وأما ما يسمى في اصطلاح النحاة مشتركا بينهما فاختاروا له العلامة الثقيلة؛ لقلة دورانه على اللسان. والذي يلوح لنا أنه لم يكن للاسم في الأصل إلا حالتان: عمدة وفضلة، أو رفع ونصب، وأن الحالة الثالثة - أي حالة الخفض - طارئة على اللغة، أو أنها ثقيل مستبشع، يرفع الاسم لأنه مهم أو قوي، وينصب لأنه ضعيف أو كثير الدوران على اللسان، وأما خفضه فلماذا؟!
ولنا على ذلك أدلة كثيرة: (1)
أن الفعل المضارع - الذي يشبه الاسم في الإعراب - يرفع وينصب ويجزم ولكنه لا يخفض. (2)
أن أكثر الأسماء ليس لها إلا علامتان إعرابيتان: الأولى الرفع والثانية النصب والخفض معا؛ كجمع المذكر السالم، فتقول: «جاء المعلمون» و«رأيت المعلمين» و«مررت بالمعلمين»؛ وكالمثنى، فتقول: «جاء المعلمان» و«رأيت المعلمين» و«مررت بالمعلمين»؛ وكالممنوع من الصرف، فتقول: «جاء إبرهيم» و«رأيت إبرهيم» و«مررت بإبرهيم»؛ وكجمع المؤنث السالم، نحو: «جاءت المؤمنات» و«رأيت المؤمنات» و«مررت بالمؤمنات»، فلو كان هناك فرق بين النصب والخفض في الاعتبار لوجب أن يكون لكل منهما علامة خصوصية تميز الواحد عن الآخر في هذه الأنواع من الاسم، وهي كثيرة. (3)
أن الظروف التي تجر بحرف «في» يجوز أن يسقط حرفها فترجع إلى النصب، فتقول: «جئت في الصباح» و«جئت صباحا»، فلو كان الخفض لبيان حالة إعرابية لخفض الظرف بحرف جر وبدونه. (4)
أن كثيرا من الأفعال المتعدية بواسطة حرف خفض قد تتعدى بنزع الخافض فينصب الاسم المخفوض بذلك الحرف على المفعولية الصريحة؛ لأن الفعل حينئذ قد وصل إليه بنفسه، ومنه قول الشاعر:
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكم علي إذن حرام
أي: تمرون على الديار، فحذف الحرف ونصب المخفوض به، ولا فرق بين نصب الاسم أو خفضه، وإذا لم يرد نزع الخافض في بعض الأفعال، مثل: «بصرت بزيد» فقد يستبدل الفعل بآخر يتعدى رأسا، نحو: «أبصرت زيدا، أو نظرته أو رأيته»، فلو كانت الرؤية لا تتم إلا بالخفض لوجب أن يستعمل حرف الجر مع كل الأفعال التي تدل على الرؤية. (5)
المفعول لأجله المخفوض بحرف التعليل، نحو: «هربت للخوف أو من الخوف» يجوز فيه إسقاط حرف الخفض، وحينئذ يعود إلى النصب، فلو كان للخفض معنى إعرابي للزم المفعول لأجله الخفض سواء جر بحرف أم لا. (6)
صفحة غير معروفة