إن مشكلة الحياة لا تتناقض مع مبادئ الفلسفة التجريبية. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها علم البيولوجيا في القرن التاسع عشر؛ فمن الممكن تفسير الحياة مثلما تفسر كل الظواهر الطبيعية الأخرى، وليس علم البيولوجيا بحاجة إلى مبادئ تخالف قوانين الفيزياء. أما الغائية الظاهرية للكائنات الحية فهي قابلة لأن ترد إلى السببية. وليست الحياة في حاجة إلى وجود جوهر لا مادي، أو قوة حيوية، أو كمال
entelechy ، أو غير ذلك من الأسماء التي اقترحت لمثل هذا الكيان العالي على الطبيعة. ومن هنا فإن فلسفة المذهب الحيوي
vitalism ، التي تقول بوجود جوهر حيوي خاص من هذا النوع، ينبغي أن تصنف على أنها وريثة للمذهب العقلي؛ فهي تنبثق من فلسفة تضفي على العقل قدرة على التحكم في الكون، وتبحث عن علم بيولوجي يفسر أصل العقل عن طريق جوهر لا يخضع لقوانين العالم الفيزيائي. أما النزعة التجريبية فلا تتجلى في التركيبات التي يقوم بها الفيلسوف فحسب، وإنما تتجلى أيضا في الموقف الذي يتابع به العالم بحوثه التجريبية. وبهذا المعنى تكون البيولوجيا الحديثة تجريبية النزعة، حتى على الرغم من أن بعض خبرائها يحاولون الجمع بين عملهم العلمي وبين فلسفة حيوية النزعة.
على أن تطور الحياة ليس إلا الفصل الأخير في قصة أطول، هي قصة تطور الكون؛ فقد ظلت مشكلة كيفية ظهور الكون تخلب لب الإنسان منذ ظهرت آراء القدماء الخيالية في منشأ الكون. على أن العلم الحديث قد توصل، باستخدام مناهجه الدقيقة في الملاحظة والاستدلال، إلى إجابة أشد إغراقا في الخيال من كل ما كان يحلم به الأقدمون. وأود أن أقدم عرضا موجزا لهذه النظريات، التي تكشف عن قوة المنهج العلمي في ميدان حقق فيه هذا المنهج واحدا من أعظم منجزاته.
كان من الضروري أن تكون هناك أولا خطوة منطقية؛ فبدلا من التساؤل عن كيفية ظهور هذا الكون، أصبح العالم يتساءل كيف أصبح الكون على ما هو عليه الآن. فهو يبحث عن تطور من حالات سابقة إلى الحالة الراهنة، ويحاول الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء على قدر استطاعته. أما إذا كان قد تبقى بعد ذلك شيء ينبغي السؤال عنه، فتلك مسألة سأناقشها بعد قليل.
إن الإجابة الأولى تقدمها إلينا نتائج الأبحاث الجيولوجية، التي تبين أن قشرة هذه الأرض قد تكونت عن طريق البرودة التدريجية لكرة غازية متوهجة، وما زال باطن الأرض متوهجا. أما القشرة الأصلية فتتضح في صخور الجرانيت التي رسبت المحيطات فوقها طبقات من الرواسب تكون الجزء الأكبر من سطح قاراتنا. ومن العجيب أن مدة عملية تكوين القشرة تقاس بنوع من الساعة الجيولوجية، عرف العلم كيف يقرأ إشاراتها. فالعناصر المشعة، كاليورانيوم والتوريوم وما إليها، تخمد بمعدلات معلومة، بحيث تتحول إلى مادة أكثر دواما، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح رصاصا. وبقياس النسبة بين كمية المواد الإشعاعية وبين كمية الرصاص كما توجد على سطح الأرض في المرحلة الراهنة، يستطيع الجيولوجي تحديد الوقت الذي استغرقه تحويل كل هذه المواد من عناصر إشعاعية بحتة. فإذا افترضنا أن العناصر الإشعاعية تكونت في الحالة الغازية للأرض، على حين أنه لم تكن هناك مواد مختلفة في ذلك الحين، فإن عالم الجيولوجيا يستطيع تحديد عمر الأرض على أساس هذا الوقت. وعلى هذا النحو تبين أن عمر الأرض يبلغ حوالي ألفي مليون سنة.
أما الإجابة الثانية فتتعلق بالنجوم؛ فمن الواضح أن النجم الثابت، مثل شمسنا، يمر بتطور، فيطلق إشعاعات بسرعة هائلة، ولا بد أن تكون له مصادر من الطاقة لتعويض ما يفقد من الطاقة باستمرار، ومن هذه المصادر الجاذبية، كما أدرك هلمولتس
Helmholtz . فالنجم ينكمش، والمادة المتحركة نحو مركزه تحول سرعتها إلى حرارة، وهناك مصدر أقوى للطاقة، هو تحول العناصر، كما يحدث في العمليات الانفجارية للقنبلة الذرية. وفي تلك الحرارة العالية التي توجد في باطن النجم، والتي تقدر في حالة الشمس بعشرين مليون درجة مئوية عند مركزها، تستمر عمليات التماسك والتحلل النووي على الدوام، وتتحول الكتلة إلى طاقة. وقد حلل بيته
Bethe
وجاموف
صفحة غير معروفة