ولقد دارت مناقشات مستفيضة، وأجريت تعديلات كثيرة على نظرية الانتقاء عند دارون، ولكن أسسها لم تتزعزع أبدا. وكان دارون يؤمن بوراثة الصفات المكتسبة، متأثرا في ذلك بسلفه العظيم لامارك
Lamarck ، فاعتقد أن التكيف الوظيفي، الذي يكتسبه الفرد بالمران، ينقل إلى ذريته. وقد دار خلاف كثير حول هذه النقطة، وحول دور هذه الفكرة في تصور دارون لنظريته. ومع ذلك، فهناك أمران نستطيع اليوم أن نقررهما على نحو قاطع؛ أولهما أن جميع الشواهد التجريبية المتوافرة اليوم تكذب القول بوراثة الصفات المكتسبة، وثانيهما أن «الدارونية» لا تحتاج إلى أية مسلمة من هذا النوع. وقد استطاعت البيولوجيا الحديثة، عن طريق الجمع بين فكرة دارون في الانتقاء الطبيعي وبين كشوف تجريبية معينة، أن تقدم تفسيرا مرضيا للتغير الوراثي «الموجه»؛ وبذلك تحررت من «اللاماركية» (أي نزعة لامارك).
هذا التفسير مبني على الإثبات التجريبي للتحولات
mutations ؛ أي التغيرات في المادة الوراثية للأفراد. مثل هذه التحولات يمكن إحداثها صناعيا بأشعة إكس أو بالحرارة، وهي تحدث في الطبيعة بفعل أسباب عشوائية، ولا ترجع أي تكيف للفرد مع ظروف حياته. وعندما تحدث هذه التحولات يكون الكثير منها معدوم القيمة، ولكن إذا حدثت تحولات مفيدة، فإنها تكسب الفرد قدرات أعظم على البقاء. وعندما يتم إثبات وجود تحولات وراثية راجعة إلى أسباب عشوائية، فإن الباقي يترك لقوانين الاحتمال التي تؤدي بمضي الوقت، على الرغم من بطء تأثيرها، إلى إيجاد أشكال للحياة تزداد علوا بالتدريج.
ولا يمكن أن يؤدي أي نقد إلى التشكيك في صحة هذا البرهان. فإذا اعترض بأن معظم التحولات ضئيلة إلى حد أنها لا تؤدي إلى ميزة ملموسة فيما يتعلق بالبقاء، فإن الباحث النظري في الاحتمالات يرد بأن التنوعات العشوائية ستحدث عندئذ في جميع الاتجاهات، إلى أن تتجمع في اتجاه واحد، بمحمض الصدفة، بحيث تؤدي إلى ميزة ملحوظة تساعد على البقاء؛ فضآلة التحولات يمكن أن تؤخر عملية التطور، ولكنها لا يمكن أن توقفها. وإذا اعترض بأن كثيرا من التحولات لا فائدة منه، كان الجواب هو أنه يكفي أن تكون هناك بالفعل تحولات مفيدة؛ فالانتقاء عن طريق الصراع من أجل الوجود هو حقيقة لا يمكن تفنيدها، والصدفة مقترنة بالانتقاء تولد النظام، هذا مبدأ لا مفر منه. وهكذا فإن نظرية دارون في الانتقاء الطبيعي هي الأداة التي ترد بها الغائية الظاهرية للتطور إلى السببية. وقد درس علماء الوراثة المحدثون مشكلات التحول والوراثة بكل تفاصيلها، وما زال هناك الكثير مما ينبغي دراسته، غير أن مبدأ دارون يقضي على الحاجة إلى الغائية.
إن نظرية التطور بأسرها مبنية على أدلة غير مباشرة، فهل سيكون من الممكن في أي وقت إيجاد أدلة مباشرة لها، عن طريق إنتاج إنسان في أنبوبة اختبار مثلا.
قد يبدو أننا نطلب أكثر مما ينبغي إذا أردنا أن نحاكي في الوقت القصير الذي تستغرقه تجربة معملية، عملية استغرقت الطبيعة مليون سنة للقيام بها، لولا أن الطبيعة ذاتها قد أمدتنا بنسخ قصيرة الأجل لهذه العملية في نمو كل جنين بشري. هذا النمو يبدأ بمرحلة الخلية الواحدة، وينتقل إلى مراحل أشد تعقيدا، تعيد تلخيص التاريخ الكامل للتطور، ولكن في صورة موجزة، كما بين «هيكل
Haeckel »؛ فهناك مثلا مرحلة تظهر فيها للجنين البشري زعانف خيشومية، ولا يكاد مظهره الخارجي يتميز فيها عن جنين السمكة. وعلى ذلك يبدو أنه ليس من الإسراف الاعتقاد بإمكان وضع البويضة المخصبة لإحدى الثديات في أنبوبة اختبار وتطويرها إلى فرد كامل، ولكن مثل هذه التجربة لا تثبت الشيء الكثير؛ لأن المادة الأصلية، وهي البويضة المخصبة، ستكون عندئذ نتاجا طبيعيا، وليست من صنع مركب كيميائي. أما أنه سيصبح من الممكن في أي وقت إنتاج البويضات والحيوانات المنوية للثديات بطريقة صناعية، فهو أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد. وإن عالم البيولوجيا الحديث ليشعر بالاغتباط لو أنه استطاع أن ينتح أميبا بعمليات صناعية.
غير أن مثل هذه التجربة الأخيرة، لو تمت، لكانت قاطعة إلى حد بعيد؛ فالدليل غير المباشر على التطور من الأميبا إلى الإنسان يبلغ من القوة حدا لا تكاد تدعو الحاجة معه إلى التوسع فيه بتجارب مباشرة. وأكثر المشكلات إلحاحا، بالنسبة إلى العالم البيولوجي الذي يريد أن يجعل نظرية التطور كاملة، هي إنتاج خلية واحدة من مادة غير عضوية. وقد لا يكون إجراء تجربة ناجحة كهذه أمرا بعيدا كل البعد؛ فقد دلت دراسة الكروموزومات (الصبغيات) على أن الجينات (أو المورثات
genes )، وهي تلك الأجزاء القصيرة من تركيب الكروموزوم الذي هو أشبه بالخيط، التي تنتقل بها الخواص الفردية، ليست أكبر من الجزيئات الكبيرة في المادة الزلالية. وأغلب الظن أن علماء البيولوجيا سيتمكنون يوما ما من تركيب جزيئات زلالية صناعية من نوع الجينات ومن نوع البروتوبلازم، ثم يجمعون بينهما، فينتجون بذلك مركبا له جميع خواص الخلية الحية. ولو نجحت هذه التجربة، لأثبتت على نحو قاطع أن أصل الحياة يمكن إرجاعه إلى المادة غير العضوية.
صفحة غير معروفة