مقدمة المترجم
تصدير
الباب الأول: جذور الفلسفة التأملية
1 - السؤال
2 - البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
3 - البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
4 - البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة
5 - النظرة التجريبية
6 - الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
الباب الثاني: نتائج الفلسفة العلمية
صفحة غير معروفة
7 - أصل الفلسفة الجديدة
8 - طبيعة الهندسة
9 - ما الزمان؟
10 - قوانين الطبيعة
11 - هل توجد ذرات؟
12 - التطور
13 - المنطق الحديث
14 - المعرفة التنبئية
15 - فاصل: هملت يناجي نفسه
16 - الفهم الوظيفي للمعرفة
صفحة غير معروفة
17 - طبيعة علم الأخلاق
18 - مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
مقدمة المترجم
تصدير
الباب الأول: جذور الفلسفة التأملية
1 - السؤال
2 - البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
3 - البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
4 - البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة
5 - النظرة التجريبية
صفحة غير معروفة
6 - الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
الباب الثاني: نتائج الفلسفة العلمية
7 - أصل الفلسفة الجديدة
8 - طبيعة الهندسة
9 - ما الزمان؟
10 - قوانين الطبيعة
11 - هل توجد ذرات؟
12 - التطور
13 - المنطق الحديث
14 - المعرفة التنبئية
صفحة غير معروفة
15 - فاصل: هملت يناجي نفسه
16 - الفهم الوظيفي للمعرفة
17 - طبيعة علم الأخلاق
18 - مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
نشأة الفلسفة العلمية
نشأة الفلسفة العلمية
تأليف
هانز ريشنباخ
ترجمة
فؤاد زكريا
صفحة غير معروفة
مقدمة المترجم
أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملا صحيح التوقيت؛ فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي (أو التجريبي المنطقي، كما يفضل هو ذاته أن يسميه)، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحيانا. ولا أستطيع أن أزعم أنني كنت طرفا في هذه المعركة، غير أنني عندما أحسست أنها اتخذت أبعادا أضخم مما ينبغي، وشابها كثير من سوء الفهم والتواء التفسير، حاولت أن أعبر عن شعوري إزاءها في مقال وصفتها فيه بأنها «معركة الملل» (جريدة الجمهورية 24 نوفمبر 1966م)، وقوبل هذا المقال - شأنه شأن كثير من محاولات تبديد سوء التفاهم - بشيء من الغضب من طرفي النزاع معا!
ولقد تبين لي أن الأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد مقال، وأنه لا بد من تقديم وجهة النظر موضوع النزاع على نحو أوسع وأكثر شمولا، لعل الاطلاع عليها أن يفيد جمهرة المثقفين في تبين بعض معالم المذهب الذي يتحدثون عنه. وعلى الرغم من أنني لم أكن في وقت من الأوقات من أنصار هذا المذهب، فإني لست، في الوقت ذاته، من أنصار مناقشة المسائل الفلسفية دون إلمام كاف بأبعادها الحقيقية؛ لذلك فقد وجدت الفرصة سانحة لإنجاز ترجمة هذا الكتاب أملا في أن يسهم في إلقاء الضوء على هذا المذهب، بحيث يتعرف عليه القارئ العربي من خلال كلمات واحد من أكبر ممثليه الأصليين، ويستطيع أن يصدر عليه حكما موضوعيا، بعيدا عن تلك الحساسيات التي تثور بين مفكرينا المحليين لأسباب قد لا تكون كلها علمية!
إن بلادنا تشهد اهتماما غير مألوف بالمشكلات الفلسفية، تعدى نطاق المتخصصين وشمل عددا غير قليل من أصحاب الثقافات المتباينة التي قد لا يكون لها اتصال مباشر بميدان الفلسفة. وهذا الاهتمام، في واقع الأمر، سلاح ذو حدين؛ فهو من جهة يفيد الفلسفة فائدة لا شك فيها، من حيث إنه يوسع قاعدة قرائها ودارسيها، ويجلب لها جمهورا لم يكن أحد يتصور أن الفلسفة ستجتذبه يوما ما. ولعل هذا هو القصد الحقيقي من الدراسة الفلسفية؛ إذ لا ينبغي أن تكون الفلسفة مبحثا يقتصر الاهتمام به على المتخصصين، وإنما يجب أن تتغلغل في الحياة العقلية للمثقفين بوجه عام، وتساعد كلا منهم على تكوين فهم أعمق للعالم الذي يعيش فيه. ومن المؤكد أن اقتصار الاهتمام بالفلسفة على مجموعة من المحترفين الذين لا يفهم أسرارها ولا يحل شفراتها سواهم، هو مظهر تدهور لا مظهر تقدم للفكر الفلسفي، غير أن لاتساع قاعدة الاهتمام بالفلسفة على هذا النحو وجها آخر، نستطيع أن نصفه بأنه وجه سلبي؛ إذ إن المناقشة والمجادلة الفلسفية يمكن أن تهبط إلى مستوى يشوبه قدر غير قليل من المغالطة؛ إذ كان أحد طرفيها أو كلاهما من الهواة الذين يخوضون ميدان الجدل وكأنهم متخصصون. ولقد كان واضحا، في المعركة الفكرية المتعلقة بالوضعية المنطقية، أن قدرا كبيرا من الخلاف يرجع إلى التسرع في فهم الآراء موضوع البحث، أو تحميلها من المعاني فوق ما تحتمل ، أو الانتقال بها من مجال إلى مجال آخر على نحو غير مشروع؛ وهذه كلها أمور يمكن معالجتها بالرجوع إلى المصادر الأصلية، ودراستها بأناة وروية.
ولو اتخذنا الكتاب الذي أقدم ها هنا ترجمته مثلا، لوجدنا أن الدراسة المتمعنة لما ورد فيه من الآراء كفيلة بأن تقنع الباحث بأن قدرا كبيرا من الخلاف بين أنصار الوضعية المنطقية وبين خصومها، ممن ينتقدونها على أساس أنها ليست علمية كما ينبغي، أو ليست علمية على الإطلاق، هو في واقع الأمر خلاف وهمي؛ لأن بين الطرفين نقاط التقاء تزيد بكثير على ما يظن كل منهما للوهلة الأولى. ولنضرب بعض الأمثلة لنقاط الالتقاء هذه، مستمدة من الآراء الفعلية التي وردت في هذا الكتاب: (1)
إن الحملة على التفكير الميتافيزيقي سمة مشتركة واضحة بين هذا الكتاب وبين الخصوم العلميين للوضعية المنطقية. وسوف يتضح للقارئ أن مؤلف هذا الكتاب قد كرس جزءا كبيرا منه لبيان الأخطار الناجمة عن الاستخدام الخالص للعقل، والاعتقاد بأن في استطاعة الذهن البشري أن يستخلص من ذاته، ودون رجوع إلى المصادر الفعلية للمعرفة، علما كاملا بالكون وبالإنسان. وهذا اتجاه لا أظن أن أية فلسفة علمية تنكره. (2)
ويرتبط بالحملة السلبية السابقة اتجاه إيجابي إلى الدفاع عن العلم، من حيث إنه أفضل ما في متناول أيدينا من وسائل اكتساب المعرفة؛ فالفكرة العامة التي يدافع عنها مؤلف الكتاب، هي أن الإجابات التأملية عن الأسئلة الفلسفية قد أخفقت طوال ما يزيد عن ألفي عام، على حين أن العلم قد بدأ، منذ القرن التاسع عشر بوجه خاص، يقدم إجابات حقيقية مقنعة على كثير من الأسئلة التي طالما تخبط فيها الميتافيزيقيون، بل إن المؤلف يسعى إلى توسيع نطاق العلم حتى في المجالات التي يظن أنها لا تخضع للقوانين العلمية؛ فهو يقدم في فصول كثيرة، ولا سيما في الفصل الأخير، دفاعا حارا عن خضوع دراسة المجتمع لقوانين علمية مشابهة لتلك التي تخضع لها دراسة الطبيعة، ويرد على الاعتراضات التي توجه إلى هذا الرأي، ولا سيما القول بأن الظاهرة الاجتماعية فردية لا تتكرر ، وهذا بدوره رأي تدافع عنه كل فلسفة علمية. (3)
ويحرص المؤلف في شتى المواقف على إنكار التفسير الغائي للظواهر، وتأكيد التفسير السببي لها، وقد أكد موقفه هذا بوجه خاص في الفصل الثاني عشر (الخاص بالتطور)، وهاجم الغائية بشدة في ميدان يعد من أقوى معاقلها، وهو ميدان البيولوجيا. (4)
ويؤكد المؤلف أهمية العمل الجماعي، لا الفردي، في الفلسفة والعلم الحديث، ابتداء من القرن التاسع عشر، ويرى أن أية محاولة لفهم الفترة العلمية الحديثة على أساس أنها نتاج عبقرية فردية لا بد أن يكون مآلها إلى الإخفاق، بل إنه يرد القدرة على التجريد الفلسفي، الذي يسود الاعتقاد بأنه فردي بطبيعته، إلى أصول اجتماعية، فيقول: «إن نمو القدرة على التجريد ظاهرة تلازم الحضارة الصناعية بالضرورة» (الفصل السابع). (5)
هناك اتجاه واضح إلى الحملة على المثالية في جميع صفحات الكتاب، ولا سيما بعض الاتجاهات المثالية المعاصرة التي تستغل نتائج الكشوف الفيزيائية في القرن العشرين من أجل دعم موقفها، وهو يحرص على الفصل بوضوح قاطع بين نتائج تلك الكشوف وبين الموقف المثالي الفلسفي، ولا يرى أي مبرر لاستناد المثالية على العلم المعاصر، بل إنه في تفسيره العام للمثالية، يحاول أن يصل إلى التركيب الأعلى
صفحة غير معروفة
infrastructure
الذي يجعل الفيلسوف مثاليا. وصحيح أن نوع التركيب الأدنى الذي يقول به قد لا يلقى موافقة من الجميع، ولكن المهم في الأمر هو أنه يحاول الإتيان بتعليل للتفكير الميتافيزيقي المثالي، ويرده إلى أصل ذي طابع عملي، بل إن هذا الطابع العملي يتخذ في بعض الأحيان صبغة اجتماعية طبقية، كما هي الحال في تعليله للمذهب الأخلاقي عند «كانت» (الفصل الرابع؛ وانظر أيضا الفصل السابع عشر).
على أن في الكتاب، دون شك، عناصر أخرى سلبية لا يمكن أن تقرها الفلسفات العلمية التي تسير في اتجاه مستقل عن الوضعية المنطقية. ومن هذه العناصر: (1)
تأكيده المفرط للتفسير النفسي للفلسفة، ولا سيما في الفصول الأولى من الكتاب؛ فهو يجعل للنظرة النفسية أهمية كبرى في تفسير أخطاء المذاهب الميتافيزيقية، ويذهب إلى أن هذه الأخطاء ترد كلها إلى عناصر نفسية معينة ، مثل سعي الفلاسفة إلى اليقين، وهو نوع من التماس «الأمان» في الحقائق اليقينية، وغير ذلك من العناصر النفسية التي عددها المؤلف في الفصلين الثاني والثالث من كتابه.
ومع اعترافنا بأن لهذا التفسير النفسي للأخطاء الفلسفية أهميته (وقد سبق أن أبدى به فيلسوف مثل نيتشه اهتماما كبيرا، وجعله محورا لكثير من آرائه في تاريخ الفلسفة وطبيعة مشكلاتها)، فمن الواجب أن نتذكر أن هناك عناصر أخرى ينبغي أن تضاف إليه، قد يكون من أهمها العنصر التاريخي والاجتماعي، الذي لم يبد المؤلف به إلا اهتماما ضئيلا. ونستطيع أن نضرب مثلا واحدا لقصور هذا التعليل بما حاول المؤلف أن يفسر به أخطاء ديكارت الميتافيزيقية؛ فهو في الفصل الثالث يبدي دهشته من وقوع رياضي كبير مثل ديكارت في أخطاء استدلالية واضحة، مثل «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ومثل الاستدلال على وجود العالم من كون الله صادقا. ويعلل ذلك بأن البحث عن اليقين النفسي يعمي بصيرة المفكر، ولكن مثل هذا التعليل، حتى لو صح، ناقص، ولا بد أن تكمله تعليلات تاريخية توضح موقف ديكارت في عصر لم تكن آثار العصور الوسطى قد زالت فيها بعد، وبقاء كثير من الرواسب اللاهوتية في أذهان مفكري ذلك العصر، وكيف أن ديكارت عرف المصير الذي لقيه عالم مثل جاليليو على أيدي رجال اللاهوت واتعظ به ... إلخ. وبالاختصار، فالتعليل النفسي للأخطاء الفلسفية لا يمثل إلا عنصرا واحدا ينبغي أن يكتمل بعناصر أخرى، ومن المؤكد أن المؤلف كان مبالغا حين قال: «إن دراسته (أي العامل النفسي) خليقة بأن تلقي على معنى المذاهب الفلسفية ضوءا أعظم مما تلقيه عليها كل محاولات التحليل المنطقي لهذه المذاهب.» (2)
يتحمس مؤلف الكتاب لرأيه في الطبيعة الاحتمالية للمعرفة، وفي أن قضايانا المعرفية كلها «ترجيحات»، فيذهب إلى حد تطبيق هذا الرأي على مشكلة وجود العالم الفيزيائي، ويؤكد أن هذا الوجود أمر مرجح فحسب، وأنه ناتج عن استقراء، وأن احتمال تحول الواقع إلى حلم قائم على الدوام، ويحول بيننا وبين تأكيد ذلك الواقع على نحو مطلق. ولست أود أن أدخل في نقاش حول هذا الرأي، الذي أعتقد أنني قدمت له تفنيدا مفصلا في موضع آخر.
1
ويكفي أن أشير إلى نتيجة هذا التفنيد، وهي أن الاعتقاد بأن الحلم أو الوهم أو خداع المعرفة شامل، هو اعتقاد متناقض مع نفسه، وهو مستحيل فلسفيا؛ لأن الحلم لا يعرف بوصفه حلما إلا لوجود واقع في مقابله، ولأن الخداع لا يكون خداعا إلا لأننا نقيسه على أساس معرفة صحيحة لا بد أن تكون موجودة إلى جانبه. والحقيقة التي أود أن أسجلها في هذا الصدد هي أن رأي المؤلف القائل إن وجود العالم الفيزيائي أمر مرجح، أو له درجة كبيرة من الاحتمال، ينطوي ضمنا على عناصر مثالية لا تقل قوة عن تلك التي كرس معظم الكتاب لمحاربتها. (3)
وأخيرا، فأخشى أن أقول إن الهدف العام للمؤلف، وهو أن تسترشد الفلسفة على الدوام بنتائج العلم، يؤدي إلى القضاء على الفلسفة، على الرغم من أن الغرض منه هو إرساؤها على دعائم أمتن من تلك التي ارتكزت عليها المذاهب التأملية التقليدية؛ فهذا الهدف يؤدي إلى وقوف الفلسفة موقف الانتظار أمام العلم؛ إذ تتلقى ما يقدمه لها العلم من حلول، وتكتفي بتسجيلها بأسلوبها الخاص فحسب. وما دام العلم في تطور ونمو مستمر، فإن نفس النتائج العلمية التي اعتقد المؤلف أنها تكون حلولا إيجابية لأقدم المشكلات الفلسفية، سوف تصبح عتيقة يوما ما، ويتعين على الفلسفة أن تنتظر في مذلة ما يقدمه إليها العلم من حلول جديدة.
وقد يكون هذا الموقف أفضل من مكابرة بعض الاتجاهات الفلسفية التقليدية وتعديها على ميادين ينبغي أن تترك فيها الكلمة الأخيرة للعلم، ولكن من المؤكد أن ما ستأتي به الفلسفة لو طبق البرنامج الذي يقترحه المؤلف لن يكون «حلولا» لمشكلاتها، بل سيكون تفنينا وصياغة فلسفية لبعض النتائج العلمية، وهي مهمة تترك الفلسفة في مركز ثانوي على الدوام، ولا تدع لها أية فرصة للمبادرة الخلاقة.
صفحة غير معروفة
وإذن، ففي الكتاب جوانب إيجابية وأخرى سلبية. ولست أزعم أنني أحطت في هذا العرض السريع بكل هذه الجوانب، ولكن كل ما أردته هو أن أشير إلى نماذج منها؛ لكي أستخلص النتيجة التي أود أن أصل إليها بالنسبة إلى المعركة الفكرية التي أشرت إليها في مستهل هذه المقدمة؛ فلنقرأ كتابا كهذا، بوصفه تعبيرا عن وجهة نظر واحد من الممثلين الأصليين للمذهب الذي نود أن ننقده، ولنتأمل بإمعان ما فيه من أفكار، وليكن حكمنا عليه موضوعيا، بعيدا عن الحساسيات والتعبيرات الانفعالية المتطرفة؛ حتى ترتسم في أذهاننا، بعد مطالعته، صورة مكتملة عن العناصر الإيجابية والسلبية فيه، وفي المذهب الذي يمثله، ونستطيع آخر الأمر أن نخرج منه برأي علمي هادئ في مشكلة الخلاف بين الوضعية المنطقية وبين خصومها.
بقيت كلمة أخيرة عن مؤلف الكتاب، وهو هانز ريشنباخ
Hans Reichenbach ، وعن أهم مؤلفاته؛ فقد ولد ريشنباخ في هامبورج عام 1891م، وشغل منذ عام 1926م حتى عام 1933م منصب أستاذ بجامعة برلين، ثم انتقل إلى جامعة إسطنبول في عام 1933م (سنة الحكم النازي). وفي عام 1938م (قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة) رحل إلى الولايات المتحدة، حيث شغل منصب أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس حتى وفاته في عام 1953م.
ويعد ريشنباخ من المؤسسين الأوائل لحلقة (أو جماعة) فيينا؛ وبالتالي فهو من أكبر ممثلي النزعة الوضعية الجديدة. وأهم مؤلفاته التي كتبها بالألمانية: (1)
نسق البديهيات في النظرية النسبية في المكان-الزمان (1920م)
Axiomatik der relativistischen Raum-Zeit Lehre . (2)
أهداف فلسفة الطبيعة الحالية واتجاهاتها (1931م)
Ziele und Wege der heutigen Naturphilosophie . (3)
نظرية الاحتمالات (1935م)
Wahrscheinlichtkeitslehre .
صفحة غير معروفة
أما مؤلفاته بالإنجليزية فأهمها: (4)
التجربة والتنبؤ (1938م)
Experience and
. (5)
من كوبرنيكوس إلى أينشتين (1942م)
From Copernicus to Einstein . (6)
الأسس الفلسفية لميكانيكا الكوانتم (1944م)
Mechanics . (7)
نشأة الفلسفة العلمية (1951م)
The Rise of Scientific
صفحة غير معروفة
.
وله أخيرا كتاب نشر بعد وفاته من أوراقه المخلفة هو: (8)
الفلسفة العلمية الحديثة (1959م)
Modern Philosophy of Science .
القاهرة
يناير 1967م
فؤاد زكريا
تصدير
يرى الكثيرون أن الفلسفة لا تنفصل عن التأمل النظري، ويعتقدون أن الفيلسوف لا يستطيع استخدام مناهج تتيح البرهنة على المعرفة، سواء أكانت معرفة وقائع أم علاقات منطقية، وأن عليه أن يتحدث بلغة لا تقبل التحقيق؛ أي إن الفلسفة، بالاختصار، ليست علما. وهدف الكتاب الذي نقدمه ها هنا هو إثبات الرأي العكسي؛ فهذا الكتاب يرتكز على الفكرة القائلة إن التأمل النظري الفلسفي مرحلة عابرة، تحدث عندما تثار المشكلات الفلسفية في وقت لا تتوافر فيه الوسائل المنطقية لحلها. وهو يذهب إلى أن هناك، على الدوام، نظرة علمية إلى الفلسفة، ويود هذا الكتاب أن يثبت أنه قد انبثقت من هذا الأصل فلسفة علمية، وجدت في علوم عصرنا أداة لحل تلك المشكلات التي لم تكن في العهود الماضية إلا موضوعا للتخمين. وبعبارة مختصرة: فهذا الكتاب قد ألف بقصد إثبات أن الفلسفة قد انتقلت من مرحلة التأمل النظري إلى مرحلة العلم.
ومن الضروري أن يكون مثل هذا العرض نقديا في تحليله للمراحل الأقدم عهدا في التفكير الفلسفي؛ لذلك أخذ هذا الكتاب على عاتقه، في الباب الأول منه، اختبار نواحي النقص في الفلسفة التقليدية. ويهدف هذا الجزء من بحثنا إلى إيضاح الجذور النفسية التي نما التأمل الفلسفي منها، ومن هنا فهو يتخذ صورة هجوم على ما أطلق عليه فرانسس بيكن اسم «أوهام المسرح». والواقع أن هذه الأوهام، المتعلقة بالمذاهب الفلسفية الماضية، ما زال لها من القوة ما يكفيها لكي تظل تتحدى النقد بعد ثلاثة قرون من وفاة بيكن. أما الباب الثاني من هذا الكتاب فينتقل إلى عرض للفلسفة العلمية، ويحاول جمع النتائج الفلسفية التي ظهرت نتيجة لتحليل العلم الحديث واستخدام المنطق الرمزي.
صفحة غير معروفة
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يتناول المذاهب الفلسفية والتفكير العلمي، فإن مؤلفه لم يفترض في القارئ معرفة بالاصطلاحات الفنية للموضوع الذي يعالجه؛ فهو يتضمن على الدوام شرحا للمفاهيم والنظريات الفلسفية، يسير جنبا إلى جنب مع ما يوجه إليها من نقد. ومع أن الكتاب يبحث في التحليل المنطقي للرياضة والفيزياء الحديثتين، فإنه لا يفترض في القارئ أن يكون رياضيا أو فيزيائيا، فإن كان لدى القارئ من الحس السليم ما يكفي لكي يبعث فيه الرغبة في أن يعرف أكثر مما يمكن أن يعرفه بالحس السليم وحده، فإنه يكون قادرا على تتبع مناقشات هذا الكتاب.
وإذن فمن الممكن استخدام هذا الكتاب مقدمة للفلسفة، وللفلسفة العلمية بوجه خاص. ومع ذلك فليس الهدف منه تقديم ما يسمى بالعرض «الموضوعي » للمعلومات الفلسفية التقليدية؛ إذ إنه لا يحاول عرض المذاهب الفلسفية بطريقة الشارح الذي يود الاهتداء إلى قدر من الحقيقة في كل فلسفة، ويأمل أن يقنع قراءه بأن من الممكن فهم كل مذهب فلسفي؛ ذلك لأن هذه الطريقة في تعليم الفلسفة ليست ناجحة كل النجاح؛ فقد وجد الكثيرون، ممن أرادوا دراسة الفلسفة من خلال كتب تزعم أنها تقدم لها عرضا موضوعيا، أن النظريات الفلسفية قد ظلت مستغلقة على أفهامهم، وحاول غير هؤلاء أن يفهموا المذاهب الفلسفية على قدر استطاعتهم، وأن يجمعوا بين نتائج الفلسفة ونتائج العلم، ولكن تبين لهم أنهم لا يستطيعون الجمع بين العلم والفلسفة، ولكن، إذا كانت الفلسفة تبدو غير مفهومة بالنسبة إلى الفكر غير المتحيز، أو تبدو متعارضة مع العلم الحديث، فلا بد أن يكون الذنب في ذلك ذنب الفيلسوف؛ فلكم ضحى بالحقيقة في سبيل رغبته في تقديم الإجابات، وبالوضوح استجابة لإغراء الكلام المجازي، فضلا عن أن لغته كانت تفتقر إلى الدقة التي هي منقذ العالم من مزالق الخطأ. وعلى ذلك، فإن شاء العرض الفلسفي أن يكون موضوعيا، فعليه أن يكون موضوعيا في معايير نقده، لا بمعنى النسبية الفلسفية.
1
وإذن فالمقصود من أبحاث هذا الكتاب أن تكون موضوعية بهذا المعنى؛ فهذا العرض موجه إلى الكثيرين الذين قرءوا كتبا في الفلسفة والعلم ولم يجدوا فيها رضاءهم، والذين حاولوا الاهتداء إلى معان، ولكنهم وجدوا أنفسهم غارقين في دوامة من الألفاظ، ومع ذلك فإنهم لم يفقدوا الأمل في أن تصل الفلسفة، يوما ما، إلى ما وصل إليه العلم من دقة وإحكام.
على أن الناس لم يدركوا بعد، بما فيه الكفاية، أن مثل هذه الفلسفة العلمية موجودة بالفعل، فما زالت هناك غشاوة عن الغموض، متخلفة عن عهود الفلسفة التأملية، تحجب كل معرفة فلسفية عن أعين أولئك الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي. ولقد أخذت على عاتقي كتابة هذه الدراسة أملا في تبديد هذه الغشاوة بالهواء المنعش للمعاني الواضحة؛ أي إن هدف هذا الكتاب هو البحث في جذور الخطأ الفلسفي، وتقديم الأدلة التي تثبت أن الفلسفة قد ارتفعت من الخطأ إلى الصواب.
هانز ريشنباخ
جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس
الباب الأول
جذور الفلسفة التأملية
الفصل الأول
صفحة غير معروفة
السؤال
فيما يلي فقرة مأخوذة من كتابات فيلسوف مشهور: «العقل هو الجوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية؛ إذ إن مادته اللامتناهية الخاصة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلها، فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة في تلك المادة؛ فالعقل هو الجوهر الذي تستمد منه كل الأشياء وجودها.»
إن قراء كثيرين لا يطيقون صبرا على هذا النوع من النواتج اللغوية، وحين يخفقون في إدراك أي معنى لها، فقد يشعرون بالميل إلى الإلقاء بالكتاب في النار، ولكنا ندعو مثل هذا القارئ، لكي يتجاوز مرحلة الاستجابة الانفعالية هذه إلى مرحلة النقد المنطقي، إلى دراسة ما يسمى باللغة الفلسفية من وجهة نظر الملاحظ المحايد، مثلما يدرس عالم التاريخ الطبيعي عينة نادرة من الحشرات؛ فتحليل الخطأ يبدأ بتحليل اللغة.
على أن دارس الفلسفة لا يثور عادة من جراء الصيغ الغامضة، بل إنه يقتنع على الأرجح، مند قراءة النص السابق، بأن الخطأ في عدم فهمه إياه إنما هو خطؤه؛ لذا تراه يقرؤه مرة تلو المرة، وقد يصل بمضي الوقت إلى مرحلة يعتقد فيها أنه قد فهمه، عند هذه النقطة يبدو من الواضح تماما في نظره أن العقل يتألف من مادة لا متناهية تكمن من وراء كل حياة طبيعية وروحية؛ وبالتالي فهو جوهر الأشياء جميعا. وهو يتكيف نفسيا مع هذه الطريقة في الكلام إلى حد أنه ينسى كل الانتقادات التي قد يوجهها شخص أقل «ثقافة».
ولكن، لنتأمل العالم المدرب على استخدام ألفاظه بطريقة يكون لكل جملة فيها معنى. إن عباراته تصاغ بحيث يكون في وسعه دائما أن يثبت صوابها، ولا يضيره أن يكون البرهان منطويا على سلاسل فكرية طويلة، فهو لا يخشى التفكير المجرد، ولكنه يشترط أن يرتبط التفكير المجرد، على نحو ما، بما تراه عينه وتسمعه أذنه وتلمسه أصابعه. فماذا يقول شخص كهذا إذا قرأ الفقرة التي اقتبسناها من قبل؟
إن كلمتي «مادة
material » و«جوهر أو عنصر
substance »
1
ليستا غريبتين بالنسبة إليه، فهو قد طبقهما في وصفه لكثير من التجارب؛ إذ إنه قد تعلم أن يقيس وزن المادة أو الجوهر وصلابته، وهو يعلم أن المادة قد تتألف من عناصر (أو جواهر) متعددة، قد يبدو كل منهما مختلفا كل الاختلاف عن المادة؛ وإذن فهاتان الكلمتان لا تثيران بذاتهما أية صعوبة.
صفحة غير معروفة
ولكن أي نوع من المادة ذلك الذي يكمن من وراء الحياة؟ قد يتصور المرء أنها العنصر (أو الجوهر) الذي تتألف منه الأجسام. فكيف إذن يكون ذلك هو العقل نفسه؟ إن العقل قدرة مجردة للبشر، تتبدى في سلوكهم، أو في جوانب معينة من سلوكهم، إذا آثرنا التواضع. فهل يود الفيلسوف الذي اقتبسنا منه هذا الكلام أن يقول إن أجسامنا تتألف من إحدى قدراتها المجردة؟
إن الفيلسوف ذاته لا يمكن أن يعني مثل هذا الرأي الممتنع. فما الذي يعنيه إذن؟ أغلب الظن أنه يعني أن أحداث الكون جميعها منظمة بحيث تخدم هدفا عقليا. وهذا افتراض مشكوك فيه، ولكنه مفهوم على الأقل. ومع ذلك، فإن كان هذا ما يريد الفيلسوف أن يقوله، فلم كان يتعين عليه أن يقوله على طريقة الألغاز؟
هذا هو السؤال الذي أود أن أجيب عنه قبل أن يتسنى لي أن أحدد ما هي الفلسفة، وما ينبغي أن تكون.
الفصل الثاني
البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
البحث عن المعرفة قديم قدم التاريخ البشري؛ فمع بداية التجمع الاجتماعي، واستخدام الأدوات من أجل مزيد من الإرضاء للحاجات اليومية نشأت الرغبة في المعرفة، ما دامت المعرفة لا تنفصل عن السيطرة على موضوعات بيئتنا من أجل تسخيرها لخدمتنا.
وأساس المعرفة هو التعميم؛ فإدراك أن النار تنتج بقدح الخشب على نحو معين، هو معرفة مستخلصة بالتعميم من تجارب فردية؛ إذ إن هذا القول يعني أن قدح الخشب بهذه الطريقة يؤدي دائما إلى ظهور النار؛ وعلى ذلك فإن فن الكشف هو فن التعميم الصحيح. ولا بد من أن نستبعد من التعميم ما لا يرتبط بالموضوع، كالشكل أو الحجم الخاص لقطعة الخشب المستخدمة، وأن ندرج فيه ما يرتبط به، مثل جفاف الخشب؛ وإذن فمن الممكن تعريف لفظ «الارتباط» على النحو الآتي: يكون العامل مرتبطا بالموضوع إذا كان ذكره ضروريا لكي يكون التعميم صحيحا. وهكذا فإن التفرقة بين العوامل المرتبطة بالموضوع والعوامل غير المرتبطة به هي بداية المعرفة.
فالتعميم إذن هو أصل العلم. ولقد تبدى على الأقدمين في مختلف فنون الحضارة التي كانوا يحذقونها، كبناء المساكن، ونسج المنسوجات، وصنع الأسلحة، وقيادة السفن الشراعية، وزراعة الأرض. وهو يتجلى بصورة أوضح في علومهم الفيزيائية، والفلكية، والرياضية. والأمر الذي يبيح لنا الحديث عن علم قديم هو أن القدماء قد نجحوا في وضع عدد لا بأس به من التعميمات التي تتصف بالصبغة الشاملة إلى حد ما؛ فهم قد عرفوا قوانين الهندسة، التي تسري على جميع أجزاء المكان بلا استثناء، وقوانين الفلك، التي تسري على الزمان، وعددا من القوانين الفيزيائية والكيميائية، كقوانين الروافع والقوانين التي تربط الحرارة بالانصهار، كل هذه القوانين تعميمات، فهي تقول: إن نتيجة معينة تسري على جميع الأشياء التي هي من نوع محدد. وبعبارة أخرى، فهي عبارات تتخذ صيغة «إذا كان كذا، حدث كذا دائما
if ... then always .» ومن أمثلة ذلك عبارة «إذا سخن الحديد بالقدر الكافي، فإنه ينصهر دائما.»
وفضلا عن ذلك فإن التعميم هو قوام التفسير ذاته؛ فما نعنيه بتفسير واقعة ملاحظة هو إدراج هذه الواقعة في قانون عام. فنحمن نلاحظ مثلا أنه كلما تقدم النهار هبت رياح من البحر إلى اليابس، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الأجسام تتمدد بالحرارة؛ وتغدو بالتالي أخف في حالة تساوي حجومها، ثم ندرك كيف ينطبق هذا القانون على المثل الذي نحن بصدد بحثه؛ إذ إن الشمس تسخن الأرض إلى حد أقوى من تسخينها للماء، بحيث يصبح الهواء فوق الأرض دافئا، فيرتفع إلى أعلى، ويخلي مكانه لتيار هوائي آت من البحر. كذلك فإننا نلاحظ أن الكائنات العضوية الحية تحتاج إلى الغذاء لكي تعيش، وتفسر هذه الواقعة بإدراجها ضمن قانون عام، هو قانون «بقاء الطاقة»؛ فالطاقة التي تبذلها الكائنات العضوية في أوجه نشاطها، لا بد أن تعوض بالسعرات الحرارية للغذاء. كما أننا نلاحظ أن الأجسام تسقط إذا لم ترتكز على شيء، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الكتل يجذب بعضها بعضا؛ أي إن الكتلة الهائلة للأرض تشد الكتل الصغيرة نحو سطحها.
صفحة غير معروفة
على أن كلمتي «تجذب» و«تشد» اللتين استخدمناهما في المثال الأخير كلمتان محفوفتان بالخطر؛ فهما تنطويان على تشبيه بتجارب نفسية معينة؛ ذلك لأن الأشياء التي نرغب فيها، كالطعام أو السيارات الحديثة الطراز، تجذبنا، فنتجه إلى تصور جذب الأرض للأجسام كما لو كان إرضاء لرغبة معينة، من جانب الأرض على الأقل، غير أن مثل هذا التفسير إنما هو من قبيل ما يسميه المنطقي ب «التشبيه بالإنسان
anthropomorphism »؛ أي نسبة صفات بشرية إلى الموضوعات الطبيعية. ومن الواضح أن التوازي بين الحوادث الطبيعية والاهتمامات البشرية لا يقدم أي تفسير، فعندما نقول إن قانون الجاذبية عند نيوتن يفسر سقوط الأجسام، فإننا نعني أن حركة الأجسام نحو الأرض تندرج ضمن قانون عام تتحرك بمقتضاه كل الأجسام بعضها نحو البعض، وكلمة «الجاذبية» كما استخدمها نيوتن لا تعني أكثر من حركة الأجسام هذه بعضها نحو البعض؛ أي إن القوة التفسيرية لقانون نيوتن لا تستمد إلا من عموميته، لا من تشبيهه السطحي بالتجارب النفسية؛ وإذن فالتفسير تعميم.
وقد يتم التوصل إلى التفسير أحيانا عن طريق افتراض واقعة لم تلاحظ أو لا يمكن ملاحظتها. مثال ذلك أن نباح الكلب يمكن تفسيره بافتراض أن شخصا غريبا يقترب من البيت، ووجود الحفريات البحرية في الجبال يمكن تفسيره بافتراض أن الأرض كانت في وقت من الأوقات في مستوى أكثر هبوطا، وكان المحيط يغطيها، غير أن الواقعة غير الملاحظة لا تكون تفسيرية إلا لأنها تبين أن الواقعة الملاحظة مظهر لقانون عام، هي أن الكلاب تنبح عند اقتراب شخص غريب، أو أن الحيوانات البحرية لا تعيش في اليابس؛ وعلى ذلك فالقوانين العامة يمكن أن تستخدم في الاستدلالات التي تكشف وقائع جديدة، ويصبح التفسير أداة لتكملة عالم التجربة المباشرة بموضوعات وحوادث مستخلصة بالاستدلال.
فلا عجب إذن إن أدى التفسير الناجح لكثير من الظواهر الطبيعية إلى تكوين ميل إلى زيادة التعميم في الذهن البشري؛ ذلك لأن الوقائع الملاحظة، على كثرتها، لم تكن ترضي رغبتنا في المعرفة، وإنما كان السعي إلى المعرفة يتجاوز نطاق الملاحظة ويحتاج إلى تعميم. ومع ذلك فإن الأمر الواقع المؤسف هو أن الناس يميلون إلى تقديم إجابات حتى عندما تعوزهم وسائل الاهتداء إلى إجابات صحيحة؛ فالتفسير العلمي يقتضي ملاحظة واسعة النطاق، وتفكيرا نقديا فاحصا، وكلما كان التعميم الذي نسعى إليه أعظم، كانت كمية المادة الملاحظة التي يحتاج إليها أكبر، وكان التفكير النقدي الذي يقتضيه أدق. أما في الحالات التي كان التفسير العلمي يخفق فيها نظرا إلى قصور المعرفة المتوافرة في ذلك الوقت عن تقديم التعميم الصحيح، فقد كان الخيال يحل محله، ويقدم نوعا من التفسير يشبع النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بمشابهات ساذجة؛ وعندئذ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية، ولا سيما التشبيهات بالتجارب البشرية، وبين التعميمات، وكانت الأولى تؤخذ على إنها تعميمات، وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية، عن طريق تفسيرات وهمية؛ وعلى هذا الأساس نبتت الفلسفة.
مثل هذا الأصل لا يبدو مشرفا، غير أنني لست بسبيل كتابة خطاب توصية وتقريظ للفلسفة، وإنما أود أن أفسر وجودها وطبيعتها. ومن الحقائق التي ينبغي الاعتراف بها أن ما في الفلسفة من نواحي الضعف والقوة معا، يمكن تفسيره عن طريق إرجاعها إلى مثل هذا الأصل المتواضع.
فلأضرب مثلا لما أعنيه بالتفسير الوهمي. إن الرغبة في فهم العالم الفيزيائي قد أدت في كل العصور إلى إثارة السؤال عن كيفية بدء العالم، وفي أساطير الشعوب جميعا تفسيرات بدائية لأصل الكون، وأشهر قصة للخلق، وهي تلك التي أنتجتها الروح العبرانية الخيالية، متضمنة في العهد القديم، وهي ترجع إلى حوالي القرن التاسع ق.م، وهي تفسر العالم على أساس أنه من خلق «ياهوا». هذا التفسير من النوع الساذج الذي يرضي ذهنا بدائيا، أو ذهنا شبيها بأذهان الأطفال؛ إذ يستعين بتشبيهات بشرية؛ فكما يصنع البشر بيوتا وأدوات وحدائق، فكذلك صنع «ياهوا» العالم. وهكذا فإن السؤال عن منشأ العالم المادي، وهو من أهم الأسئلة وأكثرها أهمية، يجاب عليه عن طريق التشبيه بتجارب من البيئة اليومية. ولقد لاحظ الكثيرون، عن حق، أن هذا النوع من الصور لا يشكل تفسيرا، وأنها لو صحت لزادت من صعوبة حل مشكلة التفسير، فقصة الخلق تفسير وهمي.
ومع ذلك، فما أعظم القوة الإيحائية الكامنة فيها! لقد قدم بنو إسرائيل إلى العالم، وهم لا يزالون في مرحلة بدائية، قصة تبلغ من الحيوية حدا جعلها تخلب ألباب القراء جميعا حتى يومنا هذا؛ فخيالنا يفتتن بالصورة الوقور لإله قديم تحركت روحه فوق صفحة المياه، وأوجد العالم كله بقليل من الأوامر، كذلك فإن هذه القصة القديمة الرائعة ترضي رغباتنا العميقة الكامنة في أن يكون لنا أب قوي، غير أن إرضاء الرغبات النفسية ليس تفسيرا. والواقع أن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر، وبين التفسير العقلي والخيال، وبين العمومية والتشبيه. وكم من المذاهب الفلسفية يشبه العهد القديم في كونه عملا شعريا رائعا، يزخر بالصورة التي تثير خيالنا، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإيضاح، وهي القدرة المنبعثة من التفسير العلمي.
وهناك بعض التفسيرات اليونانية لأصل الكون، تختلف عن قصة أصل العالم عند بني إسرائيل في كونها تفترض تطورا، لا خلقا. وهي في هذه الناحية أقرب إلى الطابع العلمي، غير أنها لا تقدم تفسيرا علميا بالمعنى الحديث؛ لأنها بدورها مبنية على تعميمات بدائية من التجربة اليومية؛ فقد كان أنكسمندر الذي عاش حوالي عام 600ق.م يعتقد أن العالم قد تطور من جوهر لا محدود، أطلق عليه اسم «الأبيرون
apeiron »؛ ففي البدء انفصل الحار عن البارد، الذي أصبح هو الأرض أو التراب، ثم أحاطت النار الحارة بالأرض الباردة، فغلفتها حلقات من الهواء أسطوانية الشكل، وما زالت النار على هذا الوضع، فهي ترى من خلال ثقوب الاسطوانات، التي تبدو لنا في صورة الشمس والقمر والنجوم. أما الكائنات الحية فقد تطورت من الرطوبة المحيطة بالأرض، وبدأت بأشكال دنيا، بل إن البشر أنفسهم بدءوا أسماكا. وهكذا فإن الفيلسوف الذي قدم إلينا هذه الصورة الخيالية لأصل العالم قد نظر إلى التشبيه على أنه تفسير، ومع ذلك فإن تفسيره الوهمي ليس عقيما كل العقم، وإذا استخدمت مرشدا لمزيد من الملاحظة والتحليل، فقد تؤدي بمضي الوقت إلى تفسيرات أفضل. مثال ذلك أن أشكال أنكسمندر الأسطوانية الشبيهة بالعجلات إنما هي محاولات لتفسير المسارات الدائرية للنجوم.
إن هناك نوعين من التعميم الزائف، يمكن تقسيمها إلى ضربين من الخطأ، أحدهما لا يجلب ضررا، والآخر ضار. أما أخطاء النوع الأول، التي نصادفها في كثير من الأحيان لدى فلاسفة ذوي أذهان تجريبية، فمن السهل تصحيحها وتقويمها في ضوء المزيد من التجربة؛ وأما أخطاء النوع الثاني، التي تتألف من تشبيهات وتفسيرات وهمية، فتؤدي إلى المجادلات اللفظية الفارغة، وإلى النزعة القطعية الخطيرة. ويبدو أن هذا النوع من التعميمات يسود أعمال الفلاسفة التأمليين.
صفحة غير معروفة
فلنضرب مثلا للتعميم الضار، الذي يستخدم تشبيها زائفا بقصد تكوين قانون شامل، بالفقرة الفلسفية التي اقتبسناها في المقدمة. إن الملاحظة التي ترتكز عليها هذه العبارة هي أن العقل يتحكم إلى حد بعيد في الأفعال البشرية؛ وبالتالي يحدد التطورات الاجتماعية تحديدا جزئيا على الأقل. ولما كان الفيلسوف يبحث عن تفسير، فإنه ينظر إلى العقل على أنه يشبه جوهرا يتحكم في خصائص الموضوعات التي تتألف منه. مثال ذلك أن جوهر الحديد يتحكم في خصائص الجسر الذي يبنى به، ولكن من الواضح أن التشبيه سيئ إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الحديد من نفس نوع المادة التي صنع منها الجسر، أما العقل فليس مادة كالأجسام البشرية، ولا يمكن أن يكون هو الحامل المادي للأفعال البشرية. وعندما أتى طاليس، الذي اشتهر في حوالي عام 600ق.م بوصفه «حكيم مليتوس» (ملطية)، بنظريته القائلة إن الماء جوهر الأشياء جميعا، كان في ذلك يقوم بتعميم زائف؛ إذ إن ملاحظة وجود الماء في كثير من المواد، كالتربة أو الكائنات العضوية الحية، قد وسعت بحيث أصبحت تقول إن الماء متضمن في كل موضوع . ومع ذلك فإن نظرية طاليس معقولة من حيث إنها تتخذ من جوهر مادي حجر البناء لكل المواد الأخرى ؛ فهي على الأقل تعميم - وإن يكن زائفا - وليست تشبيها. فما أرفع لغة طاليس بالقياس إلى الفقرة المقتبسة!
إن عيب اللغة الفضفاضة هو أنها تخلق أفكارا باطلة، وتظهر هذه الحقيقة بوضوح في تشبيه العقل بالجوهر، ولا شك أن الفيلسوف الذي كتب هذه الفقرة خليق بأن يعترض بشدة على تفسير عبارته بأنها مجرد تشبيه، وإنما هو يدعي أنه قد اهتدى إلى الجوهر الحقيقي للأشياء جميعا، ويسخر من أي تأكيد لمعنى الجوهر المادي؛ فهو يذهب إلى أن للجوهر معنى «أعمق»، لا يكون الجوهر المادي بالنسبة إليه سوى حالة خاصة. ولو ترجمنا رأيه هذا إلى لغة مفهومة، لكان معناه أن العلاقة بين حوادث الكون وبين العقل هي نفس العلاقة الموجودة بين الجسر وبين الحديد الذي صنع منه، ولكن من الواضح أن هذه المقارنة غير مقبولة، والمقارنة تثبت أن أي تفسير جاد للتشبيه يؤدي إلى خطأ منطقي؛ فقد يؤدي إطلاق اسم الجوهر على العقل إلى إثارة صور لدى السامع، غير أن الاستمرار في استخدام هذه المجموعة من الألفاظ يضلل الفيلسوف، فيجعله يقفز إلى نتائج لا يقرها المنطق. والواقع أن الأخطاء الخطيرة التي تتولد عن التشبيهات الفاسدة كانت، ولا تزال، الآفة التي يعاني منها الفيلسوف طوال العصور.
إن المغالطة التي ترتكب في هذا التشبيه إنما هي مثال نوع من الخطأ يطلق عليه اسم صبغ المجردات بصبغة جوهرية
Substantialization of abstracta
أو تجسيم المجردات؛ فالاسم المجرد، مثل «العقل»، يعامل كما لو كان يشير إلى كيان شبيه بالشيء. وتنطوي فلسفة أرسطو (384-322ق.م) على مثل كلاسيكي لهذا النوع من المغالطة، حين يعالج موضوع الصورة والمادة.
فالموضوعات الهندسية تتبدى على هيئة صورة متميزة عن المادة التي تتكون، بحيث يمكن أن تتغير الصورة مع بقاء المادة على حالها، ولكن هذه التجربة اليومية البسيطة أصبحت هي المرجع الذي كتب على أساسه فصل في الفلسفة لم يكن غموضه بأقل من انتشاره وقوة تأثيره، وما كان ليظهر إلا نتيجة لإساءة استخدام تشبيه؛ فأرسطو يقول إن صورة التمثال المقبل ينبغي أن تكون في كتلة الخشب قبل أن تنحت ، وإلا لما ظهرت فيها فيما بعد، وبالمثل يكون قوام كل صيرورة هو عملية تشكل المادة في صورة؛ وإذن فلا بد أن تكون الصورة شيئا. وواضح أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استخدام غامض للألفاظ؛ فالقول إن صورة التمثال موجودة في الخشب قبل أن يشكله النحات، يعني أن في استطاعتنا أن نحدد في داخل كتلة الخشب، أو أن «نرى» فيها سطحا مماثلا للسطح الذي ظهر في التمثال فيما بعد. وحين يقرأ المرء كتابات أرسطو، يشعر أحيانا بأنه لا يعني بالفعل إلا هذه الحقيقة الضئيلة الشأن، غير أن الفقرات الواضحة المعقولة في كتاباته تعقبها لغة غامضة، فهو يقول أشياء مثل: المرء يصنع كرة من النحاس بواسطة البرونز والكرة، عن طريق وضع الصورة في هذه المادة، ويصل إلى حد النظر إلى الصورة على أنها جوهر يوجد على الدوام بلا تغير.
وهكذا أصبحت استعارة لفظية أصلا لمبحث فلسفي يسمى بالأنطولوجيا، ويفترض أنه يبحث في الأسس النهائية للوجود. والواقع أن عبارة «الأسس النهائية للوجود» هي ذاتها استعارة لفظية. وليغتفر لي القارئ لو استخدمت اللغة الميتافيزيقية دون مزيد من التفسير، واكتفيت بأن أضيف القول بأن الصورة والمادة عند أرسطو أساسان نهائيان للوجود، من هذا النوع؛ فالصورة في نظره وجود بالفعل، والمادة وجود بالقوة؛ لأن المادة تقبل اتخاذ صور كثيرة متباينة. وفضلا عن ذلك فإنه يرى أن العلاقة بين الصورة والمادة كامنة من وراء كثير من العلاقات الأخرى؛ فالفلك الأعلى والأدنى، والعناصر الرفيعة والدنيا، في نظام الكون، وكذلك النفس والجسم، والذكر والأنثى، يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الصورة والمادة. ومن الواضح أن أرسطو يعتقد أن هذه العلاقات الأخرى يمكن تفسيرها عن طريق مقارنتها، على نحو متعسف، بالعلاقة الأساسية بين الصورة والمادة. وهكذا فإن التفسير الحرفي للتشبيه يقدم تفسيرا وهميا، يؤدي عن طريق الاستخدام غير النقدي لصورة لفظية، إلى إدراج عدة ظواهر مختلفة تحت فئة واحدة .
وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث ، ولكننا لو قسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي؛ أعني هروبا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان نفس المبادئ التي يطبقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل من هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرا ذا نزعة نظرية قطعية، يرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق.
والواقع أن معلومات أرسطو عن تركيب الكون، أو عن الوظيفة البيولوجية للذكر والأنثى، لم تكن تكفي لإقامة تعميم؛ فقد كانت معارفه الفلكية مرتبطة بالنظام الذي يتخذ من الأرض مركزا للكون، كما أن معرفته لعملية التناسل لم تكن تشمل ما يعد حقيقة أولية بالنسبة إلى علم البيولوجيا الحديث؛ فهو لم يعرف أن الحيوان المنوي للذكر وبويضة الأنثى يتحدان لتكوين فرد جديد. وإذا لم يكن من حق أحد أن يلومه على عدم معرفة نتائج لم يكن من الممكن كشفيا بدون التلسكوب أو الميكروسكوب، فإن مما يعاب عليه أنه قد تصور، دون أن تتوافر لديه معلومات كافية، أن التشبيهات الهزيلة تكون تفسيرا؛ فهو في حديثه عن التناسل مثلا يقول: إن الذكر يقتصر على طبع صورة على الجوهر البيولوجي للأنثى. غير أن هذا التعبير الغامض، الذي هو مضلل حتى بوصفه مجازا، لا يمكن أن يعد الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى طرق أسلم في التفكير. ولقد كانت بالفعل عائقا في وجه نمو الفلسفة العلمية، بدلا من أن تمهد لها الطريق بالتدريج؛ فميتافيزيقا أرسطو كان لها تأثيرها في الفكر طوال ألفي عام، وما زالت تلقى إعجاب كثير من الفلاسفة حتى اليوم .
ومن الصحيح أن مؤرخي الفلسفة المحدثين يستبيحون لأنفسهم من آن لآخر توجيه انتقادات في سياق التبجيل المعتاد لأرسطو، زاعمين أنهم يميزون بين استبصاراته الفلسفية وبين تلك الأجزاء التي يعدونها - داخل مذهبه - ناتجة عن قصور المعرفة في عصره، غير أن ما يقدم إلينا على أنه استبصار فلسفي هو في أغلب الأحيان ثرثرة لفظية فارغة تملأ بمعان لم تخطر للمفكر نفسه على بال؛ فالعلاقة بين المادة والصورة يمكن التعبير عنها في تشبيهات متعددة، ولكنها لا تقدم تفسيرا. ومن هنا فإن تأويل آراء الفيلسوف بطريقة الدفاع والتبرير ليس هو وسيلة التغلب على الأخطاء المتأصلة فيه، وليس مما يساعد على تقدم البحث الفلسفي أن نضفي على أخطاء كبار المفكرين معاني تبلغ من التحريف حدا تغدو معه هذه الأخطاء تخمينات تنبئية، بآراء لم تتوافر للناس المواد والوسائل التي تعين على إثباتها، إلا في عصور متأخرة. ولقد كان تاريخ الفلسفة خليقا بأن يحرز تقدما أعظم بكثير لو لم يكن أولئك الذين يتخذون منه موضوعا لأبحاثهم قد أخروا مساره إلى هذا الحد.
صفحة غير معروفة
لقد اتخذت من نظرية المادة والصورة عند أرسطو مثالا لما أسميته بالتفسير الوهمي، ولدينا في الفلسفة القديمة مثل آخر لهذه الطريقة المؤسفة في الاستدلال، وأعني به فلسفة أفلاطون. ولما كان أرسطو قد تتلمذ في وقت ما على أفلاطون، فإن المرء قد يذهب إلى حد الاعتقاد بأن إغراق أستاذه في الالتجاء إلى اللغة المجازية والنزعة التشبيهية هو الذي عوده على هذه الطريقة في التفكير، ولكنى أوثر أن أختبر فلسفة أفلاطون دون إشارة إلى تأثيرها في أرسطو، وهو التأثير الذي حلله الكثيرون؛ فمن الممكن تتبع تأثيرها في عدد كبير من المذاهب الفلسفية المتباينة، وهذا وحده سبب كاف لدراسة أصلها المنطقي بمزيد من التفصيل.
إن فلسفة أفلاطون (427-347ق.م) مبنية على نظرية من أغرب النظريات الفلسفية، وأقواها تأثيرا مع ذلك، وأعني بها نظرية المثل. هذه النظرية، التي لقيت إعجابا لا حد له، والتي هي لا منطقية في صميمها، قد نشأت من محاولة إيجاد تفسير لإمكان المعرفة الرياضية، وكذلك السلوك الأخلاقي. وسوف أناقش الأصل الثاني لهذه النظرية في الفصل الرابع، أما الآن فسوف أقتصر على تقديم ملاحظات عن الأصل الأول.
كان البرهان الرياضي يعد على الدوام منهجا للمعرفة تتحقق فيه أرفع معايير الحقيقة. ولا شك في أن أفلاطون قد أكد سمو الرياضة على كل ضروب المعرفة الأخرى، غير أن دراسة الرياضة تؤدي إلى صعوبات منطقية معينة عندما يسير فيها المرء على أساس الموقف النقدي للفيلسوف، وهذا ينطبق بوجه خاص على الهندسة، وهي علم كانت له مكانة بارزة في أبحاث علماء الرياضة اليونانيين. وسوف أشرح هذه الصعوبات بالصورة المنطقية والمصطلحات التي نعرضها بها اليوم، ثم أناقش الحل الذي قدمه أفلاطون.
ومما يعيننا على إيضاح المشكلة، أن نقوم باستطراد موجز في مجال المنطق. إن عالم المنطق يميز بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية؛ فالقضايا الكلية تتعلق بالكل، وصيغتها: «كل الأشياء التي هي من نوع معين لها صفة معينة.» ويطلق على هذه القضايا أيضا اسم قضايا اللزوم العام
general implication ؛ لأنها تقرر أن الشرط الموضوع يلزم عنه وجود الصفة. فلنتأمل على سبيل المثال قضية: «كل المعادن تتمدد بالتسخين.» هذه القضية يمكن أن تصاغ على النحو الآتي: «إذا سخن المعدن تمدد.» فإذا ما أردنا تطبيق هذه النتيجة على شيء بعينه، كان لزاما علينا أن نتأكد من أن هذا الشيء يفي بالشرط الذي وضعناه، وعندئذ يمكننا أن نستدل على أنه يتصف بالصفة التي ذكرناها. فنحن نلاحظ مثلا أن معدنا معينا قد سخن، ثم ننتقل إلى القول إنه يتمدد، فتكون قضية «هذا المعدن الساخن يتمدد» قضية جزئية.
وتتخذ النظريات الهندسية صورة قضايا كلية، أو لزوم عام. مثال ذلك النظرية الآتية: «مجموع زوايا كل مثلث 180 درجة.» أو نظرية فيثاغورس: «المربع المقام على الوتر، في كل المثلثات القائمة الزوايا، يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين.» فإذا ما أردنا تطبيق أمثال هذه النظريات، كان علينا أن نتأكد من أن الشرط المنصوص عليه قد تحقق؛ فعندما نرسم مثلثا على الأرض مثلا، ينبغي أن نتأكد باستخدام خيوط مشدودة من أن أضلاعه مستقيمة ، وبعد ذلك نستطيع أن نؤكد أن مجموع زواياه 180 درجة.
ولهذا النوع من قضايا اللزوم العام فائدة كبيرة؛ فهي تتيح لنا أن نقوم بتنبؤات. فاللزوم المتعلق بتسخين الأجسام يتيح لنا التنبؤ بأن قضبان الخطوط الحديدية سوف تتمدد في الشمس، واللزوم المتعلق بالمثلثات ينبئنا مقدما بالنتائج التي سنصل إليها لو قمنا بقياس زوايا مثلث يقع بين ثلاثة أبراج. مثل هذه القضايا تسمى تركيبية
Synthetic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنها إخبارية.
وهناك نوع آخر من اللزوم العام؛ فلنتأمل مثلا قضية مثل: «كل أعزب غير متزوج.» هذه القضية لا تفيدنا كثيرا؛ فلو أردنا أن نعرف إن كان شخص معين أعزب، كان من الواجب أن نعرف أولا أنه غير متزوج، وعندما نعرف ذلك، لا تنبئنا القضية بأي شيء جديد؛ فاللزوم لا يضيف أي شيء إلى الشرط الذي ينص عليه. وهذا النوع من القضايا فارغ، ويسمى تحليليا
analytic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنه يشرح نفسه بنفسه
صفحة غير معروفة
self-explanatory .
والآن ينبغي أن نناقش مسألة الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف إن كان اللزوم العام صحيحا؛ فبالنسبة إلى اللزوم التحليلي يكون الجواب على هذا السؤال يسيرا؛ إذ إن اللزوم «كل أعزب غير متزوج» يتلو من معنى لفظ «أعزب». أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ ذلك لأن معنى لفظي «معدن» و«ساخن» لا ينطوي على أية إشارة إلى «التمدد»؛ ولذا لم يكن من الممكن التحقق من هذا اللزوم إلا بالملاحظة؛ فقد اتضح لنا في جميع تجاربنا السابقة أن المعادن تتمدد عندما تسخن؛ لذلك نشعر بأن من حقنا أن نقول بهذا اللزوم العام.
غير أن هذا التفسير يبدو عاجزا إزاء أمثلة اللزوم الهندسي. فهل عرفنا من التجارب الماضية أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة؟ إن بعض التفكير في المنهج الهندسي كفيل باستبعاد الجواب بالإيجاب؛ فنحن نعلم أن لدى الرياضي برهانا على النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث. في هذا البرهان يرسم خطوطا على الورق، ويوضح لنا علاقات معينة بالنسبة إلى الشكل المرسوم، ولكنه لا يقيس الزوايا؛ أي إنه يلجأ إلى حقائق عامة معينة تسمى بالبديهيات ، يستخلص منها النظرية بطريقة منطقية. مثل ذلك أنه يشير إلى البديهية القائلة: إنه لم كان لدينا خط مستقيم ونقطة خارجة ، فهناك خط واحد، وواحد فقط، يمكن أن يرسم موازيا للخط الأول من هذه النقطة. هذه البديهية تظهر في الشكل الذي يرسمه، ولكنه لا يثبتها بقياسات، ولا يقيس المسافات بين الخطوط لكي يبين أن المستقيمين متوازيان.
بل إنه قد يعترف بأن الشكل الذي يرسمه رديء، ولا يقدم مثلا جيدا لمثلث ومتوازيات، ولكنه يظل يؤكد أن برهانه دقيق على الرغم من ذلك؛ فهو يقول: إن المعرفة الهندسية تنبع من الذهن، لا من الملاحظة. أما المثلثات المرسومة على الورق فقد تفيد في إيضاح ما نتحدث عنه، ولكنها لا تمدنا ببرهان؛ إذ إن البرهان مسألة استدلال، لا ملاحظة. ولكي نقوم باستدلال كهذا نتصور العلامات الهندسية، «ونرى» - بمعنى «أرفع» لهذه الكلمة - أن النتيجة الهندسية محتومة؛ وبالتالي فهي صحيحة بالمعنى الدقيق. فالحقيقة الهندسية نتاج للعقل، وهذا يجعلها أرفع من الحقيقة التجريبية، التي يهتدى إليها عن طريق التعميم من عدد كبير من الأمثلة.
ونتيجة هذا التحليل هي أن العقل يبدو قادرا على كشف الخصائص العامة للموضوعات المادية. وتلك في الواقع نتيجة تدعو إلى الاستغراب؛ إذ لن تكون هناك مشكلة إن كانت حقيقة العقل مقتصرة على الحقيقة التحليلية؛ فمن الممكن أن يعرف العقل وحده أن الأعزب غير متزوج، ولكن لما كانت هذه العبارة فارغة، فإنها لا تثير مشكلات فلسفية. أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ إذ كيف يتسنى للعقل كشف الحقيقة التركيبية؟
على هذه الصورة وجه «كانت» هذا السؤال، بعدما يربو على ألفي عام من عصر أفلاطون. ولم يكن أفلاطون قد صاغ السؤال بهذا القدر من الوضوح، ولكن لا بد أنه أدرك المشكلة بطريقة مماثلة لهذه. ونحن نستدل على هذا التفسير من الإجابة التي قدمها للسؤال؛ أي من الطريقة التي تكلم بها عن أصل المعرفة الهندسية.
فأفلاطون ينبئنا أن هناك، إلى جانب الأشياء المادية، نوعا ثانيا من الأشياء يسميه ب «المثل»
ldeas ؛ فهناك مثال المثلث، ومثال المتوازي، والدائرة، إلى جانب الأشكال المناظرة لها، المرسومة على الورق. والمثل تعلو على الأشياء المادية؛ إذ تتبدى فيها خصائص هذه الأشياء على النحو الكامل ، بحيث إن ما نعرفه عن الموضوعات المادية بالتطلع إلى مثلها يزيد على ما نعرفه بالتطلع إلى هذه الموضوعات ذاتها. ويتضح ما يعنيه أفلاطون، مرة أخرى، بالإشارة إلى الأشكال الهندسية؛ فللخطوط المستقيمة التي نرسمها سمك معين؛ ومن هنا لم تكن خطوطا بالمعنى الذي يقصده عالم الهندسة، الذي لا يكون لخطوطه سمك. وأركان المثلث الذي نرسمه في التراب هي في الواقع مساحات صغيرة؛ وبالتالي فهي ليست نقطا مثالية. وقد أدى التباين بين معاني المفاهيم الهندسية وبين تحققها من خلال الموضوعات المادية، أدى بأفلاطون إلى الاعتقاد بأن من الضروري أن تكون هناك موضوعات مثالية أو عناصر مثالية تمثل هذه المعاني. وهكذا وصل أفلاطون إلى عالم ذي حقيقة أعلى من عالم الأشياء المادية الذي نعرفه، ووصف هذه الأخيرة بأنها تشارك في الأشياء المثالية على نحو من شأنه أن يبين خصائص الأشياء المثالية بطريقة غير كاملة.
غير أن الموضوعات الرياضية ليست هي الأشياء الوحيدة التي توجد بصورة مثالية؛ ففي رأي أفلاطون أن هناك مثلا من شتى الأنواع، كمثال القط، والإنسان، أو البيت. وبالاختصار، فكل اسم يدل على فئة (أي اسم لنوع من الموضوعات، أو اسم كلي)، يدل على وجود مثال مناظر، وتتميز مثل الأشياء الأخرى، شأنها شأن المثل الرياضية، بأنها كاملة، بالقياس إلى نسخها الناقصة في العالم الواقعي. وهكذا فإن مثال القط تتبدى فيه كل الصفات «القططية» بصورة كاملة، ومثال الرياضي يسمو على كل رياضي فعلي من جميع الأوجه؛ فهو مثلا يتميز بقوام جسمي مثالي. وبهذه المناسبة فإن كلمة «مثالي»، بالمعنى الذي نستخدمه حاليا لهذه الكلمة، مستمدة من نظرية أفلاطون.
وعلى الرغم مما قد تبدو عليه نظرية المثل من غرابة في نظر الذهن الحديث، فينبغي أن ننظر إليها، في إطار المعرفة المتوافرة في عصر أفلاطون، على أنها محاولة للتفسير؛ أي محاولة لتفسير الطبيعة التي تبدو تركيبية للحقيقة الرياضية. فنحن نرى خواص الأشياء الفكرية (أو المثالية ) بواسطة أفعال رؤية؛ وبذلك نكتسب معرفة بالأشياء الحقيقية. وهكذا تعد رؤية الأفكار (المثل) مصدرا للمعرفة يشبه ملاحظة الموضوعات الواقعية، ولكنه أرفع منه؛ لأنه يكشف من خصائص ضرورية لموضوعاته. فالملاحظة الحسية لا تستطيع أن تنبئنا بحقيقة معصومة من الخطأ، أما الرؤية فتستطيع. ونحن نرى «بعين العقل» أنه لا يمكن، بالنسبة إلى مستقيم معين، أن نرسم من نقطة خارجة إلا مستقيما واحدا موازيا له. ولما كانت هذه المصادرة
صفحة غير معروفة
1
تبدو لنا حقيقة معصومة من الخطأ، فلا يمكن استخلاصها من ملاحظات تجريبية، وإنما هي تفرض علينا بفعل رؤية نستطيع القيام به حتى عندما تكون عينا الجسم مغمضتين؛ وبهذه الصورة نستطيع التعبير عن مفهوم المعرفة الهندسية عند أفلاطون. وأيا ما كان رأينا في هذا المفهوم، فلا بد لنا من الاعتراف بأنه يكشف عن استبصار عميق بالمشكلات المنطقية للهندسة. وقد دافع «كانت» عن هذا الرأي، وإن يكن قد أدخل على صيغته بعض التحسينات، ولم يكن من الممكن في الواقع الاستعاضة عنه بفهم أقل غموضا منه إلا بعد أن أدت التطورات في القرن التاسع عشر إلى كشوف جديدة في ميدان الرياضيات، وهي كشوف أدت إلى استبعاد تفسيري «أفلاطون» و«كانت» للهندسة معا.
وينبغي أن ندرك أن أفعال الرؤية، عند أفلاطون، لا يمكنها تقديم معرفة إلينا إلا لأن الأشياء الفكرية (المثالية) موجودة. فالتوسع في مفهوم الوجود أساسي بالنسبة إليه؛ أي إنه لما كانت الأشياء المادية موجودة فمن الممكن أن ترى، ولما كانت الأفكار موجودة فمن الممكن أن ترى بعين العقل. ولا بد أن أفلاطون قد وصل إلى هذا الفهم نتيجة لحجة من هذا النوع، وإن لم يكن قد صاغ هذه الحجة صراحة؛ فهو يتصور الرؤية الرياضية على أنها مشابهة للإدراك الحسي، غير أن هذه هي النقطة التي نجد فيها أن منطق نظريته غير سليم، وذلك حتى لو حكمنا عليه بمعيار للنقد ملائم لعصره؛ ذلك لأنه يقدم إلينا تشبيها حيث كان يرمي إلى تقديم تفسير. ومن الواضح أن التشبيه ذاته غير صالح؛ فهو يمحو الفارق الباطن الذي يوجد بين المعرفة الرياضية والمعرفة التجريبية. وهو يتجاهل حقيقة واضحة، هي أن «رؤية» العلاقات الضرورية تختلف أساسا عن رؤية الموضوعات التجريبية؛ فالفيلسوف هنا يضع مجازا حيث كان ينبغي أن يضع تفسيرا، ويخترع عالما من الوجود المستقل «الأعلى»؛ لأنه يسير على أساس التشبيه بدلا من التحليل. وكما رأينا من قبل في الأمثلة التي قدمناها لفلسفات أخرى، فإن التأويل الحرفي لتشبيه ما، يصبح أصل سوء الفهم الفلسفي. وهكذا فإن نظرية المثل، بتعميمها لتصور الوجود، لا تأتينا إلا بتفسير وهمي.
وقد يحاول المفكر ذو النزعة الأفلاطونية أن يدافع عن نفسه بحجة من هذا القبيل: إن وجود الأفكار ينبغي ألا يساء تأويله؛ فليس من الضروري أن يكون وجودها من نفس نوع وجود الموضوعات التجريبية تماما. ألا يحق للفيلسوف أن يتخذ ألفاظا معينة مستمدة من اللغة اليومية، بمعنى أوسع إلى حد ما، إذا كان في حاجة إلى هذه الألفاظ؟
على أنني لا أعتقد أن هذه الحجة تتضمن دفاعا مقنعا عن المذهب الأفلاطوني. صحيح أن لغة العلم كثيرا ما تستعير ألفاظ الحياة اليومية؛ نظرا إلى تشابهها مع تصورات جديدة يحتاج إليها العالم. مثال ذلك أن لفظ «الطاقة» يستخدم في الفيزياء بمعنى مجرد مشابه إلى حد ما لمعناه في الحياة اليومية، غير أن إعادة استخدام الألفاظ على هذا النحو لا يكون أمرا مباحا إلا عندما يعرف المعنى الجديد بدقة، ويلتزم المرء في كل استخدام آخر للفظ بمعناه الجديد، لا بمشابهته مع المعنى القديم. فعالم الفيزياء الذي يتحدث عن طاقة الإشعاع الشمسي، لا يسمح لنفسه بأن يقول إن الشمس مليئة بالطاقة والنشاط، شأنها شأن الإنسان المليء بالطاقة والنشاط؛ إذ إن في هذه اللغة عودة إلى المعاني القديمة للفظ. على أن استخدام أفلاطون للفظ «الوجود» ليس من النوع العلمي. ولو كان كذلك، لعرفت القضية القائلة إن الموضوعات الفكرية (المثالية) موجودة، من خلال قضايا أخرى لا تنطوي على مثل هذا اللفظ المشكوك فيه، ولما استخدمت بطريقة مستقلة وكأن لها معنى مماثلا لمعنى الوجود المادي. ففي استطاعتنا تعريف وجود المثلث المثالي على أنه يعني أننا نستطيع التحدث عن المثلثات من خلال ما تنطوي عليه من مضمونات، أو لنضرب مثلا من ميدان الجبر، فنقول إننا نستطيع أن نصرح بأنه يوجد حل لكل معادلة جبرية تتعلق بمقدار مجهول، إذا كانت تفي بشروط معينة. في هذا الاستخدام يعني لفظ «يوجد» أننا نعرف كيف نجد الحل، ومثل هذا الاستخدام للفظ «الوجود» هو طريقة في الكلام لا ضرر منها، يلجأ إليها الرياضيون بالفعل في أحيان كثيرة. أما عندما يتحدث أفلاطون عن وجود المثل، فإن العبارة تعني أكثر - إلى حد بعيد - من مجرد تعبير يمكن ترجمته إلى معان مقررة.
إن ما يرمي إليه أفلاطون هو تقديم تفسير لإمكان معرفة الحقيقة الرياضية، ونظريته في المثل تقدم بوصفها تفسيرا لهذه المعرفة؛ أي إنه يعتقد أن وجود المثل يمكن أن يفسر معرفتنا للموضوعات الرياضية لأنه يتيح نوعا من إدراك الحقيقة الرياضية، بنفس المعنى الذي يتيح به وجود الشجرة إدراك شجرة. ومن الواضح أن تفسير وجود المثل على أنه أسلوب في الكلام فحسب لا يعنيه في شيء، ما دام سيعجز عن تعليل ذلك النوع من الإدراك الحسي الذي قال به بالنسبة إلى الموضوعات الرياضية، وبدلا من ذلك نراه يصل إلى تصور للوجود المثالي، يشتمل على خصائص الوجود المادي والمعرفة الرياضية معا، وهو مزيج عجيب من عنصرين متنافرين، ظل شبحه يخيم على اللغة الفلسفية منذ ذلك الحين.
ولقد ذكرت من قبل أن نهاية العلم تأتي عندما نعمل على إرضاء رغبتنا في المعرفة بتقديم تفسير وهمي، وعندما نخلط بين التشبيه والعمومية، ونستخدم مجازات بدلا من تصورات محددة بدقة؛ لذلك فإن نظرية المثل عند أفلاطون، شأنها شأن بقية النظريات الكسمولوجية في عصره، ليست علما وإنما هي شعر؛ فهي نتاج للخيال، لا للتحليل المنطقي. والواقع أن أفلاطون لم يتردد، عندما توسع في عرض نظريته فيما بعد، في التعبير صراحة عن اتجاهه الفكري الذي كان صوفيا أكثر منه منطقيا؛ فهو يربط بين نظريته في المثل وبين فكرة تناسخ الأرواح.
هذا التحول يحدث في محاورة «مينو» الأفلاطونية؛ ففي هذه المحاورة يسعى سقراط إلى تفسير طبيعة المعرفة الهندسية، ويوضحها بتجربة يجربها على عبد صغير، لم يتلق تعليما منظما في الرياضيات ، ويبدو أنه يستخلص منه برهانا هندسيا؛ فهو لا يشرح للصبي العلاقات الرياضية المستخدمة في الحل، وإنما يجعله «يراها» عن طريق توجيه أسئلة إليه. ويتخذ أفلاطون من هذا الموقف الطريف مثلا للاستبصار العقلي بالحقيقة الهندسية، وللمعرفة الفطرية غير المستمدة من التجربة. هذا التفسير، وإن لم يكن مقبولا من وجهة النظر الحديثة، كان في عصر أفلاطون دليلا كافيا على فكرة رؤية المثل، غير أن أفلاطون لا يكتفي بهذه النتيجة، وإنما يود أن يمضي في التفسير أبعد من ذلك، وأن يفسر إمكان المعرفة الفطرية. وفي هذا السياق يعرب سقراط عن الرأي القائل إن المعرفة الفطرية تذكر لرؤية المثل، كان لدى الناس في «حيوات» سابقة عاشتها أرواحهم؛ فقد كانت من بين هذه الحيوات حياة في «السماء التي تعلو على السموات»، كانت المثل ترى فيها. وهكذا يلجأ أفلاطون إلى الأسطورة لكي «يفسر» معرفة المثل. وإنه لمن الصعب أن نقتنع بإمكان حدوث هذه الرؤية للمثل في حياة سابقة إن كانت مستحيلة في حياتنا الحاضرة، أو أن نقتنع بضرورة القول بنظرية للتذكر إن كانت هناك رؤية للمثل في حياتنا الحاضرة.
إن التشبيه الشعري لا يكترث بالمنطق؛ ففي الأساطير اليونانية أثير السؤال عن سبب عدم سقوط الأرض في المكان اللانهائي، وكان الجواب هو أن عملاقا، يسمى أطلس، يحمل الكرة الأرضية على كتفيه. والواقع أن نظرية التذكر عند أفلاطون ذات قدرة تفسيرية تكاد تماثل هذه القصة، من حيث إنها تكتفي بأن تنقل أصل معرفة المثل من حياة إلى أخرى. ولم يكن مذهب أفلاطون في الكونيات (الكسمولوجيا)، كما عرضه في محاورة «طيماوس»، يختلف عن هذه الأسطورة الساذجة إلا في استخدامه لغة تجريدية؛ فهو ينبئنا مثلا بأن الوجود كان موجودا قبل تكون الكون. ولا شك أن غموض اللغة هو وحده الذي يقنع الفيلسوف بأن يتبين حكمة عميقة في هذه الكلمات التي تذكرنا، لو اختبرناها بدقة، بابتسامة قطة «تشيشاير
Cheshire »،
صفحة غير معروفة
2
التي ظلت ترى حتى بعد أن اختفت القطة.
غير أنني لا أود أن أسخر من أفلاطون؛ ذلك لأن مجازاته تتحدث بلغة بلاغية تثير الخيال، وكل ما في الأمر أن من الواجب ألا تعد تفسيرا؛ فكل ما أبدعه أفلاطون كان شعرا، ومحاوراته كانت من أروع الأعمال في الأدب العالمي. وإن قصة سقراط الذي يعلم الشبان بطريقة توجيه الأسئلة، إنما هي مثل رائع للشعر التعليمي، الذي وجد له مكانا إلى جانب إلياذة هوميروس وتعاليم الأنبياء، ولكن ليس لنا أن نأخذ آراء سقراط مأخذ الجد أكثر مما ينبغي؛ إذ إن المهم هو الطريقة التي يقول بها هذه الآراء، وكيف يستثير تلاميذه للدخول في مناقشة منطقية. ففلسفة أفلاطون إنما هي نتاج لفيلسوف انقلب شاعرا.
وإنه ليبدو أن الفيلسوف، عندما يصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها، يشعر بإغراء لا يقاوم لكي يقدم إلينا لغة مجازية بدلا من التفسير. ولو كان أفلاطون قد بحث مشكلة أصل المعرفة الهندسية من وجهة نظر العالم، لوجب أن يكون رده اعترافا صريحا هو: «لا أعرف.» فالعالم الرياضي إقليدس، الذي شيد بعد جيل واحد من أفلاطون نسق البديهيات الهندسي، لم يحاول تقديم تفسير لمعرفتنا بالبديهيات الهندسية. أما الفيلسوف فيبدو عاجزا عن السيطرة على رغبته في المعرفة. وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوال تاريخ الفلسفة، مقترنا بخيال الشاعر؛ فحيثما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يجيب؛ لذلك فإن من الواجب، عند قراءتنا للعرض الذي يقدمه الفلاسفة لمذاهبهم، أن نركز انتباهنا في الأسئلة، لا في الإجابات المقدمة؛ ذلك لأن كشف الأسئلة الأساسية هو في ذاته إسهام عظيم الأهمية في التقدم العقلي. وعندما ينظر إلى تاريخ الفلسفة على أنه تاريخ للأسئلة، فإن الوجه الذي يتبدى عليه يغدو أخصب بكثير من ذلك الذي يبدو لنا عندما ننظر إليه على أنه تاريخ للمذاهب. وهناك بعض من هذه الأسئلة يرجع إلى عهود غابرة في التاريخ، لم يتم التوصل إلى إجابات علمية عليه إلا في أيامنا هذه. ومن هذه الأسئلة، السؤال عن أصل المعرفة الرياضية. وسوف نتناول في الفصول المقبلة أسئلة أخرى كان لها تاريخ مماثل.
إن التحليل الذي قدمناه في هذا الفصل هو الإجابة الأولى على السؤال النفسي المتعلق باللغة الفلسفية، الذي أثير عند مناقشة الفقرة التي استهللنا بها هذا الكتاب. فالفيلسوف يتحدث لغة غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تعوزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة هذا التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون، فإنه لا يمكن أن يصدق على كاتب بالفقرة القائلة: إن العقل هو جوهر الأشياء جميعا. إذ كان في وسع هذا الكاتب أن يفيد من المعرفة المتراكمة طوال ألفي عام من البحث العلمي بعد عصر أفلاطون، غير أنه لم ينتفع منها.
الفصل الثالث
البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
تبين لنا من الفصل السابق أن أصل المفاهيم الغامضة للمذاهب الفلسفية يرجع إلى نوع من النوافع الخارجة عن مجال المنطق، التي تتدخل في عملية التفكير؛ فعن طريق اللغة المجازية، يقدم الفيلسوف إرضاء وهميا لسعيه المشروع إلى تقديم تفسير يتسم بالعمومية. ومما يغري على إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميل يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة، ويستحق هذا الميل إلى التفكير المجازي أن يسمى دافعا خارجا عن مجال المنطق؛ لأنه لا يمثل نوعا من التحليل المنطقي، وإنما يرجع أصله إلى حاجات ذهنية لا تنتمي إلى مجال المنطق.
وهناك دافع ثان خارج عن مجال المنطق، كان في كثير من الأحيان يتدخل في عملية التحليل. فعلى الرغم من أن المعرفة المكتسبة بالملاحظة الحسية هي على وجه العموم ناجحة في الحياة اليومية، فإن في وسعنا أن ندرك منذ وقت مبكر أننا لا نستطيع الاعتماد عليها أكثر مما ينبغي. فهناك بضعة قوانين فيزيائية بسيطة يبدو أنها تصح بلا استثناء، كالقانون القائل إن النار ساخنة، أو إن البشر فانون، أو إن الأجسام التي لا ترتكز على شيء تهوي. غير أن هناك قواعد أخرى كثيرة جدا لها استثناءات، كالقاعدة القائلة إن البذرة التي تغرس في الأرض تنمو، أو كقواعد الطقس أو قواعد شفاء الأمراض البشرية. وكثيرا ما تؤدي الملاحظة الأكثر شمولا إلى كشف استثناءات حتى في القوانين ذات الصبغة الأدق. مثال ذلك أن نار حشرة «ذبابة النار» ليست ساخنة، وذلك على الأقل بالمعنى المعتاد لكلمة «ساخنة»، كما أن فقاعات الصابون قد ترتفع إلى أعلى (وإن لم تكن مرتكزة على شيء). وعلى حين أن من الممكن تفسير هذه الاستثناءات بوضع صيغة أدق للقانون، تحدد شروط سريانه ومعاني ألفاظه بطريقة أدق، فإننا نظل مع ذلك نشك إن كانت الصيغة الجديدة خالية من الاستثناء، أو إن كانت ستظهر كشوف جديدة تكشف عن نوع من النقص في الصيغة المعدلة. ولا شك أن لهذا الشك مبرراته القوية، التي ترجع إلى ما أدى إليه تطور العلم مرارا من استبعاد للنظريات القديمة والاستعاضة عنها بنظريات جديدة.
وهناك مصدر آخر للشك، هو أن تجاربنا الداخلية تنقسم إلى عالم للواقع وعالم للأحلام. ولقد كانت ضرورة القيام بهذا التقسيم، من الوجهة التاريخية، كشفا تم في فترة متأخرة إلى حد ما من تطور الإنسان. فنحن نعلم أن الشعوب البدائية في عصرنا هنا لا تضع بين العالمين حدا فاصلا واضحا؛ فالإنسان البدائي الذي يحلم بأن شخصا آخر هاجمه قد يعد حلمه حقيقة، ويقتل الرجل الآخر، أو قد يحلم بأن زوجته تخدعه مع رجل آخر، فيقوم بأعمال انتقامية مماثلة أو يتخذ تدابير للقصاص، وذلك تبعا لوجهة نظره إلى الموضوع. وقد يكون المحلل النفسي على استعداد لالتماس عذر لهذا الرجل إلى حد ما، وذلك بأن يشير إلى أن مثل هذه الأحلام ما كانت لتحدث دون أسباب، وأنها تبرر الشك على الأقل، إن لم تكن تبرر العقاب. غير أن الإنسان البدائي لا يسلك على أساس اعتبارات التحليل النفسي، وإنما يسلك لافتقاره إلى تمييز واضح بين الحلم والواقع. وعلى الرغم من أن الإنسان العادي في عصرنا هذا يشعر بأنه في مأمن من هذا الخلط، فإن قليلا من التحليل يبين لنا أن ثقته هذه لا ترقى إلى مرتبة اليقين؛ ذلك لأننا عندما نحلم لا نعلم أننا نحلم، وإنما نعرف أن حلمنا كان حلما فيما بعد؛ أي عندما نستيقظ فقط. فكيف ندعي أن تجاربنا الحالية يمكن الاعتماد عليها أكثر من الحلم؟ إن كون هذه التجارب مقترنة بشعور من الواقعية لا يجعلها أكثر قابلية للاعتماد عليها؛ إذ إن هذا الشعور ذاته يكون لدينا في الحلم، فليس في وسعنا أن نستبعد تماما احتمال أن التجارب التالية ستثبت أننا نحلم الآن. وليس الغرض من إثارة هذه الحجة هو زعزعة ثقة الإنسان العادي في تجاربه، وإنما تبين هذه الحجة أننا لا نستطيع أن نعتمد على هذه الثقة اعتمادا مطلقا.
صفحة غير معروفة
ولقد كان الفيلسوف يشعر على الدوام بالقلق؛ لأن من غير الممكن الاعتماد على الإدراك الحسي. وقد عبر عن هذا القلق بأفكار كتلك التي قدمناها، كما أنه تحدث عن خداع الحواس في حالة اليقظة، كالالتواء البادي للعصا عندما تغمر في الماء، أو كالسراب في الصحراء؛ لذلك كان يشعر بالابتهاج عندما يجد مجالا واحدا على الأقل من مجالات المعرفة يبدو له بمنأى عن الخداع، وهو مجال المعرفة الرياضية.
ولقد كان أفلاطون، كما ذكرنا من قبل، ينظر إلى الرياضيات على أنها أسمى صورة للمعرفة.
1
وقد أسهم تأثيره بدور كبير في الرأي الشائع القائل إن المعرفة لا تكون معرفة على الإطلاق إن لم تتخذ صورة رياضية. غير أن العالم الحديث، وإن يكن يتخذ من الرياضيات أداة رئيسية للبحث، لا يقبل هذا الحكم دون قيد أو شرط، وإنما يؤكد أن الملاحظة لا يمكن إغفالها في العلم التجريبي، ويترك للرياضة مهمة إثبات الارتباطات بين مختلف نتائج البحث التجريبي فحسب. وهو يبدي استعدادا تاما لاستخدام هذه الارتباطات الرياضية مرشدا لكشوف جديدة تعتمد على الملاحظة، غير أنه يعلم أنها لا يمكنها أن تعينه إلا لأنه يبدأ من مادة مستمدة بالملاحظة، وهو مستعد على الدوام للتخلي عن النتائج الرياضية إن لم تؤيدها الملاحظة اللاحقة. فالعلم التجريبي ، بالمعنى الحديث لهذه العبارة، يجمع بنجاح بين المنهج الرياضي ومنهج الملاحظة، ونتائجه لا تعد ذات يقين مطلق، بل ذات درجة عالية من الاحتمال، ويمكن الاعتماد عليها بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية بقدر كاف.
غير أن فكرة المعرفة التجريبية كانت خليقة بأن تبدو ممتنعة في نظر أفلاطون؛ فعندما وحد بين المعرفة وبين المعرفة الرياضية، أراد أن يقول إن الملاحظة لا ينبغي أن يكون لها دور في المعرفة. ولقد قال أحد تلاميذ سقراط في محاورة فيدون: «إن الحجج المبنية على الاحتمالات زائفة.» ذلك لأن أفلاطون كان يطلب اليقين، لا الترجيح الاستقرائي الذي ترى الفيزياء الحديثة أنه الهدف الوحيد الذي يمكنه بلوغه.
ومن الصحيح، بطبيعة الحال، أن اليونانيين لم يكن لديهم علم فيزيائي يمكن مقارنته بعلمنا، وأن أفلاطون لم يكن يعلم مدى ما يمكن تحقيقه عن طريق الجمع بين المنهج الرياضي والتجربة. ومع ذلك فهناك علم طبيعي واحد أحرز، حتى في أيام أفلاطون، نجاحا كبيرا بفضل هذا الجمع، هو علم الفلك؛ ذلك أن القوانين الرياضية لدوران النجوم والكواكب كانت قد كشفت، بدرجة كبيرة من الإحكام، بفضل الملاحظة الدقيقة والاستدلال الهندسي، غير أن أفلاطون لم يكن على استعداد للاعتراف بدور الملاحظة في الفلك، وإنما أكد أن الفلك لا يكون علما إلا بقدر ما تفهم حركات النجوم ب «العقل والذهن». ففي رأيه أن ملاحظات النجوم لا تنبئنا بالكثير عن القوانين الخاصة بدورانها؛ لأن حركتها الفعلية غير كاملة، ولا تخضع للقوانين خضوعا دقيقا. ويقول أفلاطون إن من غير المعقول أن نفترض أن الحركات الحقيقية للنجوم «أزلية ولا تتعرض لأي انحراف». وهو يذكر بوضوح كامل رأيه في الفلكي الذي يعتمد على الملاحظة: «فإذا كان ما يدرسه المرء شيئا حسيا، فإنه سواء تطلع مشدوها إلى أعلى، أم خفض عينيه إلى أسفل، فلن تكون هذه معرفة على الإطلاق؛ إذ لا يمكن أن يكون ثمة علم بالمحسوس. فالنفس في هذه الحالة إنما تنظر إلى أسفل، سواء أكان المرء يدرس وهو راقد على ظهره، أم وهو طاف على الماء.» وبدلا من ملاحظة النجوم، علينا أن نحاول الاهتداء إلى قوانين دورانها بالفكر؛ فمن واجب الفلكي أن «يترك السماء المحتشدة بالنجوم جانبا»، وأن يخوض موضوعه باستخدام «الجزء العاقل بطبيعته في نفوسنا» (الجمهورية، الكتاب السابع، 529-530). إنه لمن المحال أن نجد كلمات أقوى من هذه تعبر عن رفض العلم التجريبي، وعن الاعتقاد بأن معرفة الطبيعة لا تحتاج إلى ملاحظة، وإنما يمكن بلوغها بالعقل وحده.
فكيف يمكن تفسير هذا الموقف المعادي للتجريبية على أساس نفسي؟ إن البحث عن اليقين هو الذي يجعل الفيلسوف يتجاهل دور الملاحظة في المعرفة. ولما كان يستهدف معرفة ذات يقين مطلق، فإنه لا يستطيع أن يقبل نتائج الملاحظات، ولما كانت الحجج المبنية على أساس احتمالات حججا للحقيقة. وهكذا فإن المثل الأعلى الذي يتجه إلى صبغ المعرفة بصبغة رياضية كاملة، وإلى جعل الفيزياء من نفس نمط الهندسة والحساب، ينشأ عن الرغبة في الاهتداء إلى يقين مطلق لقوانين الطبيعة، وهو يؤدي إلى ذلك المطلب الممتنع، وأعني به أن ينسى عالم الفيزياء ملاحظاته، وأن يحول عالم الفلك عينيه بعيدا عن النجوم.
ويطلق على نوع الفلسفة التي تعد العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي اسم المذهب العقلي
Rationalism . وينبغي أن نميز بدقة بين هذا اللفظ، وكذلك الصفة المشتقة منه وهي «عقلاني
rationalistic »، وبين لفظ «معقول
صفحة غير معروفة