآن.
وقد حداني هذا النقص في لغتنا على أن أحاول في الصفحات الآتية شرح النظرية وتعميمها بلغة سهلة، مع توقي ما أشكل منها، فلست أورد إلا ما اتفق الرأي عليه، أو ما يمكن القارئ العادي أن يفهمه بلا حاجة إلى معارف بيولوجية سابقة، وكذلك تحاميت ذكر الألفاظ العلمية؛ كترتيب الطبقات الجيولوجية وأسماء دهورها، ولم أذكر من أسماء الحيوان إلا ما يعرفه القراء أو يمكنهم مشاهدته في مصر، إلا ما ندر.
والكتاب قسمان؛ نصفه الأول يحتوي فصولا خاصة بما حدث من التطور قبل الإنسان، والنصف الثاني مقصور على تطور الإنسان نفسه وبعض مؤسساته الاجتماعية الكبرى، وسيرى القارئ أننا اختصرنا أشياء اختصارا قد يكون مخلا اضطرنا إليه ترسيم الكتاب الذي بدأنا فيه بنشأة الأرض، ثم انتهينا منه بإنسان المستقبل، ولكن هذا الاختصار، إذا كان فيه ما يستاء منه المطلع، فإن غيره يجد فيه فكرة عامة عن النظرية تحثه على البحث والتنقيب عن فروعها الغامضة أو المقتضبة.
ويحسن بالقارئ أن ينعم نظره في الفهرست أولا، ثم يقرأ الفصول على ترتيبها بحيث تتم الصورة في ذهنه غير مشوشة بتقديم فصل على آخر، ويحسن أيضا بمن يريد التوسع في النظرية أن يقرأ «مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» ففيهما عدة فصول عن التطور قد عولجت بإسهاب.
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم سلامة موسى
1953
رأى صديقي الأستاذ إلياس أنطون إلياس، بعد أن نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، أن يعيد طبعه، وطلب إلي أن أراجعه قصد الإضافة أو الحذف أو التنقيح، وقد قمت بهذا الواجب، فزدت في الصور الموضحة، كما زدت فصولا جديدة، وفي بعض الفصول عمدت إلى تنقيح العبارة بما يجلو غوامضها، كما شرحت ما كان موجزا في الطبعة السابقة.
وفي هذه الطبعة الثانية التفت إلى نقطتين لم أوفهما حقهما في الطبعة الأولى؛ وهما: (1)
تأكيد قيمة النظر في تطور الإنسان دون سائر الحواس التي تقهقرت حتى إن بعضها أوشك على الزوال؛ مثل الشم، فإن التفوق العقلي الذي نمتاز به إنما هو عقل العين التي جعلتنا نرى الأشياء رؤية كليدسكوبية متجسمة وليس رؤية فتوغرافية مرسومة؛ وذلك لأن نافذتنا إلى الدنيا هي العين التي تجعل تفكيرنا إلى حد بعيد موضوعيا مستقلا عن تأثير عواطفنا، ولو كانت نافذتنا إلى الدنيا هي الأنف أو الأذن أو اللسان لقصر إدراكنا قصورا عظيما، ولأصبح تفكيرنا ذاتيا لا ينقل صورة الدنيا على حقيقتها إلى عقولنا، بل يحرك عواطفنا فقط؛ ذلك لأن العقل العيني هو عقل منطقي موضوعي إلى حد كبير، في حين أن العقل الأنفي أو الأذني هو عقل ذاتي عاطفي، وهذا امتياز عظيم لنا على الحيوان. (2)
والنقطة الثانية التي أردت تأكيدها في هذه الطبعة الثانية هي قيمة اللغة في سيادة الإنسان على الطبيعة، وعلى سائر الحيوانات التي كانت تزاحمه على قدم المساواة تقريبا قبل اختراع اللغة؛ ذلك أن الكلمات هي أدوات التفكير التي حرم منها الحيوان، ونحن نجمع هذه الأدوات منذ أكثر من خمسين أو مئة ألف سنة، فلم نسم الأشياء فقط، بل اخترعنا أسماء العلاقات التي ما كان يمكن للإنسان فهمها لولا الكلمات؛ فكلمات الصدق والحب والكراهية والفهم والسخاء والبخل والمجد والشرف والظلم والعدل ونحوها، إنما هي كلمات تدل على علاقات بشرية بين شخص وآخر، وباختراع الكلمات لهذه العلاقات أصبح المجتمع البشري مستطاعا، وهذا أعظم نقص تعانيه القردة العليا.
فالعين واللغة هما أعظم العوامل للارتقاء البشري على الحيوان، وأرجو القارئ لهذا السبب أن يعذرني لإسهابي في هذا الموضوع في بعض فصول الكتاب.
ولو كانت لغتنا تساير اللغات المتمدنة المتطورة لكانت كتب داروين في متناول القراء العرب منذ ثمانين سنة، ولكن لغتنا - للأسف - لا تزال بدوية، تلتزم الخيام وتقنع بالعيش في الوبر، وتحلم بالغيبيات، في حين تعيش اللغات العصرية عيشة الترف والبذخ بالعلوم والفلسفات الجريئة؛ ولذلك تجد أنه في هذا الوقت الذي يؤلف فيه الأوربيون الكتب، يرسمون فيها خارطة المستقبل، ويتسلطون فيها على القدر، يعمد كتابنا إلى التأليف عن الماضي، ويحاولون أن يبعثوا الحياة في رفات التاريخ! والمتأمل لهذا الكوكب يجد أمما متطورة قد كتبت لنفسها البقاء بالتطور، وأمما أخرى جامدة قد كتب عليها الفناء بالجمود والتزام التقاليد.
وليست نظرية التطور معرفة فحسب؛ لأننا لا نقتصر فيها على الوقوف على تاريخ الأحياء، بل نكتسب منها مزاجا واتجاها؛ لأنها تجعل التطور مذهبا حيويا، والارتقاء ضرورة اجتماعية، ومن هنا قيمتها العالية للفرد والجماعة؛ إذ هي تشعر الفرد الذي استوعبها أنه يجب ألا يركد أو يجمد؛ لأنه بهذا الركود، أو بهذا الجمود، يناقض سنة الوجود، كما أنها تشعر الجماعة أن تقصيرها في الارتقاء هو مخالفة خطيرة، وتحطيم مدمر لأسباب وجودها؛ فالنظرية هنا ليست معرفة علمية فحسب، وإنما هي مذهب اجتماعي أيضا، يحمل الأمة على أن تطالب بحقها في التطور، وتدافع عن حريتها، وتحطم الأغلال التي تعطل ارتقاءها وحيويتها، كما هي منهج فلسفي للتفكير.
وليس شك في أن المستوعب لهذه النظرية - إذا كانت قد استحالت في نفسه مزاجا ومذهبا - يشعر بتحرره من أغلال التقاليد، ويستطيع لذلك أن ينظر النظرة البكر لشئون هذا العالم، وهو يسمو على الاختلافات الدينية التي مزقت أوربا في القرون الماضية ولا تزال تمزق أقطارا عديدة في آسيا وأفريقيا الآن؛ وذلك لأنه يرى أن فكرة «الإخاء» التي دعت إليها الأديان تجد التعليل المادي في نظرية التطور بالمعنى الأوسع والمغزى الأعم، حتى إننا لنعود بها إلى ذلك الوجدان الديني الذي أحس به القديس فرانسيس عندما كان يقول «أخي الطير».
وهو وجدان شعر به آحاد معدودون في الماضي، ولكن سوف يشعر به جميع الملايين من البشر عندما يعرفون هذه الصلة التي تربطهم بجميع الأحياء، وتجعل منهم وحدة، فيحترمون الحياة أينما كانت؛ لأن كل حي هو قريب وأخ بقرابة، إذا لم تكن رحمية، فهي تطورية.
وبهذا الوجدان الجديد ننظر إلى كوكبنا؛ فلا نلهو بنباتاته وحراجه وجباله وبحاره، نصيد فيها الحيوان أو نبدد النبات، بل نعد هذه الأمكنة كنوزا ومتاحف ومقادس، نحمي فيها هذه الأحياء، ونمنع عنها الأذى، ونحوطها بالعناية في تطورها وتكشفها، ويجب أن نحزن على كل حيوان أو نبات يؤدي اعتسافنا في اللهو به أو إهمالنا له إلى الانقراض، وقد أوشكت طيور جميلة، اقتضى التطور وجودها مئات الملايين من السنين، أن تنقرض؛ لأن نزق النساء كان يحملهن على التزين بريشها الزاهي، ولكن الحكومات الممتازة بهذا الوجدان الجديد حرمت صيدها فعاشت، وكذلك عاش الصيادون المتوحشون من الأمم المتمدنة في حراج إفريقيا وغاباتها حتى أوشكوا أن يبيدوا الأسد والفيل والزرافة، فعمدت الحكومات المتمدنة أيضا إلى حمايتها، ومنعت الصيد إلا في أماكن معينة.
وهذا الكوكب هو كوكبنا، وهذه الأحياء هي قرابتنا التي يجب أن تجد الحرمة الدينية من كل إنسان متمدين.
وكسب آخر كسبناه من هذا المزاج التطوري، هو النظر للمستقبل والجرأة على تخطيطه في حرية تامة من التقاليد والعادات المتحجرة، وأولئك الذين ينفرون من نظرية التطور إنما يفعلون ذلك لإحساس خفي بأن هذه النظرية تحريرية في دلالتها، تفكك الأغلال وتفتح المستقبل للتفكير الجريء، كما هي موطرية في وجهتها، تحرك المجتمعات إلى التغيير والارتقاء، وتجحد الركود والجمود باعتبارهما أكبر المعاصي والذنوب.
وأرجو أن يكون في هذا الكتاب بعض التنبيه حتى لأولئك الذين يجهلون الغاية الدينية السامية لنظرية التطور التي فتحت أبوابا للرقي البشري كانت مسدودة من قبل بالغيبيات الجامدة.
مقدمة الطبعة الثالثة
بقلم سلامة موسى
1957
استبدلت نظرية التطور النظر المادي بالنظر الغيبي لنشأة الأحياء على أرضنا، وربطت بين جميع الأحياء؛ نباتا وحيوانا وإنسانا، برباط جديد، كما جعلتنا نفهم الحياة على أنها ليست جامدة؛ إذ هي - باعتبارها إحدى ظواهر المادة - في حركة وتحول أبديين.
وهذه الحركة، وهذا التحول، ليسا من ميزات الأحياء وحدها؛ إذ هي أيضا صفة المادة كائنة ما كانت؛ ذرة أو جزيئا أو شمسا أو كوكبا أو غازا أو سائلا أو يابسا، حتى ليصح، بل يجب، أن نقول إن كل هذه الكائنات حية؛ إذ هي في تحول وتغير أبديين مثل الإنسان أو الحيوان أو النبات.
ولم يكن داروين - لحدود المعارف التي كان يعرفها في سنة 1858 عندما ألف كتابه عن أصل الأنواع - ليستطيع بلوغ الآفاق التي بلغناها نحن في أيامنا بعد أن عرفنا الذرة؛ ولذلك كانت نظرية التطور تنطبق عنده على الأحياء فقط، أما الآن فإننا نعرف أنها تنطبق على الكون كله.
وهذا التصور الجديد للكون وللإنسان هو تحرير جديد للذهن البشري عن مستقبلنا على هذه الأرض، وربما على الكواكب الأخرى، وأيضا في تطورنا القادم الذي شرعنا نسيطر عليه بعلومنا وفنوننا؛ فقد تحقق للإنسان، بنظرية التطور، استقلال العقل والروح الذي لن ينزل عنه بعد الآن.
ولقد مضى الزمن الذي كانت تستهدف فيه هذه النظرية لنوادر الحشاشين ونكاتهم؛ لأننا قد أصبحنا نحس احتراما، بل ابتهالا، عندما ينبسط لنا موكب الأحياء منذ ألف مليون سنة إلى الآن، بما فيه من الناهض المقدم والساقط الفاشل، وفي خلال هذا الموكب نتبين فضائل الحياة، ونستكنه أسرار البقاء.
ومن سعادة حياتي أني ألفت هذا الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة، واحتاجت الطبعة الأولى نحو 25 سنة حتى نفدت، أما الطبعة الثانية فقد نفدت في أقل من خمس سنوات، وفي هذا برهان على انتصار النور على الظلام، وعلى أن النظر العقلي العلمي المادي يأخذ عند جمهورنا مكان النظر الغيبي الأسطوري الخرافي.
تاريخ نظرية التطور
التطور هو النظرية السائدة في العلوم الآن، وهي الصفة التي اصطبغت بها عقول جميع المفكرين في عصرنا الراهن.
وهي الآن تتلخص في أن الحيوان والنبات، على تعدد أنواعهما التي تبلغ الآلاف، نشأت في الأصل من نوع واحد. وأن الجماد نفسه بما فيه من ذرات وجزئيات وعوالم وعناصر يرجع أيضا إلى أصل واحد.
فالتطور قانون شامل يسري على عالم الجماد وعالم الحيوان على السواء. وهو يقضي بأن الحي أو الجماد دائم التحول لا يثبت على حال واحدة.
فالإنسان لم يكن إنسانا منذ الأزل وإنما كان حيوانا يشبه القرد، وكان قبل ذلك يشبه الليمور، وهلم جرا، حتى تصل إلى الخلية البسيطة للحياة الأولى على الأرض. وهكذا الحال في سائر الحيوان والنبات.
والجماد نفسه في تطور مستمر، فالرصاص مثلا لم يكن رصاصا منذ الأزل وإنما كان في الأرجح «رديوما». وهكذا الحال في سائر عناصر الجماد.
وهذه النظرية ليست جديدة، فقد لمحها الإغريق، وأومأ إليها العرب ظنا وحدسا، ولكن الجديد فيها كثرة الشواهد التي استقراها العلماء للتدليل على صحتها، والبحث في أساليب التطور، والوسائل التي يتوسل بها الحي، نباتا كان أم حيوانا، في سبيل بقاء نوعه وإبادة غيره، وتحوله من حال إلى حال، أي تطوره على مدى الزمن؛ أي الإيمان بالنظرية يقينا عن بينات علمية.
والإغريق أول من لمح هذه النظرية، وكان «أرسطو طاليس» يشير إليها ويؤمن بوجود قوانين طبيعة ثابتة لا تتغير بمشيئة الآلهة. وقال عن أصل الحياة في النبات أنها نشأت قبل أن تنشأ الحيوانات.
وكان «لوكريتيوس» الذي عاش حوالي سنة خمسين قبل الميلاد المسيحي أجرأ القدماء وأبعدهم نظرا في التطور، فكان يقول إن التحول هو سنة الكون، وإن ما تقوله الأديان الإغريقية عن أصل العالم خرافات، وإن الإنسان كان وحشا ضاريا هذبته المدنية، وإنه عرف النحاس، ثم عرف بعد ذلك الحديد، وإن اللغة نشأت بضرورة الاجتماع والحضارة.
وكان علماء الإسكندرية يعرفون هذه الآراء ويقولون بها. ثم حدثت فترة القرون الوسطى، فقام النقل في أوروبا مقام العقل، وطلق العلماء الاستقراء والبحث، وأخذت الأساطير والعقائد مكان البحث العلمي والمنطق.
ولكن علماء العرب في هذه الفترة كانوا يشتغلون بالعلوم، وبعثهم البحث في الكيمياء على الاعتماد على التجارب العلمية، فصارت نزعتهم في العلوم تفوق نزعة الإغريق وتمتاز عليها في الصحة.
فقد كان الإغريق يعتمدون في النظر الفلسفي على المنطق، وكأنهم كانوا يتجاهلون حقائق الحياة، كما تدل على ذلك «جمهورية أفلاطون» حيث قال فيها بشيوعية النساء والأموال، ولم يقف لينظر لحظة هل تنطبق مبادئه المنطقية على أحوال الحياة الراهنة في زمنه، وليس شك في أن «أرسطو طاليس» كان يقول باعتبار الحياة أصلا والمنطق والتفكير نتيجة، وبفائدة التجريب العلمي، ولكن روح أرسطو طاليس لم يكن الروح السائد بين الإغريق.
وقد لمح عدد كبير من علماء العرب إلى نظرية التطور، فكان الكيميائيون يقولون بتطور العناصر وإمكان تحول معدن خسيس كالرصاص أو الزئبق إلى معدن نفيس كالذهب، ثم توسعوا في النظر، فصاروا يقولون بوحدة الأصل في أنواع النبات والحيوان.
وربما كان أحسن ما كتبوه في هذا الرأي قصة «حي بن يقظان» التي وضعها ابن طفيل، ولخص فيها آراء المشارقة، وأومأ إلى نظرية التطور.
وفي القطعة التي ننقلها عن كتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني إيماء إلى هذه النظرية، قال:
أول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة. فإن المعادن متصلة أولها وآخرها بالنبات. والنبات متصل، أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.
وقال ابن مسكويه في «الفوز الأصغر» عن مراتب الإنسان: «إنها مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانا.»
وكلنا يعرف أن ابن خلدون قد عالج مشاكل الاجتماع من وجهة التطور. وهو لو كان قد تبسط في الكلام على الحيوان والنبات لكانت نظرته لا تخالف نظرتنا الآن. فقد كان يرى تأثير الوسط في الإنسان، وقد علل سواد الزنوج بشدة الحر، وقال في ذلك، بعد أن كذب القائلين بأنهم سود لأنهم أبناء حام بن سام:
فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة ... فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويحل القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر.
فمن ذلك يرى القارئ أن القدماء، من إغريق وعرب، قد أحست نفوسهم وحدست عقولهم هذا النظام الحيوي في العالم. وكيف أن الأنواع دائمة التحول والتغير، بل إن كيمائي العرب قد أحسوا أيضا تحول الجمادات.
ولكن كل كلام القدماء في ذلك لم يكن سوى تلميح وإيماء، فلم يمسوا النظرية مساسا مباشرا ولم يجعلوها موضوع الدرس المتواصل والتجربة العملية، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم الآن.
فإن النظرية الآن موضوع استقراء آلاف العلماء، ولها كتب خاصة تعد أيضا بالألوف. وقد بدأ البحث الجدي فيها منذ «لامارك» العالم الفرنسي المتوفى سنة 1829. فإنه قال إن جميع أنواع النباتات والحيوانات الراهنة قد نشأت من أصول قديمة متحجرة وعلل اختلاف الأحياء الحاضرة من الأحياء المنقرضة المتحجرة بتأثير العادة في الأحياء، فإذا عاش الحي في وسط جديد، واعتاد عادات جديدة، اكتسب بذلك خصالا يرثها أبناؤه عنه، وتتراكم هذه الخصال وتتجمع حتى يأتي نسل بعيد يكون فيه من الخصال والصفات البدنية ما يجعله يخالف جدوده القديمة فتنشأ الأنواع الجديدة على هذه الكيفية.
ثم جاء «داروين» العالم الإنجليزي ووضع سنة 1859 كتابه «أصل الأنواع» وقال إن «تنازع البقاء» بين الأفراد هو أكبر عامل يؤدي إلى انقراض بعض الأنواع وبقاء بعضها؛ لأن هذا التنازع يفضي إلى «انتخاب طبيعي» بينها، فكأن الطبيعة مرب يحابي بعض الأفراد فيبقيها ويمنع البعض الآخر من التناسل فتنقرض، فإذا اشتد اختلاف الأفراد صار هذا الاختلاف نقصا أو ميزة يؤديان إلى بقاء البعض وانقرض البعض الآخر، فتنشأ سلالات جديدة، ثم تتجمع الصفات الجديدة في هذه حتى تصير السلالات أنواعا جديدة.
وجاء «سبنسر» العالم الإنجليزي بعد داروين، فعمم النظرية حتى جعلها تشمل الهيئة الاجتماعية الإنسانية، وكيف انتقلت بالتدرج من الوحشية إلى المدنية، وكيف أنها دائمة التطور شأنها في ذلك شأن النبات أو الحيوان.
ثم ظهر حوالي أواخر القرن الماضي عنصر «الراديوم» فتبين منه أن الجماد في تطور أيضا، وأن العناصر كما نعرفها الآن ليست على حال ثابتة، فقد كانت تختلف قديما وستختلف في المستقبل عما هي الآن. وأن من الممكن مثلا أن نحول الزئبق إلى ذهب.
فنظرية التطور تشمل الآن كل شيء حتى أخذ الأوربيون يفكرون في كيفية إنشاء إنسان تكون نسبته إلينا كنسبتنا إلى القرد، وهم يطلقون عليه اسم «السبرمان» أي: الإنسان الأعلى.
وهم يتحسسون هذا الموضوع الآن، ويكتفون بالتخيل، فلا يجرؤ منهم أحد على التخطيط والترسيم. وأجرأهم يقنع الآن بالقول بمنع ذوي العاهات والبله من التناسل بتعقيمهم. وكثير من الأمم الراقية يفعل ذلك الآن.
وبعد فإن نظرية التطور قد فتحت ميدانا بل ميادين لنظر الإنسان، فقد كان المأثور قديما في كتب السلف أن الإنسان خلق كما هو الآن، وسيبقى كذلك إلى الأبد، ولكن نظرية التطور قد بسطت لنا الماضي فجعلتنا نرى الإنسان في غير حاله الآن، وبسطت لنا آفاق المستقبل فملأتنا رجاء بأنه سيكون أفضل مما هو الآن .
فنظرية التطور هي نظرية الرجاء والرقي، وهي المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق الماضي المبهم ويرسم لنا مصير الإنسان.
فكرة التطور وقيمتها
الفرق بين الرجل قد أشرب عقله وصبغ ذهنه، بنظرية التطور، وبين الرجل يجهل هذه النظرية، كالفرق بين إنسان قد اكتشف ملكوتا رائعا عظيما، وبين آخر عاش عمره محبوسا في صومعة يظنها جماع ما في هذا الكون من خلائق ومكنونات وأسرار.
فرجل التطور يرى أنه قد عاش في الكون ملايين السنين، وأنه مرتبط وسائر الأحياء من نبات وحيوان برباط قوي متين، فعلاقته بهذا العالم، بل بهذا الكون أجمع، أشبه شيء بديانة علمية قد ارتكزت على أصول العقل والتجربة. وإذا كان أحد القديسين قد قال مرة بدافع النزعة الدينية الشريفة التي كثيرا ما رفعت رجل الدين في المسيحية والإسلام فوق نفسه: «أخي الطير» فإن رجل التطور لا يقول هذا القول فقط، بل هو يحسه في أرجاء نفسه وتلافيف دماغه ومسارب دمه. بل هو يمكنه أن يقول ويشعر بصدق ما يقول: «أخي السمك، بل أخي الشجر.»
وهو لا يعتقد هذا القول اعتقادا يقهر نفسه عليه إرضاء لسلطة خارجية، بل هو يعقله ويحس بصدقه؛ لأن هذه الحقيقة قد استبطنت عقله وصبغت تفكيره.
فالإحساس بحقيقة التطور هو نوع من الديانة الطبيعية، بها نشعر أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة نشترك وإياها في وحدة وجودية، وهذا الإحساس يحملنا على احترام الحياة كائنة ما كانت.
ثم إن هذا التاريخ الذي كنا نعده بضع مئات من السنين، قد صرنا الآن نعده بمئات الآلاف من السنين. وكنا قبلا نعرف من التاريخ وقائع الحروب وأخبار الملوك، فصرنا الآن نطلب من التاريخ أن يدلنا على تطور الأسرة والقبيلة، بل تطور الزراعة والصناعة والحضارة.
وإنما اتجه نظرنا إلى هذه الأشياء لما سبق أن رسخ في ذهننا من نظرية التطور، التي جعلتنا ننظر إلى جماعات الإنسان وصناعاته وسائر ما يلابسه، كأنها أشياء تجري عليها سنة التطور، وأنها تتدرج من الحسن إلى الأحسن، ومن البساطة إلى التراكب.
والإنسان تسترقه الكلمات، بل كثيرا ما تكون اللغة بمرونتها سببا في تقدم الأمة كما تكون بجمودها سببا في تأخرها. فكلمة «التطور» لها الآن سلطان على العقول. فرجل السياسة يقول بكراهية الانقلابات والثورات، ويرى الجري على سنن التطور والتدرج. والمدنية تتطور وتترقى، واللغات في تطور، فإذا لم تتطور جمدت، وهلم جرا.
فلو لم تكن كلمة «التطور» موجودة لما نزعنا هذه النزعة في السياسة والعلوم والآداب والصناعات. فهذه الكلمة قد تملكتنا، وصبغت عقولنا، ووجهتنا في وجهات جديدة لم يكن يعرفها آباؤنا.
اعتبر مثلا كلمة «التقدم» فلست تجد في المعاجم العربية ما يدل على معناها الذي نفهمه منها الآن، فلم تكن الأمم العربية تفكر في التقدم. أي أنها لم تفكر في طريقة لتعميم التعليم بين الأهالي، أو في رفع مستوى الصحة العامة، أو في إيجاد نظام صناعي لتحسين حال العمال، أو غير ذلك، وإنما كان كل وال قانعا بأن تسير البلاد كما سارت في عهد سلفه، وكثير من هذه القناعة كان يرجع إلى أن هذه الكلمة بمعناها الحديث لم تكن معروفة؛ لأن للكلمات سلطانا على العقل، بل نحن نفكر بالكلمات.
وكذلك الحال في كلمة «التطور»، فإنها غرست في الأذهان فكرة تدرج الأحياء ورقيها جيلا بعد جيل. فصار للرقي أساس طبيعي، وصارت مخالفته من الفرد أو الأمة أو الحكومة أشبه شيء بخروج على السنن الطبيعية، وصرنا نغضب من الحكومة التي لا تفكر في ترقية التعليم أو ترقية الزراعة أو نحو ذلك، أو التي تنكر حق الأمة التطوري في الرقي الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، لأن فكرة التطور قد جعلتنا ننزع هذه النزعة.
ثم إن لنظرية التطور فضلا آخر في فهم طبيعة الإنسان فلا يمكن فيلسوفا أن يعرف كنه النفس الإنسانية ما لم يعرف تطور الجهاز العصبي في الإنسان وعلاقته بالأحياء الدنيا، والعوامل التي جعلته يرقى إلى مستواه الحاضر. بل إن فلسفة «فرويد» مبنية كلها على أن أهم ما في خواطر الإنسان وأخلامه وهواجسه يرجع إلى الغريزة الجنسية التي هي أهم وأقوى غرائز الحيوان، فالحيوان الذي يقاتل ويموت من أجل الأنثى لا يزال حيا في الإنسان حتى في بعض طرق عبادته وفي فنونه الجميلة التي يمارسها الآن وينسبها إلى أرقى الأعمال الذهنية.
بل لا يمكن فهم بعض أمراضنا وكيفية علاجها ما لم نفهم نظرية التطور، فبعض أنواع الجنون «ردة» من الإنسان إلى الحيوان القديم، الذي لا يزال كامنا مقهورا فينا قد تغلبت عليه إنسانيتنا، فبعض المجانين يزحف ويتسلق ويقعد قعدة القردة، وقد استفاد الطب الحديث من نظرية التطور فترك علاج الأعشاب، وعمد إلى العلاج بخلاصات الحيوان، مثل الهرمونات؛ أي: مفرزات الغدد الصم، ونجح في ذلك، وذلك لأن التطور يدلنا على أن مصلحة النبات تخالف بل تناقض مصلحة الحيوانات، ولذلك كثيرا ما يحتمي النبات منه بالحسك والمرارة والسم، فلا يمكن أن نعتمد عليه في اتخاذ دواء منه. أما الحيوان فإن تركيبه هو تركيبنا، وما ينفعه ينفعنا، ولا عبرة بما يحدث اتفاقا كإمكان التعالج من الحمى بنبات الكينا، كما أنه لا عبرة بأن الحيوان يعيش على النبات؛ لأن للنبات مصلحة في ذلك لنقل بذوره من مكان إلى آخر.
وكثير أيضا من جرائم المجرمين يرجع إلى أنه «ردة» لأن أسلافنا كانوا يمارسون هذه الجرائم كأنها أعمال لا حرج فيها.
وكذلك رجل التعليم لا يمكنه أن يدرك طبيعة الطفل ما لم يفرض أنه حيوان صغير فيه غرائز القردة، وأن طبيعته تتكشف من الحيوان إلى الإنسان، ففي الطفل والقردة، كليهما، غريزة الاستطلاع، وفيهما حب التسلق والتلصص، وفي أحلام الطفل ما يذكرنا بحياة الغابة والنوم على الأشجار، إذ معظم ما يراه الطفل في نومه أنه يهوي ساقطا فيتنبه قبل أن يتردى، وهذا الحلم هو من الوساوس القديمة التي كانت تنتاب أسلافنا وهم يعيشون كما تعيش القردة الآن على الأشجار.
ومن العلوم التي أحدثها التطور علم «اليوجنية» الذي يقصد به إصلاح ذرية الإنسان بأساليب صناعية؛ لأنه إذا كانت الطبيعة قد عملت لترقية الإنسان في الماضي، كما هو مدلول نظرية التطور، فمن واجب المدنية أن تعمل لترقيته في المستقبل.
ففكرة التطور قد شملت جميع المعلومات البشرية تقريبا، وبها يمكن تفسير أشياء عديدة كانت قبلا غامضة لا يمكن فهمها.
فلسفة التطور
أعظم ما يعوق التفكير المثمر والرأي المدروس أن تكون هناك عقيدة مألوفة أو عادة اجتماعية يمارسهما الناس لأن العادة التي ننشأ عليها - ذهنية أم اجتماعية - تحول بيننا وبين رؤية الحقائق كما تمنعنا من الانتقاد لما هو قائم بيننا.
وكثيرا ما نقرأ مؤلفات الفلاسفة الإغريق وفقهاء الدين في المسيحية والإسلام واليهودية فنجد العقول الناضجة والآراء السديدة، ثم نعجب بعد ذلك لأنه لم يعارض مثلا واحد منهم، ولو بالنقد العابر، هذه النخاسة التي كانت تحيط به في مجتمعه حين كان يباع الصبي والرجل والمرأة كما تباع البهائم.
وقد نزهوا نحن برقينا على أسلافنا في هذه الناحية. ولكن يجب ألا نتناسى أنهم كانوا معذورين؛ لأنهم نشئوا على هذه العقيدة أو العادة ومارسوها أو رأوا غيرهم يمارسها فلم يستطيعوا التغلب على عواطف الاقتناء التي أوجدتها النخاسة.
والعقيدة تحدث عاطفة تزعجنا بل تؤلمنا مخالفتها.
وعندما نتأمل نظرية التطور وشواهدها التي لا تحصى نعجب لتأخر الجماهير المثقفة في اعتناقها، ونعجب أيضا لأن أحدا من الفلاسفة لم يقل بها إلا منذ أقل من قرن، وعندنا أن مرجع ذلك هو الإيمان بالعقيدة الدينية التي تقول بأن الأحياء قد خلقت، كل حي مستقل في خلقه عن الآخر، فإن هذه العقيدة حالت دون التفكير في كرامة الإنسان وحريته.
وقد أصبحت نظرية التطور بعض عاداتنا الذهنية، وقد نقلناها من الأحياء إلى المواد والعناصر، وإلى المجتمعات والنظم السياسية والاقتصادية. بل نحن نحس الحاجة؛ لأن يعم التطور البيولوجي جميع البشر حتى يتغيروا إلى أحسن وأرقى مما هم عليه، ونحن بهذه النظرية نرى هذا الكون كله بعين جديدة، إذ نعرف أنه صائر متحرك وليس كائنا جامدا
وقد تعلمنا من السيكلوجية أن من أعظم ما يؤذينا في سلوكنا الاجتماعي وتصرفنا الشخصي هو هذه العواطف التي ورثناها من أسلافنا حين كنا في أطوار حيوانية نحتاج إليها، فنحن ما زلنا نغضب ونغار ونخاف ونقسو ونشتهي ونتشكك، وهذه العواطف تلغي عقولنا أحيانا وتعذبنا. وهي لا تختلف عن الأظافر التي تنمو بلا حاجة لنا بها إلى النمو، ولكننا نقلم أظفارنا ولا نستعز بنموها. أما العواطف فلا سلطان لنا عليها سوى سلطان العقل. وهو لا يزال في بدايته لم يسد السيادة التامة. ومن هنا الأمراض النفسية إذ هي جميعها أمراض العواطف التي لا تزال عالقة بنا بعد أن أدت مهمتها وكان يجب أن تموت. (العظام تتشابه: إنسان - إنسان منقرض - قرد)
وعندما نتأمل أعضاءنا الخاصة بالعواطف نجد أنها لا تزال كما هي لم تتقلص أو تضمر، فنحن من حيث الجهاز العاطفي لا نختلف عن الحيوانات إلا من حيث إن لنا جهازا آخر هو الدماغ الكبير، مكان التعقل. ولذلك يغمنا جنون حين نغضب أو نخاف أو نتشكك أو نغار أو نشتهي الجنس الآخر.
ولو أن هذا الجهاز العاطفي كان قد تقلص أو ضمر، كما هو الشأن في الزائدة الدودية، التي كانت قبل ملايين السنين معى كبيرة تهضم المواد التي تحتاج إلى مدة طويلة ثم أصبحت أصغر من أصبع، لو أن جهازنا العاطفي كان قد نقص مثل هذه الزائدة، لكنا سعداء بعقولنا لا نغضب أو نخاف أو نهتم كما هي حالنا الآن.
ونحن ما زلنا حيوانات نفسا وجسما بهذا الجهاز العاطفي، ولذلك أصاب فرويد حين قال إن كلا منا يتألف من ثلاث ذوات: الذات الحيوانية نجوع بها ونشتهي الأنثى ونغضب ونبطش، ونحن في كل ذلك حيوانات. ثم الذات الاجتماعية التي نراعي فيها العادات المألوفة. ثم الذات العليا التي يحتويها ضميرنا والتي نرتفع بها أحيانا على المألوف.
وقد رسم لنا تاريخنا التطوري أننا نسير نحو زيادة الدماغ، والواقع أن وزن الدماغ في الإنسان كبير جدا بالمقارنة إلى ما هو عليه عند الحيوانات، وخاصة تلك الزواحف المنقرضة، فإن واحدا من هذه الزواحف يدعى «البرونتوسور» كان وزن دماغه لا يزيد على رطلين. ولو أن دماغه كان ينمو على قياس النمو البشري للدماغ لكان يجب أن يكون وزنه 2072 رطلا، أي نحو طن، ولو أنه كان ينمو على قياس النمو في الغوريلا لكان يجب أن يزن دماغه 370 رطلا .
ونحن صائرون نحو الزيادة الدماغية، فإن كلمات اللغة، وهذا التوسع اللغوي في المعاني الجديدة، ثم هذه الآفات التي عددت اهتمامات الإنسان، كل هذا جدير بأن يزيد خلايا الدماغ في المستقبل ويزيد بذلك فهمنا وتسلطنا على هذه العواطف الحيوانية التي تؤذينا وتردنا في أزماتنا النفسية إلى حال الحيوان.
وقد وصل الإنسان إلى حاله الحاضرة من الرقي الدماغي بقوانين الغابة، أما الآن فإنه قادر على أن يأخذ التطور البشري في يده وأن يتسلط على مستقبله بنفسه، وأن يزيد هذا الدماغ البشري إلى أكبر مقدار ممكن بالتربية أولا وبالاختبار ثانيا. (تطور الأدمغة من السمكة إلى الفقمة إلى الكلب إلى الغوريلا إلى الإنسان)
وسوف يأتي اليوم حين تحس كل أمة أن إصلاح أرضها وتحسين مبانيها وترقية مصانعها وزيادة ثرائها، كل هذا ليس شيئا يستحق العناية بالمقارنة إلى الرقي البيولوجي في أبنائها، وأعظم هذا الرقي هو زيادة الأدمغة، حتى يأخذ التعقل البصير مكان العاطفة الطائشة، وحتى يزيد الذكاء في أفراد الأمة،
وقد عرف هتلر قيمة التطور وعمل به، ولكنه أساء إذ كان يحمل في نفسه بغضاء جنونية لليهود، كما أنه كان أيضا مجنونا من ناحية الاعتقاد بأن السلالة الألمانية هي خير السلالات في العالم، وقد استعمل التطور هنا، كما استعمل الأمريكيون القنبلة الذرية، للعدوان وليس للبنيان.
ولكن إذا كان الألمان قد أساءوا باستعمال التطور في غير مكانه، كما أساء الأمريكيون باستعمال الانشقاق الذري في غير مكانه، فإن هذا لا يعني أن المجتمعات لا يمكنها أن تنتفع في المستقبل بإيجاد سلالات بشرية راقية، وأيضا باستخدام الانشقاق النووي أي الذري في إيجاد القوة لاستغلال الطبيعة.
ولن يقتصر هذا التطور المدبر على الإنسان؛ لأنه سوف يشمل أيضا الحيوان والنبات. بل الواقع أن الإنسان قد عمل كثيرا في تغييرهما لخدمته، فإن البقرة مثلا هي جهاز حي لتحويل العلف إلى لبن، والكلب هو حيوان للبيت يؤانس الأطفال. والقط قد أصبح بعض الأثاث في منازلنا. أما الفرس فإننا قد أحلناه إلى تحفة من الجمال، وإلى حيوان للجر، ثم إلى وسيلة للمقامرة في حلبات السباق.
وليس بعيدا أن نربي ونختار في الكلاب حتى نستخرج منها سلالة ذكية تؤدي الكثير من حاجاتنا، وأن نختلق سلالات جديدة من البقر أو الجاموس تتخصص كل منها في إدرار اللبن البروتيني أو الإكثار من الزبد. كما ليس بعيدا أن نجعل من النبات أنواعا وسلالات تختص كل منها بتزويدنا بثمار معينة للغذاء أو الدواء.
هذا هو بعض ما تعلمناه من نظرية التطور.
تطور العالم
لم يأت الوقت بعد لإيضاح كيفية تطور المادة، أما إنها تتطور فهذا ما لا يشك فيه أحد من العلماء الآن، وكفى دليلا على ذلك ما ثبت من أن العناصر تتحول.
وقد قرر «جوستاف لوبون» بالتجربة أن المادة تفني، أي تعود أثيرا غير محسوس.
ولكن ليس أحد يمكنه الآن أن يجزم في شيء عن أصل المادة ونهايتها.
والشك أيضا لا يزال قائما عن هذا الكون، هل هو متناه أو غير متناه، وهل مصيره إلى البرودة والجمود والسكون، أو هل قانون التطور لا يزال يشمل عوالمه فيحدث فيها التجديد الدائم بحيث تبقى على الدوام في تفاعل لا يحدث الانحلال في مكان حتى يحدث التكون في مكان آخر. كذلك لسنا نعرف هل المجموعة الشمسية التي تحتوي أرضنا تكونت في الأصل من السديم أو من النيازك. وما هي دلالة البقع التي تظهر على وجه الشمس. (بقع في الشمس)
فهذا كله موضوع خلاف أو بالأحرى دراسة بين العلماء للآن. ولذلك خير لنا أن نقفز قفزة كبيرة فنترك موضوع تطور المادة كله إلى أصل الأرض وكيفية تكونها حتى صارت إلى شكلها الحاضر.
فالأرض كانت في رأي العلماء قطعة متصلة بأحد النجوم أو جزءا منها. يدلك على ذلك أن جميع العناصر الموجودة بالنجوم موجودة كلها بالأرض. وهذا يمكن إثباته بتحليل الطيف الشمسي لضوء النجوم، فإن مواد النجوم ما هو في حال غازية. فإذا قطعنا هذا الضوء (أي شعاعة منه) بمنشور من البلور تحلل الضوء إلى جملة ألوان ولكل غاز طيف خاص. وقد أمكن بذلك أن نعرف المواد المؤلفة منها النجوم ونتحقق من أنها هي نفس المواد المؤلفة منها الأرض، بل حدث مرة أننا عرفنا عنصرا يدعى الهيلوم، وهو الغاز الخفيف الذي تملأ به البلونات الطائرة في الشمس، قبل أن نهتدي إلى وجوده في الأرض.
والمتفق عليه بين معظم العلماء أن الأرض كانت كتلة ملتهبة، ثم بردت رويدا فصارت غازاتها سوائل، ثم جمد بعضها. (سديم يظن أنه أصل النجوم والكواكب)
ومن المعقول في هذه الحال أن تتجه أثقل المواد إلى المركز ويبقى أخفها على السطح. وإذا كان بخار الماء قد برد حتى صار سائلا وملأ محيطات العالم كما نراها الآن فإنما يكون قد حدث هذا رويدا. وكانت البحار في البدء عذبة لأنها تكونت من الأمطار.
ولكن لما تقادم العهد وصارت الأمطار تقع على اليابسة ثم تنحدر منها أنهارا إلى البحر، أخذت هذه الأنهار تكتسح أملاح اليابسة وتنزل بها إلى البحار، ثم تعود مياه البحار إلى التبخر فيبقى الملح بها وتزداد كميته بذلك عاما بعد عام.
ومما يدل على ذلك أن البحيرات المنقطعة أو التي يقل نزول المطر فيها مثل البحر الميت في فلسطين، والبحر الأحمر شرق مصر، أكثر ملوحة من المحيطات الكبيرة، فالماء يتبخر من هذين البحرين كثيرا لوقوعهما في منطقة دافئة، ويقل نزول المطر فيهما فتقل عذوبتهما.
وليست أرضنا مستوية السطح إذ فيها نتوءات نسميها جبالا في بعض الأمكنة، وفيها غئورات في أمكنة أخرى نسميها محيطات. ولكن الجبال والبحار إذا قسناها إلى حجم الأرض لم تكن إلا بمثابة خدوش بسيطة لا يحسب لها حساب.
وأهم عامل في انحدار المياه إلى المحيطات وسبب ملوحتها هو الجبال. فما هو أصل الجبال؟
في الأرض الآن عدة براكين خامدة تدل على أن حرارة باطن الأرض كانت في الزمن القديم أشد مما هي الآن. وبدهي أن مثل هذه الحرارة كانت كثيرا ما تحدث نتوءا أو غئورا في قشرة الأرض التي كانت تتقلص وتتمدد.
ولكن السبب الأهم الذي يعزي إليه الآن ارتفاع الجبال وتكونها هو الأنهار. وهي أيضا سبب العصور الجليدية التي تناوبت العالم جملة مرارا.
وكيفية ذلك أن الأمطار إذا وقعت على اليابسة حملت معها ما تذيبه من جوامد اليابسة، وشقت لها طريقا فيها حتى تصل إلى البحر فتنصب فيه. فإذا توالى هذا جملة ملايين من السنين ثقل قعر البحر الذي انصبت فيه هذه المياه.
فإذا لم يستطع قعر البحر أن يحتمل ما عليه من تراكم هذه المواد التي حملتها إليه الأنهار غار إلى تحت، وهو في غئوره يدفع باطن اليابسة إلى النتوء، فتبرز الجبال، على نحو ما يحدث إذا صنعنا كرة من العجين، إذا ضغطنا جزءا منها فغار نتأ جزء آخر يجاوره.
والجبال الحاضرة يدل بعضها على أنها كانت يوما ما مغمورة بماء البحر، بدليل ما يوجد فيها من متحجرات الأحياء مثل المحار التي لا تعيش إلا في المياه الملحة، ومع أن المقطم، شرق القاهرة، لا يكاد يعد جبلا، فإنه على كل حال يرتفع على سطح البحر بنحو 400 متر. ولكنه مع ارتفاعه هذا يحوي أحافير متحجرة من المحار الذي يدل على أنه كان في عصر قديم جزءا من البحر.
فالأنهار هي أصل الجبال، والجبال هي أصل العصور الجليدية، وهي علة اختلاف مناخ البلدان في الأزمنة القديمة.
وكيفية ذلك أن الجبل إذا ارتفع بلغ طبقة رفيقة من الهواء؛ فتتشعع منه حرارة الشمس؛ ولهذا نجد الحر في السهول ونجد البرد، بل الثلج أحيانا، في الجبال؛ لأن الهواء إذا تكاثف في السهول صار بمثابة الغطاء واللحاف، فيحفظ بذلك الحرارة أما إذا رق على الجبال فليس هناك ما يمسك الحرارة.
فإذا امتلأت البحار بما تحمله إليها الأنهار غارت قعورها فنتأت عندئذ الجبال، فإذا سقطت على هذه الجبال الأمطار جمدت وصارت ثلجا، ثم يأخذ الثلج في الانحدار على الجبال ويذهب أيضا إلى البحر حاملا معه شيئا كثيرا من اليابسة. والجبال تتآكل وتتحات بانحدار الثلج، حتى تذهب قممها، فلا تجمد الأمطار عليها؛ لأنها غير مرتفعة، وهنا تأخذ السيول في جرف الجبال فيزيد تحاتها ويسرع هذا في إثقال قعور البحار.
وارتفاع الجبال وتحاتها كلاهما يؤدي إلى تغير المناخ وإلى زيادة مياه البحار أو نقصها. فإذا كانت الجبال مرتفعة حدث ما يسمى «عصرا جليديا» فتشتد البرودة وتنقص مياه البحار؛ لأن المطر الذي تتكون سحبه من بخار مياه المحيطات يقع على هذه الجبال فيجمد ولا ينزل إلى البحر إلا ببطء. ففي العصر الجليدي الأخير مثلا كانت مياه البحر المتوسط قليلة حتى إن أوروبا كانت متصلة بإفريقيا في عدة أمكنة. وكانت إنجلترا متصلة بأوربا وكانت آسيا متصلة بشمال أمريكا.
وكان مناخ مصر أبرد مما هو الآن؛ لأن عصر الجليد في أوروبا كان عصر الأمطار في مصر. وكان جبل المقطم، وهو قاحل الآن، حافلا بالحيوان والنبات مما لا نزال نجد متحجراتهما للآن.
وقد انتاب العالم حسب تحقيق العلماء الآن خمسة عصور جليدية كانت سببا في إبادة أنواع عديدة من الحيوان والنبات ومنشأ أنواع أخرى.
ومن ذلك يتبين للقارئ أن جبالنا الراهنة لن تعيش إلى الأبد فإنها ستتآكل وتتحات من سيلان الماء عليها، ثم يثقل قعر البحر فيسيخ ويغور وتظهر جبال جديدة في أمكنة أخرى.
وكذلك شكل قارات العالم لم يكن كما هو الآن. وظاهر من غربي أوروبا وأفريقيا ومطابقته لشرقي أمريكا الشمالية والجنوبية أن قارة أمريكا كلها كانت جزءا متصلا بأوربا وإفريقيا. وأدنى تأمل لخارطة العالم يبين هذا.
أصل الحياة وغايتها
لم يئن الوقت للإجابة على هذا السؤال، ذلك أننا عشنا عشرات القرون ونحن نعتمد في المعارف الخاصة بأصل الحياة على قصص تقليدية، لكل أمة صيغتها الخاصة لها، فللصينيين قصة وللهنود أخرى وللأتراك أخرى، وهلم جرا. وهذه القصص قد عاقت التفكير العلمي بشأن البحث عن أصل الحياة. وخاصة عندما اندغمت هذه القصص في الأصول الدينية؛ لأن هذا الاندغام جعل المخالفة لهذه القصص والأساطير جريمة.
وليس الخوف من الوقوع في الجريمة هو وحده الذي حال دون التفكير العلمي. لأن هناك ما هو أكبر من هذا الخوف وهو الإيمان بالقصة أو الأسطورة منذ أيام الطفولة، حين تشتبك تفاصيلها بعواطفنا حتى لنشمئز وننفر من الفحص عما فيها من صحة أو زيف.
وأعظم المفكرين تلابسه عقائد المجتمع الذي يعيش فيه وعاداته الذهنية والنفسية، وهو لا يتخلص منها إلا بمقدار صغير. اعتبر أرسطوطاليس مثلا؛ فإن القوة الذهنية عنده كانت عظيمة، وكانت قدرته على الترتيب والتفصيل معجزة، وقد ألف كتابا عن الحكومة أو الدولة في أيامه يحس من يقرؤه أنه قد استضاء فيه بفكرة التطور، ولكنه مع ذلك عمي عن الانتباه إلى تطور الأحياء، ولم يمنعه من ذلك سوى الأساطير التي نشأ عليها، إذ هي أطبقت على ذهنه وغمت على ذكائه.
والآن وبعد نحو مائة وخمسين سنة فقط من العلم البيولوجي شرع الإنسان يفكر التفكير العلمي في أصل الحياة، وشرع يبصر بأن الحياة هي خاصة من خواص المادة كما أن العقل هو خاصة من خواص الحياة. وقد بسطت لنا الكيمياء الحيوية (أي التي تدرس كيمياء الجسم الحي من نبات وحيوان) آفاقا جديدة في البحث والدرس، انتهينا منها إلى الوقوف على أجزاء كثيرة من الجسم الحي، وكيف تصنع بالتأليف والتركيب من مواد غير حية. فهناك مركبات حيوية يصنعها الجسم الحي مثل الإنزيمات والفيتامينات والهورمونات، وهي مركبات محورية في الأحياء بحيث لا يمكن أن تحيا بدونها. ومع ذلك تصنع الآن هذه المواد في المعمل دون حاجة إلى الجسم الحي، بل هي تصنع في المعامل ويعالج بها الإنسان أو الحيوان عندما تنقصه.
وقدرتنا الحاضرة على إيجاد هذه الأجزاء من الجسم الحي هي بشير بما سوف نستطيعه عندما نتقدم في الكيمياء العضوية. إذ ليس بعيدا أن نصنع الكل كما نصنع الآن الجزء بل الأجزاء. وكل ما نحتاج إليه هو الوقت. وليس في الجسم الحي من العناصر ما لا يوجد في حفنة من الصلصال. بل إن المشابهة الكيماوية كبيرة بين الاثنين.
وقد نشأت الخلية الأولى قبل نحو سبع مئة مليون سنة أو أكثر حين شرعت الأرض تبرد، وتتخثر الغازات إلى سوائل، ثم تجمد هذه إلى مواد صلبة، ومن العسير علينا أن نعرف تلك الحال الأولى حين نبض الطين بالحياة؛ إذ أين كان النيتروجين والكربون والأكسجين والهيدروجين؟ وكيف كانت الأشعة الشمسية وأثرها في الغيوم التي كانت تكسو الكرة الأرضية التي كانت تدور بأسرع مما تدور الآن حول نفسها وحول الشمس؟
كل هذا نجهله كما يجهل أحدنا ما يقوم به الكيماوي في معمله المقفل، ولكننا نتحسس الطريق إلى الوقوف على حقائقه بالتجربة تلو التجربة.
ولكن يجب أن نفهم من عبارة «الخلية الأولى» شيئا آخر غير الخلايا المفردة التي نراها في أيامنا؛ فإن هذه الخلايا هي أبسط ما نعرف في وسطنا الحاضر، ولكن الخلايا الحية الأولى التي ظهرت على الأرض كانت بالطبع أكثر بدائية وأقل تركبا من الخلايا الحاضرة؛ لأن المعقول أن الخلية قد تطورت، ظهرت أول ما ظهرت جزيئات بروتينية مجموعة عاجزة عن الاغتذاء إلا أقله، كما نرى في هذا الوقت في «الخلية الأنيروبية» التي تعيش بلا أكسيجين، وهي لهذا السبب لا تستغل سوى عشرة في المئة من طعامها، ويذهب تسعون في المئة من هذا الغذاء هباء، ثم ارتقت بعد ذلك باستغلال الأكسجين والاعتماد على مركبات أو جزيئات قوية من البروتين.
وأجسام الأحياء، من نبات وحيوان، تحتوي ثلاثة مركبات لا يمكن أن يخلو منها جسم حي هي: (1)
الكربوهيدرات؛ مثل السكر والنشا. (2)
والدهنيات؛ مثل الشحم والزيت. (3)
والبروتينات؛ مثل زلال البيض واللحم والجبن.
والجزيء في السكر (مثل جلوكوز) يحتوي 24 ذرة.
والجزيء في الشحم (مثل ترستيارين) يحتوي 153 ذرة.
والجزيء في البروتين (مثل زلال البيض) يحتوي 2305 ذرات.
ومن هذه الأرقام نفهم أن أعقد المركبات في الجسم الحي هي البروتينات، وأسهلها هي الكربوهيدرات، وقد استطاع الإنسان أن يصنع، كيمياويا - أي في المعمل - السكر والشحم، ولكنه لم يستطع صنع البروتين.
والجسم البشري يحيل السكر إلى شحم، وكذلك الشحم إلى سكر، ولكن أجسامنا لا تستطيع إحالة السكر أو الشحم إلى بروتين؛ ولذلك نحن نموت بعد مدة قصيرة إذا اقتصرنا على الاغتذاء بالشحم فقط، أو بالسكر فقط، أو بالاثنين معا؛ لأن أجسامنا تعجز عن صنع اللحم منهما.
ولكننا نستطيع أن نحيا إذا عشنا على البروتينات فقط؛ مثل زلال البيض أو اللحم أو الجبن؛ لأن أجسامنا تستخلص منها السكر والنشا، وهناك آلاف من الحيوان تعيش على البروتينات فقط .
ومن هنا نفهم أن البروتين هو المادة الحية الأولى، والمادة البروتينية تحمل على الدوام شحنة كهربائية تجعلها على تفاعل مع الأجسام المكهربة المحيطة بها؛ فهي تتذبذب بها كما يتذبذب الحديد بالقوة المغنطيسية، وهذا التذبذب هو في النهاية أقرب الأشياء إلى الإحساس والتحرك، والإحساس والتحرك هما خاصة الأحياء.
ولذلك يمكن الظن بأن أول الأحياء على الأرض هو مجموعة من الجزيئات البروتينية الكهربائية التي اغتمزت بالحياة، ولم يكن هذا الاغتماز سوى حركة أو ذبذبة كهربائية. •••
وفي تطور الأحياء خطوط واضحة، إذا تأملناها فهمنا وزادت بصيرتنا لماضينا كما تزيد رؤيانا لمستقبلنا؛ ففي الأحياء خط واضح نحو الغريزة؛ كالنمل والنحل والكثير من الأحياء الدنيا، بل نستطيع أن نقول إن النبات يحيا ويغتذي وينمو بغريزته كالنحل أو النمل، وأنه لولا أن أجسام النبات كاسية بالسليلوز الجامد لاستطاع أن يتحرك ويتنقل، ولكن النبات حين يختار طعامه من التربة لا يختلف كثيرا من النحل حين يرشف رحيق الزهرة ويصنع الشهد والشمع.
هذا الخط؛ خط الغريزة، يعم أكثر من 99 في المئة من الأحياء؛ أي الحيوان والنبات، وهي لأنها غريزية لا تدري وجودها؛ فهي في غيبوبة، أو تكاد تكون كذلك.
أما الخط الآخر فيتجه نحو الوجدان؛ أي الوعي الذي يبلغ ذروته في الإنسان، فنحن ندري أننا موجودون، ولذلك نتعقل؛ لنا أمس وغد، ولكننا مع ذلك لم نخل من الجهاز الغريزي كالنبات والحشرات؛ فالطفل يرضع أمه بالغريزة، كما ترشف النحلة رحيق الزهرة بالغريزة، أو كما يمتص النبات غذاءه من الأرض بالغريزة، ونحن نهضم طعامنا بالغريزة، فنقبل الحسن منه ونقيء السيئ كما يفعل جذر الشجرة.
ولكن الوجدان هو الذي نزن به الظروف والأشياء، ونقابل بينها ونتعقل، وهو يتركز في الدماغ، وعلى قدر هذا الدماغ الأعلى - وليس الدميغ الخلفي السفلي - يكون الوجدان، وإذا نزع هذا المخ في الحيوان؛ كالكلب مثلا، ارتد إلى غريزته، فيسلك ويتصرف كما لو كان نملا أو نحلا.
وعندما تحتد الغريزة نسميها عاطفة، وعواطفنا في الغضب والخوف والشهوة لا تزال قوية عنيفة، مما يدل على أن جهازنا الغريزي لا يزال قويا، ولكننا صائرون بالوجدان والتعقل إلى التغلب عليه.
وحتى عندما نسير مع السيكلوجيين السلوكيين ونقول إن تفكيرنا يرجع إلى الرجوع الانعكاسية المكيفة الأول، فإن هذا القول لا ينقض اعتمادنا على العقل، بالمقارنة إلى الحشرات التي تعتمد على الغريزة.
فمستقبلنا هو زيادة التطور في العقل، وكما أن الزرافة استطاعت أن تزيد طول عنقها إلى نحو مترين كي تصل إلى الغصون الطرية العالية أو إلى الأعشاب الأرضية البعيدة، فإننا نحن كذلك نستطيع أن نزيد الدماغ البشري، الذي هو آلة التفكير، حجما ومساحة، فنزيد قدرتنا على التفكير المنطقي، ويزيد وجداننا؛ أي وعينا ودرايتنا بالعالم والكون وبأنفسنا أيضا.
وقد ظهرت «غيبيات» جديدة عند بعض الدراسين للتطور، وفي مقدمتهم برجسون «الفيلسوف» الفرنسي؛ فإنه يقول بأن الحياة مبدأ، أو عنصر، أو فكرة مستقلة عن المادة، وإنها إنما تستخدم المادة فقط كي تبدو أو تتمثل في أجسام الأحياء؛ كأن هناك حياة مجردة بدون أحياء، بل إنه ليتمادى بعد ذلك حتى ليقول إنه ليس بعيدا أن تتخلص الحياة من المادة في المستقبل وتحيا الأحياء بلا أجسام!
وهذا كله عبث في التفكير، وهو ردة إلى أفلاطون حين كان يقول أن البياض سبق الشيء الأبيض وله وجود مستقل، وأن الإنسانية سبقت الإنسان ولها وجود مستقل؛ أي إن الفكرة سبقت المادة، وما دخلت الغيبيات قط في علم أو فلسفة إلا أفسدتهما، وأقل ما يقال في الرد على برجسون وأفلاطون إننا إلى الآن لم نر سوى الأجسام الحية، ولم نر الحياة المجردة، ولم نر العقل المجرد، وإنما عرفنا الأحياء التي تحمل هاتين الخاصتين فقط.
نشأة الحياة الأولى
رأى العلماء أن الأرض كانت قطعة من نار قد انفصلت عن الشمس ثم أخذت تبرد، وأول ما يبرد منها هو - بالطبع - قشرتها لإشعاع الحرارة منها.
وبدهي أن أول ما يبرد من الأرض بعد ذلك هما القطبان، والقطب الجنوبي منفصل من سائر اليابسة بالبحار، فمن المعقول أنه إذا كانت الحياة الراهنة قد نشأت على الأرض ولم تأت إليها من كوكب آخر فإن مكان نشوئها هو القطب الشمالي؛ وذلك لأنه متصل بسائر اليابسة في العالم؛ فالأحياء تجد فيه متسعا ومنه طريقا إلى سائر اليابسة.
وليس معنى هذا أنها لم تنشأ في القطب الجنوبي مطلقا؛ إذا المرجح أنها نشأت في القطبين معا، ولكنها وقفت عن التطور في القطب الجنوبي؛ لإحداق المياه به وطغيانها عليه، أما في القطب الشمالي، فإن المجال كان يسمح بنشوء الحياة وتطورها؛ لاتصاله باليابسة.
ثم أخذت الأحياء تنتشر رويدا في الجنوب كلما خفت حرارة سطح الأرض وأخذت البرودة النسبية للأحياء بالتكاثر.
والمرجح أن الحياة الأولى ظهرت في السواحل؛ حيث يختلط الماء بالطين، وحيث أشعة الشمس تصل إلى قعر الماء.
ولسنا نعرف ماهية الحياة الأولى، فربما كانت أبسط من «الخلية»، ومما يجعل هذا البحث من أصعب الأبحاث أن طبقات الأرض لا تسعفنا بشواهده كما تسعفنا بشواهد أخرى عن الحيوانات والنباتات المنقرضة وتوضح لنا طرق تطورها؛ والسبب في ذلك أن الخلية الأولى كانت من الصغر، ولين المادة الهلامية، بحيث إذا ماتت لم يبق لها أثر يشهد على وجودها.
ومما يرجح، في النشأة الأولى للحياة، أن النبات سبق الحيوان؛ وذلك لأن النبات يستطيع أن يتغذى من العناصر الجامدة بخلاف الحيوان؛ فهو إما أن يغتذي بنبات وإما بحيوان مثله.
ويمكننا بذلك أن نقول: (1)
إن الحي الأول كان نباتا. (2)
إنه نشأ في ضحاضح السواحل.
والسبب في أنه نشأ في الضحاضح دون الغمر العميق من البحار أن البحار لم تكن ملحة في الزمن القديم كما هي الآن؛ لأن ملوحة البحار إنما تكونت من انصباب أنهار العالم واكتساحها أملاح اليابسة إليها، والنبات يحتاج إلى الأملاح كي يعيش، وهو يجد هذه الأملاح في طين السواحل، ثم إن النبات يحتاج إلى ضوء الشمس كي يعيش أيضا، وهو إذا نشأ في قعر المحيط العميق منعت المياه عنه هذا الضوء.
ودليل آخر على أن الأحياء الأولى عاشت دهرا طويلا في مياه البحار، أن عناصر مياه البحار لا تزال موجودة في جميع أجسام الأحياء؛ نباتا كانت أو حيوانا، وأهم هذه العناصر هو «اليودين»، وثانيها هو ملح الطعام، وكلاهما ضروري لكل حي، وفي ملوحة دمائنا نحن البشر ما يشهد بملوحة البحر التي عاشت فيها الخلية الأولى ثم أسلافنا من الحيوان.
ولا يمكن الآن أن نعرف كيف دبت الحياة في الخلية الأولى، وقد مضى زمن كان يحسب فيه الناس أن هناك تشابها عظيما بين تكون المبلورات؛ كالبرد والثلج والألماس، وبين تكون الحياة، ولكن الفرق عظيم بين الاثنين؛ فالتبلور يحدث بالإضافة الخارجية، أما الحي فينمو بالتمثيل الداخلي؛ أي إنه يحتوي على مادة جامدة أو حية ثم يهضمها ويجعلها مثله.
فدبيب الحياة الأولى في الجماد لا يزال سرا، وإنما المقرر المعروف أنه ليس في الحي عنصر أو مركب لا نجده خارجه في الجماد؛ فالجسم الحي مؤلف من الكربون والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين والكبريت وجملة أملاح أخرى، وبعض المركبات التي يصنعها الجسم الحي؛ مثل النشا والبول والكئول، يمكن صنعها الآن في المعامل الكيمائية.
إلا إننا إذا جمعنا المواد المؤلف منها الحي لما أمكننا مع ذلك أن نصنع خلية حية، ولكننا يمكننا مع ذلك أن نلمح شيئا من طبيعة الحياة من تركيب عناصرها؛ فأهم خاصة في الحياة هي الحركة والنشاط، وأهم خاصة في عنصري النيتروجين والكربون هي أيضا نوع من الاستعداد للحركة العنيفة؛ لأن هذين العنصرين يستعملان في المواد الانفجارية؛ مثل البارود والديناميت.
ولا فرق بيننا، ونحن أرقى ما في الأحياء وآخر السلم الذي بلغته الحياة الآن، وبين الخلية البسيطة، ولحسن الحظ لا يزال في العالم أحياء مؤلفة من خلية واحدة مثل الأميبة.
فجسم الأميبة مؤلف من العناصر والمركبات المؤلف منها جسمنا، وجميع خواص الحياة التي فينا نجدها فيها؛ ففيها الحركة، وفيها الإحساس بالألم؛ إذا وضعنا إلى جانبها حمضا تراجعت عنه، وفيها التمثيل؛ تقبض على الطعام فتمثله في جسمها، وفيها النمو والتكاثر. (تكاثر خلية الاميبة، أبسط الأحياء، بالانقسام)
فالحياة الأولى إذا لم تكن قد نشأت بهيئة أبسط من الخلية (وقد فقدنا آثارها)، فهي قد نشأت بهيئة خلية الأميبة الموجودة الآن.
وجميع خواص الحياة موجودة كما قلنا بالأميبة، ولكنها في حال ابتدائية؛ فهي تهضم الطعام بجلدها، وهي تسير عليه؛ أي على هذا الجلد، وليس لها عين، ولكنها تميز الضوء من الظلمة، وليس لها أنف، ولكنها تشم الحمض وتحاول أن تفر منه، وهلم جرا.
فالفرق بيننا وبينها أنه قد حدثت فينا أنواع من التخصص في الأعضاء؛ فبدلا من أن ننظر بجميع جلدنا صرنا نخص جزءا منه لهذا العمل، وبدلا من أن نهضم به صرنا نخص المعدة والأمعاء لذلك.
ولكننا عند التأمل نجد أن معدتنا وأمعاءنا هما جزء من جلدنا أيضا؛ فالأميبا مثل الكرة، ونحن مثل الكعكة، كما يظهر ذلك لدى أقل تأمل؛ وخاصة إذا صرفنا النظر عن الأيدي والأرجل؛ فنحن مجوفون من الوسط، وجلدنا السطحي متصل بجلدنا الداخلي من الفم إلى المخرج.
زد على ذلك أننا نبدأ حياتنا في أرحام أمهاتنا خلية واحدة، تنمو كما تنمو الخلية بفرق واحد، وهو أن الخلية إذا نمت وكبرت انقسمت قسمين، وعاد كل قسم فانقسم قسمين منفصلين، وهلم جرا. أما نحن، فالخلية الأولى تنقسم خليتين دون أن تنفصلا، وتعود كل خلية فتنقسم قسمين متصلين، وهلم جرا.
وجهتا التطور في الحيوان والنبات
الحيوان والنبات كلاهما يشترك في الحياة؛ فقوانين الحياة تشملهما جميعا من حيث الاغتذاء والتنفس والوراثة والتزاوج والنمو، وهما أيضا مشتركان من حيث التطور؛ إذ هما كلاهما نشآ من الجسم البسيط المتجانس إلى الجسم المركب المتغاير، وإنما هما يشتركان لأن الحياة التي فيهما واحدة، بل هما أحيانا يتداخلان فيعيش النبات عيشة حيوانية يسطو على الحيوان أو النبات ويأكله، ثم هو يتحرك ويستجيب للمؤثرات العصبية بالحركة وإفراز السوائل.
ويعيش الحيوان عيشة نباتية أحيانا، بحيث يستعين على الحياة بمادة الكلوروفيل الخضراء التي في النبات، وأحيانا يؤثر السكون على الحركة كما هو الشأن في النبات؛ (كما يفعل حيوان الإسفنج).
وهذا الاشتراك يدلنا على أن النبات والحيوان قد نبعا من أصل واحد، وأن الفرق بين النخلة والأسد أو بين العشب والفأر، من حيث اعتبار قوانين الحياة العامة، لا يختلف في النهاية عن الفرق بين الكلب والذئب أو بين الذرة والقمح، إلا اختلافا في الدرجة فقط.
ولننظر الآن في بعض ما يظهر من مظاهر الاختلاف، لنرى هل فيها اختلافات جوهرية تفصل النبات عن الحيوان فصلا تاما، وتميزه منه بحيث يستدعي الاعتقاد بأن حياة الحيوان غير حياة النبات، أو أن هذه المظاهر سطحية فقط قد اقتضاها اختلاف البيئة!
ولنبتدئ بالاغتذاء؛ فإن المعروف عند جميع الناس أن النبات يغتذي من الجماد، أما الحيوان فيغتذي من النبات أو من الحيوان، وليس هذا فرقا كبيرا:
أولا:
لأن العناصر التي يغتذي بها النبات هي نفسها العناصر التي يغتذي بها الحيوان؛ أي إننا عند تحليل الغذاء إلى عناصره الأولية، من نتروجين وكربون وغيرهما، نجد أن غذاء النبات هو نفسه غذاء الحيوان، وإنما يمتاز النبات بالقدرة على إحالة الجماد إلى مادة نباتية مثله، ويمتاز الحيوان بالقدرة على إحالة النبات أو الحيوان إلى مادة حيوانية مثله.
وثانيا:
لأن بعض الحيوانات تستطيع أن تغتذي من الجماد، وذلك بواسطة الكلوروفيل؛ أي المادة الخضراء التي في النبات، فإن هذه المادة هي التي تجعل النبات يغتذي من الجماد؛ ففي بعض الحيوانات؛ مثل نوع من الإسفنج ونوع آخر من الدود ونوع آخر من القشريات، نجد هذه المادة، وبواسطتها يقدر الحيوان على الاغتذاء من الجماد.
وثالثا:
في بعض النباتات أنواع ليس بها مادة الكلوروفيل هذه، فلا يمكنها أن تغتذي من الجماد، بل هي تغتذي من الحيوان أو النبات كما هو الشأن في البكتريا التي تحدث الأمراض، وفي الكمأة التي تعيش على المادة الحية؛ مثل الجيف.
ونقول رابعا وأخيرا:
إن الفرق بين الحيوان والنبات من حيث الاغتذاء ليس كبيرا؛ إذ إن بعض النباتات الخضر؛ أي التي تغتذي من الجماد، تغتذي أيضا من الحيوان؛ وذلك بأن تطبق زهرتها على الحشرات فتقتلها وتمتصها.
والنبات والحيوان كلاهما يتنفس، وقد كان الظن قديما أن التنفس في الحيوان عكس التنفس في النبات، فكان يقال إن الحيوان يحتفظ بالأكسجين ويطلق ثاني أكسيد الكربون، وإن النبات يفعل عكس ذلك؛ أي يطلق الأكسجين ويحتفظ بثاني أكسيد الكربون الذي يبني منه مادته الخشبية، ولكن هذا الظن خطأ؛ فإن الحيوان والنبات يتنفسان بطريقة واحدة، وإنما جاء الخطأ من الخلط بين عمليتي التنفس والغذاء.
فمن حيث التنفس لا نجد أقل فرق بين الحيوان والنبات؛ فكلاهما يأخذ الأكسجين ويطرد ثاني أكسيد الكربون، ولكن النبات الأخضر يغتذي من الهواء في ضوء الشمس، فيمتص من الهواء ثاني أكسيد الكربون (للغذاء لا للتنفس)، ثم يطرد كمية من الأكسجين أكبر مما يطرده من كمية ثاني أكسيد الكربون الذي اغتذى به. يحدث هذا في النهار، فإذا جاء الليل وقفت عملية اغتذاء النبات من الهواء لانعدام الضوء، وتبقى عملية التنفس فقط؛ ولذلك هو يطلق ثاني أكسيد الكربون كالحيوان، ومن هنا ضرر إبقاء النبات داخل غرف النوم؛ لأنه يزحم النائمين؛ إذ هو يتنفس مثلهم.
ومما يشترك فيه الحيوان والنبات قانون الوراثة؛ فنحن البشر أرقى الأحياء، ننسل كما ينسل القطن أو الفجل نسله، لا فرق بيننا وبينه، فقانون «مندل» في الوراثة ينطبق على الحيوان والنبات، ومربو الخيول أو القطن أو الكلاب أو الحمام أو الأزهار يجب عليهم أن يراعوا هذا القانون في اختيار الصفات التي يرغب في إيجادها في النسل، ولو كان النبات من أصل آخر غير أصل الحيوان لكان الأرجح أن يختلف عنه في قانون الوراثة.
ولننظر في قانون آخر يشمل الحيوان والنبات، فالمعروف أنه كلما كبر حجم الحي طال عمره بنسبة كبر حجمه؛ فالسنديان يعيش أكثر من النخل، والجميز أكثر من الشعير، وكذلك الفيل والقيطس أكثر من الفأر والأرنب، كأن الطبيعة لم تخلق أنواعا على حدتها، وإنما خلقت أفرادا فقط، فلما تباين الأفراد وكثرت فروق هذا التباين وتراكمت، صار هذا الفرد قائما برأسه، بل صار هذا نباتا وهذا حيوانا، ومما يبصرنا بذلك أن طويل الجسم في الإنسان طويل العمر أيضا على وجه عام.
ثم إننا نجد النبات قد سار سيرة الحيوان في تطوره، وإنما بطريقة أبطأ؛ فقد بدأ كلاهما وليس في أحدهما ما يميز الجنس، فلم يكن هناك ذكر أو أنثى في الحيوان أو النبات، ثم ظهر بعد ذلك زهر النبات يحتوي على ملاقحه، بل بعض النبات ؛ كالنخل والتوت، يختلف فيه الذكر عن الأنثى.
فالوظائف الفسيولوجية كانت قديما في الحيوان والنبات معممة منتشرة في جميع أنحاء الجسم، ثم حدث التخصص، فاختص عضو بالغذاء، وآخر بالتنفس، وآخر بالتلاقح، وآخر بالإحساس، وهلم جرا.
وإنما اتسم النبات بالبطء للظروف التي حاطته في تطوره؛ فقوته العصبية لا تزال في درجة القوة العصبية التي في ديدان الأرض، بل قد تكون أحط، ولكنها قوة عصبية مع ذلك لا تختلف عن تلك التي في الحيوان إلا من حيث الدرجة، فإن منشأ العقل في الإنسان نفسه هو الغريزة، وفي النبات ما يشبه الغريزة؛ فإننا إذا لمسنا دودة الأرض تقلصت، وكذلك تفعل شجيرة الميموزا التي يطلق عليها الناس اسم «المستحية»؛ لأن أوراقها تتهدل عند اللمس وتنكمش، وكذلك تفعل الزهرة التي تقبض على الحشرات وتأكلها؛ فإنها عندما تحس بالفراشة تحط عليها، تتنبه أعصابها فتنطوي عليها وتعصرها وتمصها وتمثلها.
وهناك اختلاف ظاهر بين شكل الحيوان وشكل النبات؛ فالأول ململم منطوي مدمج، والثاني منبسط منتشر، وهذا الفرق في الهيئة يوهمنا بأنه فرق كبير، ولكن الحقيقة أن طريقة الغذاء هي التي أوجدته؛ فالنبات يتغذى بأوراقه، وهذه الأوراق لا يمكنها إمداد الشجرة بالغذاء من الهواء إلا إذا تعرضت للشمس وللهواء، فالشجرة لذلك تنبسط وتنتشر بمقدار ما يسمح لها مكانها، أما الحيوان فإنه يغتذي بباطنه، وغذاؤه مركز أكثر من غذاء الشجرة، فهو لا يحتاج إلا إلى مقدار صغير بالنسبة إلى ما تحتاج إليه الشجرة، ثم قد يكون كثرة تعرضه للهواء ما يؤذيه؛ لأنه يفقد حرارته.
والخلاصة أن النبات والحيوان كليهما لا يختلف أحدهما عن الآخر إلا من حيث الظواهر، ولكنهما تشملهما حياة واحدة وقوانين واحدة في الغذاء والتنفس والنمو والتناسل والوراثة والتطور.
التطور في قشرة الأرض
قشرة الأرض مؤلفة من طبقات أبعدها في العمق أبعدها أيضا العمر، وهي متراكمة؛ الواحدة فوق الأخرى، وقد تتداخل هنا وهنا بفعل ثوران باطن الأرض، ولكن استقراءنا للطبقات في جميع القارات الخمس قد أنتج لنا نظاما لهذه الطبقات نعرف منه درجة القدم في كل طبقة
وفي كل من هذه الطبقات نجد متحجرات النبات والحيوان، ومتحجرات كل طبقة تختلف عن متحجرات أية طبقة أخرى مع شيء من التداخل أيضا؛ أي قد توجد متحجرات في طبقة ما ثم نجدها أيضا في الطبقتين المتحجرتين العليا والسفلى، ومرجع هذا التداخل حركات بركانية انفجارية أفسدت ترتيب الطبقات.
وهذه المتحجرات إذا تتبعناها من الطبقة السفلي حتى الطبقة العليا التي نعيش عليها فإننا نجدها توافق موكب التطور. وقبل الكلام عن دلالة هذه المتحجرات يجب أن نشرح كيفية قياس الطبقات، بحيث نعرف عمر كل منها، ومبلغ السنين التي مضت عليها، ثم كيفية حدوث التحجر في الحيوان أو النبات.
فهناك عدة طرق تعرف بها عمر الطبقات، أسهلها وأقربها إلى أذهاننا نحن المصريين ما نعرفه من رواسب الأنهار؛ فإن النيل في كل سنة تنساح مياهه في أرض مصر، وتفيض فيها وتتبخر وتبقى رواسبها، فهذه الرواسب ترفع سطح القطر المصري كل عام بمقدار صغير، فإذا حسبنا أن سطح مصر يرتفع مليمترا في العام بهذه الرواسب فهو يرتفع مترا كاملا في ألف عام، أو ألف متر في مليون عام، فإذا وجدنا حيوانا متحجرا على عمق 50 مترا حكمنا بأنه مات منذ خمسين ألف عام.
وما تفعله الأنهار تفعله الأمطار الكاسحة أيضا.
ولسنا نعرف من طبقات قشرة الأرض سوى ما عمقه نحو 25 ميلا، وبدهي أننا لم نحفر في الأرض بئرا عمقها 25 ميلا عرفنا منها هذه الطبقات، وإنما حدث أن البراكين وثوران الأرض في بعض الأمكنة رفعا هذه الطبقات، فظهرت لنا طبقة فوق طبقة، حتى إننا نرى هذه الطبقات في بعض الجبال الآن. (متحجر الأمونيت، وهو حيوان رخو كانت تعج به البحار قديما ثم انقرض) (آثار قدم طائر وحوله قطرات المطر وقد تحجرت كلها)
والآن قد يتساءل القارئ: كيف يتحجر النبات أو الحيوان؟
فالجواب أنه كثيرا ما يسير حيوان فيقع عليه جرف فيدفنه تحته، أو تزل قدمه فيقع في هاوية ثم ينهار عليه التراب من الجوانب فيدفنه، أو قد تنخسف الأرض التي تحمله لفورة في باطنها فيموت تحت ما يتجمع حوله من التراب، أو قد يتورط في منقع يعجز عن الخروج منه ويموت مدفونا في طينه، وهذه الأحوال نادرة الوقوع؛ ولذلك فالمتحجرات من النوادر، ونحن لذلك لا نجد كل أنواع النبات والحيوان القديمة، وإنما نجد نوعا ما يبصرنا بما جاء قبله وما جاء بعده.
والحيوان أو النبات المتحجر لا يوجد بلحمه وشحمه كما كان في حياته، وإنما يوجد حجرا قد اتخذ هيئته في حياته وقت موته، وسبب تحوله من المادة الحية إلى مادة حجرية أنه عندما يدفن تحت التراب، وتنزل فوقه الأمطار، تتسرب مياهه إليه فتفسد مادته وتعفن شأن كل حي، فإذا تعفنت تحولت إلى غازات وتطايرت، فيبقى مكانها خاليا بالهيئة التي مات عليها الحيوان أو النبات.
والمطر إذا تسرب إلى هذا المكان الخالي حمل معه الأملاح التي تذوب فيه وهو يمر بالأتربة التي فوق الحيوان أو النبات المدفون، فهذه الأملاح تتراكم سنة بعد سنة، ومادة الحيوان تفسد وتتحلل وتذهب سنة بعد سنة، حتى يجيء وقت يصير فيه الحيوان أو النبات قطعة من الأملاح أو الحجر.
ولطبقات الأرض التي ظهرت فيها الحياة أسماء مختلفة، نستغني عنها ونكتفي بذكر الدهور التي تعاقبت على الأحياء من بدء الخلية الأولى حتى عصرنا الحاضر، ويجب أن نتذكر أننا لا نجد تحت هذه الطبقات سوى صخور بركانية لم يظهر فيها أثر للحياة؛ لأن الحياة لم تكن قد نشأت بعد؛ لحرارة الأرض التي لم تكن قد بردت بدرجة تسمح للحياة بالنشوء.
وإذا نحن تتبعنا هذه الطبقات من الطبقة السفلى؛ أي أقدمها، إلى الطبقة العليا التي نعيش نحن عليها، واستقرأنا الأحياء التي تحجرت فيها، وجدناها تتفق ونظرية التطور؛ فالأحياء الأولى بسيطة ثم تتدرج في الرقي حتى تصل إلى الأحياء الراهنة في الطبقة العليا، وهذه الطبقات تبلغ 13 طبقة تكونت في خمسة دهور. (1)
الدهر القديم:
وفيه ظهرت الحياة الأولى المؤلفة من خلية واحدة؛ مثل الألجة، وهي طحلب بحري لا ورق ولا جذع ولا جذر له، لا يزال موجودا (منه ما هو ذو خلية واحدة، ومنه ما هو ذو عدة خلايا)، وظهرت الخلية الأولى من الحيوانات أيضا.
وعمق طبقات هذا «الدهر القديم» يبلغ 70000 قدم، ولسنا نجد أثر الحياة فيه، وإنما نحن نفرضها؛ وسبب ذلك أن الأحياء التي ظهرت فيه كانت هلامية صغيرة جدا فلم تترك أثرا، ثم إن قرب طبقات هذا الدهر للصخور البركانية أحالها هي نفسها إلى صخور متبلورة بفعل الحرارة، فضاعت منها معالم الحياة. (2)
الدهر الأولي:
وله 3 طبقات ثخانتها كلها 42000 قدم، وهي أعمق الطبقات المشتملة على متحجرات، وفيها نرى عدة متحجرات من المحار والإسفنج والمرجان والقشريات؛ (كالجنبري والسرطان)، والسمك، كما نجد أيضا حيوانا صدفيا ذا خلية واحدة لا بد أنه كان يعيش في «الدهر القديم»، ونجد من النبات «الألجة» النبات البحري الذي ذكرناه في الدهر السابق. (سمكتان متحجرتان قد انقرض نوعاهما) (3)
الدهر الثانوي:
وله 5 طبقات أيضا، ثخانتها 15000 قدم، وفيه نجد الصنوبر والنخل والزواحف والطيور والأسماك والحيوانات الكيسية (التي تحمل أولادها في كيس تحت بطنها؛ مثل الكنغر في أستراليا). (الماموث؛ أي الفيل الأشعر المقرض منذ بضعة آلاف السنين كما رسمه إنسان بدائي على قطعة من العاج). (4)
الدهر الثالثي:
وفيه ثلاث طبقات سمكها 3000 قدم، وفيها متحجرات الثعابين والقياطس والقردة والأشجار الموجودة الآن. (5)
الدهر الرابعي:
وفيه الطبقة الأخيرة، وثخانتها 600 قدم، وبه متحجرات الماموث؛ أي الفيل الأشعر المنقرض، وذوات الأربع الصوفية، والإنسان، وجميع الأشجار الحاضرة.
فأنت ترى من هذا أن المتحجرات تدل على أن الأحياء لم تخلق كلها مرة واحدة، وإنما تدرجت؛ فلسنا نجد الإنسان في طبقات أي دهر ما عدا الدهر الرابعي الأخير، ولكننا نجد الإسفنج في جميع الطبقات منذ الدهر الأولى، ونجد أن الزواحف قد سبقت الطيور واللبونات، ونجد أن أول ما يظهر من الأحياء في الطبقات العميقة هو تلك التي هي في الواقع أبسطها تركيبا، ثم يتدرج الحي من البسيط الذي لم تتخصص الوظائف في جسمه إلى المركب الذي تخصصت وظائف جسمه كل منها في مكان.
والمتحجر من الحيوان يدلنا على الصلة التي تصل بينه وبين ما قبله؛ فمثلا: متحجرات الطيور نجد لها أسنانا مثل الزواحف، ومتحجرات الفرس نجد لها بدل الحافر أصابع في قدميها مثل الحيوانات التي نشأت منه، وهلم جرا.
ومما يساعدنا على درس التطور أن الأحياء الدنيا لا تزال موجودة، فإذا نحن عرضنا أحياء العالم الباقية إلى الآن وجدنا فيها ما يدل على التطور دون حاجة إلى الرجوع إلى المتحجرات في طبقات قشرة الأرض، ولكن هذه المتحجرات تنفي أقل شبهة تعترينا عن التطور؛ فهي تاريخ قديم كتبته يد الطبيعة نعرف منه كيف نشأنا، وكيف ارتقينا إلى حالنا الحاضرة.
ومما يلاحظ أن كثيرا من الأحياء الدنيا لم ينقرض، مع أنه نشأ منذ نشأت الحياة على وجه الأرض تقريبا، وأن ثخانة الطبقات العميقة أكبر جدا من ثخانة الطبقات القريبة؛ فثخانة طبقات الدهر القديم، وهي أعمق الطبقات وأولى الطبقات التي ظهرت فيها الحياة، تبلغ 3000 قدم، ولم يظهر فيها سوى أحياء من ذوات الخلية الواحدة، وهذه الأحياء لا تزال موجودة، في حين أن طبقات الدهر الثالثي لم تزد ثخانتها عن 3000 قدم، وقد انقرض منها عدد كبير من الأحياء. (الحيوانان التي في اليمين هي الراهنة والتي في اليسار هي أصولها المتحجرة المنقرضة)
ونحن ندرك من ذلك أن الأحياء الدنيا بطيئة التطور، أما العليا فسريعة التطور؛ لهذا لا تزال الأحياء الدنيا التي ظهرت في «الدهر القديم» عائشة بيننا، كما نعرف ذلك من الميكروبات والبكتيريا والخمائر، أما الأحياء العليا فسريعة التطور، فهي لذلك سريعة الانقراض، ومن هنا نعرف السبب في أن «الدهر القديم» كان أطول جدا من «الدهر الثالثي» مثلا.
ونستنتج أيضا أن التطور الآن أسرع مما كان، ونحن نبصر شيئا من ذلك إذا قابلنا الأحياء الدنيا؛ فإذا وضعنا مئة محارة في صف واحد وأردنا تمييز كل واحد عن الأخرى صعب علينا ذلك، ولكننا إذا وقفنا مئة إنسان صفا واحدا وجدنا الاختلاف والتمييز ظاهرين بين كل شخص وآخر، وهذا الاختلاف داعية إلى التطور.
فالأحياء يسرع تطورها بنسبة ارتقائها، ولذلك سيكون التطور في المستقبل أسرع مما كان في الماضي؛ فالمئات ستأخذ مكان الآلاف، والآلاف تأخذ مكان الملايين من السنين.
وهذا طبق ما نعرفه من الحياة؛ فالحياة تختلف عن الجماد في رغبتها الدائمة في أن يخرج كل حي متميزا عن غيره بشيء ما؛ فالأحياء الدنيا قليلة النصيب من تحقيق أغراض الحياة، فهي لذلك جامدة تخرج على وتيرة واحدة، أو ما يشبه أن يكون كذلك، أما الأحياء العليا فقد تحققت فيها أشياء كثيرة من أغراض الحياة؛ فهي لذلك تسايرها في أهم خواصها، وهو التغير والاختلاف والتميز، أو بعبارة أخرى سرعة التطور.
التطور في الدواجن
منذ زمن بعيد عمد الإنسان إلى بعض الحيوان فاستأنسه ثم دجنه، وربما كان الأصل في الاستئناس ثم التآلف والتدجين، أن الإنسان كان يصيد بعض الوحوش، فإذا قتل أنثى الوحش أخذ صغارها فتكون لهوا للأطفال وللنساء، ثم تشب فتألفه وتصير من الدواجن.
وقد دجن الإنسان طائفة من النبات، ودواجن النبات والحيوان جميعها شاهد من شواهد التطور التي لا تنكر؛ فهذه الحيوانات المدجنة لو عادت الآن إلى الحال الوحشية لانقرضت في جملة أسابيع؛ لأنها قد اختلفت عما كانت عليه قديما، وفقدت آلات دفاعها، وتغيرت بعض وظائف أجسامها حتى صار تركيب جسمها يخالف مصلحتها ويناقض الغرض من نشوئها القديم.
فإذا نحن أطلقنا دجاجنا في غابة لما أطاق الحياة أسبوعا كاملا، ولو أطلقنا نعاجنا في برية لأكلتها السباع في أقل من شهر، بل نحن لو أهملنا زراعة النباتات المدجنة وحياطتها بصنوف العناية لماتت في جملة أعوام؛ لاعتداء الأعشاب البرية عليها وأخذها مكانها دونها.
وقد كانت هذه الدواجن، من النبات والحيوان، قادرة على الدفاع عن نفسها قبل أن تدجن، ولكنها بعد أن دجنت صار الإنسان عاملا جديدا في تطورها، فلم يعمل لمصلحتها هي باعتبارها من الأحياء، بل نظر إلى مصلحته هو، وقصر وظيفتها على خدمته، فإذا رفع عنها عنايته زالت من الوجود؛ وسبب ذلك أن الأحياء في حالتها الوحشية ينازع بعضها بعضا في البقاء والتناسل، فتقوى على مدى الزمن، أما الدواجن فليس بينها تنازع للبقاء أو التناسل، إلا ما كان لمصلحة الإنسان الذي يدبر أمورها ويتصرف في أقدارها.
وغايتنا من النظر في الدواجن الآن هو البرهنة على أنها شاهد قوي من شواهد التطور؛ فإن الأصول البرية الوحشية لهذه الدواجن تكاد تكون كلها معروفة؛ ففي الهند لا يزال الدجاج بريا يعيش في الغابات، وفي أمريكا لا يزال الدندي يسكن الأحراش والبراري، وحمار الوحش معروف، واليمام البري لا يزال حيا، وهو أصل جميع سلالات الحمام التي نعرفها، وقل مثل ذلك في سائر دواجن النبات والحيوان.
ولكن العبرة في هذه الدواجن أنها كثيرة السلالات، كل منها يمتاز بميزة ما عن سائر السلالات الأخرى؛ فقد يمكننا أن نعد مئة سلالة من الحمام، ومثلها من الكلاب، ومثلها من الدجاج، وإنما كثرت هذه السلالات لأن الإنسان أراد ذلك؛ فقد كان يستحسن صفة ما في عرف الديك، أو دابرته، أو لون ريشه، أو صوته، أو غير ذلك، فيخصه باللقاح دون غيره، فتنتشر الصفة المرغوب فيها في فراخه أو في بعضها، فينتقي من هذا البعض تلك الأفراد التي حصلت على أكبر قسط من هذه الصفة فيقصرها على النتاج، ويكرر هذا العمل حتى يحصل من ذلك على الصفة التي يرغب في وجودها، وتنشأ من هذا سلالة جديدة.
ومن هنا صار لدينا من الحمام: المسرول، والمطوق، والقلاب، وحمام الزاجل، وغيرها عدد كبير، وكل هذه السلالات قد نشأت بالانتخاب والتربية من أصل واحد هو اليمام البري. (اليمام في الوسط وهو أصل جميع سلالات الحمام الموجودة الآن، ومنها الاربع التي حولها)
وعندنا من الخيول ذلك الفرس العربي الضامر، وخيول السباق، وخيول الجر، وخيول شيتلاند التي لا يزيد جرمها على جرم الكلب الكبير.
وعندنا من الخراف الصوفاني والأليان وسواهما، ومن الكلاب، كلاب هولندا الضخمة التي تجر العربات، وكلاب الألب، وكلاب داخشنج الألمانية، والكلاب الصينية السمينة التي تؤكل، وغيرها، وكلها تنتمي إلى أصل واحد، هو السلوقي المصري.
وكذلك الحال في النبات؛ فإن عندنا مئات من سلالات التفاح، وكلها يرجع إلى نوع واحد من التفاح البري، وثمره صغير الحجم حاذق الطعم.
وعندنا من سلالات القطن عشرات تختلف نسيجا وبذرة ولونا، وذوو الهمم من المزارعين لا يزالون يوالون البحث عن سلالات جديدة يقصدون منها إلى نعومة الألياف، وطولها، وقصر مدة الإثمار، وضمور البذرة، ونحو ذلك.
وكذلك الحال في الذرة الشامية، فقد كان النبات يوما ما ينبت على طريقة القمح، له سنبلة تحتوي على ملاقحه من أعضاء الذكورة والأنوثة، ثم انفصلت هذه الملاقح فصارت أعضاء الأنوثة في القنديل، واختصت أعضاء الذكورة بقمة النبات، ودليل ذلك هو ما يحصل من الردة أحيانا، إذ ترد الذرة إلى أصلها فتنشأ لها سنبلة على قمتها، على نحو ما هو حاصل للقمح والذرة العويجة.
وفي الولايات المتحدة، حيث العقول متيقظة، وما هو في عداد المستحيل عند الأمم الأخرى يعد من الممكنات هناك - تمكن بوربانك من إيجاد ككتوس (تين شوكي) ليس في أوراقه شوك، يمكن البهائم أن ترعاه، وكل يوم يشتغل المختصون بتربية الحيوان أو النبات أو من يهوون ذلك بإيجاد صفة جديدة فيهما، ويأتي غيرهم فيقوي هذه، حتى إذا تقادم الزمن ظهرت سلالة جديدة، وقد فعلت روسيا العجائب هنا.
فكل هذه الأمثلة عن إمكان إيجاد صفات جديدة في الحيوان أو النبات المدجن تدلنا على أن الجسم الحي يقبل التحول والتطور، وما يفعله الإنسان في دواجنه تفعله الطبيعة في نباتها وحيوانها، ولكن الطبيعة تعمل في ملايين السنين؛ فهي لذلك استطاعت أن توجد الأنواع المختلفة، أما الإنسان فلم يعمل إلا في جملة مئات من السنين؛ فهو لذلك لم يستطع سوى إيجاد سلالات فقط، ولعله لو طالت المدة وتقادم الزمن لصارت هذه السلالات المتقاربة أنواعا مستقلة.
ويجب هنا أن نقول إن الفرق بين السلالة والنوع ليس من التميز الوضوح بحيث يجعل هذا الحيوان أو النبات نوعا أو سلالة في بعض الأحيان على وجه البت والتقرير؛ فالإنسان - مثلا - نوع واحد ينقسم إلى سلالات؛ مثل المغول والآريين والزنج الإفريقيين والأمرنديين في أمريكا، ومع ذلك فقد قام حديثا أحد العلماء يقول إن المغول نوع متميز من الآرى، وليسا سلالتين ترجعان إلى النوع البشري.
وعلامة النوع التي تميزه أنه لا يتلاقح مع نوع آخر، بينما علامة السلالة أنها تتلاقح مع سلالة أخرى، ولكن نوع الكلب يتلاقح مع نوع الذئب، ونوع الفرس يتلاقح مع نوع الحمير؛ فالنوع والسلالة يتداخلان أحيانا بحيث لا يمكن البت في كل حالة عن حيوانين أو نباتين هل هما نوعان أم سلالتان من نوع واحد.
ومما يجعل محاولة إيجاد نوع جديد على يد الإنسان من الأمور الشاقة أن الحيوانات الداجنة كلها تقريبا حيوانات عليا لبونة تعيش عمرا طويلا، فإيجاد صفة جديدة فيها يحتاج إلى تعاقب مئات الأجيال أبا عن جد، وهذا يستغرق آلاف السنين.
وليس ينكر أن لدينا أحياء دنيا من ذوات الخلية الواحدة، وأنها تتكاثر في اليوم الواحد أكثر مما نرى من الحيوانات العليا في مئة عام، وقد يظن القارئ لذلك أن محاولة إيجاد نوع جديد منها يكون أسهل من محاولة إيجاد نوع جديد من البقر أو الخيل أو غيرهما، ولكن يجب ألا يغيب عن الذهن أن الحيوانات الدنيا بطيئة التطور، أما العليا فسريعته، وهذا ظاهر من اختلاف هيئات الأفراد في الأحياء العليا، واتفاقها أو ما يشبه اتفاقها في الحيوانات الدنيا.
وطبقات قشرة الأرض تدل على أن تطور الأحياء الدنيا قد استغرق وقتا طويلا جدا، أضعاف ما استغرقه تطور الأحياء العليا، فنحن في رغبتنا في إيجاد أنواع جديدة أمام صعوبتين: الأولى: أن الأحياء الدنيا وإن كانت سريعة التكاثر فهي بطيئة التطور، والثانية: أن الأحياء العليا وإن كانت سريعة التطور فهي بطيئة التناسل.
وحسبنا السلالات العديدة التي أوجدها وما زال يوجدها الإنسان من الحيوان والنبات، فهي شاهد على أن الحياة تقبل التحول والتطور؛ فما فعلناه نحن في آلاف السنين قد فعلت الطبيعة أضعافه في ملايين السنين، ولذلك استطاعت أن توجد الأنواع، بينما نحن لم نستطع سوى إيجاد السلالات.
التطور في الشارع
عندما نرى جملا يسير على الطريق الزراعي ونتأمل عنقه المديد لا نتمالك أن نذكر أن هذا العنق قد طال وامتد لأن سيقان الجمل قد ارتفعت، فهو يحتاج، كي يصل فمه إلى العشب، أن يكون عنقه طويلا.
وإذا سألنا: لماذا ارتفعت سيقانه؟ فإن الإجابة تتضح من كفوفه الطرية التي تنفرش على الرمل والحصا، ومن الثفنات الخشنة التي تقيه الجروح عندما يبرك، وهذا يدل على أنه حيوان الصحاري الجافة، وارتفاع سيقانه يجعل خطواته واسعة فلا تحتك بالرمل والحصا كثيرا، فهو يمشي وكأنه يجري.
ولكن أعظم ما يدعو إلى التفكير أن عنق الإنسان الذي لا يزيد على ستة أو سبعة سنتيمترات يحتوي سبع فقرات، وكذلك الشأن في عنق الجمل الذي قد يزيد على متر أو متر ونصف!
بل هذا هو الشأن في عنق الزرافة، وعنق الفأر، وعنق الجاموسة، وعنق القط: سبع فقرات في جميع الحيوانات اللبونات، وهذا برهان على الاشتراك في الأصل؛ فقد نشأنا جميعا من حيوان يحتوي عنقه سبع فقرات، ثم اختلفت بيئاتنا وأحجامنا، ولكن إيجاد فقرة جديدة من العظم ليس من اليسير، بل هو قريب من المحال! وإذن، صار السبيل إلى إطالة العنق زيادة النمو في بعض عضلاتنا فقط، وإبقاء الفقرات كما هي في عددها الأصلي.
ونحن البشر نمشي على قدمين منتصبتين، ولكن قليلا من التأمل لحركاتنا ونحن نمشي، يدل على أننا نستعمل يدينا مع رجلينا وقت المشي، كما لو كنا لا نزال نمشي على أربع، وهذا يتضح لنا عندما نقارن مشية الفرس بمشية الإنسان: اليد اليمنى تتقدم مع الساق اليسرى واليد اليسرى تسير مع الساق اليمنى.
وحين نشتري سمكة نجد خياشيمها على جانبي عنقها، وقل منا من يذكر أننا نحن أيضا نقضي فترة من حياتنا الجنينية ونحن نمتاز بمثل هذه الخياشيم، كما لو كنا نذكر حياتنا السمكية السابقة، وحياة الجنين البشرى تمثل في تكشفاتها تطور الأحياء السابقة.
وكلنا يعرف أن الميزة العظمى للإنسان على الحيوان هي هذا الدماغ الضخم الذي استطعنا به التفكير والاختراع، وهو في الواقع أعظم ما وصلت إليه الطبيعة في تجاربها العديدة لإيجاد الأحياء المختلفة، وعندما نقارن دماغ الإنسان بدماغ السمكة يتضح لنا السبب الأكبر لتسلطنا على المملكة الحيوانية جميعها؛ فإن السمكة التي تساوي الإنسان في الوزن لا تحوي من الدماغ سوى جزء من ألف بالمقارنة إلى دماغ الإنسان.
وعندما يولد الجنين البشري يبقى مدة من الزمن وجمجمته لا تلتحم من أعلاها الأمامي؛ إذ هي جلدة طرية، وهذه الجلدة الطرية تعود بنا إلى مئات الملايين من السنين الماضية، حين كنا من الزواحف الصغيرة الدنيئة، نزحف على الأرض، ونخشى الهجوم علينا من أعلى، فكانت لنا عين ثالثة مكان هذه الجلدة ننظر بها إلى أعلى ونحذر الأعداء، وقد استحالت هذه العين القديمة إلى الغدة الصنوبرية.
ولا تزال في أستراليا زاحفة تشبه العظاية (السحلية) الكبيرة، تمتاز بهذه العين الثالثة، وتدعى تواتارا.
التطور في الإنسان
من السهل أن يرى الإنسان في تقاطيع وجهه وتقاسيم أعضائه، وفي قده ومزاجه، شيئا كثيرا مما ورثه عن أبويه، ويرى أيضا في شكل أعضائه صلة الاشتراك بينه وبين جدوده الأقربين، وإن كانت هذه الصلة أضعف مما هي بينه وبين أبويه.
ونظرية التطور تقول بأن الأحياء كلها تشترك في أصل واحد، هي الخلية الأولى التي ما زلنا نرى مثالا لها في الآميبة، فإذا صحت هذه النظرية وجب علينا أن نرى آثار الأحياء القديمة التي مر فيها تطور الإنسان من الخلية الأولى حتى صار بحالته الراهنة.
وبدهي أننا لا ننتظر أن نرى هذه الآثار ظاهرة قوية؛ أي بقوة ما نرى من الآثار التي يتركها الأب للابن؛ فآثار الوراثة تضعف وتكاد تتلاشى بنسبة بعد الفرد الذي نرث عنه شيئا في جسمنا أو ذهننا، وعلة هذا الضعف ليست تقادم الزمن، وإنما طروء الأجيال جيلا بعد جيل، وطبع كل جيل سماته في عقبه، بحيث تظهر هي وتستر سمات الأجيال السابقة.
فالإنسان باعتبار كفاياته الوراثية أشبه شيء بالبصلة؛ أظهر ما فيه من هذه الكفايات ما ورثه عن أبويه، ثم تستتر طبقة وراء أخرى، وتتضاءل هذه الطبقات، حتى تصل إلى عهد الخلية الأولى التي نشأت منها جميع أنواع الحيوان والنبات، ومنها الإنسان.
وعمر الإنسان الحقيقي لا يبتدئ من عهد خروجه من رحم الأم، بل من عهد ظهور الخلية الأولى في العالم؛ فكل منا قد عاش؛ أي قد بقي حيا في حياة متصلة إلى عهد ظهور الخلية الأولى؛ أي إن عمره لا يقدر بأقل من مئات الملايين من السنين.
وفي جسم الإنسان ما يدل على اتصال الحياة بيننا وبين الخلية الأولى؛ فبناء جسمنا - مثلا - من خلايا لا يختلف في شيء من أصول الحياة عن خلايا الخمائر أو عن الميكروبات أو عن الأميبة، بل خلية أجسامنا لا تختلف من هذه الوجهة عن خلية أجسام النبات، ونحن ننمو كما تنمو خلايا جميع الأجسام الحية، وفي أجسامنا أعضاء أثرية لم تعد لها فائدة ما، وقد كانت مفيدة في وقت ما عندما كنا نعيش عيشة حيوانية.
فمن هذه الأعضاء، ذلك المعى القصير المسمى بالأعور أو الزائدة، فهذا العضو كبير مستطيل في الحيوانات التي ترعى الأعشاب، وهو يفيدها في إحالة المادة الخشبية في هذه الأعشاب إلى سكر تهضمه أمعاؤها، وقد كانت زائدتنا تؤدي لنا هذه الوظيفة عندما كنا نرعى الأعشاب مثل سائر البهائم، أما الآن فقد تغير طعامنا، ولم يعد لها فائدة؛ ولذلك فقد ضمرت وضعفت عن مقاومة الأمراض، وكثيرا ما تكون لذلك سببا في التهابات مؤذية نحتاج معها إلى استئصالها، ولو كانت مفيدة لنا لكان استئصالها مضرا. (العمود الفقري للإنسان وفي نهايته السفلى 5 فقرات مكتنزة للذنب؛ أي العجب أو العصعص)
وإذا اعتبرنا نظام جسمنا وتركيب أعضائنا، وجدناهما لا يختلفان عما هما عليه في الحيوان، مع اعتبار الأقرب في النسب الذي يكون على الدوام أقرب في المشابهة؛ فنحن نهضم الطعام كما يهضمه الحيوان، ولنا من الغرائز الأصلية مثل ما له، ومادة أعصابنا هي نفسها مادة أعصابه من حيث التركيب.
وعلى هذه المشابهة، بل القرابة، أمكن التعالج بأعضاء الحيوان؛ فنحن نتعالج بالغدة الدرقية المستخرجة من الفرس إذا إيفت غدتنا، ونحن نتعالج بمفرزات غدد البنكرياس المستخرجة من العجول إذا أصبنا بالديابيطس؛ أي البول السكري، فلو لم نكن نحن والفرس والعجول من أصل واحد، تجري أجسامنا جميعا على نظام واحد، لما أمكن التعالج بهذه الأشياء؛ أي لو كان الإنسان قد خلق على حدة لكان له نظام آخر في وظائف أعضائه يختلف عن النظام الذي نراه في سائر الحيوان.
ثم اعتبر اليد والقدم الإنسانيتين؛ ففي كل منهما 5 أصابع، وفي طرف جناح الدجاجة وزعنفة القيطس، على الرغم من الاندغام، 5 أصابع أيضا، دع عنك أن جميع الزواحف واللبونات لها أيضا 5 أصابع في كل يد، فنحن نشترك وآلاف الأنواع من الحيوان في هذه السمة، وهذه وحدها كافية لأن تدل على أننا من أصل واحد.
وحياة الجنين في الرحم تمثل لنا تاريخ نوعنا وتدرجه من الخلية الأولى التي نشأت في العالم حتى صار إنسانا، فهو يبدأ خلية واحدة تأخذ في الانقسام والزيادة على نحو ما تفعل الخمائر، ثم يتخذ هذا الجسم هيئة الحلقة، ثم يتخذ خياشيم كالسمك، ثم تظهر الأيدي والأرجل، ويكون له ذنب طويل، ثم يضمر الذنب ويزول، ثم ينبت للجنين شعر يجعل جلد الجنين كجلد البهائم، ثم يزول أيضا. (في اليمين جنين إنسان، وفي الوسط جنين كلب، وفي اليسار جنين سلحفاة، عمرهم جميعا 28 يوما، والذنب واضح فيهم)
فالإنسان وهو في طور الجنين يمثل الأطوار التي مر عليها منذ نشوء الأحياء على الأرض؛ وذلك لأن في كل منا ذاكرة غير وجدانية لا نشعر بها، كتلك الذاكرة التي نهضم بها طعامنا، فليس يشك قارئ في أنه يدري، بل يتقن فن هضم الطعام، ولكنه لا يشعر بأنه يمارس هذا الفن بعد تناوله الطعام؛ فهو يفعل هذا بذاكرة غير وجدانية؛ وهي غير وجدانية لأنها قوية قد أتقنت ما بسبيله من العمل حتى صارت لا تشعر به.
وليس في هذا الكلام غموض كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن كل شيء نذكره جيدا لا نشعر بأننا نذكره، وإنما يأتي الوجدان عند ضعف الإتقان وعدم الإجادة، فإذا كان أحدنا يعزف على الكمان عزفا غير متقن لأنه كان مبتدئا - مثلا - في تعلم هذا الفن، فإنه يحس ويشعر بحركة يده، ولا يمكنه أن يخاطبك وقت عزفه لئلا يرتبك، أما إذا كان قد قدم عهده بالعزف فأجاده، فإنه يعزف ولا يشعر بعزفه، فيمكنه أن يخاطبك، أو أن يستمع لحديثك، أو أن يفكر في أي موضوع دون أن يرتبك في عزفه.
فنحن نهضم طعامنا بذاكرة غير وجدانية، وكذلك نسير في الشارع ونعمل معظم أعمالنا المتكررة التي اعتدناها وتدربنا عليها بذاكرة غير وجدانية، وكذلك جسمنا، فإنه ينمو في الطرق التي اعتاد سلفه النمو فيها بذاكرة غير وجدانية أيضا.
وقد سبق أن قلنا إن حياة الإنسان تمتد إلى بدء ظهور الحياة في العالم منذ الخلية الأولى إلى الآن؛ ذلك لأنه قبل أن يتكون في الرحم كان بذرة حية في جسم الأبوين، وهكذا تتصل الحياة إلى الخلية الأولى، فإذا كان جسمنا ينمو على وتيرة خاصة فهو إنما يفعل ذلك بقوة ذاكرته، وهذه الذاكرة غير وجدانية؛ لأن هذا النمو كان بمثل العادة تتكرر في كل فرد.
وعلى هذا نقول إن الجنين يتحول من خلية مفردة، إلى حلقة، إلى هيئة السمكة، إلى حيوان مشعر ذي أربع، إلى إنسان؛ لأن هذه الأطوار مرت عليه فهو يذكرها، وهذه الأطوار التي يتطور فيها الجنين في بطن أمه تتفق ونظرية التطور، وليس فيها اختلاط أو تشوش؛ فهو يكون - مثلا - في تركيب السمكة، له خياشيمها دون الرئة، ثم حيوانا مذنبا مشعرا، وهذا وفق نظرية التطور القائلة بأن الحيوانات كانت مائية أولا، تستنشق الهواء من الماء بخياشم، ثم صارت إلى اليابسة فنشأت لها رئات، ولا نرى عكس ذلك في الجنين.
ثم ما معنى أن يكون له ذنب، أو أن يكون جسمه كاسيا بالشعر، لو أنه لم يكن بهيما يعيش كسائر البهائم قبل أن يتطور إلى نوع الإنسان؟
فحياة الجنين هي صورة مصغرة لحياة الأنواع التي سبقت ظهور الإنسان، وحياة الطفل تبصرنا بشيء كثير من حياتنا في العصور الماضية قبل أن نبلغ مرتبة الإنسانية؛ فهو يولد ويبقى مطروحا بهيئة السمك مدة طويلة، ثم يزحف ويتسلق كالحيوان ذي الأربع، وأخيرا ينتصب وافقا.
وفي فلتات الطبيعة ما يظهرنا على أصلنا، فكثيرا ما يولد إنسان وهو كاس بالشعر كالحيوان، وكثيرا ما يولد برأس صغير كرأس الحيوان، فيبقى أبله له عقل الحيوان، وأحيانا يولد بذنب. (كان للإنسان في الازمنة القديمة ذنب، لم يبق منه إلا العجب أو العصعص، ولكن كثيرا ما يرد الإنسان إلى أصله فيظهر طفل مذنب كما في صورة هذا الطفل الهندي)
وقد أثبتت عملية الترسيب قرابة الإنسان من الحيوان؛ وخاصة تلك القردة العليا؛ مثل الشمبنزي أو الغوريلا، فإذا نحن حقنا أرنبا بدم إنساني ثم تركناها مدة، وأخذنا بعد ذلك دمها ووضعناه في كوب، وتركناه حتى يصير مصلا وراسبا، وجدنا أن هذا الراسب يماثل في تفاعله راسب القردة دون راسب سائر الحيوان، كما أن راسب البقرة يماثل راسب الجاموسة دون راسب سائر الحيوان، وهذا يدل على القرابة النوعية بين الحيوانات؛ فالقرد والإنسان من أصل واحد، كما أن الجاموس والبقر يرجعان أيضا إلى سلف مشترك.
وليس معنى ما تقدم أن كل ما فينا قد ورثناه عن جدودنا من الحيوان؛ لأنه لو كان الابن ينشأ على غرار أبويه تماما لما حدث تطور مطلقا؛ فإن طبيعة الحي أن يخرج عن قيد الوراثة، وكأنه يجد في تحقيق ذلك ويريد أن تكون له شخصية مستقلة.
فنحن قد ورثنا عدة غرائز من الحيوان؛ بعضها نافع وبعضها مضر، وكل من حاول منا أن يربي نفسه ويسيطر على أهوائه ويكبحها يعرف مبلغ ضرر هذه الغرائز أحيانا وقوتها؛ فحين ونحن نحاول تأديب أنفسنا إنما نجاهد ذلك القرد الذي لا يزال حيا في عروقنا، ومعظم المجرمين والبله قد انتصرت فيهم عناصر القرد على عناصر الإنسان، ومعظم الأنبياء والفلاسفة والحكماء قد انتصرت فيهم عناصر السبرمان (أي الإنسان الأعلى) على عناصر الإنسان.
وليس فينا قرد خالص أو إنسان خالص أو سبرمان خالص، وإنما كل فرد منا مزيج من الثلاثة، وعلى مقدار كل عنصر من هؤلاء الثلاثة تتوقف رفعتنا أو انحطاطنا.
تناسل الحيوان
ليس التناسل في الأحياء إلا ضربا من النمو، بل قل هو نمو منفصل، وليس النمو في الحقيقة إلا توالدا متصلا، ولو كان في مقدور الطبيعة أن تجعل الحي ينمو إلى ما لا نهاية بحيث لا يموت من كبر حجمه لما احتاجت إلى الاحتيال لبقائه وتخليده بواسطة النسل.
ومن هذا ندرك معنى القانون الذي يشمل الحيوان والنبات معا، وهو أن نسل الحي يتوقف على طول عمر الأبوين؛ فإذا كان الأبوان طويلي العمر؛ كالفيل والقيطس والإنسان والنخل والسنديان، كان النسل قليلا، وإذا كان الأبوان قصيري العمر لكثرة ما يتعرضان له من الأخطار كان النسل كما هو الحال في المحار والحشرات، كثيرا يعد بالآلاف والملايين؛ لأن الغرض من التناسل تخليد النوع حتى لا ينقرض، فطول عمر الفرد يقتطع في حساب الطبيعة من عدد نسله.
ونلمح هذا المعنى أيضا من الوقت الذي يتوالد فيه الفرد؛ فإنه يستمر في النمو إلى أن لا يمكنه زيادة نموه بدون الإضرار بنفسه، فيبتدئ - عندئذ - في التناسل. فالأميبة، وهي خلية مفردة، إذا بلغت حد الكبر الذي لا تستطيع أن تزيد عليه انقسمت إلى قسمين، وينقسم كل منهما قسمين، وهلم جرا، والنباتات والحيوانات العليا تبتدئ في التناسل عندما يتقارب نموها أن يبلغ حده.
ولا يزال التناسل نموا - لا أقل ولا أكثر - في بعض النباتات، فإذا قطعنا جزءا من غصن شجرة ووضعناه في طينة نما شجرة جديدة، وهو لو لم ينم شجرة جديدة لنما غصنا كبيرا؛ فالنمو والتناسل كلاهما يرجع إلى غريزة واحدة، هي بقاء النوع.
والتناسل في الأحياء الدنيا يكون - كما قلنا - بالانقسام؛ تنقسم الخلية خليتين، وتستمر على ذلك، ولا تموت إلا بعارض. وأول تلميح يبدو عن ظهور الجنس والتوالد بواسطة الذكر والأنثى هو ما يرى في النقاعيات، وهي أحياء ذات خلية واحدة، إذا طال عليها الانقسام عمدت إلى نوع ابتدائي من التلاقح، فتجتمع خليتان، وتندغمان وتصيران خلية واحدة، فتنشط بذلك وتعود إلى الانقسام من جديد.
فإذا تركنا هذه الأحياء البسيطة ونظرنا في الإسفنج وجدنا ابتداء التخصص؛ فإن بعض خلاياه تنفصل منه وتتلاقح؛ أي تندغم إحداها في الأخرى، ثم تأخذ في الانقسام المتصل حتى تصير جسما إسفنجيا، فالإسفنج يحتوي على بيض الأنثى وبذرة الذكر، وبتلاقحهما يظهر حيوان جديد من الإسفنج.
ولا يزال في الطبيعة للآن جملة حيوانات مثل الحلزون والعلق، حتى بعض الأسماك، يحتوي الفرد منها على بذرة الذكر وبيضة الأنثى، فليس هناك حلزون ذكر وحلزونة أنثى، وإنما هناك فرد يحتوي على البيضة الأنثوية والبذرة الذكرية معا، ويحصل التلاقح داخل جسمه بدون حاجة إلى فرد آخر.
ومعظم النباتات المزهرة تجري هذا المجرى؛ فنبات الذرة - مثلا - يحتوي على بذور الذكر (وهي في قمته)، وعلى بيض الأنثى (وهي في القنديل)، أما النخل والتوت (والحيوانات العليا) فتحتوي على جنسين منفصلين: الإناث والذكور، كل منهما مستقل.
وبدهي أن الحي الذي ينتج عن تلاقح فردين مختلفين عانى كل منهما ظروفا وكابد تجارب لم يعلنها الآخر، يحصل على امتيازات لا يحصل عليها ذلك الذي نشأ من فرد واحد؛ فالأول يولد وبه قبول للاختلاف والتغاير، ويكون حاصلا على كفايات تجعله أسرع في التطور.
فهذا هو معنى ظهور الجنسين في الحيوانات والنباتات العليا، فإذا التقى حي نشأ من فردين بحي آخر نشأ من فرد واحد تغلب الأول على الثاني في تنازع البقاء؛ لأنه أكفأ منه وأميز؛ لحصوله على كفايات اثنين، في حين أن ذاك لم يحصل إلا على كفايات فرد واحد.
وهنا يجب أن نقف هنيهة لنرى صفات الأنثى والذكر في الحيوان وأثرهما في التطور؛ فصفات الأنثى هي صفات البيضة، وهي الركود والبطء في الحركة، أما صفات الذكر فهي صفات الجرثومة المنوية، وهي النشاط والانبعاث والطلب؛ فذكورة الحيوان نشيطة خفيفة عادية، أما الإناث فراكدة بطيئة مستكينة، ولعل الأصل في ذلك أن البيضة أكبر من الجرثومة المنوية، فمن الاقتصاد أن تتحرك الجرثومة وتبقى البيضة في مكانها تتلقاها.
ومما هو ذو دلالة في معنى التناسل، أن بعض الأحياء تموت أو تقتل عند ظهور نسلها؛ فالقمح والذرة يموتان بظهور الحب، وبعض الحيوانات لا يخرج منها بيضها إلا بعد تمزيق بطنها، فتموت الأم على الأثر، وأنثى العنكبوت وأنثى العقرب كلتاهما تأكل الذكر بعد أن ينتهي من التلقيح، وهذا يتسق والنظرية التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وهي أن التناسل ضرب من النمو يقصد به تخليد النوع، فما دام النوع قد ضمن بقاؤه بظهور النسل لم يعد من المهم بقاء الأبوين أو أحدهما إلا حيث تقتضي العناية بالنسل وجودهما.
بل ربما يكون موت الأبوين ضرورة يقتضيها بقاء النوع؛ لأنه ليس من مصلحة النسل الجديد أن يزاحمه على الغذاء الجيل السابق؛ لأنه يقتله - عندئذ - ويحرمه غذاءه، في حين أن ظهور النسل الجديد وبقاءه أنفع للنوع من بقاء الجيل السابق وأقبل للتطور منه، فمن مصلحته ألا يجد ما يزاحمه على البقاء وهو بعد في الطفولة.
وهذا هو معنى الموت وفائدته الكبرى لجميع الأحياء العليا؛ فالموت عامل من عوامل الحياة، والأحياء الدنيا لا تعرف الموت للآن؛ فالأميبة والنقاعيات خالدة، ولكننا نحن نموت لأننا أرقى منها، فإن نظرية التطور تقول بأن الجيل الجديد يفضل الجيل السابق؛ فأولادنا أفضل منا، فليس من مصلحتهم أن نعيش معهم ونزاحمهم على العيش، بل المصلحة أن نخلي لهم الميدان، وهذا ما تقوله وتفعله سائر الحيوانات العليا.
ولينظر القارئ كيف يلقي أكثر السمك وجميع القشريات والحيوانات الرخوة والشائكة والجوفاء بيضها في الماء ولا تعنى به، ثم كيف تتدرج العناية إلى أن تبلغ أقصاها في الإنسان، وأن هذه العناية لا تزال ناقصة في بعض الحيوانات العليا؛ إذ إن الأم تأكل أحيانا بعض أولادها، ومما هو ذو دلالة ويومئ إلى ذكرى قديمة سيئة أن الكلبة والذئبة كلتيهما تطرد الذكر من الدخول على جرائها؛ فالغريزة الأبوية لم تكمل للآن في الذئب أو الكلب.
والغريزة الجنسية لم تبلغ نهايتها، والحيوانات جميعها في تطور مستمر.
وإلى التناسل، أو بالأحرى إلى شهوة التناسل، يعزى الصوت وما تلاه من اللغة في الإنسان؛ فإن غاية الصوت الأولى النداء للأنثى، وذكران الطيور لا تغني إلا رغبة في اجتذاب الأنثى إليها.
ثم إلى التناسل قد تعزى ألوان الطيور وريشها المختلف الزاهي؛ فإن الأنثى تنتخب الذكر الذي يتطوس فتعجب بريشه وصوته، ومن رأى الدندي وهو يرف ويتبختر أمام أنثاه، أو رآه وهو يقاتل دنديا آخر لأجل الأنثى، عرف قيمة الانتخاب الجنسي.
وهذا الانتخاب الجنسي كثيرا ما كان عاملا في إبادة الضعيف وبقاء القوي الذي استطاع أن يهزم خصومه من الذكور ويستأثر بالإناث، فلا تلد إلا من بذرته نسلا يخرج على غراره حاصلا على قوته وميزاته.
لماذا تتطور الأحياء ؟
الأحياء كلها في تطور مستمر؛ فالأبناء تخالف الآباء، وهذا الاختلاف الصغير يتراكم جيلا بعد جيل حتى يعود اختلافا كبيرا، بحيث يتميز الفرد عن سلفه القديم تميزا ظاهرا قد يجعله من نوع آخر.
ولسنا نعرف سبب اختلاف الأبناء عن الآباء على وجه الضبط والتحقيق، ولكن هذا هو الواقع المشاهد؛ ففسيل النخلة لا يشبه أمه شبها تاما، وأولاد الكلبة تختلف عن أبويها، ومحال أن تجد محارتين تتشابهان تمام التشابه، وإن كانتا قد باضتهما أم واحدة، وكذلك الحال في الإنسان؛ لا يشبه الأبناء الآباء شبها تاما، بل التوائم أنفسهم على الرغم من الاشتراك في أشياء كثيرة يختلفون في عدة أشياء غير صغيرة.
والبحث عن علة هذا الاختلاف يكاد يكون بحثا عن سر الحياة نفسها، وكل ما نقوله مما تهدينا إليه بصيرتنا، إن الحياة تختلف عن المادة من حيث محاولتها التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة؛ فهي غير قانعة بالبقاء في شكل واحد، فكل حي يولد في هذا الكون له شخصية مستقلة يريد أن يحققها ويؤكدها، ولو خرج بذلك على ما رسمه له أبواه قيد قوانين الوراثة.
فانفراد كل حي بشكل خاص وهيئة خاصة وكفايات خاصة هو الذي يدعوه إلى التطور؛ وسبب ذلك أن انفراده بشكل خاص، أو اختلافه عن غيره من أقرانه، إما أن يكون نقيصة تؤدي إلى هزيمته في الحياة، بحيث يموت هو أو يقل نسله وينقرض بالتدريج، وإما أن يكون ميزة له تؤاتيه النصر فيكثر نسله وتنتشر سلالته.
فالأحياء كلها تتنازع البقاء؛ فالأسد يزداد قوة وقدرة على الوثوب، ومكرا في الترصد والكمون، والغزال يزداد قوة وقدرة على العدو والخفة في الحركة، فكل منهما ينازع الآخر في البقاء؛ الغزلان تزداد خفة وقدرة على العدو، وجلدها يزداد مشابهة للرمال أو الصحراء التي تعيش فيها، وحوافرها توافق التربة التي تمشي عليها، وسيقانها تنفتل وتضمر وتقوى، والأسد يزداد قوة على الوثوب، وجلده يماثل الوسط الذي يعيش فيه، ويداه تزدادان قدرة على البطش، وهلم جرا.
وهذا الكفاح يزيد كفايات الأسد والغزال معا، وإذا لم يكافح الحيوان وسطا انحط، وهو يعيش ما دام الوسط لا يتغير، ولكن إذا تغير فجأة لم يطق هذا التغير فينقرض، كما حدث لطائر الدؤدؤ في جزيرة موريتيوس.
وأصل وجود هذه الصفات في كل من الأسد والغزال أن كل فرد منهما يولد مختلفا عن بني نوعه بعض الاختلافات؛ لأن هذه صفة الحي اللازمة له، وهذا الاختلاف إما أنه يفيده وإما أنه يضره، فإذا أفاده أورث صفاته أبناءه، وإذا أضره مات أو انقرضت سلالته التي حصلت على صفاته. (كان الدؤدؤ يعيش في جزيرة موريتيوس، ولم تكن له أعداء تطالبه بالكفاح، فسمن وعجز عن الطيران، وكان في الأصل قريبا إلى الحمام، فلما كشف الإنسان الأبيض هذه الجزيرة سطا عليه صيدا حتى أباده منذ أقل من 100 سنة، وهذا يدلنا على قيمة الكفاح للوسط)
ومن ذلك نستنتج أن عددا كبيرا من الأسود مات وانقرض لخور في نفسه، أو ضعف في سيقانه، أو بطء في وثوبه، أو لأن جلده كان ظاهرا فصارت الفريسة تراه على بعد وتحذره، ومات كذلك من الغزلان جميع تلك الأفراد التي كانت ثقيلة الحركة غير متيقظة للعدو، أو كانت حوافرها لا توافق تربة الصحراء، أو كان لون جلدها ظاهرا.
أي إن الحيوان يكافح الوسط، ويقاتل ويناضل، فتنشأ فيه كفايات تساعده على البقاء، وإذا لم يحتج الحيوان إلى مكافحة وسطه انحط ونقصت كفاياته، فإذا تغير الوسط عجز عن المقاومة فانقرض.
وليس من الضروري أن ترى عوامل البقاء ظاهرة، فقد تكون خفية دقيقة لا تعرف مأتاها؛ فقد يمتاز غزال على آخر بأن معدته تهضم الأعشاب الجافة أكثر منه، أو لأن بعض الحشرات الناقلة للأمراض لا تستطيع أن تخرق جلده، أو لأنه يقدر على الإمساك عن ورود الماء وقت الخطر وغيره لا يقدر، أو لأنه يشم رائحة ضواري الوحش بينما غيره لا يستروحها أو لا يبالي بها، بل قد تكون دقة السمع عامل بقاء في حيوان، بينما يكون الصمم الخفيف سببا في انقراض آخر.
فالأحياء تولد مختلفة، وكل اختلاف إما أنه يفيدها فيكثر نسلها، وإما أن يضرها فتبيد ، فإذا تراكم الاختلاف نشأت السلالات المختلفة من النوع الواحد، ثم يتراكم الاختلاف في السلالات حتى تصير السلالة نوعا قائما برأسه؛ وذلك لأن التنازع على البقاء يتناول التنازع على الأنثى؛ فالحيوان القوي الجريء يتغلب على أكبر مقدار من الإناث ويلحقها دون غيره، وتنتشر صفاته التي ساعدته على التغلب.
ونحن لكوننا نعيش عيشة مدنية قد ضعفت بصيرتنا في إدراك ضروب التنازع التي يستعملها الحيوان والنبات؛ فالنبات يتنازع على نشر نوعه بعدة طرق: فمنه ما تكون بذرته كاسية بنسيج خفيف كالقطن؛ كي تحملها الريح وتلقيها في مكان بعيد عن أمه، حتى يجد بسطة في النور والغذاء، ومنه ما تكون بذرته كاسية بالزغب حتى تعلق بأي حيوان يمر، فيذهب بها إلى مكان بعيد حيث تسقط منه وتنبت، ومنه ما يكون له زهر زاه يجذب الحشرات، تنزل إليه وتجرع من رحيقه، ثم تتلوث بلقاحه، وتنقله من الذكر إلى الأنثى فيتم اللقاح، ومنه ما يكون ورقه مر المذاق حتى لا يطعمه الحيوان، ومنه ما يكون ساما، إذا أكله الحيوان تسمم ومات، فتنشأ البذرة في سماء الجثة وتزكو، ومنه ما تكون أوراقه حافلة بالحسك فلا ترعاها بهيمة.
وكذلك الحال في الحيوان؛ فمثلا: السمك يكون في طفولته دقيقا شفافا لا يرى من خلال الماء، فآلته في الدفاع عن نفسه، وهو بعد في ضعف الصغر، هي شفوفته التي تخفيه وتواريه عن عين عدوه، فما كان منه صفيق الجسم ظاهره مات، ومنه ما يكون ظهور لونه داعيا غيره إلى مباعدته والحذر منه؛ كالزنبور والنحلة، فلكل منهما إبرة يؤذي بها من يقترب منه من الطيور، ولونهما مشهور ظاهر حتى يقتصد الطائر في قوته، ويتجنبهما ويريحهما من عناء القتال.
ولسائل أن يسأل: كيف تطور الزنبور وصار ذا حمة تلسع وتسم؟ فجواب ذلك أنه في الزمن القديم الذي يحسب بملايين السنين كانت الزنابير بلا حمة سامة، وإنما كان لها إبرة تخترق بها الورق أو غير الورق عندما تريد أن تبيض، كما هو الشأن في أكثر الحشرات، وفي أجزاء جسم بعض الحيوان سموم مختلفة ؛ فبراز الإنسان - مثلا - وبوله، وبعض عصارات جسمه، فيها بعض السموم، فإذا اتفق أن ظهر زنبور بإبرة حادة وشيء قليل جدا من السم، فإنه يبقى دون غيره من الزنابير التي تلتهمها الطيور لقمة سائغة، فهذا الزنبور يعيش، وتنتشر سلالته، وتقوى فيه خاصة اللسلع والسم، ويظهر له لون خاص يميزه، فتحذره الطيور، بينما هي تبيد كل الزنابير التي خلت من هذه الخاصة.
وخلاصة قولنا أننا لا نعرف لماذا يتطور الحي؛ حيوانا كان أم نباتا، وإنما نشاهد أدلة هذا التطور، ويمكننا أن نعرف علله الغريبة:
فأولا:
تختلف جميع الأحياء الواحد عن الآخر، فليس في العالم فردان يتطابقان من كل الوجوه في جميع صفاتهما.
وثانيا:
هذا الاختلاف لا يخرج عن أحد شيئين، فهو إما نقص وإما زيادة، فيهما نفع أو ضرر.
وثالثا:
أرض العالم وبحاره محدودة، ولكن نسل الحيوان والنبات غير محدود، وينتج من هذا أن يكون الطعام في العالم محدودا، يجب على أفراد النبات والحيوان أن تتزاحم من أجل الحصول عليه.
ورابعا:
في هذه المزاحمة لأجل الطعام يؤدي الاختلاف إلى بقاء بعض الأفراد أو موتها؛ لأن هذا الاختلاف إما أنه يساعدها على هزيمة خصمها الذي يزاحمها، وإما أنه يساعد خصمها عليها.
وخامسا:
كل فرد ينتصر على خصمه يتمكن من الحصول على أنثى، فينسل وتنتشر صفاته في نسله الذي يرثها منه.
وسادسا:
يتراكم الاختلاف بتعاقب الأجيال، حتى يصير الفرق بين فردين من سلالة واحدة فرقا بين سلالتين، ثم يزداد هذا الاختلاف حتى يصير فرقا بين نوعين، وهكذا يستمر التطور.
وسابعا:
عندما تتغير البيئة تتغير عادات الأحياء كي تلائم الحالة الجديدة، وما تبذله هذه الأحياء من مجهود في هذا التغير ينتقل بالوراثة إلى الأبناء؛ فالعادة المكتسبة بالمجهود الفردي تعود - بتكرارها في الأجيال المتعاقبة - صفة وراثية لازمة.
تنازع البقاء
ليس شيء يزيد بصيرة القارئ نفاذا في الطبيعة، ويجعله يدرك قيمة نظرية التطور ويشرب مبادئها، مثل أن يفهم تنازع البقاء؛ فالقارئ يفهم لأول وهلة من هذه العبارة أن الأحياء تتنازع البقاء على الحياة، وهذا هو معناها على الحقيقة، ولكن معناها على المجاز أوسع وأكثر عملا في الطبيعة.
قال داروين: «إني أستعمل عبارة تنازع البقاء لمعنى مجازي واسع يدخل فيه توقف حياة فرد على آخر، وأيضا - وهو الأهم - تمكين الفرد من أن يختلف نسلا».
فليس تنازع البقاء كفاحا عضليا يمتاز فيه القوي من فردين متنازعين فقط، بل هو أيضا جملة كفايات أخرى كثيرا ما تكون غامضة ضئيلة القيمة، ولكنها تظهر الحاصل عليها على خصمه، وقد لا يكون خصمه فردا مثله، بل قد يكون هذا الخصم حرا شديدا، أو جفافا، أو قحطا، أو مرضا، أو قد لا يكون التنازع بينه وبين حيوان آخر مباشرة، بل قد يكون بين حيوانين أو نباتين، حياته هو متوقفة على أحدهما، بحيث يبلغه صدى المعركة بينهما، وينفعه أو يضره.
والمواد الخامة التي يقوم عليها قانون تنازع البقاء ثلاث، هي: (1)
أن نسل الأحياء كثير جدا، لا يمكن أن تستوعبه بحار العالم ويابسته؛ لأن العالم محدود والنسل غير محدود. (2)
إن كل فرد يولد في هذا العالم يختلف عن غيره، وهذا الاختلاف إما أنه - في مزاحمته لغيره على البقاء - يضره ويؤدي إلى فنائه، وإما أنه ينفعه ويؤدي إلى بقائه. (3)
تتراكم على مدى السنين تلك الميزات الصغيرة التي تميز الأفراد الناجحة في الحياة، ويرثها أبناؤها منها، بحيث إذا مضى مليون عام - مثلا - صار الفرد الأخير كثير الاختلاف عن الجد الأول، حتى يصير كل منهما نوعا قائما برأسه.
وكل حي في العالم - كما قال «هكسلي» - أشبه شيء بالدوامة؛ تراها في الماء وكأنها ساكنة، ولكنها في الحقيقة متحركة، تتبدل أجزاؤها دقيقة بعد أخرى؛ فالحي متوقف على حال الوسط الذي حوله، وكذلك النوع، وكلاهما يتأثر بهذا الوسط بما فيه من جو وطعام وأعداء وغير ذلك، فليس يتفق فردان كما لا تتفق سلالتان؛ لأن كل فرد ينزع نزعة خاصة به كما هي طبيعة كل حي، ولأنه لا يوجد وسطان يتفقان في كل شيء؛ فاختلاف الوسط يؤدي إلى اختلاف الحي الذي يعيش فيه.
وقد تساءل جوتيه: «لماذا يجهد الناس ويتألمون؟» وأجاب على ذلك بقوله: «لأنهم يرغبون في الحصول على الطعام وعلى الأولاد، كما يرغبون في إحسان تربيتهم بقدر إمكانهم».
وما قاله جوتيه عن الإنسان يصدق على كل حي آخر؛ فجميع الأحياء تتنازع على الطعام وعلى إنسال النسل، تفعل ذلك على وجدان منها؛ كما هو الحال في الإنسان، أو على غير وجدان منها؛ كما هو الحال في النبات وكثير من الحيوان.
ولننظر الآن في مقدار تناسل الحيوان، فكل من وقف منا في حقل من حقولنا ورأي مقدار لقاح النخل، أو مقدار لقاح الذرة الذي ينتشر من طرفه الأعلى ويغطي الأرض تحته، أو رأى مقدار سر السمك؛ أي بيضه، وأن كل واحدة من هذا البيض كان مقدرا لها أن تصير سمكة، يعرف مقدار حرص الطبيعة على نشر النسل وإسرافها في ذلك.
وكل من عانى مقاتلة البق في حيطان منزله، أو الذباب أو الصراصير، يعرف مبلغ ما يلاقي من العنت في ذلك؛ لكثرة تناسل هذه الحشرات، ومن رأى منا كيف تنتشر حشرة المن في أوراق القطن، وكيف تملأ حقلا واسعا في عدة أيام، يدرك شيئا من هذا الإسراف في النسل الذي يكابد شره الفلاحون حين يسمون الإصابة بهذا المن «الندوة العسلية».
ذكر «وولاس» عشبة تنتج كل عام من البذر ثلاثة أرباع مليون بذرة، وقدر أنه لو عاش هذا النسل ثلاث سنوات فقط، وأعقبت كل بذرة في هذه المدة، لما بقي مكان في اليابسة غير مغطى بها، وقد حسب أنه إذا كان نبات ما ينتج حبتين اثنتين في السنة، ويستمر النسل على الإنتاج، لبلغ عدد نباتاته في السنة الحادية والعشرين 148576.
ومن الأحياء الصغيرة ما إذا استمر على التكاثر مدة خمسة أيام فقط دون أن يمنعه مانع لملأ المحيط بنسله إلى عمق ميل، وميكروب الكوليرا الذي يتضاعف كل عشرين دقيقة لو مضى عليه يوم واحد وهو يسير بهذا المعدل بلا عائق لبلغ وزنه 7366 طنا، وبلغ عدده رقم خمسة وإلى يمينه 21 صفرا.
والفيل معروف بأنه أبطأ الحيوان تناسلا؛ فإنه لا يلد إلا مرة واحدة في كل عشرين سنة، ومع ذلك فقد حسب داروين أنه إذا استمر التناسل بدون عائق على هذا المعدل لبلغ نسل زوجين بعد 75 سنة نحو 19 مليون فيل، وكثيرا ما نلمح شيئا من هذا الإسراف في النسل عندما تهجم على بلادنا أرجال الجراد؛ فالجراد يأكل كل ما يقابله، فإذا تجردت الطبيعة أمامه عاد بعضه وأكل بعضه.
وسمكة الكد - الذي نشرب أحيانا زيته لتقوية الجسم - تبيض في العام مليوني بيضة، فلو تفقأت هذه كلها عن سمك لصار البحر كتلة جامدة منه، ومن المحار ما تبيض الواحدة ستين مليون بيضة، فاحسب مقدار هذا النسل بعد عام أو عامين، فإنه يزيد - عندئذ - على الكرة الأرضية.
وهذا الذباب الذي نراه في بلادنا، تبيض الأنثى فيه نحو خمس أو ست مرات، في كل مرة من 100 إلى 150 بيضة، فلو نشأت كلها وعاشت وأنسلت لما عاش شيء إلى جانبها في مصر.
فكثرة النسل هذه داعية إلى الانتخاب الطبيعي؛ لأن كل فرد من هذا النسل يختلف عن غيره اختلافا صغيرا أو كبيرا، وما دام العالم لا يسع هذا النسل كله ولا يكفيه طعاما، فإنه لا يبقى سوى القادر على البقاء.
فعندما يشتد الجفاف - مثلا - وتطول مدته يموت أكثر الذباب، إلا أفرادا قلائل تستطيع مقاومة الجفاف مدة أطول من غيرها، وقد لا تكون هذه المدة سوى دقيقة واحدة، أو يكون بقاؤها عائدا إلى أنها تأكل غيرها، أو إلى أنها تستطيع هضم المادة الجافة أكثر من غيرها، أو إلى أن حرارة الشمس لا تفعل في غيرها، وهلم جرا.
وقد يكون بقاء بعض النباتات راجعا إلى أنه أوسع حيلة من غيره على نشر نوعه؛ كأن يكون للبذرة نسيج يجعل الريح تحملها، كما هو الحال في القطن، فالبذور تتسابق إلى أن تحملها الريح حتى تقع بعيدا عن أمهاتها، فبعضها لا يكون نسيجه خفيفا فيقع تحت أمه ويموت، وبعضها تحمله الريح ويقع في الماء أو الصحراء فيموت أيضا، وبعضها يعلق بالأشجار فلا يقع على الأرض، وبعد كل هذا تبقى بذرة يقدر لها النجاح فتقع حيث تنبت. هذا إذا فرضنا أن القطن يعيش في حالته البرية، أما الآن فإنه في رعاية الإنسان لا رعاية الطبيعة.
وتنازع البقاء قانون شامل عامل كل يوم في إبادة بعض الأحياء وإبقاء بعضها، وذلك الذي يبقى إنما يوفق إلى ذلك لميزة فيه تدل على ارتقائه على غيره؛ ولذلك فنظرية التطور كانت تدعى عندنا منذ مدة قريبة نظرية «النشوء والارتقاء»؛ لأن الحي يرتقي كلما صعد في سلم التطور، ولكن «الارتقاء» كلمة ذات معان إنسانية قلما تتفق وتطور الحيوان أو النبات؛ فالنعجة في نظرنا مرتقية على النعاج البرية؛ لأنها سمينة، ولكنها في اعتبار الطبيعة منحطة؛ لأنها تعجز عن دفع العدو. والحلقيات؛ كالديدان التي تعيش في أمعائنا، لا يمكن أن نقول إنها مرتقية أو منحطة، فقد فقدت قناتها الهضمية، ولكنها صارت تهضم بجلدها. والخلد فقد تقريبا قوة البصر؛ لأنه يعيش عيشة سرية في نافقاء تحت الأرض، ولكنه يعرف كيف يحفر النافقاء ويحتمي بها ويخرج في الليل، وأيضا فقد ذنبه وإبهام يده، فهل هو ارتقى أو انحط؟
لهذا السبب نفضل استعمال كلمة «تطور»؛ أي الانتقال من طور إلى طور، على استعمال كلمتي نشوء وارتقاء.
وقد كان أحد الكتاب يقول للبرهنة على أن قانون تنازع البقاء يتمشى صارما قاسيا بين الأحياء، ينفي منها وينقي: «إن الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب».
وهذا حق؛ لأنه لولا ذلك لتكدس العالم بالأحياء حتى لا يبقى مكان لمولود جديد؛ فالأسد يقاتل الأسود من أبناء نوعه على الأنثى وعلى المكان، ويقاتل الغزلان والجواميس والأبقار كي يأكلها، ويقاتل الأمراض التي تنتشر بينه، ويقاتل الوسط الذي يعيش فيه، إذا كان الوسط يفشيه في الهيئة أو الرائحة.
وكذلك الحال في سائر الحيوان، ومما يدلك على شدة هذا النزاع أنه أنشئ من مدة قريبة حرم لبعض الطيور في إنجلترا، ومنعت عنها جوارح الطير كالصقر والعقاب وغيرهما، فلم تمض مدة حتى فشت الأمراض بين هذه الطيور، واجتاحت عددا منها ... وما ذلك إلا لأن هذا الحرم قد حمى ضعاف الطير وما به قبول للأمراض من الوقوع فريسة للجوارح، فانتشر الضعف بين الطيور، وتفشت فيها الأمراض.
فالضعف على أشكاله المختلفة يتفشى كل يوم بين الحيوانات، فتموت الأفراد التي يتفشى بينها، ولا تبقى سوى الأفراد القوية، ومن هنا ندرك السبب في كثرة الأمراض التي نراها في الحيوان والنبات المدجنين، وقلتها في الحيوان والنبات البريين.
ويمكننا أن نتصور الصراع الهائل بين الأحياء عندما نرى الوسائل التي يتخذها بعضها للعيش، على ما فيها من مشقة مباينة الوسط لها.
فالسرطان، هذا الحيوان البحري الضعيف، قد اضطره تنازع البقاء إلى ترك البحر والصعود إلى قمم الجبال، وإلى تسلق الأشجار، والزواحف اضطرت إلى الطيران في الهواء، بل اللبونات نفسها؛ كالخفاش، اضطرت إلى الطيران واعتلاء الهواء، كما نزل بعضها؛ كالدلفين، إلى البحر، وأحال يديه إلى زعانف، وبعض الأسماك نزلت إلى قعر البحر على عمق خمسة كيلو مترات، وتحملت ضغط الماء العظيم، وصارت تعيش مما يتساقط إليها من حطامة الأحياء.
وقد لا يكون التنازع مباشرا - كما قلنا - وإنما يبلغ صداه الحي فيؤثر فيه؛ فقد ضرب داروين مثلا عن علاقة البرسيم بالقطط، وقال إنه يكثر إذا كثرت القطط؛ لأن القطط تأكل الجرذان، فلو انقرضت لأكلت الجرذان حقولنا، وخير طريقة نزيل بها الثعابين من المنازل أن نقتل ما فيها من جرذان؛ فالتنازع بيننا وبين الثعابين ليس مباشرا، وإنما يبلغها صداه بقتل الجرذان.
ونحن نقاتل جراثيم الملاريا ونمنع نموها بقتل البعوض الذي تعيش في جسمه، وديدان البلهارسيا لا بد أن تقضي مدة من حياتها في جسم قوقعة تعيش في قنواتنا، فلو أبيدت هذه القواقع لبادت هي أيضا، والدودة الوحيدة التي نصاب بها أحيانا لا تعيش في أمعائنا إلا إذا عاشت قبلا في لحم البقر، فإذا انقرض البقر انقرضت هي أيضا.
ومعنى كل هذا أن تنازع البقاء لا يشترط فيه أن يكون كفاحا مباشرا بين اثنين، بل قد يكون سلسلة طويلة، حيث تتوقف حياة نوع على جملة أنواع أخرى.
ثم قد يكون تنازع البقاء دقيقا غامضا يتوقف على أشياء صغيرة لا نأبه لها، فإننا نعرف - مثلا - أن الإنكليز متغلبون على الهنود، فنتوهم من ذلك أن هذا تنازع بقاء قد فاز فيه الإنكليز وانهزم الهنود، ولكن الهندي يعيش الآن بحفنة من الذرة، والإنجليزي يحتاج إلى كميات كبيرة من الطعام لكي يتغذى منها جسمه، فلو حدث فجأة قحط وأصاب الاثنين لفاز الهندي؛ فإن قناته الهضمية قد ضربت على الطعام الجشب الحقير، وصارت كل ما فيه من غذاء، بخلاف الحال في الإنكليزي.
وقد نرى القطن والحسك فنظن أن القطن أرقى منه، يمكنه أن يتغلب عليه، وليس هذا هو الواقع؛ فإن الحسك يعيش في الصحراء في تربة رديئة مع قلة ماء، فتمتد جذوره بعيدة إلى حيث الرطوبة، فيقاوم بذلك جفاف الرمل وسخونته وحر الشمس، أما القطن فلا يمكنه أن يفعل ذلك، ولو قل الماء لمات القطن وعاش الحسك.
فتنازع البقاء هذا هو علة ظهور السلالات الجديدة ثم الأنواع الجديدة، فهو يستغل كل اختلاف في الفرد ليجعله سبيل بقائه أو هلاكه، والهلاك أكثر من البقاء؛ لأنه لا يتفوق إلا الأقلون.
وقد كانت تغيرات المناخ وظهور العصور الجليدية داعية إلى انقراض عدد هائل من الحيوان؛ مثل الزواحف الكبرى في اليابسة، ومحار الأمونيت في المياه.
ولكن، مع كل هذا الذي قلنا عن التنازع، يجب ألا ننسى أن التعاون بين الأحياء يؤدي في أحيان كثيرة ما يؤديه التنازع، بل ربما لا يقل عنه في تطور الأحياء.
وثبات في التطور
تمر الدهور المتطاولة على بعض الأمم فلا يظهر فيها زعيم أو عبقري، تنسل الآباء نسلهم فيخرجون على غرارهم؛ وجوههم مثل وجوههم، يتكلمون لغتهم ويعتادون عاداتهم، ثم يظهر فيهم فجأة عبقري أو زعيم فيقلب حال الأمة ويسومها السير في وجهات خاصة لم تكن تحلم بها.
وكذا الحال في الطبيعة؛ مرت عليها ملايين السنين والأبناء تخرج كالآباء وتسير على غرارها، إلا في فترات ظهر فيها أفراد من النبات والحيوان شذت عن الآباء، واختلفت في تركيب الجسم، فكانت أنواعا جديدة غيرت وجه الطبيعة، والنوع الجديد في اعتبار الطبيعة كالعبقري أو الزعيم في اعتبار الأمة، عزيز الوجود؛ لأن الجري على العادة القديمة أسهل على الدوام من اختطاط خطة جديدة ، فمن الأيسر على العود أن ينمو على طريقة أبويه من أن يثبت شخصيته ويندفع في طريق خاص.
وكما أن الأمة تخطو خطوة واسعة نحو الأمام بظهور أحد الزعماء أو العبقريين بينها، كذلك كانت الطبيعة تثب وثبات كبيرة بظهور بعض الأنواع الجديدة من الحيوان، ونقول بعضها ولا نقول كلها؛ لأن كثيرا من الأنواع لا قيمة له في تقدم الأحياء وتطورها، فلو لم يظهر الذئب في العالم لما كان في ذلك ما يدل على شيء كبير، ولو لم يوجد الضبع لما قلت معلوماتنا عن تطور الأحياء، وإنما هناك وثبات وثبها الحيوان في الأزمنة القديمة فغيرت وجهات تطوره، فكانت الخطوات الكبرى في تقدم الأحياء.
فأول ذلك انفصال الحيوان عن النبات؛ فقد كانت الخلية الأولى التي ظهرت في العالم مشتركة، أو نباتية فقط على الأرجح، ثم ظهرت خلية الحيوان، فصار التطور أسرع مما كان؛ لأن خلية الحيوان تتناول طعامها مجهزا بخلاف خلية النبات التي تأخذه خاما من الأرض والهواء، فتوافر بذلك لخلية الحيوان قوة أمكنها أن تصرفها إلى الحركة والتنازع والتطور. (خلايا حيوانية مختلفة) (نوعان من القنديل، وهو من الحيوانات الجوفاء)
والخطوة الثانية كانت في ظهور أجسام مركبة؛ فقد كانت الأحياء الأولى خلايا مفردة تتكاثر بالانقسام، ثم ظهرت أنواع الإسفنج، ثم المرجان وغيره مما يسمى بالحيوانات «الجوفاء»؛ لأنها مؤلفة من طبقتين من الخلايا حول كيس أجوف، فمنذ ظهور هذه الأحياء أخذت الأجسام تتطور وتتخصص أعضاؤها. (المرجان، وهو من الحيوانات الجوفاء) (خيار البحر، وهو من الحيونات الشائكة)
والخطوة الثالثة كانت ظهور الجنسين؛ الأنثى والذكر، فقد كان ظهور الجنس بمثابة مضاعفة سير التطور؛ لأن الحي الناتج من فردين كان أكثر كفاءة وحرية في التطور، لوجود عنصرين في جسمه، من الحي الناتج من فرد واحد، حتى النباتات - على بطء تطورها - قد ظهر فيها الجنس وأسرع في تطورها، والحيوان والنبات المجنسان قد تغلبا على جميع الأحياء الأخرى التي تتكاثر بلا تلاقح بين الذكر والأنثى.
والخطوة الرابعة الكبرى في التطور كانت باتخاذ الحيوان شكلا ذا جانبين؛ فإن الإسفنج لم يكن له شكل منتظم، أما الحيوان الأجوف؛ كالقنديل، والشائك؛ كخيار البحر ونجمة البحر، فكانا كلاهما كري الشكل تقريبا شعاعيه، يكون مستديرا له أطراف كالأشعة، ومثل هذا الشكل يوافق النبات كي يحصل على أكبر قسط من ضوء الشمس، ولأنه لا يتحرك، ولكنه لا يوافق الحيوان إلا إذا سكن في مكانه؛ كالإسفنج والمرجان، أو كان قليل الحركة تحمله الأمواج؛ كنجمة البحر، ثم لا يوافق تخصيص الكفايات.
ولذلك يعد ظهور الحيوان ذي الجانبين؛ كالديدان والحشرات وجميع ما ظهر بعدها إلى الإنسان، خطوة كبيرة في التطور؛ لأن هذا الشكل سهل على الحيوان الحركة، فجعل التنازع وبقاء الأصلح وانقراض غيره سريعا، ثم إنه سهل أيضا تخصص الأعضاء؛ لأن الحيوان ذا الجانبين قد صار له بهذا الشكل رأس وذنب؛ لأنه ما دام يضطر إلى الاتجاه بجنب واحد إلى الأمام فإن هذا الجنب لا يمضي عليه زمن طويل حتى يحتوي على أهم وسائل الدفاع والاحتماء من دماغ وأعين وآذان وفم، ثم يكون له بذلك ظهر وبطن.
وهذا كله بخلاف ما هو حاصل في الحيوان الأجوف أو الحيوان الشائك؛ فإن ظهر كل منهما هو بطنه، ورأسه هو ذنبه، فهيئة تركيبه لا تساعده على تخصص كفاياته في أمكنة معينة من جسمه؛ لأن نجمة البحر وهي تندفع في الماء تتجه بأية جهة من جسمها، فليس لها مصلحة بأن تتمركز كفاياتها في جهة دون أخرى، وكذلك الحال في القنديل، أما نحن والحشرات والزواحف والأسماك حتى الديدان، فإننا نتجه بجانب واحد من أجسامنا، فمن مصلحتنا أن يحتوي هذا الجانب على أهم حواسنا؛ فلذلك لنا رءوسنا ووجوهنا التي نواجه بها الأشياء وفيها جميع حواسنا، ولولا هذا الاتجاه لما تمركز الدماغ والحواس في الرأس.
ومن الخطوات الكبرى أيضا ظهور الفقريات؛ أي الحيوانات التي لها عمود فقري؛ فإن أحياء العالم كله تكاد تكون مقسومة قسمين من حيث القوة العصبية؛ ففي القسم الواحد نجد الحيوانات غير الفقرية؛ كالحشرات والقشريات والديدان وما هو أحط منها، تعيش عيشة غريزية كأنها النبات، وفي الآخر نجد الحيوانات الفقرية، وهي كلها على اختلاف دوجاتها تستند إلى الغريزة، ولكن مع شيء من الوجدان أو العقل المكتسب الذي نراه على أقواه في الإنسان، وليس يعرف للآن سبب وقوف القسم الأول عن التطور في ناحية العقل، ولماذا اكتفى بالغريزة، وإنما هذا هو الواقع؛ فنحن نرى بذور العقل في أحط الحيوانات الفقرية، ونرى الغريزة المتقنة في الحشرات. (أول الفقاريات: سمكة اللامبري، وهي من أرقى أنواع السمك، لها سبعة شقوق للخياشيم، وفم مستدير ماص، وبعضهم لا ينسبها إلى السمك؛ لأنها ليس لها زعانف ولا حراشيف ولا فكان للفم، وعمودها الفقري في حال ابتدائية جدا، يبلغ طولها أحيانا ثلاث أقدام)
ومما يدل القارئ على عظم قيمة العمود الفقري في التطور أن الحيوانات الحاصلة عليه قد أخذت تتقدم تقدما رائعا في جملة نواح من تركيب الجسم وتأهيله للتنازع والبقاء؛ فسمكة اللامبري - مثلا - هي أول حيوان ظهر له جمجمة، وإن لم يكن لها فكان في فمها، والأسماك هي أول حيوان له فكان يمضغ بهما، والضفادع هي أول حيوان ظهر له أصابع في اليدين والقدمين، وهي أيضا أول حيوان حصل على رئة وعلى لسان متحرك وعلى صوت؛ فإن جميع الأسماك خرس لا تقدر على النطق.
والزواحف هي أولى الحيوانات التي صار لجنينها كيس يحفظه، وأول قلب يحتوي على أربع فجوات ظهر في التمساح، وأول ما ظهر الدم الدافئ في الطيور واللبونات التي لها أكبر مقدار من الدماغ عند مقابلتها بسائر الحيوان، فظهور الفقريات كان من أكبر فتوحات الطبيعة في ميدان الحياة. (من أول اللبونات: البلاتيبوس، حلقة الصلة بين الزواحف واللبونات، يبيض كالزواحف، ويتبرز ويبول من مخرج واحد مثلها، ولكنه يرضع أطفاله)
عمالقة الأرض
قبل أن تظهر اللبونات التي ترضع أطفالها، امتلأ العالم بالزواحف التي كانت تشبه في كثير من هياكلها التمساح والسحلية (= العظاية) والبرص (= سام أبرص) والورنة، ولكنها كانت تنمو إلى ما يزيد على ضعفي الفيل، أو ثلاثة أو أربعة أضعافه.
حيوانات ضخمة تسعى على اليابسة وتسبح في الماء بحرا أو نهرا، وتطير أو تثب في الجو، وكانت تفترس الحيوان أو تأكل النبات، ولكنها كانت تبيض ولا تلد، وما زلنا نجد بيضها متحجرا إلى الآن، وهو يشبه بيض الزواحف الحاضرة، من حيث إنه يستطيل ويشبه الرغيف الفرنسي.
ولكن هذه الحيوانات مع كل ضخامتها، ومع تعدد أنواعها، ومع أنها استولت على البحر والجو واليابسة، انقرضت ولم يبق منها غير الزواحف التي تعيش في عصرنا، وأكثرها من الضعف بحيث يعيش في السر؛ يختفي في النهار ويخرج في الليل؛ مثل الثعابين، ولكن حتى هذه الزواحف التي لا تزال حية قد احتاجت إلى تطورات مختلفة ساعدتها على البقاء؛ مثل انقراض الأيدي والأرجل للثعابين، ومثل الأنياب السامة، أو الأسلحة السرية، التي تدل على الضعف، في أفواهها، ومثل الحراشف للتمساح، ومثل الدرق الذي تحتمي به السلحفاة واللجاة.
لماذا انقرضت هذه الزواحف التي كانت عمالقة الأرض؟
نحن نعرف أن العمالقة من الناس يعقمون أو يقاربون العقم، ونعرف - مثلا - أن الفيل، وهو عملاق اللبونات على اليابسة، لا تلد أنثاه إلا مرة كل خمس وعشرين سنة، في حين أننا لو تركنا زوجين من الأرانب يتناسلان مع أولادهما لاستطعنا أن نحصل منهما على نحو مليون أرنب في بضع سنوات. (دينصور منقرض: التيرانوسور)
فهنا قاعدة هي أن العملقة في الحيوان تؤدي إلى قلة التناسل أو إلى العقم.
ولكن ما هو الأصل لهذه العملقة؟
يغلب على الظن أن الأصل هو وفرة الطعام، وهي الوفرة التي حملت هذه الزواحف على الركود والسكون، فأدى الركود والسكون إلى زيادة النمو ثم إلى العقم.
ولكننا «نفرض» العقم، وليس عندنا ما يدل عليه، وإنما هو ترجيح يحملنا عليه أننا نرى العمالقة في أيامنا، من الإنسان والحيوان، قليلة النسل أو عقيمة.
ولكن هناك ظروفا أخرى تفتح بصيرتنا، فإننا نرى أنه عقب انقراض الزواحف الكبرى ظهرت اللبونات والطيور؛ تمتاز اللبونات بالشعر (الصوف) الذي يحميها من البرد والحر، كما تمتاز الطيور بالريش لهذا الغرض نفسه؛ ولذلك ليس بعيدا أن يكون المناخ قد تغير من الدفء أو الحر إلى البرد فلم تستطع الزواحف الكبرى مقاومته، فانقرضت أو ظهرت منها أنواع جديدة بالشعر والريش.
وقشر السمك، وحراشف التماسيح، ودرقات السلاحف، والشعر والريش، كلها تتفق كيماويا بحيث يمكن أن نتخيل تطور الشعر والريش من حراشف الزواحف. •••
في يناير من 1952، زرت متحف التاريخ الطبيعي في باريس، ووقفت مشدوها أمام الدينصور، وهو من الزواحف التي انقرضت منذ ثمانين مليون سنة قبل أن تحلم الأرض بظهور الإنسان، ولم يكن الدينصور الذي رأيته لحما ودما، وإنما كان عظما فقط، ولكن بدا لي من الفحص أن جميع أعضائه العظيمة كانت سليمة، وكان من الضخامة بحيث يزيد على أربعة من الفيلة الكبار، وكان مع هذه العظمة المرعبة لا يحمل سوى جمجمة صغيرة، بل صغيرة جدا، حتى يمكن أن يقال إن رأس الفار يزيد، بالمقارنة إلى الجسم، على رأسه نحو مائة مرة!
تصور - أيها القارئ - سحلية يبلغ جرمها أربعة أمثال الفيل الضخم، هذا هو الدينصور الذي تسلط على الأرض ملايين السنين، وهو أنواع عديدة، ثم وزن في ميزان القدر فوجد أنه غير جدير بالبقاء، فباد وعاد أثرا وذكرى. (دينصور آخر منقرض: البلسيوسورس)
التطور في الحيوان
ربما كان أحب إلى القارئ أن نذكر خلاصة التطور بأسلوب قصصي قليل التدليلات والجدليات، فإن التدليل والجدل، مع ما فيهما من الإبانة لبعض أركان التطور، يشوشان القصة باعتبارها عرضا كاملا للأحياء من بدء ظهور الإنسان.
فإن قشرة الأرض عندما بردت وصار بخارها يتكاثف وينعقد مطرا وينزل سيولا، لم يكن بها هذه المحيطات الواسعة من الماء، وإنما كان الماء متفرقا في عدة أنحاء منها بهيئة البرك والبحيرات، وكانت الأمطار كثيرة والسيول دائمة، والمياه في حركة متواصلة تغمر بعض الأمكنة أحيانا ثم تنحسر عنها أحيانا أخرى؛ لشدة التبخر وتفلق الصخور.
وظهر الحي الأول خلية واحدة في الضحاضح، حيث ضوء الشمس وأملاح الطين التي يتألف منها صلصال لزج يشبه المادة البروتينية (مثل زلال البيض)، وما زلنا نحن للآن نبدأ حياتنا خلية واحدة، ثم مضت أزمنة طويلة؛ لأن الخلية الأولى كانت بطيئة التطور، ثم ظهرت الحيوانات المركبة؛ مثل الإسفنج.
وقد كان ظهور هذه الحيوانات تقدما بنوع ما؛ لأنه أوجد «جسما» مركبا للحيوان، مؤلفا من عدة خلايا متصلة، وإن لم يكن به شيء من التخصص بعد، إلا إذا اعتبرنا «الأهداب» التي تنمو على حافات خلايا الإسفنج نوعا من التخصص؛ فإنها تتحرك وتحدث تيارا في الماء حتى يدخل الغذاء إلى جوف الإسفنج، ولا يزال في عيوننا وآذاننا وقصبة رئتنا ودماغنا مثل هذه الأهداب تذكرنا بهذا النسب القديم، أما فيما عدا ذلك فالإسفنج مثل الخلية الأولى، بل كان يذكر قديما معها قسما واحدا بلا تمييز.
ثم ظهرت الحيوانات الجوفاء؛ مثل المرجان والقنديل، وهي ذات طبقتين من الخلايا تحتويان على كيس أجوف، ومضت أيضا مدة متطاولة على العالم وليس فيه من الحيوان سوى الخلية المفردة والإسفنج وهذه «الجوفاء» من الحيوان؛ لأن التطور - كما قلنا - كان بطيئا في الدهور القديمة.
وقد قلنا إن الأحياء الأولى نشأت في الضحاضح، فكان ينحسر عنها الماء فتتعرض للشمس فتجف وتموت، كما نرى الآن القنديل ميتا على شواطئ الإسكندرية؛ لأن مادة الحيوانات كانت هلامية سريعة الجفاف إذا زال عنها الماء.
فظهرت لهذا السبب الحيوانات «الشائكة»، وظهورها يعتبر خطوة مهمة في التطور؛ لأنها حصلت على بشرة جامدة بعض الجمود، إذا انحسر عنها الماء لم تجف، بل تبقى حية مدة غير قصيرة، حتى إذا عاد الماء انتعشت، وكانت تمتاز على ما سبقها أيضا بأن لها قناة هضمية، هي الترسيم البدائي لقناتنا نحن، داخل جوفها، ونرى فيها أيضا مصاصات يحاول هذا الحيوان الأول أن يتحرك بها؛ وأمثلة هذه الحيوانات هي خيار البحر ونجمة البحر، وكلاهما يرى على شواطئ الإسكندرية، وله بشرة شائكة.
وكان التقدم بطيئا أيضا، ثم ظهرت الحيوانات «الحلقية»؛ أي المؤلفة من حلقات، فأسرع التطور بعض السرعة؛ لأن الحيوانات التي ظهرت إلى هذا العهد لم يكن لها شكل متوازي الجانبين، وإنما كانت تنمو نموا اعتباطيا كما هو الحال في الإسفنج، أو كانت مستديرة كالقرص لها عدة أشعة كنجمة البحر.
فكان التقدم بطيئا، بل قل إنه كاد يقف؛ لأن الحيوان لم يكن له وجه يتجه به في حركته وتنشأ فيه حواسه وسائر أعضائه الملهمة؛ كالفم والأنف والعين، فلما ظهرت الحيوانات الحلقية؛ كالدود، حدث التخصص في عدة نواح من أجزاء الجسم، وأخذ الحيوان يخرج من الماء إلى اليابسة؛ من الدود نشأت القشريات والعناكب والحشرات؛ لأن كل هذه الحيوانات لا تزال إلى الآن ذات حلقات.
وإلى هنا كانت أغراض الحيوان ثلاثة: (1)
أن تكون له بشرة جامدة بعض الجمود، تمنع تبخر المياه التي في جسمه عند التعرض للريح والشمس وقت انحسار الماء عنه. (2)
أن يتجه بناحية واحدة من جسمه، وأن ينمو متوازيا له جانبان. (3)
أن تتخصص الوظائف في أعضائه، فلا يكون الجسم كله عينا وأذنا - مثلا - وإنما يختص جزء منه بالعين وآخر بالأذن، وهلم جرا.
وهنا يجب أن نقف ونقول إن جميع الحيوانات لا تزال أحياء مائية وإن كانت تعيش في غير الماء؛ فجسم الإنسان - مثلا - قد يزن 150 رطلا كلها مغمورة في الماء، بل في الماء المالح، ماء البحر، وهو الدم، ما عدا رطلا واحدا تقريبا هو المصنوعة منه البشرة التي تحمي هذا السائل، وكذا الحال في جميع الحيوانات؛ فإننا لما خرجنا إلى اليابسة لم نخرج قبل أن نصنع لأنفسنا بشرة جامدة تمنع تبخر الرطوبة المائية التي في داخل أجسامنا، وكانت الحيوانات «الشائكة» هي الأولى في محاولة ذلك.
وبعض الناس يظن أننا نستنشق الهواء، ولكن هذا خطأ؛ فإننا ما زلنا كما كنا أيام سكنانا البحار نستنشق الأكسجين من الماء؛ فإن الهواء يدخل إلى رئاتنا فيلتقي الدم به، ويذوب الهواء في الدم فتستخرج رئاتنا الأكسجين منه على نحو ما كنا نفعل ونحن نعيش كالسمك في الماء.
وكذلك طعامنا لا يهضم إلا وهو سائل كالماء، فنحن لا نزال حيوانات مائية كما كنا منذ مئات الملايين من السنين، وليس لنا حيلة في اليابسة سوى هذه البشرة الجامدة التي تمنع تبخر رطوبتنا، ومما هو ذو دلالة أنه في حالة نزف كبير في الإنسان على أثر جرح - مثلا - لا نزال نستعمل ماء البحر المصفى، أو الماء الملح، بدل الدم المفقود.
وابتدأ الحيوان في جهة واحدة وتوازت أعضاؤه في جانبين منذ ظهور الدود، وبهذا الاتجاه كثر التخصص فظهرت الحشرات والقشريات (كالجنبري) والعناكب. والجهاز العصبي في الدود يجري على طول الجسم، وله عقد، حيث تتجمع القوى العصبية في مكان ما، وهناك ما يشبه أن يكون رأسا جامدا، والقلب مستطيل، وبين القلب والجهاز العصبي تجري القناة الهضمية، أما التنفس فمن الجوانب.
ثم ظهرت الحشرات ولها دماغ، وبعض أدمغة الحشرات؛ مثل دماغ النملة، يقول فيه داروين: «إنه أعجب ذرة في العالم، بحيث قد يكون أعجب من دماغ الإنسان».
وبينما الأحياء، بظهور الديدان والقشريات، كانت تحاول الخروج إلى اليابسة كان يجري تطور آخر في البحر بظهور الحيوانات الرخوة؛ كالمحار، ولم يكن ظهور المحار تقدما إلا من حيث اعتبار بيئته هو وحده، أما من حيث اعتبار أغراض الحياة العليا، كما نفهمها من العرض العام لجميع الأحياء، فإنه كان تأخرا؛ إذ إنه قد فقد أهم خطوة في التطور وهي الاتجاه، وتوازي الجانبين، فصار ينمو أحيانا كالشجر؛ أحد جانبيه أكبر من الآخر، وفقد بعضه القلب والرأس ولصق بعضه بالأرض كالمرجان.
وأعلى أنواع الحيوانات الرخوة هو الأخطبوط الذي يوشك أن يكون له هيكل عظمي، ثم ظهرت الحيوانات الفقرية؛ أي التي لها عمود فقري يحتوي على الحبل الشوكي ويحميه، وظهرت في البحر لأن الحيوانات الحلقية التي خرجت إلى اليابسة فصارت ديدانا وعناكب وحشرات لم يعد يرجى منها تقدم؛ فقد وقفت في هذا الطريق إلى الآن، وربما كان انطواء جسمها في قشرة جامدة هو الذي منع تطورها بأن أزال مرونتها. (رسم الإسكيديان، وهو حيوان ثابت فيه أول تلميح إلى حبل شوكي في مكان العمود الفقري، يرى فمه في أعلاه «أ» ومخرجه في اليمين «ب»)
وأول الحيوانات التي نجد فيها تلميحا إلى فقار الظهر هو حيوان الإسكيديان وحيوان الأمفيوكوس، وكلاهما مائي يعيش في البحار؛ فأولهما يشبه الزجاجة، له فم ومخرج، وبينهما حبل عصبي مستطيل هو الترسيم الأول للفقار، وهو ثابت في قعر البحر، وقد نشأ له جلد يشبه قشر الشجر.
أما الثاني فحيوان ضئيل لا يزيد على سبعة سنتيمترات، ولكنه طري ليس به شيء من العظم سوى غضروف في مكان فقارنا يمتد على طول جسمه، ووراء هذا الغضروف حبل عصبي، فهو بذلك أرقى من الإسكيديان، ولكن ليس له مخ أو قلب أو فقار أو عينان أو أذنان، ومما يدلنا على أن العظم كان في الأصل غضروفا، أنه لا يزال كذلك في بعض الأسماك؛ فإن القرش، الذي يكثر ويصاد في البحر الأحمر، خلو من العظم، ليس له سوى فقار من الغضروف.
والحيوانات الفقرية نشأت في الأغلب من الحيوانات الرخوة كالأخطبوط، بعد أن تطور جسمها إلى اتجاه أمامي مع تواز جانبي، لا من الحيونات الحلقية كالديدان والحشرات.
وبظهور العمود الفقري خطت الحيوانات خطوة كبرى؛ لأن الحيوانات الحلقية لم يكن في مقدورها أن تنشر في الهواء والماء واليابسة؛ فالمحيطات الكبرى من الماء لا يسكنها سوى الأسماك والقيطس، ولكليهما فقار، والجبال والسهول تعيش فيها الفقريات أيضا، حتى الهواء لا يمكن الحشرات الارتفاع فيه مثلما يرتفع العقاب، ولا يمكنها أن تهاجر على أجنحتها من قارة إلى قارة كما تفعل الطيور القواطع.
وبخروج الفقريات إلى اليابسة ظهرت الحيوانات البرمائية؛ أي التي تعيش في البر والبحر؛ مثل الضفادع، وهي تقضي طورا من حياتها كالسمك لها خياشيم، وطورا آخر كحيوان اليابسة وحيوان البحر، ثم ظهرت الزواحف وملأت العالم.
وقد نشأت البرمائيات والزواحف من الأسماك، وأكبر ما يميز الواحدة عن الأخرى أن الأسماك تتنفس بخياشيم، أما الزواحف فبالرئات، والصلة بين الاثنين لا نزال نجدها؛ فإن في أكثر الأسماك كيسا يمتلئ هواء أحيانا، فتخف السمكة وتسهل عليها السباحة، وبعض السمك الذي يعيش في الأنهار؛ كسمكة الطين التي تعيش في النيل، تقضي عدة أشهر أحيانا في الطين عند انحسار الماء، فتخرج من وقت لآخر وتبتلع جرعة من الهواء في هذا الكيس، ثم تنغرز ثانيا في الطين، فإذا جاء الماء عادت واستنشقته بخياشيهما؛ فهذا الكيس هو أصل الرئة في الزواحف.
شكل 1: (سمكة الطين تعيش في النيل، تستنشق بخياشيم في الماء، ثم برئة ابتدائية في الهواء، فهي حلقة اتصال بين حيوان الماء وحيوان اليابسة)
وعصر الزواحف يمثل القرون المظلمة في تاريخ الأحياء؛ فقد جاء وقت ملأت فيه هذه الزواحف العالم، فكان منها الصغير الذي في حجم السلحفاة الآن، وكان منها الكبير الذي يشبه العظاية (السحلية)، وكان حجمه يبلغ عشرة أضعاف حجم الفيل، وكان منها آكل العشب، وآكل اللحم، ومنها البرمائي، ومنها الخاص باليابسة.
ثم جاء وقت انقرضت فيه هذه الحيوانات إلا القليل جدا، وكان انقراضها فجائيا، مما يدل على أن سبب ذلك في الأرجح هو تغير حدث في مناخ العالم، بظهور عصر جليدي نشر البرد فأباد هذه الحيوانات التي لم يكن لها صوف أو ريش يحيمها، كما أباد أيضا أنواع الأمونيت (من المحار) التي كانت تعج بها البحار في وقت الزواحف الكبرى.
ومن هذه الزواحف تفرع فرعان كبيران: أولهما الطيور، وثانيهما اللبونات التي ترضع أولادها.
فقد ورثت الزواحف عن الأسماك أربعة أطراف؛ هي الأيدي والأرجل، وكانت قبلا زعانف، فصارت الأيدي أجنحة للطير، بل لقد نشأ قبل نشوء الطيور الراهنة طيور أخرى من الزواحف كانت تطير بلا ريش، وإنما أطرافها متصلة بأغشية على نحو ما نرى في الخفاش، وقد انقرضت ولا علاقة لها بطيورنا الحاضرة.
وإنما يظن أن ريش الطائر نشأ من حراشف الزواحف، كما أن شعر اللبونات قد نشأ أيضا من هذه الحراشف (وبعضهم ينكر ذلك). ومن المعروف المشاهد أن في الشعر والريش مادة زيتية نشعر بها إذا وضعنا يدنا في شعر رأسنا ومشطناه بأصابعنا، ونراها أيضا عندما تسبح البطة في الماء ولا تبتل؛ فهذه المادة الزيتية هي أصل اللبن في الحيوان اللبون، ولا يزال يوجد بين اللبونات ما يعد حلقة الاتصال بين اللبونات العليا والزواحف. (أول الطيور: له ريش متحجر وله أسنان) (الصورة الأولى لمتحجر له، والثانية لهيكله العظمي، والثالثة بعد تركيب أعضائه)
ففي أستراليا - مثلا - حيوان يدعى الأخدنة، له خرطوم يلتقط به النمل ويأكله، وليس لهذا الحيوان ضرع أو ثدي، وإنما كل ما له أنه عندما يبيض (وهو لا يلد) يتشقق بطنه وتخرج منه مادة زيتية تشبه زيت الشعر فيلحسها أولاده، ثم يشترك هذا الحيوان والزواحف في أن له مخرجا واحدا يتبرز ويبول منه معا.
وقد كان ظهور اللبونات في الطبيعة من الانقلابات العظيمة؛ لأننا نجد في الرضاع استبقاء الطفل مع الأم، ومعاني الأمومة والعائلة والحب واللغة والجماعة والتعليم، وهذه هي الظروف التي ساعدت على وجود الإنسان بعد ذلك. (هيكل عظمي للأخدنة: أول اللبونات، وهو حيوان في أستراليا يقتات بالنمل، ويبيض، ولكنه يرضع أطفاله مثل البلاتيبوس)
سمكة السيلاكانت
في ديسمبر من 1952، أذاعت الصحف نبأ يعد من أعظم الأنباء في تاريخ الأحياء، وهو العثور على سمكة «السيلاكانت» بالقرب من جزيرة مدغشقر شرق إفريقيا، والقيمة العظمى لهذه السمكة - كما يرى القارئ في صورتها - ظهور التجربة الأولى في تطور الأحياء للذراعين والساقين؛ أي المحاولة الأولى لصعود السمك من البحار إلى اليابسة والمشي عليها بدلا من السباحة في البحر.
وكان المظنون أن هذه السمكة قد انقرضت منذ خمسين مليون سنة على الأقل؛ إذ وجدت أحافيرها المتحجرة، ولكن لم توجد حية إلا في 1938، ثم في الشهر الماضي، وفي المرة الأولى أتلف المحنط أحشاءها، وأضاع الفرصة على البيولوجيين لدراستها، أما هذه المرة فقد عني الدكتور سميث بصيانة أعضائها، ولما اصطيدت بقيت ثلاث ساعات بعد إخراجها وهي حية.
وقد سميت «سيلاكانت» لأنها جوفاء المأق، والمتأمل للصورة يجد المأق في خلف العين وهو أجوف. (السيلاكانت)
وقولنا إن المظنون أنها كانت قد انقرضت منذ خمسين مليون سنة لا يعني أنها ظهرت منذ خمسين مليون سنة؛ لأن الأرجح أن تجارب الخروج من البحر إلى اليابسة بدأت منذ أكثر من 200 أو 300 مليون سنة، ونعني هنا خروج السمك وليس خروج القشريات مثل السرطان والكابوريا والجنبري.
وقد كانت التجارب الأولى تقوم على حياة مشتركة في البحر واليابسة، بحيث تبيض السمكة في الماء، وينفقئ البيض وتسبح الصغار فترة من حياتها، ثم تخرج إلى اليابسة وتسعى، ولا يزال هذا الشأن في البرمائيات (البر والماء)؛ مثل الضفادع.
ثم استقل الحيوان على اليابسة، فظهرت الزواحف، وتفرعت الزواحف إلى فرعين: الطيور من ناحية، واللبونات من ناحية.
وسمكة السيلاكانت واحدة من مئات السمك الذي حاول الصعود إلى اليابسة والسعي عليه بذراعين وساقين ابتدائية، ولا بد أن كثيرا منها قد فشل في هذه التجارب، ولا نعرف إذا كانت السيلاكانت من أسلافنا أم لا؛ إذ ليس بعيدا أن تكون قد قامت بالمحاولة ثم ارتدت عنها وقنعت بالإقامة في الماء.
ويجب أن نتخيل عالمنا قبل مئتي أو ثلاث مئة مليون سنة على حال أخرى غير حاله الحاضرة؛ فقد كانت البحيرات والمخاضات وانسياب البحار فيه أكثر مما هي الآن في استقرار قاراته وبحاره، وكان بعض الأسماك التي تحيا في البحيرات يعاني من وقت لآخر جفافا أو ما يقارب الجفاف، فكان يختبئ في الطين ويبقى أسابيع أو شهورا إلى أن تعود الأمطار - مثلا - فيهب السمك المختبئ من رقاده ويسبح، وكثير من السمك يزحف على زعنفتيه على الطين.
وفي النيل سمكة خاصة به تسلك هذا السلوك، وهي تسمى «سمكة الطين»؛ لأنها تختبئ فيه وتزحف عليه إلى أن تأتي مياه الفيضان فتخرج وتسبح (شكل
1 ).
وسمك الطين هذا يحتوي «مثانة» هوائية يختزن فيها الهواء، ويستعملها كما لو كانت رئة بدلا من الخياشيم التي يتنفس بها في الماء، وهذه المثانة هي الأصل في الرئة التي تتنفس بها الزواحف والطيور واللبونات، وفي العالم الآن أربعة أنواع من «سمك الطين» هذا، واعتقادنا أنه أرقى من السيلاكانت في سلم التطور.
ونحن نجزم من الآن بأن السيلاكانت تحتوي هذه المثانة، ولو بصورة أثرية؛ لأنها وإن كانت قد انقطعت عن تجاربها في المشي على اليابسة، فإنها بلا شك قد قضت ملايين السنين في هذه التجارب. (سمك البيريوفتلم، وهو هنا يتسلق جذور الكوريدا التي تنبت على الشواطئ، وقد تعرت هذه الجذور بتأثير الأمواج)
ولم يعرف عن هذه السمكة أنها تخرج إلى البر؛ لأن الأغلب أنه بعد ظهور هذه الأعضاء الابتدائية للذراعين والساقين عادت فاستقرت في البحر، ولذلك لم تتقدم هذه الأعضاء.
وتركت ميدان اليابسة لغيرها، أو لما قد تطور من أقاربها وسلائلها، وعلى كل حال نحن باكتشاف السيلاكانت قد حططنا على حلقة كنا نظنها منقرضة في سلسلة التطور.
ونحن إزاء كشف جديد، ولا بد أننا سنعرف كثيرا عن هذه السمكة مما ينيرنا عن تاريخنا القديم، أو عن أعظم انقلاب في تاريخنا القديم، وهو خروج الأحياء من البحار إلى اليابسة.
التطور في النبات
تطور النبات ليس في وضوح تطور الحيوان؛ فإن طائفة كبيرة من حلقات الاتصال بين الأنواع الموجودة الآن قد فقدت، أو قل إن العلميين لم يهتدوا إليها بعد، وربما كان عدم الاهتداء إليها ليس ناتجا عن قلتها بل عن قلة المشتغلين بالنبات؛ فهذا العلم فيه شيء من الجفاف يصد رجل العلم عن درسه؛ إذ ليست به تلك الجاذبية التي تغري العلماء بدرس الحيوان.
وقد أحصيت أنواع النبات الموجودة الآن في العالم فوجدت كما يلي:
النباتات المزهرة (أي ذات الجنسين)
103000 نوع
النباتات المخروطية (كالصنوبر)
3500 نوع
النباتات الطحلبية
7500 نوع
النباتات السرخسية
3500 نوع
أنواع الأشنة
5500 نوع
الفطر والكمأة والبكتريا
4000 نوع
الألجة وعشب البحر
14000 نوع
ونرى وجها للمشابهة بين تطور النبات وتطور الحيوان من حيث إن الاثنين بدأت فيهما الحياة عن سبيل الخلية الواحدة البسيطة، ثم تطورت وتدرجت حتى وصلت في الحيوان إلى الفقريات، فانتشرت هذه الفقريات في البحر واليابسة والهواء، وتغلبت على جميع ما عداها من الحيوان، وصارت هي السائدة في هذا العالم.
وكذلك الحال في النبات؛ تطور وتدرج حتى وصل إلى النباتات المزهرة، فتغلبت على جميع ما عداها من النبات حتى بلغ عدد أنواعها نحو أربعة أسباع عدد أنواع المملكة النباتية، وقد انتشرت في جميع أنحاء اليابسة؛ فنجدها في السهل، وفي الجبل، وفي القطب الشمالي، وفي خط الاستواء، وفي الماء، وفي اليابسة.
والخلية الأولى من النبات تشبه الخلية الأولى من الحيوان، بل هي تتحرك مثلها كما نرى ذلك في البكتيريا التي تعيش في دم الحيوان؛ فالبكتريا في النبات مثل الميكروب في الحيوان، والنبات يقترب من الحيوان بمقدار انخفاضه في مرتبة التطور، فإذا ارتفع كلاهما في سلم التطور انفصل كل منهما عن الآخر، وتميز بميزات عديدة.
بل إن هذه البكتيريا، وهي خلية مفردة كالنبات، بدلا من أن تستغل ضوء الشمس بواسطة المادة الخضراء؛ أي الكلوروفيل كالنبات، تستغل مادة حية أخرى، وقد تطورت حتى ظهر منها الكمأة التي تنبت حيث الخموم والعفن، وتستغل الأحياء الميتة، وهذه الكمأة، لأنها لا تعيش عيشة النبات وإن كانت منه، قد فقدت لون النبات الأخضر، وصار طعمها طعم اللحم، وكذلك البكتيريا صارت تتحرك حركة الحيوان.
وأول نبات ظهر في العالم، بل ربما كان أول حي، هو الألجة؛ فليس له ورق ولا جذوع ولا جذور، وهو يعيش خلية واحدة، وقد يتصل فيتألف منه عشب البحر؛ فإن الخلايا المؤلف منها عشب البحر المنتشر في جميع أنحاء البحار تشبه خلية الألجة.
بل هذه الأشنة - وهي حي مركب من الفطر والألجة - ليست في الحقيقة نباتا واحدا، وإنما نباتان ينتفع كل منهما من الآخر.
وإلى ظهور هذه الأنواع كان النبات لا يزال في الماء طري الجسم، إذا تعرض للشمس جف، ولم يكن له بعد خشب يحمل رطوبته ويحتفظ بها لمقاومة الجفاف، فلما نشأ الخشب تمكن النبات من الخروج من الماء إلى اليابسة.
ثم ظهرت النباتات الطحلبية وكانت تقدما بنوع ما؛ لأن النباتات السابقة لم يكن لها جذوع، أما هذه فقد حصلت على جذوع، ولكنها لم تحصل بعد على جذور، وهي لا بد منها للصعود إلى اليابسة.
ثم ظهرت النباتات السرخسية، وكان لها جذور غير الجذع والورق، فانتشرت في اليابسة. وطبقات الفحم الموجودة الآن نشأت منها؛ فقد جاء وقت على العالم ملأت فيه هذه النباتات اليابسة. (متحجرات نباتات قديمة معظم طبقات الفحم مؤلف منها)
ثم ظهرت النباتات المخروطية؛ أي التي ثمرها بهيئة المخروط مثل الصنوبر، وكان هذا المخروط أول تهيؤ لظهور الأزهار.
واختتم التطور بظهور النباتات المزهرة، والنباتات المخروطية تعتبر حلقة الصلة بين النباتات السرخسية والنباتات المزهرة.
ومما هو ذو جلالة أن النباتات المزهرة ظهرت عقب ظهور الحشرات الغشائية؛ كالنحل والزنابير، التي تنقل اللقاح لهذه الزهور، وهنا نتذكر العوامل غير المباشرة للتطور؛ فإن ظهور الحشرات الناقلة للقاح كان سببا لتطور النبات. (أوراق أشجار بائدة من طبقات الفحم)
وذوات الزهر هي الوحيدة بين أقسام النباتات التي يمكنها أن تقتنص الحشرات وتأكلها، وهي أيضا تنمو في كل مكان؛ حارا كان أم باردا، ويابسة أم ماء، وأقل نجاحها في الماء الملح، ومع ذلك فإن النباتات السرخسية والمخروطية لم تنجح مطلقا في الماء الملح، وهذا كله يدل على أن ذوات الزهر قد حصلت على عدة كفايات لم تحصل عليها سائر النباتات.
وذوات الزهر تنقسم إلى قسمين: أحدهما ما تكون بذرته ذات فلقة واحدة؛ كالذرة والقصب والقمح والنخل، والآخر ما تكون ذات فلقتين؛ كالفول والقطن واللوز والبرتقال.
والجذع في القسم الأول يكون على الدوام متساوي الثخانة من الأسفل والأعلى، كما نرى في جذع النخل والذرة، أما القسم الثاني فيكون ثخينا من أسفل دقيقا من أعلى.
والقسم الأول أحدث عهدا من الثاني؛ بدليل أن النواة أو حبة الذرة عندما تنشأ يكون فيها، وهي بعد جنين، تلميح إلى تكون الفلقتين، ثم تعود فتندغم الفلقتان وتصيران فلقة واحدة.
البيئة والحي
تنازع البقاء سبب نتيجته بقاء الأصلح أو الأنسب، فإذا تنازع فردان في بيئة ما عاش أنسبهما ومات الآخر، وهذا هو السبب في أننا عندما نعرض جميع الأحياء في الطبيعة نجد أنها كلها توافق الوسط أو البيئة التي تعيش فيها، وهي إنما وصلت إلى هذه الحال بعد نزاع طويل مات فيه كل حيوان أو نبات لم يوافق، من حيث شكله أو لونه أو قوته أو نوع طعامه، تلك البيئة التي يعيش فيها.
فالببر مثلا، وهو الحيوان المخطط الذي يخطئ بعض الناس ويسميه نمرا (مع أن النمر منمر؛ أي منقط)، يشبه الغابة التي يعيش فيها، فإذا ربض تحت الغصون والأوراق اختلط لونه بلونها فلا يمكن تمييزه منها، فهو بذلك يحتمي من عدوه ويختفي عن فريسته في آن واحد، ولم يصل إلى هذا اللون إلا بعدما انقرض جميع الأفراد التي كان في لونها شهرة تنم عليها؛ لأن هذه الشهرة تجعل فريسته على حذر منه، فهو أبدا مكشوف أمامها، فلا يعيش ولا ينسل من الببرة إلا ما وافقت خطوط جلده ظلال الغابة في ألوانها.
وحيوان الصحاري يشبه لونه لون الرمال، بحيث إذا نام ضب أو ورن على سطح الصحراء لم يميزه الإنسان من الرمال التي تحته، وإذا نام غزال أو ثعلب اختلط لونه الأغبر بغبرة الرمل، فلا يمكن حيوانا أو جارحا أن يميزه مما حوله.
وحيوان الصحراء لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد تنازع بقاء طويل باد فيه كل ما كان في جلده لمعة من بياض، أو أي لون آخر يشهره ويدل كواسر الطير عليه، أو يهدي إليه بعض الوحوش.
وكذلك الحال في نباتات الصحراء فإنك تجد على الدوام أوراقها ملساء تمنع تبخر الماء منها (كالصبير)، وتجد جذورها تمتد إلى عمق بعيد فيها، وذلك لقلة ماء الصحراء وبعد غوره؛ فالصبير في الصحراء كالجمل، كلاهما يعمل لادخار الماء؛ هذا باختزانه في معدته، وذاك في أوراقه، وهما لم يبلغا هذه الكفاية إلا بحكم الوسط الذي يعيشان فيه.
ولون الجمال الغالب، مع تدجينها الطويل، لا يزال أغبر في لون الرمل، وربما لم تظهر الإبل السوداء أو البيضاء إلا بعد الاستئناس، وهي لو كانت تعيش في الحال البرية لكانت أولى ما يقع فريسة للضواري الكبرى.
وكثيرا ما يقف أحدنا في وسط حقل وينظر إلى نبات ما فلا يجد فيه ما يدل على وجود حشرة، ثم ما هي إلا أن تتحرك يده في جهة ما حتى يرى فراشة زاهية كبيرة تطير فجأة كأنها وجدت من العدم، فهذه الحشرات التي تتعقبها الطيور قد حدث بينها «تنازع بقاء» حتى لم يبق منها سوى القادر على إخفاء نفسه بأن يندغم لونه في لون الغصن الذي يحط عليه؛ حتى لا تهتدي إليه الطيور، وبعض هذه الحشرات يشبه الزهرة، وبعضها يشبه الورق، والبعض الآخر يشبه غصنا مكسورا جافا بحيث ينخدع الطير عنه. (حشرة تشبه غصنا جافا فإذا حطت عليه لم تتميز منه)
ومن هنا ندرك السبب في أن الثعلب والدب اللذين يعيشان في القطب الشمالي يكون فروهما أبيض ناصعا، بحيث إذا رقد أحدهما على الثلج امتزج لون الفرو بلون الثلج فلا يظهر للعدو أو للفريسة، فالالتئام بينهما وبين البيئة التي يعيشان فيها تام، وهو لم يبلغ هذه الدرجة إلا بعد تنازع طويل مات فيه كل مشهور اللون واضحه. (حشرة تشبه ورق الشجر فإذا حطت في جانب ورقة لم تتميز منها)
ولننظر في أثر آخر للبيئة في الحي؛ فإن القيطس - مثلا - وهو أكبر حيوان في العالم (أكبر من الفيل عشرة أضعاف) يعيش في الماء البارد قريبا من القطبين الشمالي والجنوبي، وهو حيوان لبون يرضع أطفاله، ودمه دافئ مثل الدم البشري، وقد كان يعيش يوما على اليابسة، ثم نزل إلى الماء فانقلبت يداه إلى زعانف، ولكن لا تزال أصابعه الخمس كامنة في كل زعنفة من زعنفتيه.
فهذا الحيوان لا يمكنه أن يعيش في الماء البارد إذا لم تكن له وسيلة يحفظ بها حرارته، وقد فقد شعره لأن الشعر لا يوافق السباحة في الماء، فلم يبق له سوى أن يكسو جسمه بطبقة كثيفة جدا من الدهن تبلغ آلاف الأرطال، هي الآن أكبر ما يغري الصيادين بصيده، وهو لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد نزاع طويل انقرض فيه كل قيطس لم يكن جلده مبطنا بمثل هذه الطبقة من الدهن.
وبعض الحيوانات التي نزلت إلى الماء بعد أن كانت تعيش على اليابسة تدلنا بسلوكها على طريق التدرج الذي اتخذته في الوصول إلى حالة القيطس؛ فإن القيطس يلد في الماء ولا يحتاج إلى الخروج إلى البر، ولكن لا يزال في العالم حيوانات لم تبلغ هذه المرتبة وإن كانت تسير في طريقها؛ ففرس النهر الذي يسميه الأطفال «السيد قشطة» يعيش في الماء واليابسة على السواء، ويبقى مدة طويلة ورأسه تحت الماء لطول نفسه، والدب كذلك لا يبالي السير على الأرض أو السباحة في الماء، ولكنهما يلدان على الأرض.
والتمساح واللجاة يعيشان في الماء، ولكنهما وقت البيض يخرجان إلى اليابسة، فتبيض الأنثى ويبقى ولدها مدة على البر، ثم ينزل الماء. والفقمة تعيش طيلة حياتها في الماء، ولكنها وقت اللقاح والولادة تخرج إلى البر، فهي لم تبلغ بعد مبلغ القيطس الذي يعيش ويلد في الماء.
فاحسب آلاف السنين التي مضت، وما مات من القياطس في هذا النزاع الطويل، حتى تمكنت من أن تجعل الماء وسطا ملائما لحياتها وأولادها.
واذكر هذه الأطوار التي يقطعها الآن أمثال فرس النهر والتمساح واللجاة والفقمة للوصول إلى حال القيطس، تعرف أن التطور لم ينقطع، وإنما هو سائر كما كان يسير في الماضي، وأنه سيأتي يوم تلد فيه الفقمة في الماء، ويتمكن فرس النهر - إذا لم تبده المدنية - من أن يعيش طيلة حياته في الماء.
ثم اعتبر الأسماك التي تعيش في قعور البحار العميقة، فإن قعر البحر إذا بلغ عمقه نحو أربعة كيلو مترات يكون مظلما، فلا تستطيع الأسماك رؤية طريقها حتى تتقي عدوها وتهجم على فريستها، فلم يكن لها بد من الاهتداء إلى طريقة تجعلها تلائم هذا الوسط المظلم، ولم تكن هذه الطريقة سوى اختراعها ضوءا يشع وينير لها هذه الظلمة.
واعتبر عنق الزرافة وخرطوم الفيل، فكلاهما يؤدي وظيفة واحدة وهي الوصول إلى الأغصان أو الأعشاب، وعنق الفيل قصير، وعنق الزرافة طويل، ولكنهما يحتويان كلاهما على سبع فقار مثل عنق الإنسان، فالطول والقصر تعديل يراد به الملائمة بين البيئة والحيوان، والأساس واحد وهو عظم الفقار، ولكن التعديل يختلف باختلاف البيئة، ولو لم نكن نحن والفيلة والزرافة من أصل واحد لكان لكل منا عدد من الفقار يوافق طول عنقه، بحيث يحتوي العنق الطويل على عدد أكبر من الفقار مما في العنق القصير.
ويمكن القارئ إذا تأمل في أحياء الطبيعة؛ نباتها وحيوانها، أن يرى الملاءمة الدائمة بين البيئة والحي، وهذه الملاءمة لم تبلغ درجتها الحاضرة إلا بعد انتخاب طبيعي عاش فيه ما لاءم الوسط وأنسل، وانقرض ذلك الذي لم يلائم وسطه.
فشجرة السنط - إذا كانت صغيرة يمكن الحيوان أن يأكلها - امتلأت شوكا يذود الحيوان عنها، فإذا كبرت ولم تعد تخشى الحيوان زال شوكها أو قل، وحشرات الليل؛ كالخنافس وغيرها، تكون سوداء لا تظهر في الظلمة، وديدان البطن تهضم بجلدها مع أنه كان لها قناة هضمية، بل القناة الهضمية ظهرت فيما هو أحط منها من طبقة الشائكة؛ مثل خيار البحر ونجمة البحر، ولكنها، لأنها تعيش في قناتنا الهضمية في الغذاء، صارت تهضم بجلدها؛ لأن هذا أسهل عليها من ابتلاع الغذاء بفمها، ثم هضمه، ثم تبرز نفايته.
ولون الإنسان من سمرة أو سواد هو ضرب من الملاءمة بين الوسط والحي؛ فأجسامنا تفرز هذه الصبغة من سمرة أو سواد على بشرتنا كي تقينا من ضوء الشمس وما فيه من سموم، نعرفها عندما نعمد إلى قتل الميكروبات الشفافة بتعريضها للشمس، وعندما نفتح النوافذ لتطهير غرفنا بها، بل القردة التي تعيش في إفريقيا لها وجوه سود أيضا مثل الزنوج؛ فبيض البشرة لا يمكنهم أن يتحملوا الضوء الشديد، ولذلك انقرضوا من البلاد الحارة، ولم يبق سوى الحاصلين على صبغة قليلة أو كثيرة.
والخلاصة أن الطبيعة في غربلة دائمة لا تنقطع؛ فما لاءم الوسط أبقته، وما لم يلائمه أبادته.
تطور بعض الأعضاء
يمكن دارس التطور أن يعمد إلى أي عضو في جسم الإنسان؛ كالعين أو الساق أو القلب أو الأذن، فيتتبع تطورها منذ ظهور الحيوانات الدنيا إلى أن بلغت مرتبتها الراهنة العليا في الإنسان، وفي ما يلي يرى القارئ تطور بعض الأعضاء على سبيل التلخيص:
تطور الثدي:
في جلود الأسماك غدد تفرز نوعا من الدهن أو الزيت ينتشر على سطحها فيجعلها ملساء زلقة فيسهل عليها بذلك اجتياز المياه، وهذه الغدد تتركز أحيانا في بعض مراكز، وتنشئ أحيانا مجاري، وأحيانا أخرى تتفرق في جلد السمكة.
وأكثر الضفادع وبعض الأسماك تفرز مادة زيتية كريهة على جلودها؛ حتى لا يفترسها مفترس، وهذا هو السبب في أن الكلب أو القط أو الثعلب يكره الضفادع ولا يأكلها مع كثرتها أمامها.
وللزواحف والطيور غدد تفرز مواد كريهة أحيانا؛ لتكره أعداءها فيها حتى لا تفترسها. (كان الإنسان قديما يلد أكثر من واحد، فكانت للمرأة عدة حلمات، ومن هنا حدوث الفلتات الآن؛ إذ يكون لبعض النساء عدة حلمات)
على أن الحيوان اللبون (ذا الثدي) يمتاز على كل الحيوانات الأخرى بثلاثة أنواع من الغدد، وهي غدد اللبن؛ أي الأثداء، وغدد العرق، وغدد الشعر؛ أي الغدد الدهنية.
واللبن في تركيبه قريب من المادة التي تفرزها غدد الشعر، وتشتد مشابهته لمفرزات الغدد الدهنية هذه كلما نزلنا في سلم التطور إلى الحيوان اللبون القريب من الزواحف؛ ففي استراليا - مثلا - حيوان يسمى الأخدنة، وهو شائك كالقنفذ، ويعيش بأكل النمل، وهو أحط اللبونات الحاضرة؛ فإنه لا يزال كالزواحف يبيض ولا يلد، وليس له غير منفذ واحد للبول والتبرز، وليس له حاجز بين صدره وبطنه كالحيوان اللبون، وليس له ثدي بالمعنى المتعارف، بل تتورم جلدة بطنه وتحتقن عندما ينفقس بيض فراخه، وتتشقق ثم ترشح نوعا من الدهن الذي يفرزه جسدنا للشعر، فتلحسه فراخه.
ومن ذلك نفهم أصل الأثداء، فإنها غدد دهنية تركزت في موضع من الجسد، وكان القصد منها في الأصل مجرد إيجاد الدهن للشعر. (فلوس القرش التي على جلده، وأسنان القرش لا تختلفان في شيء، ومن ذلك نعرف أصل أسناننا)
ويجب ألا ننسى أن الشعر، وهو يحتاج إلى غدد دهنية، من خواص الحيوان اللبون؛ ولذلك لم يظهر اللبن في غيرها.
وعدد حلمات الأثداء والضروع تكون عادة مناسبة لعدد ما يلده الحيوان في الدفعة الواحدة؛ ولذلك هي كثيرة في الفأر والخنزير، قليلة في الإنسان والقرد، ويظهر في جنين الإنسان خمسة أزواج من الحلمات، ثم تضمر وتزول، مما يدل على أن الإنسان قضى حينا من الزمن وهو مثل الخنزير والفأر يلد عددا من الأولاد في الولدة الواحدة.
ثم إن ألبان الحيوانات تختلف وتتماثل باختلاف هذه الحيوانات أو مماثلتها؛ فألبان الإنسان والقرد والنسناس تتماثل، وألبان الحيوانات المجترة تتماثل أيضا، ولكنها تختلف عن ألبان الحيوانات الأخرى.
تطور الأسنان:
الأسنان ضرب من فلوس السمك التي تغطي جسمه، فهي مثلها كيماويا، ولا تزال أسنان القرش تصنع وتتكون وهو جنين بالطريقة نفسها التي يتكون بها قشره، وأكثر أجنة الحيوانات التي تعيش على اليابسة يكون جلدها مغطى بما يشبه فلوس السمك، وتنشأ الأسنان مثلها ومعها في وقت واحد، ثم تزول الفلوس التي على الجلد وتبقي الفلوس (الحراشف) التي في الفكين، وهي الأسنان.
تطور الرئة:
لأكثر الأسماك كيس يتصل بالمريء، ويكون دائما مملوءا، والغرض منه تخفيف جسم السمكة عندما تريد الصعود في الماء وإثقاله بالإفراج عن الهواء الموجود فيه عندما تريد الغوص، وهذا الكيس هو أصل الرئة في الحيوانات الأرضية، وقد حقق ذلك في السمندل - وهو حيوان يقضي طفولته أو شبابه في الماء ثم يهجره ويسكن اليابسة - فإن كيسه هذا، الذي كان يستعمله في العوم وقتما كان يسكن الماء يتنفس بالخياشيم كالسمك، يتحول إلى رئة عندما يسكن اليابسة، والرئة نشأت عن طريق المصادفة تقريبا؛ لوجود هذا الكيس قبلا في الأسماك، كما نشأ الثدي عن وجود غدد الشعر الدهنية.
تطور الأجنحة:
نشأت الطيور من الزواحف، بل هي لا تزال للآن زواحف طيارة، وغاية ما حدث لها أن ساقيها الأماميتين صارتا جناحين، وأكثر الطيور تعيش مدة طفولتها وفي طرف أجنحتها مخلب أو ظلف، وقد يبقى معها طيلة حياتها، مما يدل على أن الجناح كان ساقا يوما ما.
وصغار الدجاج تستعمل أجنحتها للاعتماد عليها في المشي كما تستعمل الزواحف ساقيها الأماميتين، والطيور لا تزال تتعلم الطيران تعلما ولا تأتيه طبعا وغريزة، مما يدل على قرب عهدها به، ثم إن أجنة الزواحف والطيور تتماثل إلى قرب تفقس البيض تقريبا، ثم إن حياة الزواحف والطيور الفسيولوجية متشابهة إلى حد يمكن أن يقال إنها واحدة فيهما.
تطور الأذن:
الجنين يمثل تاريخ النوع الذي ينتسب إليه، وفي حياتنا الجنينية تظهر حزوز وشقوق في الوجه تمثل الخياشيم التي كنا نتنفس بها حينما كنا أسماكا، أو على الأقل من الحيوانات البحرية، والأذن في الأسماك الآن ليست أكثر من خيشوم يصل إلى الدماغ وليس فيه طبلة أو تجويف طبلي؛ ولهذا السبب تتكون الأذن في جنين الإنسان من أحد خياشيمه.
وتظهر الطبلة والتجويف الطبلي والقناة اليوستاخية الواصلة الأذن بالأنف أولا في الحيوانات البرمائية (مثل الضفادع)، وتظهر صدفة الأذن في الليونات، والغرض منها جمع الصوت بتحريك هذه الصدفة إلى جهة الصوت، كما نرى في الحمار والفرس.
ولم يعد للصدفة فائدة ما للإنسان أو القرد، ولذلك ضمرت عضلاتها وضعفت عن الحركة، إلا القليلين الذين يستطيعون تحريكها حركة ضعيفة؛ وذلك لأننا نعتمد في سلوكنا على العين أكثر مما نعتمد على الأذن أو الأنف.
حواس الحيوان وعقله
الدماغ والحواس كلاهما نشأ لتدبير مصالح جسم الحيوان، والحواس تتفاوت دقة بين حيوان وآخر، وبعض الحيوان يعتمد على إحدى حواسه دون الأخرى التي يعتمد عليها غيره.
والدماغ والحواس كلاهما أداة للعقل أو الغريزة، والعالم الحيواني ينقسم شطرين؛ بعضه جل اعتماده في حياته على غريزته، كما هو الحال في الحشرات وما دونها من الأحياء، وبعضه جل اعتماده على العقل؛ أي الرؤية والتدبر واكتساب الخبرة والتجربة، وهذا هو الحال في الإنسان، ولكن أعمال الغريزة والعقل تتداخل؛ فالطفل الإنساني يرضع أمه بغريزته، والرجل منا يغضب بغريزته، والحشرة إذا عاقها عائق في سيرها ظهر في سلوكها ما يقارب الروية والتدبر.
ولكن يمكن أن نقول على وجه الإجمال إن الدماغ الصغير هو دماغ الغريزة، والدماغ الكبير هو دماغ العقل، وهذا هو ما يمكن استنتاجه بالاستقراء؛ فكلما زاد جرم الدماغ اتجهت أعماله نحو الروية والتدبر؛ أي العقل، وخلصت من الغريزة، فأدمغة الحشرات والقشريات والعناكب؛ أي الحيوانات المفصلية، قليلة الجرم، ولذلك يبدو على أعمالها كأنها كلها غريزية، والحال كذلك في ما هو دون هذه الحيوانات، ثم يكبر الدماغ في الأسماك، ويتدرج في الكبر في الحيوانات البرمائية؛ (أي التي تعيش في البر والبحر كالضفدع)، ثم الزواحف، ثم الطيور، ثم اللبونات؛ (أي التي ترضع أطفالها)، إلى أن يبلغ أكبر جرمه في القردة العليا والإنسان، وبنسبة كبر الدماغ يكون تغلب العقل على الغريزة.
والبحث عن تطور العقل ينتهي بالطبع إلى البحث عن تطور أداتيه؛ وهما الحواس والدماغ، وما دام الغرض من العقل أو الغريزة هو تدبير مصالح الجسم والمحافظة عليه، فالبحث في تطور الحواس الخمس ودقتها وتركزها في الحيوان هو سبيلنا إلى معرفة تطور الدماغ؛ لأن هذه الحواس هي بمثابة النوافذ التي يطل منها العقل على العالم، أو هي السفير الذي ينقل رسالة العالم إلى الفرد، فهي وسيلة التعارف بين الحي ووسطه.
ويمكننا أن نعقل أن الحواس الخمس، بل أكثر من الحواس الخمس، كان موجودا في الخلية الحيوانية الأولى بشكل مبهم منتشر، لم تتخصص كل حاسة بمكان، ويمكننا أيضا أن نتصور أن الأثر الذهني الذي يحصل للأحياء الدنيا من هذه الحواس يشبه على وجه ذلك الأثر الذهني الذي يحصل لنا عندما ننظر في مكان مضيء ثم نغمض عينينا، فتبقى صورته مدة ما بعد إغماض العينين، وهذا هو أول الذاكرة التي هي أصل العقل والغريزة.
وابتدأ ظهور الحواس على سطح الجسم، ولا يزال منها ثلاث على سطح جسم الإنسان؛ وهي اللمس والنظر والسمع، ولكن يجب ألا ننسى أن الذوق نشأ على سطح الجسم، ولا يزال بعض الأسماك يذوق الأشياء بسطحه، والفم هو جزء من البشرة الخارجية ينمو معها؛ أي إنه ليس جزءا من القناة الهضمية نما حتى وصل إلى البشرة الخارجية، بل هو عكس ذلك جزء من القشرة الخارجية نما ودخل في الجسم حتى وصل إلى القناة الهضمية.
ونجد دليل ذلك القرش، وهو سمكة غضروفية كبيرة (ليس بها عظم، وإنما بها غضروف، وتكثر في البحر الأحمر)، فإن تركيب أسنان هذا الحيوان هو نفسه تركيب فلوسه؛ أي حراشفه التي تنشأ وهو جنين على بشرته الخارجية؛ أي إن فمه ليس سوى امتداد بشرته إلى داخله.
وبدهي أن الصور الذهنية التي تنشأ عن بعض الحواس تكون دون تلك التي تنشأ عن بعض الحواس الأخرى في مقدار تصوير العالم الخارجي على ما يشبه حقيقته؛ فالعين - مثلا - تصور العالم الخارجي للذهن بأدق وأوسع مما يصوره الأنف، وكذلك الأذن تصوره أكثر مما يصوره اللمس؛ ولذلك نجد الحيوانات التي دق سمعها وارتقت عيونها؛ مثل الإنسان والقرد، أرقى جميع الحيوانات في العالم.
وأول ما نرى دلائل العقل؛ (أي الروية والتدبر واكتساب التجارب) واضحة في السمك؛ فإن بعضها يحاور الشص وبعضها يتوقاه، وللسمك عيون لا تغمض، لا يعرف مقدار رؤيته بها، وله أذنان يسمع بهما، بدليل أنه يمكن تعويده الحضور للطعام بدق ناقوس، ولكن وظيفة الأذنين في السمك تتصل بمهمة التوازن في السباحة أكثر مما تتصل بمهمة السمع، والسمك - كما قلنا - يذوق أحيانا بجلده.
ويلي السمك في كبر الدماغ وفي دقة الحواس، الحيوانات البرمائية؛ كالضفدع، وهي تجيد النظر، بدليل أن لسانها يخطف الذبابة فلا يخطئ، ويمكن الضفدع أن تميز بين اللون الأحمر والأبيض، ومن غريب حواسها أنها تشعر بالضوء في أي مكان من جلدها، ومعنى هذا أنها لا تزال تحتفظ بالإحساس بالضوء كما كانت تفعل الحيوانات قبل تركز هذا الإحساس في العين.
والزواحف؛ كالثعابين والسلاحف، أكبر دماغا وأدق حواس؛ إذ هي يمكن تربيتها حتى تميز صاحبها من غيره من الناس وتلبي نداءه، وهي تخرج إلى مسافات بعيدة، وتعود إلى عشها مهتدية بذاكرتها مع التواء الطريق وتشعبها، وكلنا يعرف أن الثعبان يلتذ الصفير والغناء والموسيقى، وهذا برهان على دقة آذان الزواحف.
ويلي الزواحف الطيور، وهي تتفاوت في جرم الدماغ ودقة النظر، وأهم حواس الطيور هي عيونها التي تشرف بها على الأرض، حتى النسر لا يهتدي إلى الجيفة بأنفه، بل بعينيه التلسكوبيتين العظيمتين، وهي تجيد السمع أيضا بدليل استحسانها الغناء من ذكورها. والغناء عند بعضها سبيل الذكر إلى الأنثى، ولكنها مع ذلك سيئة التذوق؛ فالدجاجة تبلع حبة من الذرة من غير أن تذوقها، أو ربما كان ذوقها بها ضعيفا جدا.
وجرم الدماغ - كما قلنا - يتفاوت فيها؛ فللغراب والببغاء والصقر والعقاب أدمغة كبيرة؛ ولذلك تسير كلها سيرة العقل المشوب بأدنى غريزة، في حين أن الحمام - مثلا - صغير جرم الدماغ؛ ولذلك غريزته ظاهرة، يكفي دليلا على قوتها وضعف عقله أنه إذا نقل الإنسان بيض الحمامة من مرقده وأبعده نحو عشرة سنتيمترات فقط لما استطاعت الحمامة أن ترده إلى مكانه، بل تذهب إلى مرقده السابق وترقد.
ويلي الطيور في الرقي الذهني اللبونات، ومن اللبونات ما هو دون الطيور في ذلك، ولكن يمكن أن يقال بوجه الإجمال إنها أرقى من الطيور؛ فدماغها أكبر، وقبولها للتعليم والتجاؤها إلى الحيل دليل الرقي في عقلها، ولا شك في أن رأس اللبونات من حيث الرقي الذهني هو الإنسان والقردة العليا، ونظرة واحدة إلى أحط أنواع القردة تدلنا على تنبه عقلها؛ فالقرد دائم النشاط والتفزز والاستطلاع، فلست ترى قردا صامتا هادئا كالكلب أو القط أو الثور. •••
والفصل التالي ملخص من كتاب داروين «تسلسل الإنسان»، وفيه يرى القارئ كيفية معالجة داروين، شيخ نظرية التطور، لمثل هذا الموضوع؛ حيث يقابل القوى العقلية في الإنسان بمثلها في الحيوان، قال:
ربما خطأنا البعض في قولنا بتسلسل الإنسان من الحيوان لعظم الفرق بيننا وبين الحيوان في القوى العقلية، ولا شك في أن الفرق عظيم حتى بين المتوحش الذي ليس في لغته غير ما يعبر عن أربعة أشياء وليس فيها اسم للمسميات المعنوية، وبين أعلى الحيوانات مثل القرد، وهذا الفرق لا يزال عظيما حتى لو استأنسنا القرد ودجناه مثلما دجنا الكلب؛ حيث جعلناه أذكى وأرقى من سلفه الذئب أو ابن آوى؛ فإن الفويجيين يعدون من أحط الهمج، ومع ذلك كنت أدهش كلما رأيت الفويجيين الثلاثة الذين كانوا معنا ينظرون إلى الأشياء نظرنا ويرتأون رأينا فيها بعد أن أقاموا معنا قليلا في إنجلترا.
ولكن مع ذلك يمكننا أن نبين أن الاختلاف بين العقل الحيواني والعقل البشري غير أساسي كما نتوهم، ثم يجب أن نذكر أن الفرق بين أحط السمك وأعلى القرود في القوى العقلية أكبر وأعظم من الفرق بين القرد والإنسان، وهذا الفرق بين السمك والقردة يتدرج في درجات لا يكاد يميزها الإنسان لدقتها، كما يتدرج الفرق بين الهمجي الذي ينفض ابنه على الصخر ويقتله لأنه أسقط سلة المحار، وبين رجل مثل نيوتن أو شكسبير.
وغرضي الآن أن أبين أنه ليس ثمة اختلاف أساسي بين القوى العقلية في الإنسان والحيوان.
أول ما يلفت نظر الباحث في هذا الموضوع هو مشابهة غرائزنا لغرائز الحيوانات؛ فالذكر منا يحب الأنثى، والأم تحب طفلها، مثل ما يفعل الحيوان. وصغار الحيوانات، حتى صغار النمل، تلعب مثل صغارنا، والخوف يفعل بالحيوان مثل ما يفعل بنا، فيقف شعره وترتخي عضلاته ويرتجف جسمه، والحيوانات تحقد ويلذ لها الانتقام مثلنا، وقد شوهد أن إناث القردة تموت جزعا عند فقدان أطفالها، وأن الكلب يلحس يد صاحبه وهو يقتله، مما يدل على أن عواطف الحب والأمانة شديدة في الحيوانات.
وإناث القردة تتبنى اليتامى من نوعها وترضعها وتربيها، والغيرة مشاهدة بين الحيوانات، كما أنها تشعر بالحياء والتواضع والعظمة، فتجد الكلب الكبير يهزأ بنباح الكلاب الصغيرة، كأنه يترفع عن قتالها، وقد حقق الباحثون أن القردة تكره من يضحك منها أو يهزأ بها، ورأيت بنفسي قردا كاد يجن من الغيظ عندما كان حارسه يقرأ أمامه خطابا، وبلغ به الغيظ مرة أنه عض ساقه حتى أدماها، والكلب يفهم الفكاهة ويمازح صاحبه، فإذا ألقيت إليه عصا كي يأتي إليك بها قعد بعيدا عنك وهي معه، فإذا دنوت منه جرى منك وقعد، وهكذا، كأنه يتلذذ بالمزاح معك. (مواقف عاطفية مختلفة في الشمبنزي: الضحك، الحزن، التهيج، البكاء)
هذه لمحة من غرائز الحيوانات يراها القارئ تماثل غرائزنا، ولنتكلم الآن عن تلك الشهوات العقلية العليا كي نرى إن كانت الحيوانات تماثلنا فيها؛ فالحيوانات تتعجب من الأشياء الغريبة، وتتطلع إليها كأنها تريد أن تتعرفها مثلنا، وبعض الصيادين يلعبون أمام الغزلان ألعابا غريبة تستوقف أنظارها، فيصيدونها وهي لاهية بالتطلع إليهم، والقردة تخاف الأفاعي، ولكن الاستطلاع مع ذلك يدفعها إلى الدنو من صندوق الأفاعي، فكانت تقترب مع خوفها، فتفتح غطاءه وهي ترتجف، وتطل عليها ثم تهرب.
وقد جربت تجربة من هذا النوع، فأتيت بثعبان صناعي ووضعته بينها، فاصطفت حواليه وجعلت تحدق فيه، وتوترت أعصابها في هذه اللحظة لدرجة مضحكة، فقد وقعت مصادفة كرة فقفزت صارخة إلى أعلى القفص، كأنها حسبت أن الثعبان تحرك إليها.
والإنسان؛ خصوصا المتوحش منه، يحب التقليد، وكذلك الحيوانات العليا كالقردة، وصغار الحيوانات تتعلم أكثر ما تحتاج إليه من أمهاتها بالتقليد، والانتباه والذاكرة ظاهران في الحيوان؛ فالقط يقعد طويلا عند جحر الفأر منتظرا خروجه وافتراسه، والكلب يتذكر صاحبه بعد غيابه السنين.
والتصور، وهو تخيل الأشياء الغائبة، موجودة عند الحيوان، بدليل أنها تحلم، والكلب عند إهلاله؛ أي عندما يصيح ذلك الصياح بين النباح والأنين في ظلمة الليل، يتخيل أشياء تثير أشجانه.
والعقل من الصفات الإنسانية، ومع ذلك فالعلماء على رأي واحد الآن في أن أكثر الحيوانات العليا تعقل، وكلما تقدم البحث ظهر أن أكثر الأفعال التي تأتيها الحيوانات، وكانت تظن قبلا أنها نتيجة الغرائز، إنما هي نتيجة التقليد العقلي؛ فقد رأيت فيلا كان إذا رأى شيئا يقصر عنه خرطومه وأراد أن يتناوله مد خرطومه فوق هذا الشيء ونفخ، بحيث إن تيار الهواء الذي ينفخه يلتقي بالأرض فيتفرق ويدفع إلى ناحية الفيل هذا الشيء، ورأيت دبا كان في حوض مملوء بالماء، فكان إذا رأى لقمة بعيدة عنه أحدث تيارا بيده في الماء فتصل إليه اللقمة؛ فهذه الأعمال تدل على عقل.
وذكر «ونجر» أنه كان يعطي القردة بيضا لتأكله، فكانت أول ما عرفته تسحقه سحقا، فكان يضيع أكثر ما فيه على الأرض، ولكنها تعلمت بالاختبار بعد ذلك ألا تكسره إلا بالتؤدة وتقشره بأظافرها، وكان يعطيها قطع السكر ملفوفة فتسرع في أكلها، فوضع مرة زنبورا في الورق فكانت لا تفتح الورق من هذا الوقت إلا بعد أن تضعه على آذانها وتهزه لتحزر ما فيه.
وذكر آخر أن كلبا من كلاب الصيد رأى نفسه بين بطتين مصيدتين؛ إحداهما جريحة ولكنها تستطيع الطيران، والأخرى ميتة، وأراد أن يرجع بالاثنتين معا، فوقص عنق الحية وحملهما إلى صاحبه، والقردة تماثل الإنسان في الصفات العقلية، حتى الجنون يعرض لها كما يعرض للإنسان.
وقد ميز البعض الإنسان من الحيوان بأنه يستطيع الترقي والتقدم، وأنه يستعمل النار، ويستأنس الحيوانات، وأنه قادر على التفكير المجرد، وأنه يستعمل لغة ما، ويستعين بالآلات، ويقدر الجمال ... إلخ.
أما عن الترقي، فمعناه الانتفاع من الاختبارات الشخصية، والحيوانات تنتفع من التجارب التي تمر عليها؛ فالحيوانات المسنة لا تقع في الفخاخ بالسهولة التي تقع بها صغارها، والصائد لا يستطيع الصيد في موضع واحد دائما؛ لأن الحيوانات تعرف الفخ وتتوقاه.
وقد ارتقى الكلب من الوحشية إلى حالته الحاضرة، فالقرد يكسر البندق والجوز بالأحجار، والفيل يقطع أغصان الأشجار ويذب عن نفسه بها الذباب، وقد رأيت قردا يغطي نفسه بلحاف عندما عرف بأنه سيضرب، والقردة تتقاذف بالأحجار وقت القتال، كل هذا يدل على استعمال الحيوانات للآلات.
أما عن اللغة، فالقردة تتفاهم بأصوات محدودة، والببغاء تسمي المسميات، وغاية ما يختلف الحيوان عن الإنسان أن هذا الأخير أوسع منه باعا في التعبير عن الأشياء والأفكار، ويجب أن نذكر أن اللغة صناعة من الصناعات نتعلمها تعلما، فهي ليست ميزة طبيعية للإنسان، حتى الطيور تتعلم أحيانا أغاني الطيور الغريبة عنها وتعلمها لأولادها.
والحيوان يقدر الجمال مثل الإنسان؛ فالذكران من الطيور تتبختر وتتطوس للإناث وقت التلاقح؛ حتى تنتخب الأنثى أجملها لونا، وبعض الطيور يزين عشه بالأصداف الزاهية، وهي تتلصص وراء الطيور لتخطف منها جملة ريشات.
والحاصل أنه ليس ثمة فرق نوعي بين الإنسان والحيوان في القوى العقلية.
هذه هي خلاصة صغيرة لداروين، يقف منها القارئ على ناحية معينة من التطور عالجها هذا العبقري الذي وضع التعقل المادي للكائنات الحية مكان التعقل الغيبي.
ظهور الإنسان
منذ عدة سنوات مرت إحدى السفن في المحيط الأطلنطي حين كانت تجتازه إلى أميركا، فوجدت البحر مغطى بآلاف من نوع واحد من السمك الميت، فأخبر ربانها ولاة الأمور في الولايات المتحدة، فأنفذت الحكومة سفينة كي يحقق رجالها هذه المسألة، وذهبت السفينة ووجدت عشرات الآلاف من السمك لا تزال طافية على الرغم مما أكلته سائر الأسماك منه، وأخذوا يبحثون عن علة فناء هذا السمك، فوجدوا أن «تيار الخليج» الدافئ قد انحرف في سيره فدخل في منطقة باردة فرفع درجة حرارتها، وكان هذا السمك معتادا أن يعيش في برودة نسبية، فلما تغيرت أحوال البيئة لم يقو على مقاومة الحرارة، فمات جميع أفراده إلا ما شذ وتحمل الحرارة، وقد أنقذت حكومة الولايات المتحدة هذه الشواذ واستولدتها حتى تكاثرت.
فما حدث في بضع السنوات الماضية كان يحدث في ملايين السنين الماضية؛ فإن مناخ العالم كان يتغير؛ فالأقاليم الحارة تعود باردة فتموت فيها الأحياء التي لا تقوى على مكافحة البرد، والعكس بالعكس، فنحن نعرف أن النخل لا ينمو إلا في البلاد الحارة ، ومع ذلك قد وجدت متحجراته حول القطب الشمالي والأرض الخضراء في كندا، مما يدل على أن المناخ هناك كان حارا مدة ما.
وقد أصاب العالم عصور جليدية تبلغ أربعة أو خمسة، كان البرد ينتشر فيها شديدا في عدة أمكنة، ومعتدلا في أمكنة أخرى، فكانت الأحياء التي لا تستطيع مكافحته تموت، وتنقرض بذلك أنواع من الحيوان والنبات.
وأهم ما يهمنا من هذه العصور الجلدية اثنان: ذاك الذي أباد الزواحف الكبرى بعد أن كانت تملأ العالم، وبعد أن بلغ حجم بعضها ستة أو سبعة أضعاف الفيل، ثم يهمنا أيضا العصر الجليدي الأخير الذي انتهى بظهور الإنسان، وهذا العصر لا تزال بقاياه ظاهرة في جو أوربا البارد، ولا تزال قمم جبال الألب، وهي إعجاز الجبال القديمة، مغطاة على الدوام بالثلج صيفا وشتاء.
فهذه العصور الجليدية كانت بمثابة الامتحان الشاق لا يجوزه إلا ذو الحيوية القوية أو العقل الذكي أو القانع بالطعام القليل؛ فقد قضى أحد هذه العصور على الزواحف الصغيرة، التي لا تزال تعيش بيننا للآن عيشة سرية في ظلام الليل؛ لأنها قنعت بطعام قليل في وقت انتشر فيه البرد، فقل نمو النبات، فلم يعد فيها ما يكفي غذاء الزواحف الكبرى فانقرضت، ولم تكن وسائل تنازع البقاء قائمة على العقل أو القوة الجسدية؛ لأن الدماغ كان في ذلك الوقت صغيرا جدا، فكان إدراك الدينصور - أحد هذه الزواحف - لا يزيد على إدارك طفل لم يكمل عاما من عمره، ولم يكن التنازع متوقفا على القوة الجسدية؛ لأن أقوى هذه الزواحف كان أضخمها جسما وأكثرها طعاما، فلما قل الطعام للبرد بادت كلها، ما عدا حيوانات صغيرة قنعت بالقليل من الطعام، بل يقول البعض بانقراضها كلها.
أما في العصر الجليدي الأخير فقد أتيحت فيه الفرصة للحيوانات أن تتنازع بعقولها؛ لأن الدماغ كان قد بلغ حجما يؤبه به، واتسع إدراك الحيوان، ونحن نعرف ذلك بما نجده الآن من متحجرات الحيوان قبل هذا العصر وبعده؛ فقد تضاعف حجم الدماغ بعد العصر الجليدي في جميع الحيوانات تقريبا، مما يدل على أن النزاع بينها كان قائما على قوة الدهاء وسعة الحيلة والقدرة على الاستنباط.
فالعصر الجليدي جعل الحياة شاقة على الأحياء؛ لأن الطعام قل قلة محسوسة، ولأن مطالب الجسم زادت بزيادة البرد، وخرج الإنسان سيدا للكائنات من هذا العصر؛ لأنه أكبرها دماغا، وهو لا يزال كذلك للآن؛ فليس في العالم الآن حيوان له دماغ في قدر دماغنا أو أكبر منه سوى الفيل والقيطس، لكن دماغ كل منهما بالنسبة إلى جسمه أصغر من دماغنا بالنسبة إلى جسمنا، أما دماغ الجاموس والجمل والبقر فأصغر من دماغنا نسبة وإطلاقا مع ضخامة أجسام هذه الحيوانات.
ولكن لم يكن الدماغ وحده العامل الوحيد في سيادة الإنسان؛ لأننا لو فرضنا أن للثور دماغا مثل دماغ الإنسان لرأينا أنه لا يستطيع أن يعمل شيئا عظيما، وإنما ساعد الإنسان على التفوق ثلاثة أشياء:
أولها:
أننا كنا نعيش قبل العصر الجليدي على الأرض والأشجار، نفترش غصونها ونعترشها، فقويت فينا حاسة النظر، والنظر أكثر الحواس تذكية للعقل؛ لأنه لو كانت معيشتنا تستدعي قوة الشم أو السمع دون النظر لما ساعد هذا على حدة ذكائنا؛ لأن النظر يجمع عدة صور أمام الذهن فيفسح له مجال التصور، بخلاف الشم أو السمع فإنهما يضيقانه إذا قوبل عملهما بعمل النظر.
ثانيهما:
أننا لأننا كنا نتسلق الأشجار، نشأت لنا أيد ممسكة صرنا نستطيع أن نمسك بها الآلات أو نصنعها بها، والحضارة تحتاج مهما كانت منحطة إلى آلات، فلو فرضنا أنه كان للثور عقل مثل عقلنا، وكان محروما من يد مثل يدنا لما انتفع بعقله؛ لأنه لا يمكنه أن يصنع آلة بيديه؛ أي ساقيه الأماميتين.
ثالثا:
أننا لنا لسان ينطق، ولولا هذا اللسان لما انتفعنا بأيدينا وعقلنا إلا قليلا؛ لأننا كنا - حينئذ - نشبه جماعة من الخرس يعيشون معا، فالذي ساعد الإنسان على التفوق أربعة أشياء: عقله ونظره ويده ولسانه.
وليس شك في أننا كنا نتسلق الأشجار في الزمن القديم، فإن ابن عمنا القرد وابن عم جدنا الليمور لا يزال كلاهما يعيش على الأشجار للآن، ولكن الإنسان لم يقصر معيشته على الأشجار منذ زمن قديم جدا، كما يدل على ذلك تركيب قدميه اللتين تختلفان الآن عن أقدام القردة، بل ربما كانت أقرب إلى أقدام الليمور منها إلى أقدام القرد.
وقد سبق ظهور الإنسان عدة حيوانات هي دون الإنسان وفوق القردة الحاضرة في حجم الدماغ، وقد انقرضت كلها بظهور الإنسان. (أسلافنا: في أعلى «الزباب» حيوان صغير في قدر الجرذ، يأكل الحشرات. وفي أسفل باليمين «الليمور» وهو أصغر في الحجم من القط، وفي ذيله السميك حلقات. ثم الطرسيوس أو «الطرسير» الذي سبق القردة، والذي يسهر بالليل وينام النهار، ودماغه قريب من الدماغ البشري)
ووجدت حديثا في روديسيا في إفريقيا الجنوبية جمجمة طفل من هذه الأنواع المنقرضة، ووجد في جاوة من مدة جمجمة من هذا النوع أيضا، واختلاف العلماء عنها، هل هي جمجمة قرد أم جمجمة إنسان، دليل على أنها يمكن أن تعد حلقة الاتصال بيننا وجدودنا.
وكذلك لم يظهر إنسان واحد، بل ظهر عدة أناسي قد عرف منهم خمسة الآن، نحن أحدها، ووجدت جماجم الأربعة الأخرى، وهي: (1)
جمجمة إنسان بكين الذي انقرض منذ نصف مليون سنة. (2)
جمجمة الإنسان النياندرتالي، الذي يظن بعض العلماء أن دماءه لم تختلط بدمائنا لكراهية نشبت بيننا وبينه؛ لقبح صورته وكثرة الشعر في بشرته، فأفنيناه، وكان له شيء من الحضارة والدين. (3)
جمجمة إنسان هيدلبرج الذي امتزج أيضا بنا. (4)
إنسان كرومانيون الذي امتزج بنا.
ولا يمكن الجزم بالمكان الذي نشأ فيه الإنسان الحاضر، وإنما يرجح أنه نشأ في مكان بارد، والذي يدعو إلى هذا الترجيح أن أقدر الحيوانات على مقاومة برد العصر الجليدي هي - بالطبع - تلك التي كانت تعيش في مكان بارد قبل مجيء هذا العصر؛ لأنها تكون قد تهيأت لشدائده بعض التهيؤ.
ارتقاء العقل البشري
الجهاز العصبي في الحيوان هو أداة استجابة الحي للعوارض الخارجية؛ لذلك كان أول ظهوره على السطح الخارجي للجسم، حتى إذا تركز بعض الحواس في الرأس؛ كالسمع والشم والنظر والذوق، صار مكان الرأس مركز القوى العصبية للحيوان، وأخذ الرأس يكبر بالتدريج؛ لأن هذا الجهاز صار ينمو بتقدم الحيوان في التطور؛ فأكبر الحيوان دماغا بالنسبة إلى جسمه هو الإنسان، وهو آخر وأعلى حلقة في سلسلة التطور.
ونحن نعرف من قصة التطور أن القشريات؛ مثل الجنبري، قد سبقت السمك، والسمك قد سبق الزواحف، والزواحف قد سبقت الطيور، وأن اللبونات أكثر تطورا من الطيور، فإذا نحن قسنا أدمغة هذه الحيوانات وجدناها متناسبة مع درجة تطورها؛ فدماغ الغراب - مثلا - يزيد على دماغ السمكة التي في حجمه بنحو ثلاثين ضعفا.
وقد كان من ضروب اللباقة التي يعتد بها المعارضون لنظرية داروين قولهم إن للإنسان عقلا وأن للحيوان غريزة، فنحن نعقل وهو لا يعقل، ولكن هذا الاعتراض قد ضعف الآن أو بطل، وليس شك في أننا إذا نظرنا إلى الحشرات العليا؛ كالنمل والنحل والزنانير، نجد 99 في المئة من أعمالها غريزة محفوظة آلية لا أثر للعقل فيها، ولكن بذرة العقل لا تزال فيها، ثم إننا إذا نظرنا إلى الإنسان، وهو أرقى الحيوان عقلا، وجدناه يعتمد في أكثر من نصف أعماله على الغريزة، وحسبنا دليلا على ذلك أن أكبر ما يدفعه إلى السعي والنشاط غريزتان؛ هما البحث عن الأنثى، والبحث عن الطعام.
وليست الغريزة سوى عمل متكرر أشبه بأعمالنا التي تنطبع في العقل الباطن فيؤديها بلا جهد أو التفات.
ولكن دماغ الإنسان مع ذلك يفوق دماغ سائر الحيوان، بحيث إن الهوة التي تفصله عنها كبيرة جدا؛ فلا بد من أن نعتبر الظروف التي دعت إلى هذا التفوق، وإليك أهم هذه الظروف: (1)
أن الإنسان حيوان له يد بها إبهام. (2)
أن له عينين في وجهه. (3)
أن له لغة.
هذه هي العوامل الثلاثة التي ساعدت على كبر دماغه دون سائر الحيوان، فهو يشترك مع جميع الحيوانات، بل جميع النبات، في أنه قاسي ضروبا من تنازع البقاء أهلكت منه كل ضعيف أو أبله، كما أنه كابد مشاق العصر الجليدي الأخير، وهذه الميزات قد كتبت له التفوق على سائر الأحياء. (تطور المخ من السمكة إلى الإنسان: مخ سمكة، ثم مخ زاحفة، مخ طائر، مخ حيوان ثديي، مخ أورانج أوتان، وأخيرا مخ إنسان)
وربما لا يوجد في قصة التطور شيء - باستثناء العين - أعجب من اليد؛ فإننا للآن لا نعرف كيف تطورت؛ إذ لسنا نجد في الحيوانات الدنيا يدا ناقصة تأخذ في التدرج للكمال حتى تصل للإنسان، كما أننا لا نجد يدا ذات ثلاث أصابع تترقى إلى أربع ثم إلى خمس، وهلم جرا. (زعنفة سمكة وترسيم تطورها إلى اليد)
لا، إنما اليد في جميع حيوان اليابسة الفقاري تحوي خمس أصابع الآن، أو كانت تحتوي على ذلك العدد قديما، كما هو الشأن - مثلا - في حافر الفرس أو ظلف الثور أو جناح الطائر أو زعنفة الدلفين.
ومما يدل على قدم اليد، وأنها ليست حديثة التطور، أنها أقوى أعضاء الطفل الرضيع الذي يبلغ أسبوعين أو ثلاثة من العمر؛ فإن الطفل في هذه السن يمكنه أن يحمل جسمه في الهواء بأن يتعلق بعصا بيديه. (صورة فوتوغرافية تمثل قوة اليدين عند المولود) (حافر الفرس وكيف تطور من الأصابع الخمس إلى أن صار أصبعا واحدة كما تدل على ذلك متحجرات الفرس)
والأرجح أن الحيوان عندما خرج من الماء إلى اليابسة استعمل زعانفه للتسلق كما يفعل بعض السمك الآن على شطي النيل، فلما صارت الزعنفة يدا بقيت كذلك إلى أن وصل الإنسان إلى مرتبة الإنسانية، أما في سائر الحيوان فقد حدث التخصص، فصارت الأصابع حافرا أو ظلفا أو مخلبا أو جناحا، واندغمت في الجسم ثانيا كما في الثعبان.
ومن ذلك نفهم أن المبالغة في التخصص تؤذي الحيوان وتمنعه من التقدم؛ لأنها تؤدي إلى الجمود، والتطور يحتاج إلى اللدونة والمرونة بحيث يستطيع العضو أن يؤدي جملة وظائف في وقت واحد، ومن هنا نرى الشبه كثيرا بين يد الضفدع ويد الإنسان على بعد ما بينهما، ونرى الاختلاف كبيرا بين الجمل ويد الإنسان على قرب ما بينهما.
فيدنا أقل أيدي الحيوانات تخصصا، ومن هنا ميزتها؛ فإننا نؤدي بها جملة وظائف، ويدنا تختلف عن يد القرد من حيث إن لنا إبهاما تمسك الأشياء، أما إبهام القردة فلا فائدة منها لهذا الغرض. وأقرب الحيوانات إلينا من هذا الاعتبار هو الليمور الذي سبق القردة في الظهور، ولكنه بالطبع دونها في حجم الدماغ.
ولليد تأثير في كبر الدماغ؛ لأن أهم أعمال اليد هو تناول الأشياء ومطاوعة الدماغ على تكييف المادة كما يقتضيه خياله، وهي أيضا آلة الدفاع للإنسان، فمن هذه الاعتبارات تجد اليد الخفية اللبقة تساعد الدماغ القوي على البقاء، وأنه لولا اليد لما كان للإنسان حضارة أو ثقافة أو أي نوع من أنواع الرقي، فهناك تفاعل بين اليد والدماغ؛ فالدماغ الكبير ذو العقل الحاد يخترع الآلة الحسنة للدفاع أو الهجوم، واليد اللبقة تساعده على تجسيم خياله؛ فكلاهما يعمل لبقاء الآخر ويزيده كفاية. (يد الليمور وفي السبابة مخلب)
ومن عوامل تكبير الدماغ في الإنسان تحول العينين من صدغيه إلى وجهه؛ فإن العينين في جميع الحيوانات الفقارية تقعان في الصدغين كما هو ظاهر في السمك والطيور والبقر، فإذا أراد الديك أن ينظر إلينا أمال رأسه كي ينظر بعين واحدة، فيتراءى لنا كأنه يصعر خده، وإذا ركبنا فرسا وأراد أن ينظر الطريق أمامه ثنى عنقه قليلا كي ينظر بعين واحدة.
وقد كان الإنسان كذلك قديما، كما يدل عليه تطور جنينه، فإن العينين تظهران في الصدغين أولا، فنحن والقردة العليا نمتاز على سائر الحيوان بهذه الميزة العجيبة التي تتيح لنا رؤية الأشياء بعينين معا لا بعين واحدة، فيستقيم نظرنا للأشياء التي تتجسم لنا على حقيقتها وندرك أبعادها.
فجميع الحيوانات بالنسبة إلينا فيما يشبه العور، بل هي أكثر من ذلك؛ لأنه قد تختلف الصورة التي تنقلها إلى ذهنها إحدى عينيها عما تنقله الأخرى، ولعل هذا هو السبب في إجفال بعض الحيوانات عند رؤية الإنسان وهو على مسافة بعيدة منها؛ إذ إن وضع عينيها لا يجعلها تدرك البعد الصحيح بينها وبينه؛ ولذلك فالحيوان يعتمد كثيرا على حاسة الشم لأن عينيه لا تكفيانه، ومعظم وجهها ذاهب في الأنف لأن الخياشيم تستغرق أكثره.
وتعزى القمحدوة؛ أي الجزء الخلفي الناتئ من رأس الإنسان، إلى نمو العينين، وقد عرف العلماء هذا لأنه إذا إيف هذا الجزء إيفت العينان، ثم إن زوال العينين من الصدغين أتاح الفرصة للدماغ بأن يتسع ويضخم من الجانبين.
ومما ساعد دماغنا على النمو، هذه القامة المنتصبة، فنحن نحمله حملا عموديا فلا يثفلنا. (دماغ الإنسان كثير التلافيف، ودماغ القرد قليل التلافيف)
ومما زاد حجم الدماغ توفق الإنسان إلى لغة، فإنه لا يكاد يكون للدماغ فائدة بلا لغة تعبر عن أغراضه، ولا نقصد التعبير عن أغراضه لغيره بل لنفسه أيضا؛ فالخاطر لا يزال مبهما غامضا حتى تقيده اللغة بالألفاظ، فالإنسان الذي يعبر عن خاطره بالألفاظ يفهم ما يريد ويقصد إليه بلا تردد، والجماعة التي تتفاهم تعيش وتتعقل أكثر من غيرها، وربما كان افتقار القردة إلى لغة أهم ما يمنعها من الرقي، فهي تشبه الآن جماعة خرسا من الناس قد قطع إبهامها فلا تعرف كيف تخترع آلة ولا كيف تتفاهم، دع عنك صغر دماغها.
فإذا قيل لك لماذا لا يصير القرد إنسانا فاذكر أن دماغ القرد أصغر من دماغنا، وأنه أخرس، وأن يده بلا إبهام تذكر، فهو لا يتناول شيئا إلا بارتباك وثقل.
فاليد واللغة والعين تعتبر من أهم أسباب نمو الدماغ في الإنسان؛ فقد كان بين هذه الثلاثة وبين الدماغ تفاعل مستمر كلاهما يؤدي إلى رقي الآخر.
نحن والقردة
مما يجعل نظرية التطور بعيدة عن أفهام الجمهور أن حدائق الحيوان لا تحتوي في الغالب إلا على الأنواع الدنيا من القردة، فإذا قال أحد باشتراك الإنسان والقرد في الأصل لم يخطر ببال القارئ إلا هذه القردة الصغيرة القميئة التي يسير بها القرداون في الشوارع تلعب أمام الناس وتهرج، فيستبعد لذلك فكرة الصلة بين الإنسان والقرد، بل يكره النظرية لما يرى فيها من الإزراء بقدره وبنوعه.
ولكن هذه القردة الصغيرة المزينة عادة، لكل منها أليتان حمراوان من الخلف، والتي تلعب ألعاب البهلوان، لا تنتمي إلى الإنسان إلا بمقدار ما ينتمي القط إلى الأسد، بل القط أقرب إلى الأسد من هذه القردة إلينا.
ولكن هناك أنواعا أربعة من القردة «العليا» قلما نراها في حدائق الحيوان، وظني أنه ليس في حديقة الجيزة الآن سوى واحد منها، وهذه الأنواع الأربعة هي: الجبون والأورانج أوتان في آسيا، والشمبنزي والغوريلا في إفريقيا.
والجبون أقلها رقيا إذا اعتبرنا المعنى الإنساني لهذه اللفظة، وهو أيضا أصغرها جسما، ثم هو إذا وقف كما يقف الإنسان مست أطارف يديه الأرض لطول ذراعيه، فهما أطول ذراعين في العالم، لا تجد لهما مثيلا في أي حيوان آخر إذا اعتبرنا النسبة إلى الجسم، وليس له في يديه من إبهام سوى العجز القصير، وليس له ذنب، ورأسه ووجهه كلاهما يشبه رأس الإنسان ووجهه، غير أن الأنف مفرطح، وترتيب أسنانه مثل ترتيب أسنان الإنسان، وتنبعت من عينيه السوداوين نظرة هدوء ليس فيها تلك المسحة الكاريكاتورية التي نراها في القردة الدنيا، وحنجرته تشبه حنجرة الإنسان؛ ولذلك يصوت تصويتا عاليا، ويفعل ذلك جماعة كأنه يلتذ صوته، وهو يعيش في جزر ملقا وسومطرا.
والجبون أبعد القردة العليا منا من حيث المشابهة في هيئة الجسم ومزاج النفس والخلق.
ويعيش في جزر سومطرا وملقا وبورنيو قرد آخر يدعى الأورانج أوتان، وهو يشبه الإنسان في صغره أكثر مما يشبهه عندما يتقدم في السن؛ فأطفاله تكاد تكون أطفالا بشرية تتدلل على صدر حاملها، وتضحك وتبكي، وإذا تركها حاملها على الأرض وسار بعيدا عنها أخذت في الصياح وضرب الأرض بيديها كما تفعل أطفالنا.
وعينا الأورانج صغيرتان، وهما قريبتان الواحدة من الأخرى، واليدان أطول من الساقين، وأصابع اليدين طويلة جدا إلا الإبهام فإنه قصير جدا، وليس في القدمين أظافر أحيانا؛ أي إنه هنا قد سبقنا في التطور، وهو كاس بطبقة خفيفة من الشعر الأسمر الذي يضرب إلى الحمرة. (الجبون: إذا وقف مست أطارف يديه الأرض)
وهو يعيش في الأشجار، ولا يحسن السير على قدميه، ويجهل السباحة ولا يحاولها؛ ولذلك توجد منه سلالات بعدد الجزائر التي يعيش فيها، وإن كان ما يفصل الجزيرة عن الأخرى خليج صغير، وهو يقطع الغصون ويبني منها عشه، ويعيش جماعات أشبه بالعائلة منها بالقطيع.
ولفظة «أورانج أوتان» تعني في لغة أهل بورنيو «إنسان الغابات»، وهي تدل على إحساس الأهلين نحو هذا الحيوان، وهم يعتقدون أنه يمكنه أن يتكلم، ولكنه يتعمد الصمت خشية أن يستخدمه الإنسان ويسترقه، وبعض الهولنديين في المستعمرات يقتنون صغار الأورانج لتعلب مع أطفالهم. (الأورانج أوتان: ذكر صغير السن، له لحية وشارب)
ويعيش الشمبنزي في إفريقيا، وهو أصغر جسما من الأورانج والغوريلا، وأكثر الناس يعرفونه للأعمال المختلفة التي يؤديها بحذق ومهارة على المسارح، ومزاجه لا يتغير إذا أسن، وهو مفراح لعوب، فيه شيء من الخبث، وهو يبني عشا مثل الأورانج، ويزيد عليه سقفا يقيه المطر ويتعهده بالترميم من وقت لآخر. (الشمبنزي: ذكر أصلع الرأس)
والغوريلا أكبر القردة العليا جسما، ويده أقرب الأيدي في تركيبها إلى يد الإنسان، وإن كانت إبهامه لا تختلف عن إبهام القردة الأخرى في الصغر، وهو يحمل غصون الأشجار ويضرب بها عدوه أحيانا، ولكنه يعتمد في الأكثر على قوة ذراعه التي تكفي لطمة واحدة منها لأن تقتل إنسانا.
وهو يعيش فيما يشبه النظام العائلي، فإذا جاء الليل انحدر من الشجرة ونام عند أصلها؛ كي يحرس الأنثى وأولادها في عشهن على الشجرة، وفي علاقة الغوريلا بأنثاه وبالشيوخ المسنة من نوعه ما يشبه الاحترام والوقار، وهو يفهم معنى الانتقام، ويغير على منازل الزنوج الذين يؤذونه، ولم يدخل إلى الآن (1927) في حدائق الحيوان في أوربا غوريلا ذكر، وقدم الغوريلا هي الوحيدة بين أقدام القردة العليا التي لا تزال يدا تؤدي وظيفة التناول والإمساك.
وطفل الإنسان مثل أطفال سائر الحيوان اللبون؛ يولد وذراعاه تساوي في الطول ساقيه، فإذا شب زاد طول ساقيه على ذراعيه، ولكن القردة العليا بعكس ذلك تأخذ الذراعان في الزيادة الفاحشة حتى يبلغ النمو حده؛ ولا سبب لذلك إلا أن القردة قد اتخذت الأشجار وطنا لها فاحتاجت إلى الذراع الطويلة، بخلاف الإنسان الذي رضي بالمقام على الأرض.
ثم هناك فرق آخر في نمو الدماغ؛ فإن أطفال القردة تشبه أطفال الإنسان في هيئة الرأس والوجه، ولكن طفل الإنسان يستمر دماغه في النمو بلا عائق إلى أن يبلغ سن الخامسة عشرة أو أكثر، أما طفل القردة فإن دماغه يقف عن النمو بينما يأخذ فكاه في النمو المفرط، وليس شك في أن الإفراط في نمو الفكين والأسنان عند القردة العليا هو أحد الأسباب لتوقف نمو الدماغ عندها أيضا؛ فإن عضلات الفكين تمتد على جوانب الرأس وخلفه وتعوق نموه؛ إذ هي أشبه بحبال مشدودة حول الرأس تمنعه من أن يتحيز مكانا أكبر.
وقد كان داروين يحتاط في كل ما يقوله؛ فلم يتورط مرة في القول بأن أصل الإنسان قرد، ولم يقل ذلك «هكسلي» أيضا، وإنما قال إن الفرق بين القردة الدنيا وبين العليا أكبر من الفرق بين هذه وبين الإنسان، أما «هيكل» فقد تورط وقال إن أصل الإنسان قرد، والصحيح أننا من أسرة واحدة ترجع إلى حد بعيد، لم يكن قردا ولم يكن إنسانا. (الغوريلا: ذكر صغير السن في حوالي العاشرة من عمره)
فإنه يبدو من تركيب أجسام أطفال الإنسان وأطفال القردة أن هذه القردة والإنسان يشتركان في أب واحد هو في الأغلب - كما قال كروكشانك - «الإنسان القردي المنتصب» الذي وجدت أحافيره في جاوة، والأغلب أن هذا الإنسان لم يحصر معيشته في الأشجار أو على الأرض، وإنما عاش بينهما، فلما خرجت ذريته وانتشرت في العالم عمد بعضها إلى الأشجار والغابات فعاش فيها وفقد إبهامه، واعتمد على فكيه في الافتراس، فطالت ذراعاه ولم ينم دماغه، واعتمد بعضها على الأرض فعاش فيها، فاحتفظ بإبهامه واستعمل السلاح يحمله في يده، فلم يحتج إلى تقوية فكيه، فكبر دماغه وانتصبت قامته.
ويؤيد هذه النظرية أننا نجد إنسان آسيا وهو المغولي، يشبه قرد آسيا وهو الأورانج؛ فتخطيط الكف يتفق في قرد الأورانج والإنسان المغولي، ويختلف عن تخطيط الكف في إنسان إفريقيا وأوربا والقردين المعروفين في إفريقيا، وكذلك قعدة الآسيويين هي نفسها قعدة الأورانج؛ فكلاهما يقعد على أليتيه ويطوي ساقيه تحته، وهذا بخلاف القردة والناس في إفريقيا وأوربا، حيث المشابهة كبيرة بين الإنسان الأوربي وبين الشمبنزي. (الغوريلا: أنثى مضجعة على جانبها)
حياة الأورانج أوتان
الأورانج أوتان فصيلة من فصائل القردة العليا البتراء الأربع، وقد ألممنا بشيء من حياة هذه القردة على وجه التلخيص، ولكن يحسن بنا أن نفصل حياة أحد هذه القردة بعض التفصيل.
فالقردة العليا تمتاز كلها بالمسحة البشرية التي على وجوهها، ولو تأملت وجهها وهي تلحظ ما حولها بعينيها دون أن تحرك رءوسها، أو لو نظرت إليها وهي تتنهد، أو تقطب حواجبها، أو تحك، أو تتأمل، أو تحاول استكشاف شيء، لشعرت بأنك أمام حيوان قد أوشك أن يكون إنسانا.
والأورانج يعيش في سومطرا وبورنيو، وهو ضخم الجثة كبير البطن، ووجهه خلو من الشعر، عليه مسحة الكآبة، وللذكر دون الأنثى خدود كثيفة تجعل الوجه عريضا كأنه إنسان صيني، ووجهه أسمر إلى سواد، ولكن بجبهته شيء من الحمرة الخفيفة، وشفتاه متحركتان، وهما تبرزان إلى الخارج عندما يأكل.
وليس للأورانج ذقن كما للإنسان، ولا فرق بين أذنه وأذن الإنسان، والذراعان طويلتان تبلغان عقبه، وأصابع يديه مشتبكة عند أصولها بغشاء، ولكن إبهامه قصيرة، وكثيرا ما تخلو من المفصل الأخير، ظهر يده قليل الشعر، وإبهام القدم قصيرة جدا أيضا، وكثيرا ما تخلو هي وسائر الأصابع من الأظافر، وهو هنا قد سبقنا في التطور؛ لأن مصيرنا القريب إلى ذلك أيضا.
وقلما يتشابه اثنان من الأورانج في حجم الرأس، ولكن رأس طفل الأورانج يشبه رأس الإنسان، ووجه طفله يشبه الوجه الصيني بين الناس.
وعدد أضلاعه يساوي أضلاع الإنسان، وليس للأورانج فلكة كما هو الحال في الإنسان والشمبنزي (والفلكة هي اللحمة المتدلية من منتهى الحنك وتقع عند أصل اللسان). (الأورانج أوتان في عشه)
ويعيش الأورانج منفردا في أعالي الأشجار، ولا يعايش الأنثى إلا وقت التلاقح، وطريقة التلاقح هي الطريقة البشرية، البطن يلي البطن، وعضو التناسل عند الذكر قصير غليظ يشبه عضو التناسل عند الإنسان الصيني، وإذا سارت الأنثى صحبها على الدوام واحد أو اثنان من أولادها؛ أحدهما رضيع، والآخر طفل يمشي، وهي لا تتئم وإنما تلد طفلا واحدا، ولا يبلغ الطفل ويكتمل نموه قبل الثالثة عشرة أو الخامسة عشرة.
وإناث القردة تحيض مثل أنثى الإنسان، وهذا بخلاف إناث سائر الحيوان التي لا تحيض أبدا، وليس الأورانج لبق الحركة خفيفا في تنقله على الأشجار، وإنما يتحرك بروية وتفكير، حتى يتوهم الناظر إليه أنه مرتبك، وهو يقفز من غصن إلى غصن كما يفعل البهلوان، وعندما يرغب في الانتقال من شجرة إلى أخرى يجمع في يده بعض الغصون، ثم يتحقق من متانتها ويقذف نفسه على الشجرة الأخرى. (عشان من عشاش الأورانج أوتان)
أما على الأرض فيمشي مشيا سيئا، وهو يعتمد على يده كأنها عكازه، وإذا كانت الأرض مكشوفة فإن الإنسان يدركه في السباق، وهو في مشيته يشبه رجلا مسنا قد توكأ على عكازته، ولكن قلما ينزل الأورانج من الأشجار إلا مضطرا.
وإذا أراد الأورانج أن يشرب ملأ كفه وشرب، فهو لا يضع فمه على المجرى مباشرة كما يفعل الحيوان.
وليس لعشه سقف، بل هو أشبه بمقعد منه بعش، وهو ينام عليه في الليل، فإذا كان النهار انسطح عليه وبسط ذراعيه على الغصون التي فوقه، وهو يأكل الجوز وبعض أوراق الشجر، ووجبته هي الغداء في الظهر.
وهو شرس متوحش إذا أسر وهو كبير، ولكنه وديع لطيف إذا استؤنس وهو صغير، ولكنه قلما يعيش إلى سن البلوغ في الأسر، وهو يفر من الإنسان، إلا أنه إذا وجد الطريق مسدودا وتحقق من الوقوع دافع عن نفسه وحمل على من أغار عليه، وربما قتله، وهو يدافع عن نفسه بيده وأسنانه الحادة، وقد وجد بين ما صيد منه في بورنيو عدد كبير قد فقد بعض أصابعه فيما دار بينه وبين خصومه من القتال.
وإذا قعد الأورانج اتخذ هيئة بوذا؛ أي الهيئة الصينية، فيقعد على أليتيه ويطوي ساقيه أمامه أفقيا، وخطوط كفه أيضا تشبه خطوط كفوف المغول؛ كالصينين والتتار، وتختلف عن خطوط الكفوف عند الأوربيين والإفريقيين وقردي إفريقيا؛ الشمبنزي والغوريلا.
مسألة الدماغ البشري
نستطيع أن نلخص نظرية التطور فيما يلي: (1)
أننا البشر، وكافة أنواع الحيوان مما هو دون الإسفنج وما يعلو عليه؛ كالحشرات والسمك والثعابين والطيور والسباع والبهائم، نشترك في أصل واحد، وبيننا وبين هذه الحيوانات قرابة بعيدة. (2)
أننا البشر خاصة ننتمي إلى أسرة متعددة الأنواع؛ منها الزباب والطرسيوس والليمور والقرد، وهذه هي الأسرة الكبرى، أما العائلة الصغرى التي ننتمي إليها فهي القردة العليا، وليس معنى هذا أن القردة العليا الحاضرة هي الأصل الذي نرجع إليه، وإنما المعنى أننا نحن وهذه القردة من أصل واحد، وبيننا وبينها قرابة وثيقة؛ نحن أبناء عمومة. (3)
أن التطور لم ينقطع أو يقف؛ فإن جميع الأحياء - حيوانا كانت أم نباتا - لا تزال في تغير جيلا بعد جيل، والتغير يتراكم حتى ينقلب من الكم إلى الكيف فيصير تطورا.
وأعظم عقبة يصطدم بها المبتدئ في درس التطور هي الفرق العظيم الذي يتراءى له بيننا وبين القردة العليا من حيث القدرة على التفكير، هذا التفكير الذي انتهى بين البشر إلى إيجاد حكومات ومجتمعات ومؤسسات ثقافية عديدة، والواقع أن الفرق بين الدماغ البشري والدماغ القردي كبير جدا؛ فإن وزن الأول 48 أوقية إنجليزية في المتوسط، ووزن الثاني (في الغوريلا) 20 أوقية إنجليزية. وبكلمة أخرى يبلغ تجويف الجمجمة البشرية 1350 سنتيجرام مكعب، وتجويف الجمجمة القردية 700 أو 800 سنتيجرام مكعب.
وهذا الفرق كبير جدا إذا اعتبرنا المقارنة بين الإنسان والقرد وحدهما، ولكنه ليس كذلك إذا اعتبرنا سائر الحيوان؛ فإن هذا القرد الذي لا يزيد وزن دماغه على 20 أوقية قد لا يزيد وزن جسمه على 150 رطلا، ومع ذلك قد تبلغ السمكة 1500 رطل في الوزن ولا يبلغ دماغها أوقية واحدة.
ونحن نستعمل كلمة دماغ هنا كي تعني كل ما في تجويف الرأس؛ أي الدماغ الأمامي والدميغ الخلفي.
وامتيازنا على القردة ليس من ناحية ضخامة الدماغ فقط، فإن جسم الدماغ أبيض يكسوه لون أغبر، وهو مكان الإحساس والإرادة والتفكير؛ أي مكان الوجدان أو الوعي، والخلايا التي بالدماغ كثيرة جدا عندنا؛ لوفرة التلافيف في دماغنا، وقلتها في دماغ الفرد؛ فإن التلافيف تحدث غئورا في جسم الدماغ فتنزل الخلايا فيه وتتخلله، فتزيد قدرتنا على الوجدان (= التفكير)، ويبدو أنه عندما كبر الرأس وصار ثقيلا على الجسم، وأحيط بطبقة من العظم الجامد، تحول التطور إلى الداخل، فزيدت مساحة السطح بطي أجزائه هنا وهناك وإيجاد أخاديد فيه تتسع للخلايا التي نعتمد عليها في الوجدان، ونحن في هذا كالفلاح الذي يزيد أرضه للقطن بإيجاد أخاديد فيها تجعل مساحة السطح المعرض للشمس أكبر من تلك الأرض التي لم تخدد. (أجنة ثلاثة من الحيوانات في أطوراها الأولى وهي في الرحم: السحلية (والعظاية) والأرنب والإنسان، وكل عمود يمثل حيوانا في الأسابيع الأولى بالرحم، وهو يتدرج من تحت إلى أعلى، وترى الخياشيم والأذناب فيها جميعا)
فدماغنا في الحجم كبير، ووفرة تلافيفه تزيد قدرتنا على التفكير، ولكن كل هذا ما كان ليكفي للامتياز العظيم الذي يمتاز به نوع البشر على أنواع القردة، إنما امتيازنا يعود أيضا إلى اللغة واليد؛ لأن اللغة ربطت تفكيرنا وجعلت لنا تراثا ثقافيا، ولأن اليد (التي امتازت بإبهام) جعلت الحضارة مستطاعة باختراع الأدوات والآلات.
وكي يعرف القارئ قيمة اللغة في الارتقاء البشري يجب عليه أن يقرأ كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»؛ فإن في هذا الكتاب فصلا عن فتاة خطفتها ذئبة وأرضعتها وربتها، فصارت بعد ذلك خرساء في كل شيء؛ تعوي، وتسعى على أربع، وتأكل الرمم، وتسهر في الليل وتنام في النهار.
وإذا شاء القارئ أن يعرف تأثير الخرس فلا ينظر إلى أخرس يعيش بين متكلمين؛ لأن هذا الأخرس يسمع الكلمات ويرى سلوك غيره بها، فيعرفها ويفهم ويعقل، ولو أنه لا يتكلم، ولكن على القارئ أن يفرض مجتمعا مؤلفا من أفراد خرس لا يسمعون كلاما، وعندئذ لا يستطيع أحدهم التفكير لأنه لا يقيد المعاني بالكلمات، ولأنه يعيش بلا تراث ثقافي قد دون بالكلمات.
وكان من المستطاع أن تنشأ بين جماعات الشمبنزي أو الغوريلا أو الأورانج أوتان حضارة لو أنها كانت قد عرفت لغة، حتى مع صغر أدمغتها وقلة التلافيف فيها، نعني حضارة بدائية تجعل الأفراد يعيشون كما لو كانوا أناسا في درجة منحطة من الذكاء.
فاللغة هي فاصل كبير بيننا وبين القردة، وثم فاصل آخر يفصلنا نحن والقردة معا من سائر الحيوان، هو العينان، بل إن العين قد فصلتنا بعض الشيء من القردة؛ إذ كانت هي عاملا آخر جعلنا ننتصب في القامة انتصابا تاما لا يصل إليه القرد؛ ففي حركتنا خفة، وفي قامتنا اتزان، وفي عدونا سرعة لا تبلغها القردة؛ لأن عيوننا أدق من عيونها.
والواقع أن تفكيرنا هو تفكير العين، حتى ليقول أحدنا: «أنا عرفت هذا من عينه»، أو: «ما هي نظرتك في هذا الموضوع؟»؛ لأن النظر يتصل بجميع عواطفا تقريبا، والعين بأعضائها المختلفة وما يحيط بها تتحرك بما يكشف عن حالتنا النفسية، والتفات العين يدل على التفات الذهن، وإزاء العين تراجعت سائر الحواس البشرية إلى مكان منحط في الوجدان.
وأستميح القراء في التكرار التالي: (1)
أننا في ملايين السنين السحيقة تعلقنا بالأشجار وعشنا فيها بعض حياتنا، وتعلمنا من التسلق مبادئ انتصاب القامة والإمساك باليد وتقوية حاسة النظر. (2)
انتصاب القامة جعلنا نستغني عن الذنب؛ لأن اليد الممسكة أدت عمله، واستطعنا أن نحمل رأسا ضخما؛ لأنه يقع عموديا على قامتنا. (3)
أن العينين صارتا في الوجه بدلا من الصدغين، وصرنا نعتمد على النظر أكثر من أي حاسة أخرى، ونحن نجد الآن أن البومة، وهي طائر ليلي، قد جمعت عينيها في وجهها؛ لأن دقة النظر في الظلام أو الغبشة تحتاج إلى الجمع بين العينين.
والطرسيوسي (الذي يسمى أيضا الطرسير) أحد قرابتنا البعيدة الحية إلى الآن، حيوان ليلي قد جمع عينيه في وجهه أيضا، ونستطيع أن نحدس أن ظلام الغابة والحاجة إلى اليقظة في الليل هما السبب في جمع العينين في الوجه دون الصدغين، ثم إن انتصاب القامة زادهما ارتفاعا في الوجه؛ حتى يشرفا على الفضاء، كما أنها زادتا القامة انتصابا. (4)
لم نلتزم المعيشة في الشجر دون الأرض؛ ولذلك احتفظنا بالأيدي حرة تليق للتسلق كما تليق للإمساك، وبقيت الإبهام تواجه الكف أو تنطوي على الأصابع وقت الإمساك، وهذا هو ما فقدته القردة العليا فلم تحسن الإمساك. (5)
لما تركنا الشجر وعشنا على الأرض احتجنا إلى الاجتماع، وأدى اجتماعنا إلى اختراع اللغة؛ للتفاهم وقت الصيد جماعة. (6)
بعد كل هذه الميزات، وبعد اختراع اللغة ، غزونا هذا الكوكب وتسلطنا على جميع أفراد عائلتنا الحيوانية بما جمعته لنا اللغة من تراث ثقافي يزداد على مر السنين فتزيد معارفنا وتجاربنا وقوتنا. (7)
إن اختراعنا اللغة زاد قدرتنا على تعديد المعاني وتنويعها، وأدى هذا إلى تكبير الدماغ الذي يختزن هذه المعاني؛ فاللغة هي أصل الدماغ الكبير، وليس الدماغ الكبير أصل اللغة.
ولذلك فإن تفوقنا على الحيوان ليس قائما على ضخامة الدماغ البشري وكثرة تلافيفه التي تزيد الخلايا الغبراء فقط، بل هو أيضا قائم على تراث اجتماعي لغوي، وأذكى الرجال، حين ينشأ ويعيش في الغابة بلا ثقافة بشرية، لا يكاد يمتاز على أي قرد في تنازع البقاء.
الوجه البشري
ما زال التنقيب يكشف لنا عن أنواع قديمة لا يمكن أن يقال إنها بشرية، كذلك لا يمكن أن يقال إنها قردية، وإنما تدل هذه الأنواع على اتجاه قردي يتخصص للشجر، أو اتجاه بشري يتخصص للسعي على اليابسة ويومئ إلى الإنسان الحاضر، وهذه الأنواع كانت تعيش إلى ما قبل مليوني سنة.
والعامل الوحيد لتغير الحيوان وتطوره هو التغير والتطور في البيئة، بحيث يستجيب الحيوان للتغيرات بمجهوده، على توالي الألوف والملايين من السنين، فتتغير أعضاؤه وتتخذ وظائف جديدة، ثم تتراكم التغيرات حتى تظهر سلالات جديدة، ثم أنواع جديدة.
وقد تغير الوجه كما تغيرت القامة البشريان، والإنسان الحاضر نوع واحد يتلاقح ويخصب مهما تباعدت السلالات، ولكن هذه السلالات تختلف في الملامح والتقاسيم؛ لأنها عاشت في أقاليم مختلفة حرا وبردا ورطوبة وجهدا، ولكننا جميعا نتشابه، ومع أن الفرق عظيم جدا بيننا وبين الطرسير، الذي لا يزال حيا، فإننا ما زلنا نرى ملامحنا فيه؛ إذ له عينان في الوجه مثلنا، وله يدان بأصابع مستطيلة للتناول، بل هو من هاتين الناحيتين أقرب إلينا من القردة؛ لأن هذه قد تخصصت، وفصلها التخصص منا.
ونحن نمتاز من القردة العليا - وهي الأربعة البتراء - بقامة عمودية وبجمجمة كبيرة وبجسم أملط، فأما القامة العمودية فمرجعها إلى أننا تركنا الشجر واعتمدنا على السعي على قدمينا على الأرض، فطالت أقدامنا واستطاعت أن تحملنا في اتزان، ومع ذلك لسنا سعداء بهذا الوضع العمودي؛ فإننا ما زلنا نتعب في الطفولة، نحبو أولا ثم نتعلم الانتصاب، وأيضا في الشيخوخة نعود إلى الانحناء، والساقان هما العضوان الأساسيان في انهيارنا مدة الشيخوخة؛ ولذلك نحتاج إلى ساق ثالثة هي العكازة التي نعتمد عليها، واعتبر أيضا الفتق، وهو اندلاق الأمعاء أو بعضها في الخصيتين، بسبب هذا الوضع العمودي.
وأما الجمجمة الكبيرة التي تتسع لنحو تسعة آلاف مليون خلية في الدماغ فمرجعها أيضا إلى هذا الوضع العمودي؛ لأننا لولا هذا الوضع لما استطعنا حملها وهي بهذا الثقل الذي يبلغ ألفا وخمس مئة جرام، ثم إن اهتداءنا إلى اللغة ربط المعاني بكلمات، وهذه عملت على تكبير الدماغ.
أما الملط، فمرجعه إلى أننا نحن البشر قد اهتدينا إلى النار وإلى السكنى في الكهوف منذ أزمان بعيدة جعلتنا عرضة للحر المرهق، وللموت حرقا لو كانت شعورنا باقية تكسو أجسامنا، ولا يزال أثر المناخ واضحا؛ فإن الزنجي الذي يعيش حول خط الاستواء أملط بخلاف الأوربي الذي لا يزال الشعر يكسو معظم جسمه؛ لأن الشعر يؤدي عمل الكساء الصوفي في التدفئة، وأوربا باردة وإفريقيا حارة. (شمبنزي بعد ولادته ب 48 ساعة، وهو يشبه رجلا مسنا أملط الجسم ليس له شعر إلا على رأسه)
وليس عندنا من الشعر الكث سوى ذلك الذي يكسو الرأس، وهو هنا وقائي لأنه بمثابة المرتبة القطنية؛ يصد الصدمة أو يخفف وقعها على الرأس.
وألوان الأجسام البشرية تخضع للوسط؛ فحيث تكون الرطوبة والحر معا يكون لون البشرة أصفر، وهذا ما يحدث لأقدامنا المحبوسة في الأحذية، وهذا أيضا ما يحدث للصينيين وسائر الأمم التي تعيش في الأقاليم التي تقع في الشرق الجنوبي من آسيا، أما في أوروبا، حيث ضوء الشمس أخف وقعا مما هو في إفريقيا، فإن البشرة تكاد تشف؛ ولذلك يبدو الدم الأحمر تحتها واضحا؛ إذ ليس في هذه البشرة سوى صبغة خفيفة، ولكن عندما يعيش الأوربي في أقصى الشمالي، حيث يدوم الثلج على الأرض نحو تسعة أشهر، فإن بشرته تقاوم البياض في هذا الثلج بشيء من السمرة. وهذا هو ما نجد عند الإسكيماويين، ولون العينين والشعر يتبع لون البشرة من حيث الخفة أو الثقل.
والوجوه البشرية، أو بالأحرى الرءوس البشرية، تتبع طرازين: أحدهما الوجه المستطيل، والآخر المستدير، وهناك طراز وسط بينهما، ولكل من هؤلاء مزاج سيكلوجي خاص.
والأنف البشري يخضع للوسط من الحر أو البرد؛ فحيث يكون الحر يتمدد الهواء ويحتاج الإنسان إلى أنف واسع المنخرين؛ كي يحصل على ما يحتاجه من الأكسجين، وهذا هو الشأن في أنف الزنجي أو الصيني المفرطح المنبسط، أما إذا كان الهواء باردا، كما هو الشأن في أوربا، فإن الأنف يستدق ويضيق المنخران؛ حتى يدخل الهواء البارد في بطنه ساخنا ولا يفاجئ الرئة ببرودته.
وأنف الزنجي لا يختلف هنا من أنوف القردة، ولونه كذلك؛ فإنها هي أيضا زنجية، أو تتسم بألوان السمرة القاتمة، وهي بالطبع تعيش في ظل الشجر، فلا تحتاج إلى الصبغة الثقيلة التي يحتاج إليها الزنجي المكشوف لضوء الشمس في قريته أو حقله.
ونحن نرى شبها آخر في ملط الزنجي وشعرانية الأوربي، فإن الفيل في إفريقيا وآسيا يكاد يكون أملط، وكذلك الجاموس؛ لأن الحر يغنيها عن الشعر، أما الحيوانات التي تعيش في القطب الشمالي؛ مثل الدب والثعلب، فتكتسي بفراء وفيرة كثيفة تحميها من البرد، والبقر يعيش في أوربا بخلاف الجاموس لهذا السبب أيضا.
والأذن البشرية صغيرة، وقد كانت كبيرة تتحرك، بل لا يزال هناك أفراد يستطيعون استرداد القدرة على تحريكها، وانحطاط الأذن عندنا يرجع إلى أننا قد استغنينا عن السمع - إلى حد بعيد - بالاعتماد على الرؤية.
ومما يميزنا من القردة أن الفكين اللذين يحملان الأسنان عندنا قد ضؤلا وتراجعا للوراء، وصارت بعض ضروسنا الخلفية لا تنبت، أو هي تبزغ بعد أن نبلغ العاشرة أو الخامسة عشرة، وهي تزعجنا وتؤلمنا أكثر مما تفيدنا، ثم قد تلازت الأسنان؛ لأن الفكين في صغرهما لم يعودا يتسعان لها، والبشر يعانون في أيامنا أزمة بيولوجية في الأسنان؛ لأن نصفها كان يكفينا، ولكننا ورثنا تراث الحيوان المفترس القديم دون الفرصة للافتراس.
وهذا على خلاف ما نرى من بروز الفكين عند القردة؛ فإنها تأكل وتمضغ الأطعمة القاسية التي تحتاج إلى القضم والهرس والتمزيق؛ ولذلك بقي الفكان، كما بقيت عضلات وجهها التي تحرك هذين الفكين. •••
وهنا نقطة تستحق أن نقف عندها، ذلك أننا لا نجد بين الحيوانات جميعها هذا الالتفات للوجه كما نجد بين الإنسان؛ فنحن نقول عن شاب أو فتاة أو امرأة إن أحدهم جميل، ونعني أن الوجه جميل، ولا نكاد نلتفت إلى عضو آخر سوى الالتفات العابر، فنحن نذكر العينين الناطقتين، والوجنتين النضرتين، والجبهة العالية، والأنف المرهف، والشفتين الرقيقتين، ونحس أن في الوجه شيئا أكبر من الملاحة الجسمية، نحس نبلا وروعة وشهامة وسحرا.
ولا عبرة بأن يقال إن هذا الجمال ذاتي، وإنه ليس له وجود موضوعي في الطبيعة؛ إذ هو يجب أن يكون ذاتيا، وذاتيته برهان على الإحساس العام، في الضمير أو الوجدان البشري، بقيمته، وأنه هو الصورة التي رسمها هذا الوجدان.
وبكلمة أخرى نقول إن الرجل ينظر إلى المرأة بخلاف ما ينظر الذكر إلى الأنثى من الحيوان، ولا مفر من أن نرد هذا الفرق إلى الوضع الذي اتخذاه في التعارف الجنسي، هذا التعارف الذي يتم بيننا نحن البشر وجها لوجه، وليس - كما هي الحال بين الحيوانات - وجها لظهر، فالحيوان بهذا الوضع يشتهي ظهر الأنثى وخلفها، ويهمل الوجه، ونحن نشتهي وجه المرأة وصدرها، ومن هنا عنايتنا الكبرى بملامح الوجه، وهي عناية لا يعقل أن تكون عند الحيوان، وقد أصبح الوجه البشري بذلك بؤرة التقدير الفني من الرجل ومن المرأة. (وجه الربة فينوس كما تخليه الفنانون الإغريق حين أرادوا تمثيل الجمال البشري)
ومع هذا ما زلنا حيوانات؛ فإن شهوة اللحم عندنا تجد في كفلي المرأة ما يثير الانجذاب الجنسي، وهذا يرجع بالطبع إلى قبل ملايين السنين الماضية حين كان التعارف الجنسي بيننا يجري على أسلوب الحيوانات؛ أي وجه الذكر إلى ظهر الأنثى، ولكن هذا الأسلوب قد تغير فالتفتنا إلى الوجه، وتغير الوجه بحيث صار وفق الصورة التي رسمها وجداننا عن الجمال البشري، ولكن بقيت الذكرى الحيوانية في الإعجاب بكفلي المرأة، بل بقي الشذوذ الجنسي.
وجميع الحيوانات الرواضع تتسم بقرب أثدائها من ساقيها الخلفيتين، ولكن ثديي المرأة ترتفعان إلى الصدر؛ وعلة ذلك أنها قد أصبحت تحل طفلها على صدرها وتمشي على ساقيها فقط، بل هي تعتمد حين تقعد على أليتيها أيضا، فيحتاج الطفل في الرضاع إلى أن يجد الثديين على الصدر، وليس على أسفل البطن.
ومع أن ضخامة الأليتين لا تعد من الجمال إلا عند البدائيين أو المتوحشين، فإن هناك ما يرجح القول بأنهما ستزيدان ضخامة في المستقبل؛ لأن الدماغ سيكبر في حجمه، وسيحتاج الجنين إلى حوض واسع عند المرأة حتى تسهل ولادته، واتساع الحوض يعني في النهاية تضخم الأليتين.
السلالات البشرية
من عادة الإنجليز أن يؤلف صغار الكتب كبار الناس من العلماء، وقد كان «نيتشه» يأسف لأن بلاده لا تتبع هذه الطريقة، وذلك لأن أقدر الناس على الاختصار مع عدم الإخلال هو العالم المتعمق.
ومن أحسن ما قرأنا من هذه الكتب كتاب صغير يدعى «المغولي بين ظهرانينا»، تأليف الدكتور كروكشانك.
وخلاصة نظرية الدكتور كروكشانك أن هناك ثلاثة أوجه بشرية؛ هي الوجه المغولي، والوجه الزنجي، والوجه الأوربي، وأن الوجه المغولي يشبه وجه قرد جاوة المسمى أورانج أوتان، وأن الصيني في بعض أخلاقه وتركيب جسمه يشبه هذا القرد؛ فكلاهما يقعد بعد أن يطوي ساقيه تحته.
وكف الصيني مخطط على طريقة كف الأورانج، وعندما يفقد الصيني عقله ينحو نحو الأورانج في جملة عاداته وأحواله، وكذلك الأوربي إذا فقد عقله وجن بنوع خاص من الجنون قعد بهيئة الشمبنزي، أما الزنجي فيرد في جنونه إلى الغوريلا.
والإنسان وقت الجنون يرد إلى أصله؛ لأن كفاياته العقلية التي تختل هي الكفايات العليا الجديدة التي لم ترسخ بعد في تركيب جسمه، وهي أيضا أولى الكفايات التي تؤثر فيها الخمر أو الشيخوخة؛ وذلك لأن الإنسان يتطور بما يشبه الطبقات؛ طبقة فوق طبقة، فأثبت الطبقات أقدمها، وأقلها ثباتا أجدها؛ فالعقل من أجد الطبقات وهو لذلك أسرعها زوالا عند السكر والشيخوخة والجنون، وإذا زال ظهر ما يليه من الطبقات، فيرد الإنسان إلى أصله، وتظهر فيه أخلاق أسلافه.
فنحن نعرف - مثلا - أن كثيرا من الأطفال، إذا اشتد بهم الضعف من مرض، ظهر على بشرتهم شعر؛ سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، فإذا عاودتهم الصحة زال الشعر، ومعنى هذا أن قوة الجسم التي اكتسبها الإنسان حديثا في إخماد نبات الشعر قد ضعفت، فنهضت كفاياته القديمة لا تجد ما يعارضها في الظهور.
ويقول الدكتور كروكشانك إن هذه الوجوه الثلاثة منتشرة في جميع الأمم للاختلاط القديم بينها؛ فقد تجد الطراز الزنجي أو الطراز المغولي في وسط لندن - مثلا - ولست تجده فقط بين البله الذين ورثوا بلاهتهم، بل تجده أيضا منتشرا بين عامة الناس، وقد لا يكون في صاحبه ما يدل على بلاهة أو عته.
ولا يقصد المؤلف أن الإنسان ثلاثة أنواع كل منها ينتسب إلى أحد القردة العليا الموجودة الآن، وإنما يريد أن يثبت قرابة الإنسان لهذه القردة، وأننا وهي من أصل واحد، وقد يكون هذا الأصل هو «الإنسان القردي المنتصب» البائد الذي وجدت متحجراته (أحافيره) في جاوة، والذي يظن أنه كان يعيش قبل أكثر من مليوني سنة، فنشأ منه فرعان في آسيا؛ هما الإنسان المغولي، وقرد الأورانج، وفرعان في إفريقيا وأوربا وغربي آسيا؛ هما الإنسان الأوربي، وقرد الشمبنزي، وفرعان آخران في إفريقيا؛ هما الإنسان الزنجي، وقرد الغوريلا. (وجه مغولي، وآخر زنجي، وثالث أوربي، وهم أصل السلالات)
وسواء صح هذا الفرض أم لم يصح فإن مما لا يمكن الشك فيه أن لنا عدة أصول؛ فإن متحجرات الجماجم (البشرية) القديمة التي تخالف جماجمنا، ومتحجرات الجماجم نصف البشرية، توجد الآن بكل مكان تقريبا، ومن المرجح أنها اختلطت بنا، وتسرب إلينا من طبائعها شيء كثير.
وكثيرا ما نجد على وجوه البله في بلادنا مسحة مغولية، نرى أثرها ظاهرا في بروز الصدغين، وكثيرا ما نجد الرأس المغولي المستدير متفشيا في بلادنا وفي أوربا، بل إذا قعد أحدنا على قهوة وأخذ يتأمل السابلة وجد سلالات النوع البشري كلها تقريبا منطبعة أصولها على وجوههم بدرجة قليلة أو كبيرة.
ولكن مع كثرة هذه السلالات لا يزال النوع البشري نوعا واحدا؛ فإن التلاقح يصح بين أي ذكر وأية أنثى من أفراده؛ أي ليس بين الناس مهما اختلفت سلالات الآباء «بغال» عقيمة لا تلد كما يرى في النتاج الناشئ من الفرس والحمار.
ولننظر الآن في أثر البيئة في الإنسان، ويجب أن نذكر أن أثر البيئة أقل في الإنسان مما هو في غيره من الحيوان، وأنه الآن أقل مما كان في الزمن الماضي؛ فإن المدينة تخفف من أثر البيئة، بل قد تزيل هذا الأثر كلية؛ فإن الحيوان إذا انتقل من مناخ حار إلى مناخ بارد عمد إلى جلده، فزاد كثافة فروه أو أفرز طبقة من الدهن تحته، ولكن الإنسان لا يفعل ذلك، بل يسكن بيتا ويدفئه، أو يصيد حيوانا ويستلب منه فروه.
والإنجليزي الذي يعيش في السودان الآن لا يخشى عليه أن يصير أسود أو أسمر؛ لأنه يحمي نفسه من فعل الضوء بوسائل المدنية العديدة المتوافرة لديه.
فالإنسان مع أنه أكثر الحيوانات تطورا بطبيعته، لأنه أرقاها، هو الآن أقلها تطورا بفعل المدنية.
ولكن الإنسان حديث عهد بالمدنية؛ فلذلك كان تأثير الوسط فيه كبيرا في الماضي؛ فالأوربي أبيض، والصيني أصفر، والزنجي أسود، وكل ذلك بفعل الوسط في الماضي، ولو لم يعمد الإنسان إلى المدنية منذ زمن بعيد لكان أثر هذا الوسط فيه أكبر، بحيث كانت تختلف سلالته اختلافا كبيرا يشبه اختلاف أنواع القردة العليا الآن.
وهناك أشياء في فعل البيئة أو المناخ لا نفهم سرها، ولكننا نرى أثرها؛ فوجه الأمرندى - ساكن أمريكا القديم - مستطيل، والأوربيون الذين هاجروا إلى أمريكا قد استطالت وجوههم مثله لعلة لا نعلمها.
ولكننا نعرف أن الأوربي أبيض؛ لأن ضوء الشمس في أوربا ضعيف، والضوء سم إذا اشتد قتل الحي، ونحن أنفسنا نطهر الغرف من الميكروبات بالضوء؛ أي إن الضوء يقتل الميكروبات لشفوفة أجسامها.
فالجسم الحي المعرض للشمس يحتاج إلى أن يحمي نفسه منها بإفراز صبغة تمنع نفاذ الضوء إلى أعضائه الداخلية؛ فالزنجي أسود والأوربي أبيض لهذا السبب ، بل الإسكيماوي الذي يعيش قريبا من القطب الشمالي أسمر البشرة؛ لأن الأرض مغطاة أكثر شهور السنة بالثلج الأبيض الذي يقوم مقام ضوء الشمس في التأثير في البشرة.
وأنف الأوربي أشم مستدق، بينا نجد أنف الزنجي منفطس مفرطح؛ لأن الهواء بارد في أوربا وهو حار في إفريقيا، وبعبارة أخرى نقول إن الهواء يتمدد في إفريقيا بينما هو يتقلص في أوربا. وجسم الأوربي يحتاج إلى كمية من الأكسجين تساوي ما يحتاج إليه جسم الزنجي، ولكن حجم هذه الكمية كبيرة في إفريقيا؛ لأن تمدد الهواء صغير في أوربا لتقلصه؛ فالزنجي في حاجة إلى أن يتسع أنفه حتى يأخذ من الهواء الكمية التي يحتاج إليها منه مع جرمها الكبير المتمدد، ثم إن البرد في أوربا يستدعي استدقاق الأنف؛ حتى يدفأ الهواء قبل وصوله إلى الرئة، ومن هنا استدق أنف الأوربي وانفطس أنف الزنجي.
والصيني أصفر لرطوبة بلاده وحرها، فوجهه يشبه أقدامنا عندما نخلع الحذاء، فإن الرطوبة والحرارة تحيلان اللون في القدم إلى صفرة.
والشعر الزنجي مفلفل بفعل الحرارة في الأغلب؛ فإننا إذا عرضنا شعرة مستقيمة للحرارة تكمشت.
والصيني أو المغولي على وجه عام مستدير الرأس، بينما الأوربي مستطيله، وقد لا يكون للبيئة أثر في ذلك، وإنما هذا الشكل قد يرجع إلى اختلاف السلالة.
ثم يجب ألا يبرح من أذهاننا أن الإنسان لا يطاوع البيئة كل الطواعية، حتى بعد أن نحط من ذلك أثر المدنية؛ فإن للإنسان مثلا أعلى يبتغيه ويريد تحقيقه في وجهه وجسمه، فهو دائم الانتخاب والانتقاء بين إناثه وذكوره، وهذا «الانتخاب الجنسي» ينتهي بإيجاد طراز خاص في الوجه والجسم يختلف فيه كل شعب عن غيره.
نشأة المجتمع البشري
أصل الطبيعة في الحيوان أن يكون انفراديا؛ لأن تجمع الأفراد في جماعات يجعل الحصول على القوت شاقا، كما يحمل الأفراد المجتمعين على التنازع والتقاتل من أجل هذا القوت، وإنما ينشأ الاجتماع بعد ذلك للاحتماء من العدو، أو لصيد الحيوانات الكبيرة؛ كالفيل أو الثور أو الفرس؛ لأن في الاتحاد قوة لا تتاح للفرد.
وعندما نتأمل الحيوانات الاجتماعية العليا نجد أن بينها جميعا صفة عامة، هي أن أولادها تقضي قسما كبيرا من أعمارها في الرضاع والطفولة، والطفل حين يرضع أمه يتعلق بها ويجري خلفها ويطاوعها ويفهم إشارتها في التخويف أو الترغيب، ثم إن أطفال الحيوانات هذه يألف بعضها بعضا بالرضاع والاشتراك في الأم؛ فالتعلق بالأم أولا، ثم الألفة بين الأطفال الرضع ثانيا، كلاهما يغرس في الأطفال الحب والتضامن، ومن هنا بداية المجتمع الحيواني.
وقد يشترك الأب مع الأم والأولاد في عائلة واحدة، فيزيد التضامن وتعود هذه العلاقات العائلية أصلا للعلاقات الاجتماعية في القبيلة، كما نرى في الإنسان، ومن المعقول أن تكون جماعات الإنسان الأولى جماعات عائلية فقط تتألف من الأب والأم والأولاد، ولكن قد يموت الأب لحادث ما فتبقى العائلة متماسكة بقوة الألفة السابقة.
وواضح أن الإنسان قضى مئات الألوف من السنين وهو لا يعرف الزراعة؛ إذ كان يعيش بالترحل، يأكل ما يعرض له من جذور أو فواكه برية، ويصيد ما يستطيع من الحيوانات، وكان الأولاد ينتسبون للأم؛ لأن الإنسان لم يكن يعرف أن الرجل ضروري للتلاقح، وكان يعتقد أن الاتصال الجنسي لا يقصد منه غير اللذة، وأنه لا علاقة له بالتناسل.
ولهذا السبب كانت جميع الأمم القديمة تنسب إلى الأم، ويتضح هذا اتضاحا ظاهرا عند قدماء العرب؛ حيث نجد أن كثيرا من أسماء القبائل ينتسب إلى الأم، وما دامت القبيلة مترحلة فإن النظام يبقى أمويا، ونرى برهان هذا في اللغة العربية؛ فإن كلمة رحمة تعود إلى الرحم؛ أي إنها العلاقة القائمة بين الأخوة من الأم، وكذلك كلمة «الحماة» فإنها والدة الزوجة، ومعنى هذا أن الزوجة التي هي محور العائلة تحتمي بأمها، وزوجها تابع لها يحتمي أيضا بهذه الأم، ثم هناك الخال وهو شقيق الزوجة، وقيمته كبيرة جدا عند قدماء العرب، ثم كان هناك أيضا عند قدماء العرب زواج الضمد، وهو أن تتزوج المرأة جملة رجال في وقت واحد، فلا يعرف الأولاد لهم أبا، وإنما يعرفون الأم فقط.
ولا تزال القبائل في جزيرة تروبرياند (Trobriand)
من جزر البحر الجنوبي بين أستراليا وآسيا تعيش على النظام الأموي إلى الآن؛ فالسكان ينتسبون إلى الأم وللحموات والأخوال قرابة يعترف بها، ولكن ليس للأب أية قرابة بالأولاد، وعلاقته الجنسية بزوجته لا تعد في زعمهم أصلا للتناسل. (مجتمع غوريلي، يرى زعيمه واقفا إلى اليمين، وبيت الجماعة عند أصل الشجرة بين جذورها؛ حيث ترى إحدى زوجات الزعيم قاعدة ومعها طفل. وجماعات الغوريلا يترجح عددها بين 10 و20 فردا)
ولكن النظام الأبوي نشأ بعد استقرار الزراعة؛ لأن الزراعة جمعت الأب والزوجة والأولاد والماشية في مكان لا يتغير، وصار هو الرأس الذي يحكم ويتحكم، فصار الانتساب إليه مكان الانتساب إلى الأم.
وبارتقاء المجتمع صارت صفات الارتباط بين العائلة صفات الارتباط بين القبيلة والأمة، كما ترى في كلمة «الرحمة»، وكما صرنا نحن نقوم بالإخاء بين الناس كالأخوة بين ذوي الأرحام.
وطفولة الإنسان تبلغ 18 أو 20 سنة، يحتاج فيها إلى معونة الأبوين، وفي هذه السنين يتدرب على ممارسة فضائل عائلية تصير بعد ذلك فضائل اجتماعية، وربما يحتاج القارئ إلى هذا التلخيص الإيضاحي التالي: (1)
كان المجتمع البشري الأول عائليا فقط. (2)
كانت العائلة تترحل؛ لأن الزراعة التي تدعو إلى الاستقرار لم تكن قد عرفت، فلذلك كانت العائلة لا تزيد على الأم وأولادها. (3)
من المعقول أن الزوج كان يرافق الأم بعض الوقت، ولكنه كان أيضا يتركها، فتتخذ هي زوجا آخر في ترحلها مع أولادها. (4)
مثل هذا النظام يجعل الأولاد ينتسبون إلى الأم؛ لأنها هي الباقية معهم دون الأب في الترحل. (5)
زد على هذا جهل الإنسان البدائي بحقيقة التناسل، واعتقاده أن الأب غير ضروري للتلاقح؛ ولذلك نجد في لغتنا أن الحياة مشتقة من الحيا، وهو عضو التناسل في المرأة. (6)
كذلك نجد النظام الأموي فاشيا عند القبائل الرحل التي لم تعرف الزراعة، كما كانت حال القبائل العربية في الأزمنة السحيقة. (7)
كانت الأم تموت أحيانا وتترك الأولاد، فتبقي الرابطة التي أوجدها الرضاع ورفقة الأم، ومن هنا نشأ المجتمع البشري من نواة المجتمع العائلي؛ لأن الإخوة يعيشون معا. (8)
لما عرفت الزراعة واستقرت العائلة في مكان، صار الزوج واحدا لا يتغير؛ لأنه ارتبط بالزراعة والماشية والأولاد، في حين أن الترحل القديم كان يفكك العائلة فيجعل الزوج يضرب في تجواله، كما كانت الزوجة تختار زوجا آخر في مكان آخر وهي تترحل.
النار والطعام
سايرت الثقافة الحضارة؛ فإن الإنسان في حالة البداوة الأولى عاش دهرا طويلا وهو لا يعرف الزراعة؛ أي لا يعرف الحضارة؛ لأن الحضارة والزراعة مترادفتان في المجتمع القديم، ولكنه مع ذلك لم يكن طول هذه المدة جاهلا؛ فإنه كان يعرف كيف يصنع الآلات البسيطة من الحجر، وكيف يصيد الحيوان ويدبر له المكايد، وكان يعرف النار، وكانت له سحرة وقصصيون يحركون ذكاءه بما يقصون عليه من العجائب والنوادر.
وبالجملة، كانت له ثقافة لا تختلف عن ثقافة المتوحشين الذين لم يعرفوا الزراعة؛ مثل سكان أستراليا الأصليين، أو بعض قبائل إفريقيا أو أمريكا الآن.
وكانت النار من أهم ما عرفه الإنسان، بل ربما كانت هي أكبر الأسباب في انفراج الهوة بينه وبين القردة العليا، وأحط السلالات البشرية الآن؛ مثل أهل أستراليا أو الفويجيين في جنوب أمريكا، يعرفون النار، ولكن ليس بين القردة الآن ما يعرفها.
والنار تحدث في الغابات وقت القيظ حين يجتمع الجفاف والحر، ولا بد أن أول معرفة الإنسان بها كان عن هذا السبيل، ولكن ثم فرقا عظيما بين معرفة النار وبين كيفية إحداثها، والغريب أن جميع المتوحشين الآن يعرفون كيفية قدحها بالزند، وكيفية القدح تختلف، ولكن المبدأ واحد، وهو إيجاد اللهب بالاحتكاك.
ولكن جميع المتوحشين لا يطفئون نارهم؛ فكلهم حريص على أن يهيئ النار قبل نومه، حتى إذا أصبح وجدها واستخدمها، وهذا يدل على أنهم لا يستسهلون قدح النار بالزند.
وهذا يدعونا إلى الظن بأن ذلك الفرد، أو أولئك الأفراد الذين عرفوا كيف تقدح النار بالزند في أول عهد الإنسان، احتكروا هذه المعرفة لأنفسهم، واستغلوها للسيادة على سائر الناس، وجعلوها من ممارسات الدين أو السحر، وعند الإغريق القدماء أسطورة خاصة بالنار تدلنا على شيء من هذا، خلاصتها أن الرب «برومتيوس» أفشى سر النار وكيفية قدحها بالزند للناس ، فعاقبته الآلهة بأن سلطت عليه العطش، ووضعته في ماء يربو إلى أن يبلغ فمه، فإذا أوشك أن يشرب غاص ثانيا، وهو في هذا من العطش إلى الأبد.
والزند والحجر مقدسان عند البراهمة، ورسمها مقدس للآن عند البوذيين، وتقديس النار عند المجوس من آثار احتكار النار الباقية من البداوة تخطتها إلى عهد الحضارة.
ومهما قلنا في فائدة النار للإنسان الأول فإننا لن نستطيع أن نقدر قيمتها في تقدم الإنسان؛ فهي من المخترعات العجيبة التي دفعته إلى الأمام من كل جهة، وساعدته على التطور، بل هي لا تزال كذلك إلى الآن، وإن يكن هذا التطور ليس خيرا خالصا.
فبالنار تعود الإنسان أن يعقد مجتمعا للاصطلاء، فخف شعره أو زال، ثم ارتقت اللغة لما ينشأ من الحديث في مثل هذا الاجتماع، وقد كان الإنسان يجتمع في الصيد، ولكن الصيد يحتاج إلى الترصد والصمت، لا إلى الكلام، ولكن قبل الصيد وبعده يحتاج المجتمعون إلى اللغة، وحين لا يكون هناك ترصد يكون الكلام وقت الصيد.
وربما كان فضل المرأة في ترقية اللغة لهذا السبب أكبر من فضل الرجل؛ فإن نساء الرجل كن يجتمعن حول النار في الليل، فكن يتفاهمن بالكلمات؛ لأن الإشارات لم تكن ترى في الظلام، وذلك وقت غيابه في الصيد، فيأخذن في الحديث، وفي سك الكلمات الجديدة التي تعبر عن المعاني التي تخطر في أذهانهن.
وكانت النار أيضا سببا في انتشار الإنسان في الأصقاع الباردة البعيدة التي لم يكن ليطيق المعيشة فيها لولا النار؛ فالإنسان - مثلا - لم ينتشر في أميركا إلا بعد أن جاز تلك الأصقاع الباردة في شمال آسيا وأمريكا، وهو لم يكن ليستطيع ذلك لولا النار.
وكانت النار أيضا سلاحا يمنع الوحوش عن مهاجمة الإنسان في الليل، وللنار فائدتان أخريان: الأولى تهيئة الطعام، والثانية صهر المعادن للصناعة من لوازم الحضارة العصرية، ونحن إنما نصف حال الإنسان في البداوة الأولى، أما الطعام فيجب أن نقول فيه كلمة لعلاقته بالنار.
فطعام الإنسان في الأزمنة القديمة لم يكن يختلف عن طعام القردة العليا الآن ، فكان يتألف من بعض الأثمار والجذور وما يسنح من حشرة أو خشاش؛ كالجراد أو العظاء، وإذا اعتبرنا أسنان الإنسان وقناته الهضمية، وحياته القديمة في الأشجار، حكمنا بأنه نباتي في أكثر طعامه، حيواني في أقله؛ وخاصة إذا علمنا أن نحو أربعة أخماس البشر يقتاتون بالنبات الآن.
فكيف إذن عرف الإنسان اللحم واعتاد أكله؟
يغلب على الظن أن الأصل في ذلك هو رغبة الإنسان في تحقيق غاية سحرية، هي الحصول على قوة الحيوان الذي يأكله، ومن هنا أيضا عادة أكل البشر؛ فإن هذه العادة نشأت أولا لرغبة الإنسان في الحصول على قوة الرجل المقتول أو الميت، بأن يؤكل قلبه أو دماغه أو أي عضو آخر، بحيث يصير الآكل شجاعا جريئا مثل الرجل المقتول المأكول، وقد صارت هذه العادة سببا بعد ذلك في الاعتقاد بتقمص الأرواح الذي صار عنصرا مهما في بعض الأديان الكبرى؛ لأن منطق السحر يقول إني حين آكل رجلا إنما أتقمص روحه أيضا.
فلما فشا هذا الاعتقاد بين جماعات الإنسان الأولى عمدوا إلى صيد الحيوانات الكبرى؛ كالفيل والأسد، بغية أن يأكلوا شيئا من لحمها حتى يحصلوا على قوتها، وما زال بعض الفلاحين عندنا يعتقدون أن من يأكل قلب ذئب يصير قويا كالذئب، ويجب أن لا ننسى أن صيد الحيوان كان سهلا في الأزمنة القديمة؛ لأن الحيوان لم يكن قد تعود الخوف من الإنسان، وإنما صار الخوف كالغريزة فيه بعدما ألح الإنسان في صيده.
ولا بد أن نفرض أن الإنسان كان يأكل أعضاء هذه الحيوانات مع الاشمئزاز الذي يشعر به كل منا عندما يأكل طعاما جديدا لم يألفه، أو كان محرما عليه بحكم الدين أو العرف.
وكانت النار إذا شبت وقت القيظ في الغابات يحترق فيها بعض الحيوان ويموت، فيجد الإنسان الفرصة سانحة لأن يأكل بعض أعضائها، ولا بد أنه كان في هذه الحال يستمرئ طعم لحمها المشوي فينتبه إلى شي الطعام بالنار ويضري عليه.
وإذا أراد الأستراليون أن يشووا كنغرا وضعوه في النار بدون أن يبقروا بطنه أو يستخرجوا أمعاءه ، فإذا انفتح بطنه بالغازات بقروه بسكينهم الحجرية (الظر) وأكلوه؛ ولذلك يجب أن نعتبر الشي أول ضروب الطهي التي عرفها الإنسان؛ لأنه لم يكن قد عرف الآنية بعد.
والمتوحشون الذين لا يعرفون للآن كيفية صنع الفخار يستعملون قحف الرأس في الإنسان لحمل السوائل، أو يستعملون القرعة بعد إفراغها من اللب، وهم لا يمكنهم أن يضعوا مثل هذه الآنية على النار؛ ولذلك يضعون فيها اللحم والماء، ثم ينقلون الحجارة المحماة ويضعونها في القرعة أو القحف فيسخن الماء وينضج اللحم.
وقد نقف هنا ونتساءل: هل تعدل فائدة النار للإنسان الأول أضرارها للإنسان الحاضر، من حيث تعويده طعام اللحم وطبخ الطعام وتنشئة الصناعة إلى هذا الحد الذي يكاد يحكم بالفناء على بعض الأمم؟ أما كان أهنأ للإنسان أن يعيش بلا نار؟
ولكن ليس هذا موضوع كلامنا الآن.
أصل اللغة
يبدو للمتأمل في تاريخ الإنسان عند عرضه مع سائر الحيوان؛ وخاصة تلك اللبونات التي ينتمي إليها، أن كثيرا مما يمتاز به عليها أنه لم يتطور إلى ناحية التخصص الجامد الذي وقفت عنده معظم الحيوانات الأخرى.
وذلك أن الحيوانات عندما بدأت تخرج من البحر إلى اليابسة تحولت زعانفها إلى أيد وأرجل للتسلق، فكان التسلق أول ما عرفت من الوظائف، ثم حدث التخصص، فمشي بعضها على أربع فصارت أيديه حوافر أو أظلافا، وعاش بعضها بافتراس الحيوان فصارت أصابعه براثن، وحفر بعضها تحت الأرض مثل الخلد ففقد إبهامه، ونزل بعضها ثانيا إلى البحر مثل اللجاة والدلفين والقيطس والتمساح فصارت أيديها مجاذيف تشبه الزعانف القديمة، وإن تكن الأصابع لا تزال باقية بها، ظاهرة أو مختفية.
حدث هذا التخصص فتجمد التطور وكاد يقف فيها عند حد، إلا الإنسان، فإنه استمر في تسلقه لا يمشي على أربع، وكأنه خرج من البحر إلى الأشجار فلم يرض بالنزول إلا إنسانا سويا، فاحتفظ بيديه وفي كل منها أصابعه الخمس، واحتفظ بهيئته القائمة المنتصبة؛ لأن معظم الحيوانات التي تتسلق تقف وتمشي وهي منتصبة قليلا أو كثيرا كما ترى ذلك في السنجاب والفأر، وساعدته هيئته المنتصبة على أن يضخم رأسه ويكبر، واستطاع أن يحمل هذا الرأس لأنه يقع عموديا عليه، وهو لو كان يمشي على أربع لما أمكنه أن يحمله وهو في هذه الضخامة، حتى وهو في الأشجار لم يبلغ به التخصص أن أضعف إبهامه كما هو الحال في القردة العليا.
ثم انظر إليه الآن تجده لم يتخصص حتى في طعامه؛ فهو يأكل كل شيء في العالم تقريبا، ولم يتخصص في الصوت؛ فهو بمرانة قليلة يمكنه أن يقلد صوت أي حيوان كما نرى ذلك في بعض الممثلين، ثم انظر إلى فم الحيوان؛ كالكلب أو الثور، تجده ممدودا إلى الأمام، فإذا أقفله لصق اللسان بالحنك الأعلى ولحم الفك الأسفل، فليس في فم الحيوان تجويف يساعده على النطق.
فاعتبر كل هذا، فلو أن الإنسان كان يمشي على أربع لما استطاع أن يحمل دماغا ثقيلا، ولما استطاع أن يقف، فنحن لا يمكننا أن نتصور أن يقف الفرس مهما مضى عليه من السنين، ولو أن الإنسان كان قد فقد إبهامه - بالبراعة في القفز بين غصون الأشجار أو بالحفر تحت الأرض كالخلد - لما اكتسب هذه الإبهام ثانيا بأية حيلة، وقد عرفت فيما سبق قيمة هذه الإبهام في إمساك الأدوات والآلات وتداولها، ثم لو كان يتناول طعامه بفمه لطال هذا الفم وضاق، فيصعب عليه عندئذ الكلام.
والإنسان لولا الكلام لما اختلف كثيرا عن البهائم؛ إذ كان كل فرد - عندئذ - يحتاج إلى أن يخترع المعاني اختراعا، في حين أننا نتسلمها الآن من سائر الناس بما وضعوه لها من الكلمات.
ويجب أن نذكر في نشأة اللغات الأولى أنها لم تقم أولا على الكلمات وحدها، بل كان للإشارات الشأن المهم في التفاهم ولا نزال للآن نستعمل بعض هذه الإشارات نريد بها معاني كلماتنا؛ فنهز الكتفين ونحرك الحاجبين واليدين ونرفع الرأس، ولكل من هذه الحركات معنى، وكانت هذه الحركات قديما أكثر مما هي الآن.
وبعض هذه الإشارات يعم معناه جميع الأمم؛ كهز الرأس ذات اليمين وذات اليسار لمعنى النفي، وبعض ما يتفاهم به المتوحشون الآن نتفاهم به نحن مع الخرس؛ مثل التعبير عن الركوب بوضع سبابة اليد اليسرى تحت اليد اليمنى في الفرجة التي بين السبابة الوسطى.
وسبيلنا إلى معرفة أصل اللغة أن ندرس لغات القردة الحاضرة، ولغة الطفل، ونقابل اللغات الشائعة والقديمة لنرى وجه الاتصال بينها، ولم يدرس واحد من هذه الشئون درسا تاما أو مرضيا للآن، غير أننا نعرف أننا نشترك والقردة العليا في لفظة «كخ» التي تقال لزجر الطفل عن شيء، وهذه اللفظة موجودة للآن في جميع اللغات، ونعرف أن لفظتي الأب والأم هما (با) و(ما) اللتان ينطق بهما الطفل في عامه الأول، وأن إشارة النفي التي نفهمها من هز الرأس قد نشأت من محاولة الطفل رفض شيء تريد أمه أن تضعه في فمه، ونعرف أيضا أن هناك بضعة كلمات يشترك فيها الإنجليزي الحاضر والمصري القديم، ثم الألماني المتحضر والأسترالي المتوحش، ثم زنوج إفريقيا والأوربيون، مما يدل على أن اللغات قد تطورت من أصل واحد أو عن عدة أصول قليلة.
وقد كانت النار عاملا قويا في تنشئة اللغات وإيجاد الكلمات؛ لأنها كانت تجمع النساء حولها فيأخذن في القيل والقال كما هو شأنهن الآن، وكانت النار أيضا تجعل السهر في الليل ممكنا، وعندئذ لا يمكن التفاهم بالإشارات، فيصبح اختراع الكلمات ضرورة لازمة.
ولا شك في أن محاكاة الصوت المسموع كان أصلا مهما في اختراع الألفاظ، وكان الإنسان الأول يعتمد عليه كثيرا في التعبير عن أفكاره، وما زلنا للآن نرى ذلك الأصل في ألفاظ خرير المياه واصطكاك الأسنان وصرير الباب وحفيف الأوراق وعواء الذئب وهدير الرعد، وكذلك في المطر والرعد وفوات القدر وإصفاق الأمواج وما إلى ذلك.
ولغتنا العربية غنية بالاشتقاق، مما يدل على أنه كان كثير الشيوع قديما؛ فقد عرف الإنسان النار فاشتق منها النور والنهار، وكان يعبر عن الضخامة والكبر بلفظة قديمة لا بد أنها انقرضت وبقي عندنا منها عدة ألفاظ قريبة في النطق والمعنى، مثل جل وكل وجبل وجمل ولج وجلل.
ولا بد أيضا أنه كان للاستعارة والمجاز شأن عظيم أيضا في تأليف اللغات، وعندنا في «أساس البلاغة» الذي وضعه الزمخشري ما يثبت عظم المدى الذي قطعه الإنسان عن هذا السبيل في تأليف اللغات.
وربما كان أشق ما نال الإنسان في تأليف الكلمات وأعنته إعناتا عظيما مسألة الأرقام؛ فقد يمكن أن يكون عند الأستراليون نحو خمس مئة لفظة تدل على ما حولهم من الأشياء ولكن ليس عندهم سوى لفظتين اثنتين للأرقام؛ وهما واحد واثنان، أما الثلاثة فهي اثنان وواحد، والأربعة اثنان واثنان، وما زاد على ذلك فهو «كثير».
وقد كان للغة أثر كبير في زيادة الفهم في الإنسان؛ لأن التفاعل دائم بين اللسان والدماغ، لا يرتقي الواحد إلا بارتقاء الآخر؛ فالمعنى يتحدد ويتضح إذا أحسن اللسان التعبير عنه باللفظ، وهكذا كانت اللغة مثل اليد، إحدى وسائل سيادة الإنسان، وقد استطاعت اللغة أن تجعل الزمن تاريخيا والفضاء جغرافيا، وبهذا نشأت الثقافة البشرية.
واللغة تعود إلى الاجتماع والإنتاج المشترك، فلو أن الإنسان كان يعيش منفردا لما احتاج إلى اللغة؛ إذ مع من يتفاهم؟!
فالإنسان، حين ترك الإقامة على الشجر وصار يجتمع مع أقرانه للصيد، صار يتفاهم مع هؤلاء الأقران بالإشارة أولا، ثم باللغة ثانيا.
العصر الحجري
تمتاز يد الإنسان على يد القرد بأن لها إبهاما، فيمكن اليد بذلك أن تتناول الأشياء تناولا حسنا وتصنع الآلات، وليس بين القردة ما يمكنه أن يصنع آلة - وإن كانت بعض القردة العليا تحمل العصا وتقذف الأحجار - وليس ذلك إلا لأن إبهام اليد في القرد صغيرة جدا لا تصلح للقبض على الأشياء وتحريكها بما يلائم صناعتها وصياغتها في شكل خاص.
وقد نتساءل هنا: لماذا صغر إبهام القردة العليا دون إبهام الإنسان ما دام قد نشأ كلاهما من أصل واحد هو «القرد الإنساني المنتصب» كما يظن كروكشانك، أو من حيوان آخر يشبهه؟
والجواب على ذلك أن الإنسان اتخذ الأرض مقاما له، أما القردة فاتخذت الأشجار، ومعيشة الأشجار تقتضي القدرة على القفز من غصن إلى غصن، والإبهام في هذه الحالة لا تسعف صاحبها، بل تعوقه؛ فإننا إذا أردنا أن نتعلق بغصن أو قصبة اكتفينا بأصابعنا الأربع ولا حاجة لنا إلى الإبهام.
وعلى ذلك نعود فنكرر بأن الإنسان يمتاز على القردة بجملة أشياء صغيرة في ذاتها، كبيرة في نتائجها، وليس ينكر أننا نمتاز على القردة بضخامة الرأس وما يتبع ذلك من عقل كبير، ولكن هذا العقل لم يكن ليفيدنا شيئا لو لم تكن لنا يد ماهرة في صنع الأشياء، ولو لم يكن لنا لغة نفهم بها ما ينطق به غيرنا وما ننطق به أنفسنا، بل إن اللغة هي الأصل في ضخامة الدماغ وليس العكس.
والإنسان في أول عهده بالصناعة لم يكن يعرف سوى الأحجار والأصداف والقرون والخشب والعظم، يصنع بها آلاته الحادة التي يستعملها في القطع والقتال، وقد أطلق على هذا العهد اسم «العصر الحجري»؛ لأن معظم آلاته فيه كانت من الحجر، كما نعرف بعد ذلك عصر «البرونز»، ثم عصر «الحديد» الذي لا نزال فيه إلى الآن.
وبعض الهمج لا يزال يعيش للآن في العصر الحجري، فلا يمكنه أن يصنع آلة من البرونز أو الحديد، وهذا هو الحال - مثلا - في بعض شعوب إفريقيا وشعب أستراليا القديم، وكان العرب إلى عهد قريب يستعملون سكاكين من الحجر، كما تدل على ذلك لفظة «ظران». (فأسان من الحجر) (إبر من عظم) (سكاكين من حجر)
وقد تطور العصر الحجري أيضا، فأقدم ما نجده من الآلات،
وهو بالطبع أعمقها في أودية الأنهار ومسيل الأمطار، يكون على الدوام حجرا يكاد يكون مخروطا، كان الإنسان يقبض عليه بيده فيستعمل طرفه المستدق للتمزيق وسلخ الحيوان، وإحداث الجروح في العدو، والحفر وما إلى ذلك، أما طرفه الغليظ فيستعمل في الدق والضرب. (أقدم الآلات الحجرية كانت تستعمل للضرب والتمزيق)
ثم ارتقت الآلات الحجرية بعد ذلك، فصارت تصنع منها السكاكين والفئوس، وتوضع في نصاب من الخشب أو العظم، واستمر استعمال الأحجار مدة طويلة حتى بعد ظهور البرونز؛ فإن تهيئة البرونز كان يحتاج إلى ثقافة، من معرفة بالنار إلى كيفية استنباط مواده الخامة، إلى غير ذلك مما لم يكن في مقدور كافة الناس أن يعرفوه.
ومن الآلات الحجرية ما نجده غاية في إتقان الصنعة، كبعض السكاكين والفئوس والحراب، بل بلغ الإنسان من الإتقان في ذلك أن صار يرسم على الحجر صور الحيوان الذي كان يصيده؛ كالفيل والثور وغيرهما، وكان يخيط ملابسه المصنوعة من الجلود والفراء بإبر من العظم.
وكثيرا ما نجد هذه الآلات الحجرية في مكان غريب يدل على عقلية الإنسان الأول، والبواعث التي كانت تدفعه إلى الاجتماع والعمل المشترك؛ ففي بعض الأحيان نجد ربوة عالية تنتهي إلى هوة عميقة، وفي هذه الهوة نجد هذه الآلات الحجرية مع ركام من عظام الحيوانات؛ كالفيل أو الحصان أو الثور.
وتعليل ذلك أن الإنسان كان يصيد هذه الحيوانات بأن يطردها إلى مثل هذه الربوة ويحتاشها إليها، فإذا اندفعت عادية إليها، وجماعة الناس وراءها يضجون ويصيحون، لم يسعها أن ترتد لقوة اندفاعها فتقع في الهاوية وتتردى، فتذهب إليها الجماعة وتسلخ جلدها، وتأخذ بعض عظامها، وقد تأكل شيئا من لحمها.
وربما كان صيد الحيوان أول ما دعا الناس إلى الاجتماع والقيام بعمل مشترك، وفي الاجتماع تنشأ الرياسة والنظام، ثم عرف بعد ذلك الحرب، وهي إحدى درجات الرقي في الإنسان.
ملابسات المجتمع الأول
لنا سبيلان إلى تحقيق الحالة الاجتماعية الأولى التي كانت تلابس الناس عند أول ظهورهم على الأرض:
الأول:
معرفة أحوال الهمج والمتوحشين الآن، ودرس عقائدهم الدينية وشبه الدينية من سحر وغيره؛ فإن الإنسان قبل أن يتحضر كان في الأرجح كثير الشبه في حالته الاجتماعية بالهمج الآن.
الثاني:
معرفة بعض العادات الفاشية بين المحضرين الآن، والتي فقد المتحضرون دلالتها، ولكننا نفهم هذه الدلالة إذا نظرنا إلى هذه العادات في ضوء الأحوال الفاشية بين الهمج.
وأهم ما يجب اعتباره في درس الهيئة الاجتماعية الأولى هو هذه المسائل الثلاث: (1)
حالة الزواج وملابساته. (2)
نشوء الرياسة التي هي أصل الحكومة. (3)
الطوطم والطبو.
وإنما نبحث عن هذه الأشياء في حالة البداوة الأولى حين كان يعيش الإنسان بالصيد، دائم الرحلة من مكان إلى آخر في طلب القوت، أما حين ظهرت الزراعة وهدأ الإنسان في مكان ، فإن أحواله الاجتماعية كانت قد ارتقت، فانتظمت الحكومة ورسخت عادات مرعية في الزواج والدين لا تكاد تختلف عن عاداتنا الآن.
وقد تكلمنا في فصل سابق عن الزواج، كيف بدأ بالنظام الأموي وقت الرحلة والتجوال، وانتهى بالنظام الأبوي بعد الزراعة.
ولكن يجب ألا نستسلم لقواعد جامدة؛ ففي مدة الرحلة ظهرت عادة السبي، فإن بعض الذكور كانوا يجدون مشقة في الحصول على الأنثى فيخاطرون بالقتال، ويخطفون فتاة أو صبية، وكان بعض الذكور من القوة بحيث يجبرون بضع إناث على مرافقتهم، فيحرمون غيرهم من الأنثى، ويضطرونهم إلى القتال لخطف أنثى من مكان ناء، وعادة السبي هذه علمت الإنسان الحرب.
والحرب درجة من درجات رقي الإنسان، فإنها تتطلب الاتحاد والجلد والتضحية والطاعة والشجاعة والرياسة، وكل هذه خصال إنسانية اجتماعية، ولا يمكن الإنسان أن يعقل أن حربا كانت تنشب بين قبيلتين في زمن البداوة القديم إلا لأجل المرأة؛ لأنه لم يكن هناك شيء يملك غير المرأة.
وكذلك عادة السبي عودته الزواج بامرأة واحدة؛ لأنه قبل أن يعرف السبي كان كثير من الإناث ملكا لأقوى إنسان في القبيلة، فلما شاعت عادة السبي صار لكل إنسان تقريبا زوجة.
ولا يزال بين الهمج الآن عادات تمارس في العرس وتدل على أن السبي هو أصل الزواج، فإن الزوج يتظاهر بخطف المرأة بين ولولة النساء وصراخ الفتاة المفتعلين، وبين المتحضرين يلقى الرز في وجه الضيوف، ويحمل الرجل عروسه فوق عتبة الباب، والرز إشارة إلى الكفاح القديم في طرد الرجل ومن يساعده من عشيرته، وحمل العروس رمز إلى خطفها وسبيها.
وقد نشأت عادة أخرى من السبي، وهي أن لا يتزوج الإنسان من عشيرته؛ فالصينيون للآن لا يتزوج منهم الشاب فتاة يتفق اسمه واسمها، وليس لهذا من معنى إلا أن القدماء كانوا يستحسنون السبي، ويعدونه الطريقة المشروعة للزواج، واتفاق الاسمين كان يدل على اتفاق الأصل، فلا يصح - عندئذ - الزواج.
وربما لم يكن الصداق الذي صار يدفع لأهل المرأة بعد ذلك إلا فدية يفتدي بها الجاني جنايته في سبيه إحدى الفتيات، فيعوض أهلها من خسارتهم، ولكن يجب أن نذكر أن الصداق لم ينشأ إلا بعد الزراعة وهي الحضارة، أما قبل ذلك فلم يكن شيء جديرا بالامتلاك غير المرأة، فلم يكن سبيل إلا الافتداء.
ولننظر الآن في الرياسة، كيف نشأت، وكيف ارتقت إلى حكومة؛ فإن رئيس القبيلة أو العشيرة كان أقوى فرد فيها، ولكنه لم يكن يمارس سلطانه على أفراد القبيلة إلا حيث يرد اعتداء على نسائه؛ لأنه لم يكن يبالي بشيء آخر؛ فكانت زوجاته يتقين غضبه على أولادهن بمنعهم من النظر إليهن؛ وخاصة إذا شبوا، ومن هنا عادة لا تزال شائعة بين المتوحشين، وهي أنه عندما تمر زوجة الأب يخفي ابنه وجهه؛ حتى لا يراها فيدخل في قلب أبيه الشك، فهذا هو أول المحرمات الأخلاقية التي يعرفها أفراد القبيلة.
ولم يكن للإنسان في أول عهده منازل، والمتبع بين المتوحشين الآن إذا أراد الرئيس أن يتشاور مع كبار رجال قبيلته في شأن مهم عن حرب أو غارة أن يجتمع بهم في مكان بعيد عن سائر أفراد القبيلة، وفي هذه الحالة يعاقب كل فرد يقترب من هذا المجلس بالقتل.
وكيفية استدعاء هذا المجلس وإنذار سائر الأفراد به أن يحمل واحد شيئا يدعى «هدارة»، وهي ليست سوى عصا قصيرة محزوزة في أحد طرفيها، ويربط بها حول هذا الجزء خيط قوي من شعر، ويربط في طرفه الآخر مثقلة من خشب، فإذا أدار الإنسان هذه المثقلة حول العصا أحدثت ما يشبه هدير الرعد، فيفهم رجال القبيلة أن هناك مجلسا فلا يقتربون منه. (الهدارة وحولها ثلاثة أنواع من المثاقل التي تربط بالعصا)
وهذه الهدارة ضرورية - كما قلنا - لأنه ليس للمتوحشين منازل يمكنهم أن يجتمعوا فيها، وهذا المجلس هو أول تلميح إلى وجود سلطة ورياسة وحكومة، وربما كان عند الإنسان الأول نظام أبسط من هذا، ولكن الهدارة معروفة عند المتوحشين في أمريكا وأستراليا وإفريقيا، مما يدل على قدمها.
والبحث في الحكومات القديمة التي بلغت شيئا من الرقي يثبت أنها نشأت من أحد أصلين، أو منهما معا:
فالأصل الأول:
يرجع إلى القائد في الحرب (وهذا إلى رئيس القبيلة)، ومنه نشأت فكرة الملوكية.
والأصل الثاني:
يرجع إلى الساحر، ومنه ظهر الكهنة، ولا يزال معنى السحر باقيا في هذه اللفظة في لغتنا، لأن الكاهن ساحر، وفي التكهن عرافة وتنبؤ، وقد عاش بنو إسرائيل وهم لا يعرفون سوى حكومة الكهنة مدة طويلة.
وقد يجتمع الاثنان معا فيصير الملك كاهنا، ولكن الملوك والكهنة لم يظهروا إلا بعد أن ارتقى الإنسان، أما في حالة البداوة القديمة فلم يكن شيء من ذلك.
ولننظر الآن في شيئين لا يخلو منهما أحد المجتمعات عند المتوحشين، ولا بد أن الإنسان الأول قد عرفهما، وهما الطوطم والطبو، وليس شيء كتب عنه العلماء وخطوا فيه أكثر مما كتبوا وخطوا فيهما؛ وعلة ذلك أن المتوحش نفسه لا يحسن التعبير عن معتقداته، وليست لغته مما يمكن عالما أن يتقنها.
وصفوة ما يقال في الطوطم أن نساء المتوحشين لا يعرفن أن الرجل هو سبب الحمل في المرأة، فإذا مرت المرأة الحبلى على ثعبان أو عظاية، أو سنح لها طائر أو حيوان، اعتقدت أن هذا الحيوان هو سبب حملها وولادتها، فإذا ولدت وشب ابنها صار هذا الحيوان طوطما له، لا يجوز أن يقتله أو يؤذيه للصلة التي وهمت الأم وجودها بينها وبينه!
فلكل فرد من الهمج طوطم لا يجوز له أن يقتله، وللقبيلة طوطم عام له هذه الحرمة أيضا، وربما كان في ذلك أصل لتقديس بعض الحيوان بعد ذلك.
ثم هناك الطبو، وهي لفظة بولينيزية عممها العلماء على كل ما هو محرم عند المتوحشين، وفكرة التحريم عند المتوحش تختلف عما نفهمه من هذه الكلمة؛ فمثلا زوجة الأب طبو لأولاده؛ أي إنهم محرومون من أن ينظروا إليها أو أن يتعاملوا معها، فإذا فعلوا ذلك صاروا هم أيضا طبو يحرم على رجال القبيلة أن ينظروا إليهم أو يتعاملوا معهم.
فمن ارتكب شيئا محرما عند المتوحشين صار نجسا يحرم على سائر أفراد القبيلة النظر إليه، وبعبارة أخرى نقول إن من ارتكب طبوا صار هو نفسه طبوا، وفي شريعة موسى ما يدل على أن بعض الناس كانوا طبوا في نظر الغير لا يجوز لهم ممارسة الأعمال الدينية، ومن الطبو نشأت الأخلاق؛ إذ عرف الإنسان ما يجوز له أن يعمله وما يجب عليه أن يتجنبه.
وفي طور آخر من أطوار الإنسان المتقدمة صار بعض الحيوانات طبوا لا يجوز للإنسان أن يأكله؛ كالخنزير مثلا، إنما لا ينبغي أن نفرض حدوث ذلك في المجتمع الأول؛ فإن الخنزير - مثلا - لم يصر طبوا إلا بعد انتشار عقيدة التقمص، وهذه العقيدة تحتاج إلى رقي فكري لم يكن قد بلغه الإنسان الأول، وهي قائمة على أنه إذا أكل الإنسان الخنزير صار هو نفسه خنزيرا مثله؛ لأنه بعد أن أكله قد تقمص جسمه وروحه.
وليس يمكننا أن نترك موضوع المجتمع الأول بدون أن نذكر شيئا عن السحر وعقيدة المتوحشين الآن، أو الإنسان الأول قديما وكيفية نظره للموت والمرض.
والسحر نوعان: سحر التقليد، وسحر العدوى؛ فسحر التقليد، أو المحاكاة، نراه في الأسترالي حين يريد الساحر قتل إنسان، فيقلد حركات القاتل في قتله وإن كان بعيدا عن الشخص المراد قتله، وكالعربي الجاهلي حين يستنزل الأمطار بصب ماء من إناء؛ أي كما ينزل الماء من الإناء كذلك ينزل المطر من السماء. (تكوين لبعض الأناسي الذين انقرضوا ويعثر على أحافيرهم في عصرنا) (أستراليان يقتلان أحد الناس بالسحر، والشخص الذي يراد قتله في مكان ناء لا يريانه)
أما الثاني فسحر العدوى؛ فالساحر يحرق ثوب الشخص المراد قتله فتنتقل عدوى الفناء (= الموت) من الثوب إلى صاحبه، وفي مصر الآن نرى آثار هذا السحر في الرقية.
وقد ذكرنا أن المتوحشين لا يعرفون سبب الحمل والولادة، وهم كذلك لا يعرفون سبب الموت أو المرض؛ فالقتل والجرح كثيران بينهم، ولذلك فهم يعزون الموت الطبيعي أو المرض إلى قوة غير منظورة وجهها أحد الأشخاص إليهم، ويساعدهم على هذا أنهم يرون هؤلاء الأشخاص في أحلامهم.
ووظيفة الساحر عند أحط المتوحشين تنحصر تقريبا في إصابة أحد الأشخاص بالمرض أو بالموت، فيقبض على حربة صغيرة ويلقيها في ناحية الشخص المراد قتله وهو بعيد عنه، فإذا عرف هذا الشخص ما فعله الساحر عمد إلى ساحر آخر كي يشفيه، أو يمتلكه الخوف فيموت بقوة الإيحاء والوهم.
وإصابة الناس على بعد بالشر والضرر لا تزال موجودة عند العامة، كما نرى في وضع الكف بهيئة «كبة»، والأصبع الثاني المسمى «السبابة» يدل على هذا المعنى القديم؛ لأن الاسم مشتق من السب؛ أي الشتم.
ومن السحر نشأ بعد ذلك الطب (ولا يزال معنى هذه الكلمة في العربية السحر)، والكهانة، ولها أيضا هذا المعنى.
أصل الحضارة
تطلق الحضارة على جملة معان خاصة تجتمع معا فيتألف منها معناها؛ ففي الناس طوائف تعيش في الغابات بعيدة عن الحضارة، وبدو الصحراء ليسوا متحضرين إلا بمقدار ما اكتسبوه من المتحضرين؛ من لباس يلبسونه أو ثقافة بسيطة قد تلقنوها منهم في تدجين حيوان أو الإيمان بإله أو معرفة شيء عن الكواكب.
فنحن نفهم من معنى الحضارة ناسا يعيشون معا في مقام لا يرحلون عنه، لهم صناعة أو زراعة يرتزقون منها، ولهم نظام اجتماعي ونظام حكومي، ولهم شيء من ثقافة الدين أو العلم قلت أو كثرت.
والآن نتساءل: كيف نشأت الحضارة؟
ونقول إنها نشأت بعد أن سبقها دهر طويل من حال البداوة، حين كان الإنسان يعيش باقتيات الجذور والأثمار البرية وبعض الحشرات وصغار الحيوان، على نحو ما تفعل القردة العليا الآن، وكان الذكر يستأثر بأنثى ويمنع سائر الذكور من الاقتراب منهن، ثم أخذ الإنسان في الاجتماع لأجل الصيد، فساعده ذلك على: (1)
صناعة السلاح من الأحجار للصيد. (2)
إيجاد حرمة لنسائه وقت غيابه، وهذا أول الأخلاق. (3)
اجتماع النساء معا، وفي ذلك تنشيط اللسان على الكلام وإيجاد لغة للتفاهم. (4)
استئناس بعض الحيوانات الصغيرة التي قتلت أباؤها في الصيد.
ولكن كل ذلك لم يكن ليكفي لإيجاد حضارة؛ فقد كان الإنسان لا يزال يعيش عريانا لا يعرف شيئا عن الصناعات المختلفة، يجهل القراءة ولا يعرف من الدين سوى أرواح الغابة وما يتشوش به ذهنه من الأحلام، والحقيقة أنه لم يكن في حاجة إلى الحضارة؛ فقد كان مشردا لا يهدأ بمكان ولا يطمئن إلى صناعة.
وإنما ابتدأت الحضارة حين عرف الإنسان الزراعة؛ لأن الزراعة تقتضي الإقامة بمكان لا متحول عنه، والإقامة تستدعي السكنى في كوخ، فتنشأ صناعة البناء، ثم يصير استئناس الحيوان - الذي كان يحدث اتفاقا وقت الصيد - تدجينا دائما، فتعرف صناعات الألبان والأصواف والأوبار، ويعرف الإنسان من اللبن فوائد الخميرة، فيستعملها في خبزه وجعته.
والزراعة تقتضي التوقيت المحكم، فيضطر الإنسان إلى معرفة شيء عن الكواكب؛ لأن الإنسان وهو في البداوة يكتفي بالتوقيت القمري، وهذا لا ينفعه بشيء في الزراعة؛ فهو لذلك محتاج إلى معرفة السنة الشمسية، ولا بد له من شيء من الفلك لإتقان ذلك، ثم هذا التوقيت لا يمكن إتقانه ما لم يضبطه بالكتابة.
فالحضارات الأولى نشأت عند الأمم الزراعية في البلاد المعتدلة الحرارة؛ مثل مصر، أو العراق، أو الهند، أو الصين، وأقدم حضارات العالم التي عرفها العلماء الآن هي حضارة مصر؛ ولذلك يمكننا أن نقول إن مصر هي أصل الحضارة في العالم أجمع.
ولست أنزع في هذا الكلام نزعة وطنية، فإن العلماء الإنجليز والأمريكيين يتجهون إلى هذا الرأي الآن، وأمامي الآن كتاب لأحد علماء الإنجليز يدعى: «أبناء الشمس» تأليف بري العالم الإنجليزي، يبلغ عدد صفحاته 551 صفحة، يستقصي فيه المؤلف آثار الحضارة المصرية في آسيا وأمريكا.
والمنطق والتاريخ يؤيدان هذه النظرية؛ فإن الإنسان كان طيلة الوقت الذي سبق اكتشاف الزراعة خلوا من أي معنى للحضارة، وكيف يكون متحضرا من يعيش في الغابة يأكل الأثمار والجذور ويصيد من وقت لآخر وحشا؟! فإن هذه الحياة لا تتطلب منه معرفة أية صناعة سوى صناعة الصيد.
فإذا سلمنا بأن الزراعة هي أصل الحضارة بقي أن نعرف أن الأمم الزراعية سبقت غيرها؛ إذ لا بد أن واحدة منهن قد سبقت الجميع، ولسنا نعرف من تاريخ بابل أو الهند أو الصين أن إحدى هذه الأمم تساوي مصر في قدم تاريخها.
والاستقراء يثبت أن الثقافة المصرية، من دينية وصناعية، قد خرجت من مصر وسارت في جميع آسيا، بل وصلت إلى أمريكا؛ حيث عرف أسلوب من التحنيط المصري في وقت كان قد مات فيه من مصر؛ إذ كانت المسيحية قد انتشرت عندنا، على نحو ما نرى الآن الصناعات التي كانت فاشية في عهد الحروب الصليبية قد انتشر استعمالها الآن بين زنوج إفريقيا الغربية الذين يصنعون السيوف والدروع على طريقة الصليبيين.
ولا بد أن الحضارة الأولى نشأت في بلاد معتدلة الحرارة حول أحد الأنهار؛ لأن الزراعة التي هي أول أنواع الحضارة لم تكن مستطاعة في العصور الأولى في بلاد شديدة الحرارة أو شديدة البرودة.؛ لأن شدة الحرارة تسرع نمو النبات والأعشاب فلا يستطيع الإنسان السيطرة عليها، ولا يزال للأن سهل الأمازون في برازيل غير آهل بالسكان؛ لكثرة غاباته وأحراشه التي لم يقدر الإنسان على التغلب عليها.
وكذلك شدة البرودة تبطئ نمو الزرع، ويتكلف فيها الزراع مشقة أكبر مما يتكلفه الزراع في البلاد المعتدلة الحرارة، وإنما تنجح الزراعة في أوربا الآن لكثرة الآلات العصرية.
فبلاد مصر هي أولى البلاد التي ظهرت فيها الزراعة في العالم لاعتدال مناخها، وهي لذلك أول قطر عرف الحضارة في العالم؛ لأن الزراعة أجبرت المصري على أن يعرف صناعة البناء (والخزف ضمنا) وتدجين الحيوان وخميرة الخبز والجعة والتوقيت، وهو يحتاج إلى معارف فلكية عن الشمس والكواكب، ثم الكتابة لكي يضبط بها التوقيت في تقويم خاص.
وما زلنا نحن للآن نشهد بصحة توقيت قدماء المصريين باستعمالنا تقويمهم في الزراعة؛ فإن السنة القبطية هي السنة المعول عليها بين الفلاحين الآن، ومن الحروف الهيروغليفية الصورية اهتدى الفينيقيون وغيرهم إلى حروف أبجدية انتشرت في جميع أنحاء العالم.
وبوجود الزراعة في مصر وجد مجتمع منظم، ووجد نظام للكهنة وأوقاف للمعابد، وصار الدين عقائد ثابتة لا تتغير، وكل هذه الأنظمة خرجت من مصر وفشت في البلاد الأخرى، بل ربما كانت لفظة «آمين» المنتشرة في العالم الآن التي تختم بها الأدعية هي نفسها لفظة «آمون» الرب المصري القديم؛ لأنها في الهيروغليفية تكتب «آمن»، ويمكن أن تنطق أمان وأمين وأمون.
وهذه هي الحضارة، وهي لا تختلف عن حضارتنا الراهنة إلا من حيث الدرجة لا من حيث النوع، فمنذ عرف الإنسان الزراعة بدأت الحضارة.
أما كيف عرف الإنسان الزراعة فلا يزال موضع شك، وقد قيل في ذلك أنه عندما كان الإنسان يدفن موتاه كان يضع بعض الأثمار معه حتى يأكلها؛ اعتقادا بأنه يحتاج إلى الطعام بعد وفاته، فكانت البذور التي في الأثمار تنمو، بل تنمو زكية لأنها تتغذى بسماد الجثة المتوفاة، فكان هذا داعيا إلى تنبيه ذهنه إلى الزراعة وإلى الإيمان بأرواح الموتى أيضا.
ومن الإيمان بأرواح الموتى ترقى الإنسان إلى الإيمان بالآلهة، ومما يزيد هذا الظن أن الأمم القديمة، وبعض الطوائف المتوحشة الحديثة، كانت تضحي بإنسان أو بماشية وتقطعه أجزاء توزعها في الحقول حتى يزكو الزرع؛ كأنها تجري على التقليد القديم حين كان يعتقد الإنسان أن الزرع لا ينمو إلا عن واسطة ميت، وربما ابتدأت الملكية في الأرض أيضا من هذا الأصل؛ لأن من دفن قريبا له صارت الأرض حوله حرما له يزرع فيه ما يشاء، ويكون الزرع ملكه؛ لأن روح الميت التي أنبتته هي روح قريبه الذي لا حق لأحد عليه غيره.
وسواء أصحت هذه الفروض عن الزراعة أم لم تصح فإن الذي يمكن الجزم به أن الزراعة هي أصل الحضارة، وأن القطر المصري أول ما زرع من أقطار العالم، فهو بذلك أصل حضارته، وانتظام الفيضان الذي يأتي به النيل كل عام مع مواظبته في مواعيد محددة كان جديرا بأن يفتح أذهان المصريين القدماء إلى قيمة الماء في حياة النبات، وبأن يرشده إلى الزراعة.
وبتقدم الصناعة وظهور المعادن صارت الزراعة تتجه نحو الشمال بالتدريج، في أفينيقيا أولا، ثم في بلاد الإغريق، ثم في إيطاليا، ثم في أوربا، صاعدة من الجنوب إلى الشمال؛ أي من الحر إلى البرد.
وأغلب الظن أن الزراعة نشأت أولا على عمل الرقيق، وللرق فضل على الإنسان؛ لأنه علمه مزاولة العمل والإقلاع عن حياة التشرد في الغابات، وفي معاني «عمل» و«شغل» و«نصب» ما يدل على أن الإنسان القديم لم يكن يستسيغ العمل.
وكما كانت الزراعة أصل الحضارات القديمة فهي لا تزال أساس الحضارات الحديثة، ولكن ظهر عامل جديد في الحضارة، وهو الصناعة التي يختلف أثرها الاجتماعي عن أثر الزراعة؛ فالزراعة تدعو إلى تشتيت العمال، كما هو الحال في الهند ومصر، وهذا يساعد على وجود حكومات استبدادية، وأيضا تتوافر فيها الأقوات الرخيصة ويتكاثر فيها السكان، فتنتشر الفاقة بين العمال الفلاحين لهذا السبب، والفاقة تدعو إلى الاحتقار والمهانة، ثم إلى استبداد الأغنياء بالفقراء.
أما حيث تكون الحضارة صناعية فإن أجور العمال تبقى مرتفعة والأقوات غالية الثمن، وارتفاعها يدعو إلى احترامهم؛ لأنهم لا يظهرون بمظهر الفقر المهين، والعمال يتجمعون حول المصانع ويتعاونون على صيانة حقوقهم وزيادتها، وهنا تنشأ الحكومة الديمقراطية، ومن هنا نفهم السبب في ديمقراطية الحكومات الأوربية.
والحضارة الأوربية تتجه الآن نحو الاشتراكية بلا جدال، يساعدها على ذلك نزعة الأهالي الديمقراطية وكثرة الآلات؛ فإن انتشار الآلات والمصانع الكبيرة لا يتفق والملكية الفردية.
أصل الدين
عاش الإنسان الأول حقبة طويلة من الزمن قبل أن يعرف ما هو دون الدين من ممارسات السحر والكهانة؛ فلم تكن اللغة تساعده بعد على أن يوضح لنفسه غوامض هذا الكون، فإذا فكر في مسائل الحياة والموت، والعالم والكون، وما إلى ذلك من نفس وجسد وعقاب وعقاب وثواب، اختلطت أفكاره وارتبكت خواطره؛ لأنه لم يكن في لغته الكلمات التي تؤدي هذه المعاني، وليس من الممكن أن نتصور معنى مجردا ما دمنا نجهل الكلمات التي تعبر عنه.
دع عنك أن هم الإنسان الأول كان مصروفا إلى إرضاء شهوة الطعام والشهوة الجنسية، ولم يكن الطعام وفيرا؛ لأن الزراعة لم تكن قد عرفت بعد، ووسائل الصيد لم تكن أيضا قد عرفت؛ فأوربا التي تقيت الآن أكثر من ثلاث مئة مليون نفس لم تكن تكفي نصف مليون إنسان، أو على الأكثر مليونا يقطعونها جبالا وأنهارا لكي يهتدوا إلى بعض الجذور أو الحشرات أو الثمرات لكي يأكلوها.
ثم إن الشهوة الجنسية في الإنسان والقردة أشد مما هي عند سائر الحيوان، بل هي في الإنسان أشد من القردة، كما ترى في شعر العانة الذي اختص به الإنسان دون سائر حيوانات العالم أجمع، والذي لم ينشأ فيه إلا لفرط قواه الجنسية، ولفتا للأنظار إلى أعضائه التناسلية، والزينة الخلفية الحمراء في بعض القردة الدنيا هي لهذا الغرض أيضا.
فلم يكن الإنسان يهتم إلا لهاتين الشهوتين، ولم يكن يفكر إلا فيهما، وكانتا لذلك تستغرقان كل وقته، فلما عرف الصيد والاجتماع وارتقت لغته بعض الرقي بدأ «يعتقد» في أشياء، وأخذ يتدرج- عندئذ - من السحر إلى الوثنية، ثم إلى التوحيد.
وكان الموت أحد الشئون الكبرى التي انبنت عليها عقيدة الإنسان الأول؛ فإن الموت الطبيعي لم يكن من مألوفات الإنسان، وكان أكثر ما يرى الموت عند القتل أو التردي أو الغرق، فيعرف عندئذ سببه، أما أن الموت يحصل بلا سبب فهذا ما لم يكن يعقله؛ لذلك صار يعتقد أن الإنسان عندما يموت وحده بشيخوخة أو مرض إنما يحدث له هذا الموت بفعل إنسان بعيد عنه أراد به المرض أو الموت ونجح في تحقيق إرادته بالسحر.
ومن هنا نشأ السحر؛ فإن المتوحشين للأن في أستراليا وإفريقيا يستأجرون ساحرا لكي يوقع المرض أو الموت بعدو لهم بعيد عنهم، والساحر وهو يؤدي هذه الخدمة يقلد حركات القاتل، فيجمع جراميزه ويضرب بسلاحه هذا الشخص المقصود.
ولكن الإنسان الأول لم يكن يعتقد أن الموت نهاية الحياة؛ وسبب ذلك أنه كان يرى أحيانا أن بعض الأشخاص كان يغمى عليهم فتظهر عليهم أمارات الموت ثم يفيقون، وكان أحيانا يرى بعض الموتى في أحلامه فيخاطبهم ويخاطبونه كأنهم أحياء، فيتوهم من ذلك أن الموت لا يناقض الحياة، وقد نتج عن ذلك عدة أشياء: (1)
صار الإنسان يعنى بالجثة ويقدم لها الطعام معتقدا أن صاحبها حي، فنشأ من ذلك صناعة التحنيط وفكرة القربان والتضحية. (2)
عندما كان يموت عدوه أو أحد كبار المجرمين الذين آذوا القبيلة أو العشيرة، كان يخشى بأسهم بعد الموت، فكان يقيد أيديهم وأرجلهم إذا ماتوا، أو كان يضع فوقهم ركاما من الأحجار حتى لا يستطيعوا القيام من تحتها، فنشأت من ذلك صناعة القبور ثم المعابد . (3)
عندما كان يموت رئيس العشيرة أو القبيلة، أو أحد الأبطال المحبوبين، أو الذين كان يخافهم ويحترمهم في حياته وينظر إليهم كأنهم حماة القبيلة، كان يستمر على احترامهم بعد الموت، ويذكرهم هو وذريته من بعده، فيصير هؤلاء الأبطال آلهة، وتصير قبورهم معابد تزار. (4)
كانت الجثة تبلى فيزول فمها ويداها، فيعرف أنها لا يمكنها أن تأكل، فيضع شبها من الطين أو الحجر ويقدم له الطعام، ومن هنا نشأت صناعة الأصنام والتماثيل، بل الفنون الجميلة الأولى.
ولكن هنا يجب أن نذكر أن للفنون الجملة أصلا آخر، وهو السحر؛ فإن بعض السحرة إذا أرادوا أن يؤذوا أحدا صنعوا تمثالا له من الطين ثم قتلوه؛ اعتقادا بأن ما يحصل للتمثال يحصل لصاحبه (وهذا سحر التقليد أو المحاكاة)، وعلى كل حال، يجب أن نعتبر هذين الأصلين في نشأة الفنون الجميلة.
وقد كان الإنسان الأول يأكل بعض أعضاء الموتى المشهورين لكي يحصل على قوتهم، وكان يفعل ذلك أيضا بمن يقتله من الأعداء إذا كان يعتقد فيه القوة والبأس، ومن هذه العادات نشأت فكرة التقمص وفكرة الروح، والغالب أنها نشأت متأخرة جدا؛ أي بعد ممارسة تلك العادة مدة طويلة.
ومعظم المتوحشين الذين يعرفون الآلهة لا يعرفون عقيدة الشيطان، وهذا يدل على أن هذه الفكرة حديثة العهد، وربما كانت فارسية، وعلى كل حال فلفظة شيطان عبرانية، لعلها مشتقة من سيت (شيت) إله الشر المصري، وإبليس لاتينية (ذيابولوس).
أما خروج الإنسان من الوثنية إلى التوحيد فيحتاج إلى شرح طويل، وإنما خلاصة ما يقال إن التوحيد نشأ عند الأمم التي لا تحسن صناعة البناء والتماثيل والأصنام؛ ولذلك ظهر بين الأمم البدوية التي تعيش في الخيام؛ مثل الهكسوس والإسرائيليين والعرب، والأغلب الهكسوس هم أول من آمن بإله واحد يجدونه في كل مكان يترحلون إليه، ولا يحتاجون إلى تمثيله في صنم يرهقهم حمله ونقله، أما الأمم المتحضرة فكانت تجيد صناعة الأصنام، تنحتها من المرمر فتخلب أفئدة المتعبدين، وكانت لها هياكل ثابتة عليها كهنة ولها أوقاف، فكان من الصعب جدا أن تروج بينها فكرة التوحيد.
تطور اللباس
ليس تاريخ اللباس عند الإنسان سوى تاريخ الزينة والحلي؛ فإن الإنسان لم يلبس اللباس في أول أمره اتقاء للبرد والحر، وإنما هو قصد منه إلى الزينة فقط، وهذا هو حال جميع المتوحشين الآن؛ فبعضهم - مثل الفويجيين - لم يعرفوا اللباس قط في تاريخهم، ولا هم في حاجة إليه الآن مع صرامة الجو الذي يعيشون فيه.
ونحن إذا نظرنا الآن إلى لباس السيدات عندنا أو عند الغربيات وجدنا أن الزينة هي العامل الأكبر في انتقاء الزي، وأن المحل الثاني للفائدة الصحية أو لا محل لها على الإطلاق، ونحن الرجال لا يزال في لباسنا شيء كثير من الزينة الخالية من أية منفعة لنا، كما نرى في الطربوش الأحمر وعذبته السوداء، ورباط الرقبة، والأزرار العديدة، والخواتم وغيرها.
ولذلك فالكلام عن تطور اللباس هو في أكثره شرح لضروب الزينة التي تزين بها الإنسان من أقدم عصوره إلى الآن، وأكبر ما يبعث الإنسان على الزينة هو ظهور المرأة بمظهر يلفت إليها نظر الرجل ويستدعي إعجابه، وظهور الرجل بمظهر يلفت إليه نظر المرأة؛ لأنه لم يكن في العالم شأن عند الإنسان القديم - بعد الطعام - أهم من العلاقة الجنسية التي تربط النساء بالرجال، فهذه العلاقة التي تشغل عقلنا الكامن (الباطن) الآن، والتي هي مبعث أكثر خواطرنا وأحلامنا، كانت كذلك عند الإنسان الأول، بل كانت أشد من ذلك؛ لأن مشاغله كانت محدودة بالنسبة إلى مشاغلنا، فكان أكثر اجتراره الفكري خاصا بالشهوة الجنسية.
فالوزرة التي يغطي المتوحش بها أعضاءه التناسلية لا يدفعه إلى وضعها الحياء من الناس، بل هو يقصد منها إلى لفت نظر الأنثى إليه، وكذلك الحال في الوزرة التي تضعها المتوحشة، وهذا هو السبب في أن هذه الوزرة لا تزيد أحيانا عن أن تكون عقدا من الودع والصدف لا يخفي شيئا، بل يؤكد معنى؛ فالحياء من المعاني الحديثة التي أنتجها التمدن، والتي لا يعرفها الإنسان المتوحش أو الحيوان، بل الذي أوجدها هو اللباس.
وكلمة «الحياء» مشتقة من «الحيا» وهو عضو التناسل في المرأة، ولا بد أن الإنسان عند بدء خروجه من الحالة الحيوانية كانت بشرته مغطاة بالشعر، وهو لم يتجرد من شعره إلا بالتدريج، بل هو لم يتجرد منه تماما للآن.
وربما كان «الانتخاب الجنسي» العامل الأكبر في هذا التجرد؛ فلأمر ما قام في ذهن الرجال منذ زمان بعيد أن المرأة المتجردة من الشعر أجمل من المرأة الكاسية به، فصارت أقل النساء شعرا أكبرهن أولادا، وهؤلاء الأولاد يرثون أمهم في قلة الشعر، وما يحدث في المرأة ينعكس أثره بحكم الوراثة في الرجل، فيتجرد الرجل أيضا من الشعر، وإن كان تجرده أخف من تجرد المرأة (على نحو ما ظهرت الثديان في صدر الرجل تبعا لظهور الثديين في صدر المرأة).
ومن ضروب الزينة التي تؤيد نظريتنا، وهي أن الحياء ليس أصلا للباس، أن الشعر ينمو حول الأعضاء التناسلية عند الرجال والنساء دون سائر قرابتنا من القردة العليا؛ فهذا الشعر حديث العهد، وهو لا يقصد منه إلا لفت النظر وابتعاث الخواطر الجنسية في الأنثى والذكر.
وقد تكون معرفة الإنسان بالنار وتعوده الاصطلاء بها من الأسباب التي دعت إلى زوال الشعر أو قتلته؛ فالنار تؤدي وظيفة الشعر في الدفء، ثم هي تؤذي الرجل الشعراني، وقد تؤدي إلى احتراقه.
ومن ضروب الزينة التي يمارسها الهمج الآن، وربما كان أسلافنا يمارسونها أيضا، تحزيز الوجه والجسم، ولعل الأصل في ذلك أن يثبت الإنسان أنه قد تمرس بالقتال وجرح، على نحو ما يفخر الطلبة في الجامعات الألمانية الآن بما تركته المبارزات من الجراح في أجسامهم.
ومن ضروب الزينة أيضا صبغ الوجه بصبغة ما؛ فالهمج في أستراليا - مثلا - يمضغون ورق اليوكالبت (الذي يسمى في مصر خطأ بالكافور)، ثم يدلكون بمضاغهم بشرتهم، فتكتسب بذلك لونا أخضر، والأصباغ التي تستعملها النساء الآن لا تحتاج إلى شرح.
ومن التحزيز والإصباغ نشأ الوشم الذي لا يزال يمارسه المتوحشون في إفريقيا وغيرها، والمنحطون من المتمدنيين في بلادنا؛ فالوشم هو تحزيز في الجسم يوضع فيه الصباغ.
وبعض الزينة له قيمة سحرية؛ فبعض نسائنا يتزين بحلية قبيحة من الذهب تدعى «كف مريم»، وكذلك يفعل المتوحشون فيحملون على صدورهم يدا أو سنا يتوهمون أنهما تردان عنهم عادية الأرواح البشرية.
ولكن كل هذه الزينة لم تكن لتؤدي إلى اللباس الذي نعرفه الآن، والذي صار فيه معنى الوقاية من الحر والبرد، والأصل في اللباس هو في الأغلب عادة الرجال الذين فازوا في صيد أحد الحيوانات في وضع فروه أو جلده على أكتافهم؛ للفخر والتزين أمام الرجال والنساء؛ فمن صاد حيوانا مفترسا؛ كالأسد أو الببر، حمل جلده شهادة على بسالته وقوته، فيغطيه الرجال وتعجب به النساء، ويبقى يحمل هذا الجلد كل يوم لهذه الغاية، وينافسه آخر في هذا العمل حتى يصير حمل الجلود أو الفراء سنة متبعة عند الجميع، ثم تعرف قيمتها بعد ذلك في الدفء.
وقد مضى دهر طويل والإنسان يلبس جلود الحيوان قبل أن يعرف المنسوجات؛ فإن هذه كانت تحتاج قبلا إلى الزراعة، وإلى عدة فنون أخرى.
تنازع البقاء في عصرنا
لا يمكن أن يكون تطور دون أن يكون هناك تنازع بقاء، أو ما يقوم مقام هذا التنازع من انتخاب صناعي مقصود.
مثلا، حيواناتنا الداجنة لا تتنازع البقاء؛ أي إن أفرادها لا تتغالب على العيش والتناسل، ولكننا مع ذلك ننتخب منها ما نرغب في نسله ونخصصه للفحلة، فيحدث عندئذ التطور؛ تظهر أولا سلالات جديدة، ثم يشتد التباين بين هذه السلالات حتى تصير أنواعا جديدة.
وكذلك الحال في الإنسان في الحضارة الراهنة؛ فقد أصبح بمثابة الحيوان المدجن لا يتنازع أفراده على البقاء والتناسل إلا تنازعا ضعيفا قليل الأثر في تطوره، دع عنك أنه ليس بين أفراده انتخاب صناعي، وإليك إيضاح ذلك: (1)
كان الإنسان الأول لا يعرف الزراعة، فكان يلقى المشاق في الاهتداء إلى طعامه، وكان القطر المصري لا يسع أكثر من خمسين ألف نفس، كلهم يستعمل ذكاءه وقوته وشجاعته للحصول على طعامه من الغابات، فلم يكن ثم مجال لأن يعيش في هذا الوسط رجل يشوب جسمه أو قلبه أو عقله أي ضعف.
وكان كل إنسان يبذل جهده لكي يحصل على قوته، أما الآن فإنه يعيش في مصر نحو 22 مليونا قد تعلموا الزراعة ومارسوها بأيسر مجهود، فالمجال واسع لعدد كبير من الضعفاء لأن يعيشوا. وقل مثل ذلك في جميع أنحاء العالم المتمدن؛ فالمعيشة الآن أيسر مما كانت في زمن البداوة الأولى، وهذا يجعل تنازع البقاء أضعف مما كان. (2)
لم يكن الحصول على امرأة في الزمن القديم أمرا متاحا لجميع الذكور؛ إذ كان أقوى العشيرة يستأثر بجميع النساء، ثم لما عرف السبي كان شجعان القبيلة وحدهم يحصلون على النساء، فكان التناسل محصورا مقصورا على الشجعان والأقوياء وذوي الحيلة في بلوغ الرياسة.
وهذه الحال لا تزال جارية بين المتوحشين للآن، وهي تؤدي إلى بقاء الأقوى الأشجع، وفناء الأضعف الأجبن، ولكننا نجد خلاف ذلك بين المتمدنين؛ فإن كل إنسان بصرف النظر عن ضعفه يتزوج الآن وينسل إلا في حالات قليلة جدا لا يعتد بها، فالزواج بين المتدنين يعوق التطور؛ لأنه يطبع الأجيال القادمة بطابع الأجيال الحاضرة. (3)
كان القتال في زمن البداوة الأولى يساعد على بقاء الشجعان والإكثار من نسلهم؛ إذ لم يكن يقاتل الرجل إلا من أجل الحصول على امرأة، فإذا انتصر كان انتصاره شهادة له بتفوقه، وكان حصوله على المرأة وسيلة لأن ينشر خصال التفوق في هذه الجماعة التي ينتسب إليها، أما الآن فإن عكس ذلك يحصل؛ لأن الحروب الحاضرة تفني شباب الأمة المنتقى، حتى قيل إنه عندما مات نابليون نقصت قامة الفرنسي؛ لكثرة من ماتوا في حروبه وكانوا منتقين من طوال القامات. (4)
كان الإنسان الأول لا يعرف شيئا من ضروب العناية بالمريض، فكان كل مريض يهلك أو يشفى بقوة ما فيه من حيوية أصلية، فكانت الأمراض لذلك قليلة، وجميع أفراد القبيلة في حيوية تامة، أما الآن فإن المريض يعيش بين ظهرانينا ويمكنه أن يتزوج وينسل نسلا ضعيفا مثله، فينتشر الضعف في الأمة، وما يقال في ضعيف الجسم يقال أيضا في ضعيف العقل؛ فإن الأبله أو المغفل يعيشان كلاهما في الحضارة الراهنة وينسلان، وهما لو كانا في البداوة الأولى لما عاشا يوما واحدا؛ فإن الغابة بما فيها من ثعابين ووحوش وحشرات، بل وإنسان أيضا، لا تتسع لأن يعيش فيها أبله أو مغفل أو مريض. (5)
في الحضارة الراهنة شيء من الانتخاب الصناعي في معاقبة المجرمين باعتقالهم في سجن أو بقتلهم، وفي كلتا الحالتين يمتنع نسلهم إما جزئيا وأما كليا، وليس شك أن بعض دوافع الإجرام الحاضرة كانت السبيل إلى التفوق في الأزمنة القديمة، ولكن أكثرها يرجع إلى ضعف الأعصاب ضعفا يؤدي أحيانا إلى تأزمها، وإلى نزوات جنونية من مصلحة الجماعات البشرية أن تخلص منها؛ فعقاب المجرمين، حتى مع اعتبار الجرائم التي تحدث من المظالم الاقتصادية، لا يزال عاملا من عوامل بقاء الأصلح في الأمم؛ والأصلح الآن هو الرجل الهادئ الأعصاب الذي راض نفسه على العمل في خدمة نفسه وخدمة الأمة.
فعوامل التطور أو بعبارة أخرى عوامل الرقي في الإنسان قليلة، بل تكاد تكون معدومة، بخلاف الحال بين الحيوان والنبات البريين أو بين المتوحشين أنفسهم، وهذا ما دعا العلماء إلى تأسيس علم اليوجنية؛ أي علم إصلاح النسل؛ فإنهم لما وجدوا الانتخاب الطبيعي قد وقف فعله بين الناس عمدوا إلى ما يقوم مقامه، فكان ذلك الانتخاب الصناعي بسن قوانين التعقيم التي تمنع غير الأكفاء من التناسل، وإن لم تمنع زواجهم.
إنسان المستقبل
لو أن إنسانا من عالم آخر زار الأرض قبل نحو مئتي مليون سنة، حين لم يكن في البحار سوى الأسماك وما هو أدنى منها من الحيوان، ولم يكن على اليابسة شيء من الحيوان مطلقا، أو كان بها بعض الحشرات، ثم قيل له إنه بعد مئتي مليون سنة ستتحول زعانف الأسماك إلى أيد وأرجل، وتصير مثانتها رئة تتنفس بها الهواء مباشرة، ثم يخرج السمك إلى اليابسة فيمشي ويتسلق الأشجار، ثم تصير هذه الأيدي أجنحة فيطير في الهواء - لظن أن هذا الكلام هو غاية السخف بل العته.
نقول هذا تحذيرا للقارئ حتى لا يستبعد شيئا يقال عن مستقبل الإنسان بعد ملايين السنين الآتية؛ فإن التطور لم يقف، وإن كانت وجهته قد اختلفت عما كانت قبل في الإنسان.
فالإنسان كان وقت بداوته خاضعا كل الخضوع لتنازع البقاء؛ يستأصل منه ضعيف الجسم أو العقل أو العاطفة ويعمل الاستئصال لرقيه، ثم طرأت عليه الحضارة فسهل العيش على عدد كبير منه كان مقضيا عليهم لو أنهم كانوا يعيشون بغير وسائل الزراعة التي يسرتها لهم الحضارة.
وقد كانت وجهة التطور قبل أن يتحضر الإنسان تنحو نحو ترقية جسمه وعقله بإحداث تعديلات فسيولوجية في تركيب أعضائه حتى يوافق الوسط الذي يعيش فيه، على نحو ما يحدث للحيوان أو النبات الآن، ولكن عندما بدأ الإنسان يتحضر صار يسيطر هو على الوسط بدلا من أن يخضع له.
كان الإنسان في حال البداوة أو في الحال الحيوانية السابقة إذا اشتد البرد وقسا على الأجسام بادت منه أفراد بحكم الانتخاب الطبيعي؛ فمن كان كاسيا بالشعر أكثر من غيره، أو من كان يقوى لأي سبب آخر على تحمل البرد، عاش وأنسل وأورث نسله صفاته في حين كان يموت غيره، أما في الحضارة الآن فإنه عند اشتداد البرد يحمي نفسه بمنزل يأوي إليه بفراء الحيوان أو الملابس المنسوجة من النبات، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء.
فالإنسان إذا لم يوافقه الوسط الآن عمد إلى عقله ليفكر في تغييره حتى يوافقه، في حين أن الوسط كان قديما يؤثر فيه ويعمل على تعديل جسمه بما يوافقه، ولو كان كل منا يستعمل عقله في جعل الوسط موافقا له لما كانت الحضارة عائقا عن التطور، وكل ما يكون في الأمر - عندئذ - أن التطور كان ينتقل من الجسم إلى العقل، ولكن الحقيقة أن واحدا في المليون تقريبا يهديه ذكاؤه إلى طريقة للتغلب على الوسط فيستفيد منها سائر المليون بدون أن تكون لهم أية ميزة تستدعي بقاءهم.
فالحضارة أعاقت التطور بعض الشيء، ولكنها لم تعقه كل الإعاقة؛ إذ لا يزال تنازع البقاء يقتل منا أفرادا بالسجن والتشريد والمرض والبله، ويبقي على أفراد آخرين.
ثم يجب ألا ننسى أن حالة الوجدان (الوعي) هي حال جديدة في الإنسان، ليس هناك ما يدل على أنها موجودة عند الحيوانات العليا إلا بمقدار يسير؛ فنحن نشعر بما نفعل، ونشعر بوجود شخصي؛ لنا أمس ولنا غد، بل منا من يسرف في الإحساس بحالة الوجدان هذه ويحسب لما بعد الموت ويخرف.
فهذا الإحساس؛ أي إحساس الوجدان بأنفسنا، لا يشعر به أي حيوان، وهو آخذ في الازدياد فينا، وسيخرجنا في المستقبل من حياة الغريزة الإنسانية إلى حياة التعقل والقصد.
فنحن الآن نتناسل بحكم الغريزة، وإن كان بعضنا - وهو الأقل - بحكم عقله، ولكن حكومات المستقبل ستعرف قيمة التناسل فتجعل قاعدته القصد لا الغريزة، وتقصره على فئة خاصة من الناس تجد فيها ما ترغب في أن تحصل عليه الذريات القادمة، فإذا بلغ بنا الوجدان أن نضع التناسل موضع القصد والنظام بدلا من أن نجري فيه اعتباطا بوحي الغريزة، كان لنا منه في الحضارة من الانتخاب الصناعي ما يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في الحال الحيوانية القديمة، بل في حال البداوة الإنسانية، وعندئذ يرتب الزواج بطرق تضمن رقي الإنسان السريع، وليست قوانين الوراثة معروفة كلها الآن، ولكن عرف منها قانون «مندل»، وهو بلا شك أقوى أداة في المستقبل لإيجاد السلالات الجديدة من الإنسان، وإن كانت لا تزال أشياء كثيرة منه مجهولة.
وليس يمكن الجزم بنوع الزواج في المستقبل البعيد، وهل يجري على مقترح أفلاطون أو مقترح جماعة أونيدا، وإنما الغرض في كل حال هو تأصيل الإنسان كما تؤصل الحيوانات أو النباتات الآن. (قانون مندل، وهو أهم ما عرف في الوراثة؛ خلاصته أنه إذا تلاقح حيوانان كانت بعض صفات أحدهما غالبة في النسل على صفات الآخر، ولكن إذا تلاقح أفراد هذه النسل ظهر نسلهما بنسبة لا تتغير. ففي هذا الشكل - مثلا - نجد أننا إذا ألقحنا خنزيرا أسود من سلالة سوداء خالصة «من خنازير الهند» بخنزيرة بيضاء من سلالة خالصة، كان الجيل الأول أسود هجينا؛ لأن صفة السواد هي الغالبة، فإذا لاقحنا بين أفراد هذا الجيل الأول ظهر النتاج هكذا في الجبل الثاني: واحد أسود خالص، إذا تلاقح مع السود لم ينسل أبيض، وواحد أبيض خالص إذا تلاقح مع البيض لم ينسل أسود، ثم اثنان هجان «في الوسط» ينسلان كما أنسل الجيل الأول)
ولا شك في أن تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه إليها نظر المربين للإنسان، ويمكننا أن ننظر إلى إنسان المستقبل بعين الخيال، فنجد أضخم ما فيه رأسه؛ فهو يقوم على جسمه كالبلون الكبير فوق عنق قصير ضخم وأكتاف قوية، أما الجسم فيكون قصيرا ضامر البطن نحيف الأطراف، وستزول من القدمين أصابعهما كما زالت من بعض القردة (الأورانج أوتان) أظافرها.
أما من حيث العواطف، فإنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافا كبيرا؛ لأن الغرائز ستضعف فيه إلى حد الانعدام تقريبا، فهو لن يعرف الحب أو الغضب أو الخوف؛ إذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة.
أما الغضب والحقد والخوف والغيظ فهي صفات صائرة إلى الزوال القريب؛ لأنه لن يعود لها فائدة في المستقبل؛ فقد كانت هذه الصفات تنفعنا في الماضي في حياة الغابة، فكان الخوف إنذارا للفرار، وكان الغيظ يحرك فينا الرغبة في التغلب على خصمنا، وكان الغضب يخيفه ويرده عن أذانا. (تمثال آدم كما تخيله المثال أبستين الأمريكي)
وستقتصر هموم إنسان المستقبل على درس هذا الكون والتملي بجماله واكتشاف مجاهله، ومن يدري لعله يفتح فتحا جديدا في أحد العوالم الأخرى، أو لعله يعرف لغة يتخاطب بها أفراده وهم سكوت بلا حاجة إلى ألفاظ، بل بلا حاجة إلى اقتراب الأشخاص. وكل هذا خيال، ولكنه خيال يستضاء فيه بالتطور الماضي والأحوال الحاضرة؛ فمن التطور نعرف أن بعض الحواس الخمس ارتقى في الإنسان أكثر من ارتقائه في أي حيوان.
مثال ذلك: الذوق والنظر، فبعض الطيور أبعد نظرا منا، ولكن نظرها غير دقيق؛ لأنها تنظر بعين واحدة ولا تجمع نظر العينين إلى جهة واحدة، ثم هي سيئة الذوق. ونحن أضعف من بعض الحيوان في حاستي السمع والشم، بل في حاسة اللمس أيضا، وهذه الحواس الثلاث الأخيرة تخدم الغريزة أكثر مما تخدم العقل؛ ولذلك فالأغلب أنها صائرة إلى الزوال في الإنسان الذي سيكون جل اعتماده في المستقبل على النظر، إلا إذا ارتقت فيه الحاسة الموسيقية فارتقى لذلك سمعه، على نحو ما حدث بين الطيور.
ثم ليس يبعد أن تنشأ حواس أخرى؛ كالإحساس عن بعد مثلا، وهو ما يدعيه بعض الناس الآن؛ فقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وهي إذا كانت صحيحة فإنها تنشأ في أفراد قلائل، ثم تعم بين البشر على نحو ما نرى أناسا يولدون الآن وليس في أقدامهم أظافر.
وقد قلنا إن الحضارة تعيق تطور جسم الإنسان وعقله بعض الإعاقة؛ فالرجل السيئ الذاكرة يتذكر الأشياء بكتابتها في دفتر، والرجل الضعيف النظر يمكنه أن يقويه بالنظارة، وكلاهما ينسل وينشر نقيصته في النوع البشري، في حين أن الحدأة السيئة البصر تموت جوعا، والغزال البطيء في عدوه لا يستطيع البقاء أمام الوحوش التي حوله.
ولكن الناس في المستقبل سيعمدون - كما قلنا أيضا - إلى القصد في التناسل، فلن يكون التناسل حقا مشروعا لكل إنسان، بل يقصر على ذوي الكفايات الجسمية والخلقية والذهنية، وهناك في عصرنا أمم كثيرة تعمد إلى تعقيم الناقصين في الكفايات حتى لا يتناسلوا، وإن كان هذا التعقيم لا يحول دون الزواج؛ ولذلك لا خوف على الإنسان من الحضارة، فإن فيها الداء والدواء معا.
ونستطيع أن نبصر في إنسان المستقبل، بعد نحو مئة ألف سنة أو أقل، هذه الصفات التالية: (1)
دماغ كبير يترجح تجويفه بين 1800 و2000 سنتيمتر مكعب، وهو الآن في المتوسط نحو 1450 س. م في المتوسط، وسيصل الإنسان إلى هذه الحال بانتخاب صناعي تعنى به المجتمعات البشرية القادمة؛ لأن زيادة الدماغ تعني زيادة الذكاء، وأكبر ما يعمل لزيادة الذكاء وتكبير الدماغ هو زيادة المعارف البشرية التي ستتطلب زيادة في خلايا الدماغ. (2)
سيتسع حوض المرأة ويزداد كفلاها بذلك حجما؛ كي يمر الجنين (بعد زيادة رأسه) دون عائق من ضيق الحوض. (3)
زوال أصابع القدمين باشتباكها واكتسائها باللحم؛ لأنه لم تعد لنا أية منفعة منها، وهذا بالطبع بعد زوال الأظافر الذي ابتدأ منذ الآن. (إنسان المستقبل = رأس ضخم، وزيادة في قوة النظر وحدته، مع ضعف أو زوال الحواس الأخرى، وقامة قصيرة، وجسم أملط متكتل قوي الفقار لحمل الرأس الضخم) (4)
صغر الفكين، وزوال ضرس العقل، واندغام بعض الأسنان الأمامية مع صغر حجمها؛ لأننا لن نحتاج إلا إلى أقل المضغ. (5)
يزيد النقص في حواس الشم والسمع واللمس إلى ما يقارب الزوال، بل إن الشم قد أوشك أن يزول منا، ولكن النظر يزداد قوة ودقة، وقد يبقى السمع حاسة أنيقة لنفهم النغم واللحن. (6)
يضمر البطن، وربما تزول المعدة والقولون؛ (أي المعى الكبير) ويبقى المعي الصغير فقط للهضم؛ لأننا لن نحتاج إلى خزن الطعام أو نفايته؛ وكذلك سنقنع من الطعام بالحجم الصغير والغذاء المركز. (7)
سيزول الشعر عن أجسامنا بما في ذلك الرأس والوجه، فيصبح وجه الرجل أملط كوجه المرأة، وكذلك جسمه، بل كذلك رأس المرأة سيخلو من الشعر، والصلع عندنا هو بداية الخطة التطورية التي ستنتهي بالملط التام. (8)
ستقصر القامة وتزداد فقرات العنق والظهر متانة، وكذلك عظام الصدر والكتفين؛ لكي تحمل الرأس الكبير. (9)
ربما يكون التفاهم بين الأشخاص بلغة تلقائية غير منطوقة في الأكثر إلى جنب اللغة المنطوقة في الأقل.
تشارلس داروين
تعزى نظرية التطور إلى داروين، حتى إنها كانت تسمى إلى وقت قريب «الداروينية» كأنها مذهب ديني ينتسب إلى إمام معين، ومن حق القارئ أن يعرف شيئا عن ترجمة هذا المفكر العظيم؛ لأنه لا يمكن مؤلفا أن ينفصل من مؤلفاته؛ إذ هي تصطبغ وفق مزاجه وذكائه، وقبل كل ذلك وفق العوامل الثقافية التي تعاصره.
ينتسب تشارلس داروين إلى أسرة اشتهرت بالذكاء؛ فإن جده لأبيه هو «أرازموس» الذي عالج نظرية التطور بالذات، وحاول أن يصل إلى حل لعقدتها؛ أي أصل الأنواع، وله مؤلفات في النبات؛ مثل «معبد الطبيعة» و«الحديقة اليونانية»، وكلاهما يتسم بالنظرة الشاملة والنزعة التعميمية اللتين تبرزان في مؤلفات حفيده.
أما جده لأمه فهو «ويدجود» الخزاف العظيم الذي لا تزال مصنوعاته من الأطباق والزهريات تباع تحفا غالية يقتنيها الأثرياء للفخر، ويعرضونها في مناظرهم للضيوف.
ومن هذين الجدين يعرف القارئ أن التراث الذهني الذي ورثه داروين من عائلتي أبيه وأمه لم يكن مما يستهان به.
وولد داروين في 1809، وحصل على التعليم المألوف في مدارس الطبقة المتوسطة، ثم التحق بجامعة أدنبره كي يخرج طبيبا، ولكنه بعد سنتين كف عن التحصيل؛ نفورا من الطب، ثم انتقل إلى جامعة كمبردج كي يخرج قسيسا، ثم كف أيضا عن التحصيل، وكان طيلة أيامه في هاتين الجامعتين متعلقا بهوايته التي صارت بعد ذلك رسالة حياته وغاية وجوده في هذه الدنيا، وهي دراسة الحيوان والنبات.
ولم يكن «العلم» بمعناه العصري مما يدرس في هاتين الجامعتين، ولم تكن له شهادة دراسية؛ ولذلك حصل داروين على دبلوم الآداب، بكلوريوس ثم ماجستير في الأدب.
ومن هنا نفهم أن داروين لم ينتفع بتاتا بالجامعة، وتخبطه بين الطب والكهانة يدل على تبلبل ذهنه وتسكعه في الثقافة، كما نفهم أنه لم يكن لهاتين الجامعتين أي فضل في اهتدائه إلى نظرية التطور، وكل ما يذكره داروين أنه عرف «الأستاذ هنسلو» في الجامعة، وأنه كان يسدده ويرشده في جمع الحشرات والنباتات النادرة، ويذكر زملاء داروين في شبابه أنه كان مغرما بجمع الحشرات، وكان يخرج في رحلات خاصة يبحث فيها عن النباتات الغريبة في البحر واليابسة.
وحدث في 1831 أن أعدت الحكومة البريطانية سفينة لارتياد المياه المحيطة بأمريكا الجنوبية؛ كي تسبر أعماقها وتدرس تياراتها مع الوقوف على أحوال الجزر في المحيط الهادي، وكان اندفاعها في الاستعمار والاستيلاء على الأقطار المتخلفة، وعلى الأسواق، يحملانها على العناية بدرس البحار وتكبير أسطوليها التجاري والحربي، وكانت السفينة في حاجة إلى شخص على دراية بما كان يسمى «التاريخ الطبيعي»؛ أي القليل من المعارف الخاصة بالنبات والحيوان والتغيرات الأرضية، فسعى داروين كي تختاره الحكومة لهذا الغرض، وحصل على توصية من الأستاذ هنسلو. (تشارلس داروين في شبابه حين سافر على السفينة البيجل إلى أمريكا الجنوبية)
وقد كتب داروين بعد ذلك تفاصيل هذه الرحلة التي رأى فيها الفويجيين المتوحشين في أمريكا الجنوبية، كما رأى السلاحف العظيمة والنباتات الغريبة - في كتاب مستقل نجد فيه تجرثم الفكرة التي كانت رسالة حياته بعد ذلك في تفسير نظرية التطور وتعميمها في العالم المتمدن، وهذا الكتاب يحوي معارف نادرة كثيرة، كما يدل القارئ على عناية داروين بالتفاصيل.
ولما عاد إلى لندن أخذ في ترتيب أوراقه، وكان من وقت لآخر يلقي محاضرات في الجمعيات العلمية في شأن الأحياء الغريبة التي لقيها في رحلته.
وتزوج ابنة عمه، وبقي في لندن سنوات قليلة، ثم رحل إلى قرية داون، وهي تبعد بضعة أميال عن لندن، وتمتاز بالبيئة الريفية التي يحتاج إليها؛ أي السكون للدراسة أولا، وقلة الاختلاط الاجتماعي الذي يفسد عزلة الكاتب المفكر ثانيا. وهذا إلى وفرة النباتات والحشرات والطيور والدواجن، وكان قد ورث ثروة من والديه تغل له دخلا متوسطا يكفي المعيشة المعتدلة فوق الحاجة ودون الترف.
وهنا استقر وشرع يؤلف، وأخرج كتابه العظيم «أصل الأنواع» في 1855، فارتجت الدنيا به كما لو كان قنبلة قد انفجرت وأسمعت الجامعات التي كانت تدرس الآداب، بل الغيبيات الخرافية والتي كان كثير من مدرسيها دكاترة في الإلهيات يعتقدون أن أسطورة آدم وحواء تكفي لتفسير الخلق، وقوبل الكتاب من الأكثرين بثورة من الغضب والحنق والاشمئزاز والنفور والسخرية، وقوبل من الأقلين بالرضى والتعقل.
ولم تمض سنوات حتى كان قد أعيد طبعه وترجم إلى أكثر من عشر لغات متمدنة، وكان هذا الكتاب جرثومة لتفكير توجيهي جديد، ليس في النبات والحيوان فقط، بل في الاجتماع والاقتصاد والدين والسياسة، وكان داروين في هذا الكتاب متحفظا مستحيا، ولكنه تجرأ بعد المجادلات، التي وصلت أحيانا إلى السباب، على أن يؤلف كتابا آخر هو «أصل الإنسان»، وموضوعه أننا والقردة من أرومة واحدة.
وفي 1872 ألف كتابا آخر، هو «التعبير العاطفي» في الحيوان، ثم ألف في 1875 كتاب «النباتات التي تأكل الحشرات»، وهذا غير رسائل عديدة موجزة أو مفصلة عن موضوعات نباتية أو حيوانية.
وبقيت مجلة «بنش» الفكاهية سنوات وهي تستمد من نظرية التطور، ومن داروين نفسه، موضوعا أسبوعيا للفكاهة، ولكن فكاهتها كانت خالية من السخرية، مقصورة على الدعابة، كما ترى من هذه الأبيات التي كتبتها في 1871، وفيها تصف أسلافنا كما صورهم داروين:
They slept in a wood,
On Wherever they could,
For they didn’t know how to make beds;
They hadn’t got hnts,
They dined upon nuts,
Which they cracked upon each other’s;
They hadn’t much scope,
For a comb, brush or soap,
Or towels or kettle at fire;
They had no coats nor capes,
For n’er did these apes,
Invent what they didn’t require. •••
From these though descended,
Our manners are mended,
Though, still we can grin and backbite;
We cut up each other,
Be he friend or brother,
And tails are the fashion - at night;
This origination,
In all speculation,
We gamble in various shapes;
So Mr. Darwin
May speculate in
Our ancestors having been apes.
والناظم هنا يتهكم بالمتمدنين كما يتهكم بداروين، ولا نحتاج إلى ترجمة هذه الأبيات ؛ لأنها سهلة مفهومة، كما أنها في الترجمة تفقد لذعتها.
وكان داروين مديد القامة يبلغ 180 سنتيمترا، وكان من الطراز الذي نسميه في عصرنا انبساطيا؛ أي كان وجهه مستديرا، قد بكر الصلع في رأسه، وكان سيئ الهضم كثير الشكوى، يحتاج إلى عناية خاصة في تهيئة الطعام، ولعله انتفع بهذا المرض الذي أكسبه عادات السكون والتأمل.
وكان يعرف في القرية باسم «الدكتور»، لا يجهله أحد من سكانها الذين كانوا يحبونه ويحترمونه، وكان يخرج عصاري كل يوم على جواده للنزهة ومعه كلبه، ولما مات الجواد لم يشتر غيره، وصار يكتفي بالسير في الطرق المتنحية بين الحقول، ولم يكن يشرب الخمر ولكنه كان يدمن التدخين، حتى كان يضع علبة الدخان خارج الغرفة كي يجد من بعدها عنه مثبطا عن الإدمان، وكان يستيقظ في السادسة من الصباح وينام في العاشرة مساء.
وقد أنجب سبعة أولاد مات منهم في الطفولة والصبا اثنان، أما الخمسة فقد نشأوا نشأة حسنة ونجحوا في الحياة، وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره قبل وفاته في 1882 كانت داره محجا للعلماء، يفدون إليه من القارات الخمس.
هذا هو الرجل الذي أكسبنا تصورا جديدا للحياة، ونقل التفكير البشري من النظر الغيبي الخرافي للكائنات الحية إلى النظر المادي الواقعي.
وفي فرنسا يعطى لتلاميذ المدارس الثانوية كتاب «براون سيكار» عن الغدد الصم للمطالعة والدارسة، وهو في ميدانه لا يقل في القيمة البذرية للتغيير الثقافي عن «أصل الأنواع» لداروين أو يقاربه، ولكن داروين وبراون سيكار لا تحبهما وزارة المعارف المصرية، وتؤثر عليهما الماوردي وابن المقفع ونكات العباسيين وأشعارهم في الهجاء والمديح، وهذا أحد الأسباب التي تمنع تغيرنا؛ أي تطورنا، وتبقينا أمة شرقية تتعلق بالتقاليد والخرافات، وتكره الابتكار والابتداع.
صفحة غير معروفة