أدلة البيان في اللغة العربية1
الأفعال في اللغة العربية1
الحروف الهجائية1
النحو1
قصيدة حافظ إبرهيم في الدستور والدكتور طه حسين1
اللغة العربية في نهضتها الأخيرة1
كتاب الكامل وبعض كتاب هذا العصر
لغة الجرائد1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (1)1
لكل مقام مقال1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (2)1
ولكل دولة رجال ...1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (3)1
العربي شرط لازم في القديم والجديد1
نتفة من الشواهد على المترادف
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (4)1
القديم والجديد1
ذيل
أدلة البيان في اللغة العربية1
الأفعال في اللغة العربية1
الحروف الهجائية1
النحو1
قصيدة حافظ إبرهيم في الدستور والدكتور طه حسين1
اللغة العربية في نهضتها الأخيرة1
كتاب الكامل وبعض كتاب هذا العصر
لغة الجرائد1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (1)1
لكل مقام مقال1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (2)1
ولكل دولة رجال ...1
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (3)1
العربي شرط لازم في القديم والجديد1
نتفة من الشواهد على المترادف
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (4)1
القديم والجديد1
ذيل
مطالعات في اللغة والأدب
مطالعات في اللغة والأدب
تأليف
خليل السكاكيني
أيها القارئ الكريم
عرضت كتابي هذا قبل طبعه على صديقين من أهل العلم والفضل، أما الأول: فتضجر منه؛ لخروجي في مواضع كثيرة منه عن المألوف، وأما الثاني: فتفضل باستحسان ما رأى فيه من أثر الاجتهاد على ضعفه، وشجعني على طبعه. إذا كنت من رأي الأول فأرجو عفوك، وإذا كنت من رأي الثاني فأشكرك.
خليل السكاكيني
أدلة البيان في اللغة العربية1
من تدبر العلوم اللسانية في اللغة العربية؛ كالصرف والنحو، رأى أنه قد مر بها حتى الآن ثلاثة أدوار: الأول دور الاستقراء والتطبيق، استخرج النحاة الأولون فيه الجزئيات من الكليات ثم طبقوا الكليات على الجزئيات طردا وعكسا؛ مثال ذلك: استقرى النحاة الفاعل في جمل كثيرة، فقالوا الفاعل مرفوع، ثم قالوا إن لفظة «رجل» في قولنا «جاء الرجل» مثلا مرفوع؛ لأنه فاعل. الدور الثاني: دور التبويب والترتيب، كان هم كل مؤلف في هذا الدور تتبع الأحكام الكلية في مظانها، وترتيبها في فصول وأبواب أشبه بالفهارس ، ضموا فيه النظير إلى نظيره والفرع إلى أصله، ولكن لم يجئ أحد منهم بشيء جديد من عنده؛ بل اقتصروا على مذاهب البصريين والكوفيين، وذكر الراجح والمرجوح منها بلا بحث ولا نكير. الدور الثالث: دور الاجتهاد، حاول بعض المؤلفين فيه أن يخرجوا من عهدة ذلك التقليد بأن يذكروا هنا وهناك بعض آراء لم يسبقهم إليها أحد، ففتحوا بذلك باب الاجتهاد.
ولا شك أننا أصبحنا اليوم في زمان لا بد فيه من إعادة النظر في كل ما وضعه الأولون وتسلمناه منهم قضايا مقررة لا تقبل الاعتراض، وبناء ذلك على مبادئ جديدة علمية، فإن عندنا من الوسائل ما لم يكن عندهم. كان علماء اللغة في قديم الزمان لا يعرفون غير اللغة العربية، ولم يكونوا يعرفون ما يسمى اليوم بعلم مقابلة اللغات بعضها ببعض، أو ما يسمى علم تحليل اللغات أو فلسفتها؛ بلى حاول بعضهم التعرض لهذه الأبحاث، منهم أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي في كتابيه «الخصائص في اللغة» و«سر الصناعة في النحو»، ولكن أبحاثهم كانت في عهد طفوليتها، وأما اليوم فقد ارتقت هذه العلوم وصارت خصائص اللغة وأسرارها علما بأصول، وأصبح عالم اللغة لا غنى له عن تعلم أخوات تلك اللغة؛ بل لغات أخرى عديدة قديمة وجديدة. وقد عرفت في بلاد الإنكليز وأميركا أساتذة كثيرين من علماء اللغات الشرقية يعرف الواحد منهم إلى اللغة العربية، العبرية والسريانية والحبشية والتركية والفارسية والسنسكريتية، فضلا عن اللغات الأوروبية الحديثة والقديمة إلى ما يجاوز العشر لغات. وقد لقيت في كمبردج شيخا مصريا وهو أستاذ في إحدى المدارس العالية في القطر المصري، رأى سعة معرفة أولئك الأساتذة وتبحرهم في علم اللغات، فقال في قصيدة أرسلها إلى أحد العلماء في مصر:
أنا في بلاد الإنكليز
أسير كالطفل الصغير
في كمبردج مدينة العرفان
ليس لها نظير
فيها الأساتذة الفخام
ومن يعادل شكسبير
لا علم لي حتى أجادلهم
ولا عقل كبير
لكنني مسترشد
شأن الضرير مع البصير
ولقد ذكرتك قائلا
في مصرنا البدر المنير
كل بأطراف البنان
إليه إجلالا يشير
ولأولئك العلماء الأعلام مؤلفات غزيرة المادة مشبعة الفصول في تاريخ اللغات وفلسفتها ومقابلتها بعضها ببعض. استبطنوا اللغات واستخرجوا منها حقائق بنيت عليها العلوم اللسانية في لغاتهم، وأول من طرق هذه الأبحاث الجديدة في اللغة العربية - على ما أذكر - أحمد فارس الشدياق، والشيخ إبرهيم اليازجي، وجورجي زيدان، وروحي الخالدي المقدسي، وجبر ضومط، وبندلي الجوزي المقدسي، وأنستاس الكرملي، ثم انقطع العهد بتلك الأبحاث ولم تترتب عليها فائدة عملية، ولعل لذلك سببين: الأول؛ تراجع النهضة وقلة المشتغلين بها، والثاني؛ عدم الجرأة على إبداء رأي جديد، وقد خطر لي أثناء معالجتي هذه المواضيع من النظرات والخواطر ما أتجرأ على عرضه عليكم شيئا بعد شيء، وأنا لا أجهل أن رأس مالي نزر، وسأقتصر في حديثي هنا على الكلام عن أدلة البيان التي تتميز بها وظيفة الكلمة في الجملة، فأقول: تعرف وظيفة الكلمة في الجملة إما بالقرينة المعنوية، نحو: «فهم موسى المعنى»، أو «فهم المعنى موسى»، فإن الفاهم هو موسى والمفهوم هو المعنى؛ إذ لا يصح غير ذلك. وإما بالترتيب، نحو: «سبق أخي غلامي»، ولما كان كل منهما يصح أن يكون سابقا أو مسبوقا ذكرنا السابق أولا والمسبوق ثانيا؛ لأن علاقة الفعل بالفاعل سابقة لعلاقته بالمفعول. وإما بالإعراب، نحو: «ضرب زيد عمرا» أو «ضرب عمرا زيد»، فالضارب هو زيد والمضروب هو عمرو في الجملتين، وقد عرفنا ذلك ليس من المعنى لأنه يصح أن يكون كلاهما ضاربا أو مضروبا، ولا من الترتيب لأن كلمة زيد جاءت قبل كلمة عمرو في الجملة الأولى وبعدها في الجملة الثانية، وإنما عرفنا أن زيدا هو الضارب لأنه مرفوع، وأن عمرا هو المضروب لأنه منصوب، فأدلة البيان ثلاثة: القرينة والترتيب والإعراب، وهذا آخر ما وصلت إليه اللغة العربية، ولا بد أن تكون هذه الأدلة قد مرت على أدوار مختلفة قبل أن وصلت إلى صورتها الحاضرة التي ورثناها من عهد التدوين جريا على ناموس النشوء والارتقاء كما سنبينه فيما يلي.
القرينة
لا شك أن القرينة هي أقدم هذه الأدلة، وقد مر زمان طويل على اللغة كان الاعتماد في بيان المعنى فيها على القرينة وحدها، وذلك قبل أن يكون في اللغة ترتيب معلوم أو إعراب بياني، فكانوا يقدمون أو يؤخرون، وكانوا يرفعون أو ينصبون أو يخفضون أو يجزمون أو يبنون كما يجيء معهم اتفاقا لغير قصد. وإذ كان اعتمادهم في هذا الدور على القرينة وحدها فلا بد أنه كانت هناك قرائن كثيرة تختلف وضوحا أو خفاء يستدلون بها على المعنى، ولاعتيادهم الاعتماد على القرينة فلا بد أنهم كانوا يتنبهون لأدق القرائن وأخفاها، ومع ذلك فإن التفاهم كان صعبا لما يقع فيه من اللبس أو الغموض أحيانا، أو أن مواضيع الكلام كانت بسيطة يدرك المعنى منها بأقل لمحة، من تلك القرائن طبقة الصوت وهيئة إطلاقه بين أن يكون لينا أو خشنا، عاليا أو سافلا مما هو بالصوت الموسيقي أشبه منه بالصوت المنطقي كما قال اليازجي، ولا تزال آثار ذلك في اللغة إلى اليوم كاختلاف اللهجة في الاستفهام أو التعجب عنها في الخبر؛ بل لولا اختلاف اللهجة لأصبح كثير من الكلام لغوا. نكرر الألفاظ للتأكيد، مثل: «جاء الأمير الأمير»، ولكن إذا لم نرفع الصوت قليلا في اللفظة الثانية فلا تأكيد فيها ولو كررناها عشر مرات، نتبع اللفظة بأخرى لبيانها، مثل: «جاء أخوك زيد»، لكن إذا لم تكن الثانية أعلى نغمة من الأولى فلا تفيد بيانا. نستعمل «إن» للتأكيد ولكن إذا لم نجعل النبرة شديدة على النون فلا تفيد تأكيدا، إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال للإفاضة فيه؛ بل إن اللهجة قد تقلب المعنى إلى ضده، يقال إنه حكم مرة على رجل أن يقف أمام الناس ويقول «أيها الناس أنا لص»، فلما وقف قال «أيها الناس أنا لص؟» بلهجة استفهام، فانقلب المعنى من إقرار إلى إنكار.
ومن القرائن الإشارات وحركات الوجه، يقال إن بعض زنوج أفريقيا إذا غابت الشمس سكنت جلبتهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يتفاهموا بالكلام وحده، وبسبب ظلمة الليل لا يستطيعون أن يستعينوا بالإشارات وحركات الوجه؛ بل إنك اليوم لا تجد أحدا يتكلم بدون أن يستعين بالإشارات وحركات الوجه على تقوية معناه أو إيضاحه أو استدعاء الانتباه إليه، مما يدل على أن اللغات على ارتقائها واتساعها لا تزال ناقصة، وأنها دون التصوير والموسيقى، فإن المصور قد يصور بريشته ما تعجز أرقى اللغات عن الغناء فيه، والموسيقي قد يترجم بنغماته عما لا يؤديه كلام، هذا على ارتقاء اللغات في هذا العصر فكيف يوم كانت في أول عهدها. من هذا تعلم أن ألفاظ اللغة ليست هي اللغة كلها؛ بل هي جزء منها تتممه الإشارات وحركات الوجه وطبقة الصوت وقرائن أخرى، وهذا سر أن التشبيه أبلغ من الحقيقة. إذا أردت أن تصور شخصا غريبا لغيرك فمهما دققت في وصف تقاطيعه وأعضائه وبيان لونه وطوله وعرضه فإنك لا تستطيع أن تعطي الصورة الحقيقية عنه، ولكن يكفي أن تذكر شخصا يعرفه ثم تقول إنه يشبهه شبها تاما، فإنه يستطيع حينئذ أن يتصور ذلك الشخص في ذهنه، فلو كانت اللغة كافية لما كانت هناك حاجة إلى التشبيه.
ومن تدبر اللغة العربية وجد فيها شيئا كثيرا من لغة الإشارات وحركات الوجه ولونه؛ مثل قولهم في الخوف: «امتقع لون فلان، واقشعر جلده، واصطكت ركبتاه، وارتعدت فرائصه، وأرعشت مفاصله»، ومثل قولهم في الغضب: «قطب وجهه، وزوى ما بين عينيه، وانتفخت أوداجه، وتزبد فوه، واحمرت عيناه»، إلى غير ذلك مما يصور المعنى تصويرا، ولا شك أن هذا من آثار ذلك العهد الذي كانت فيه حركات الوجه والإشارات قرائن على المعنى، وهو أيضا سر أن الخطابة والإنشاد والتمثيل والغناء أوقع في النفس من القراءة الفكرية.
الترتيب
مر على اللغة زمان طويل والترتيب فيها مشوش لغير سبب؛ اعتمادا على القرائن التي تقدم ذكرها، ولا يزال في اللغة آثار هذا التشويش؛ إذ لا نزال نقدم تارة الموصوف على الصفة؛ فنقول: «ليس في المسألة أمر كبير»، وتارة الصفة على الموصوف؛ فنقول: «ليس في المسألة كبير أمر.» ثم دخلت اللغة في دور ثان لزم الترتيب فيه صورة معلومة؛ كذكر الفاعل قبل المفعول، وذكر المسند إليه قبل المسند لاعتبارات خصوصية عندهم ليس هذا محل بسطها، ولا نزال نراعي هذا الترتيب إذا لم تكن هناك قرينة معنوية أو قرينة إعرابية. وبعد أن تولد الإعراب في اللغة دخلنا في دور ثالث تحررنا فيه من قيود الترتيب وعدنا إلى التشويش، والفرق بين هذا الدور والدور الأول أن التشويش كان في الدور الأول اعتباطيا فصار في الدور الثالث لأغراض بيانية مقصودة، وهذا أرقى ما وصلت إليه اللغات في البيان حتى الآن، وقد ساعدنا على ذلك أمران: القرينة والإعراب، ولولا الإعراب للزم الترتيب صورة معلومة لا يتعداها على ما نراه في اللغات الأخرى، فإن الفاعل في اللغة الإنكليزية مثلا لا يجيء إلا قبل المفعول به سواء دلت عليه القرينة أم لا؛ بسبب أنها ليست لغة إعرابية، وكما نراه في اللغة العربية نفسها إذا كانت الكلمات لا تقبل إعرابا أو لم تكن هناك قرينة معنوية، فإننا نلزم الترتيب فنذكر الفاعل قبل المفعول به، مثل: «سبق أخي غلامي»، ونذكر المسند إليه قبل المسند إذا استويا في التعريف والتنكير ولم تكن هناك قرينة للتمييز بينهما، مثل: «أخي رفيقي» و«أفضل منك أفضل مني.» فالأدوار التي مرت على الترتيب ثلاثة: الأول؛ الدور المشوش لغير قصد اعتمادا على القرينة، والثاني؛ الدور المرتب لاعتبارات خصوصية، والثالث؛ الدور المشوش لأغراض بيانية اعتمادا على الإعراب والقرينة.
الإعراب
من تتبع الدرجات التي مرت عليها اللغات في انتقالها من الدور التقليدي إلى الدور النطقي - أي من تقليد الأصوات تقليدا بسيطا إلى ألفاظ مستقلة يدل بها على المعاني دلالة صماء لا تظهر فيها صبغة التقليد كما قال المرحوم جورجي زيدان - ير أن الإعراب هو آخر ما وصلت إليه اللغات حتى الآن، فهو عنوان رقيها، وهذا يحتمل كلاما طويلا ليس من غرضنا في هذه العجالة التعرض له، وإنما غرضنا هنا هو أن نشير إلى الأدوار التي مرت على الإعراب إلى أن وصل إلى حالته الحاضرة، ثم نتبع ذلك بكلمة في الإعراب نفسه نجعلها خاتمة هذا البحث.
كان الإعراب في دوره الأول مشوشا، فكانوا يرفعون أو ينصبون أو يخفضون أو يجزمون اعتباطا لغير قصد بياني؛ اعتمادا على القرينة والترتيب، ولعل الغرض من الإعراب في هذا الدور كان تزيين الكلام وزخرفته، فقولك: «جاء الضارب» بضم الباء آنق من قولك: «جاء الضارب» بإسكانها، ولعلهم استعملوه في أول الأمر في الشعر لما يتوخونه فيه من الزخرفة والتأنق، ولما ألفوه استعملوه في النثر أيضا.
ومن تدبر الشعر في اللغة المحكية ليومنا هذا رأى أنهم قد يحركون من أواخر الكلم فيه ما لا يحركونه في كلامهم العادي، وتلك حالة في اللغة - أي الإعراب المشوش بدون ضابط - لا بد أن يئول أمرها إما إلى الإلغاء بتاتا، وإما إلى الدخول في دور ثان يستخدم فيه الإعراب لغرض آخر لا لمجرد الزينة أو الضرورة الشعرية، والواقع أن الإلغاء ابتدأ في اللغة - ولكن في الوقف - ولولا القليل لسقط في كل المواطن، والواقع أن اللغة دخلت في دور ثان استخدم فيه الإعراب لبيان وظيفة الكلمة في الجملة، ولكن وقفت اللغة في أول هذا الدور قبل أن ينضج الإعراب ويتم إحكامه في كل مواطنه كما سترى، ففي دوره الأول كان شيئا خارجا عن اللغة، فإذا ألغي لم تتأثر؛ لأن الاعتماد في بيان المعنى كان على القرينة والترتيب؛ ولذلك نرجح أن إلغاءه في الوقف ابتدأ في هذا الدور.
وأما في دوره الثاني - وهو الدور الذي تشوش فيه الترتيب لأغراض بيانية نص النحاة والبيانيون على مواطنها - فقد صار من مقومات اللغة وخصائصها؛ لأن هناك مواطن كثيرة في الكلام لا دليل على المعنى فيها غير الإعراب، فإذا ألغي رجعت اللغة إلى اللبس والغموض، فأنت ترى أن الإعراب قد ساعد العرب على أن يستفيدوا من الترتيب المشوش في الدلالة على معان تعجز اللغات الأخرى عن أدائها، إلا أن اللغة وقفت قبل أن يتم نضجه، أي وصل إلينا وفيه آثار التشويش، وهذا التشويش نوعان: نوع استعمل قديما ثم أهمل، ومن تفقد كتب النحو وقع على شيء كثير من هذا، فقد أجازوا نصب الاسم عند أمن اللبس، نحو: «خرق الثوب المسمار» و«كسر الزجاج الحجر» بنصب المسمار والحجر، ومنه قول الشاعر:
مثل القنافذ هداجون قد بلغت
نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
برفع «نجران وهجر» ونصب «سوءات»، وقاسه ابن الطراورة عملا بقراءة:
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه
بنصب «آدم» ورفع «كلمات»، ومنه أن بعض العرب كان ينصب بأن أو إحدى أخواتها المبتدأ والخبر، نحو:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
ونحو قوله:
كأن أذنيه إذا تشوفا
قادمة أو قلما محرفا
وقوله: «يا ليت أيام الصبى رواجعا»، ونحو قولهم: «لعل أباك قادما»، ومثله جزم الفعل بعد «لن» مع أنها من النواصب، كقول الشاعر:
لن يخب الآن من رجائك من
حرك من دون بابك الحلقه
ومثله جزم الفعل بأن الناصبة، نحو قوله:
إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا
تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
ومثله إهمال «لم» الجازمة، نحو قوله:
لولا الفوارس من نعم وأسرتهم
يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
وقوله:
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وقال ابن مالك: إنها لغة، وزعم اللحياني أن بعض العرب ينصب بها كقراءة بعضهم:
ألم نشرح
بفتح الحاء.
وقوله:
في أي يومي من الموت أفر
أيوم لم يقدر أو يوم قدر
بفتح الراء في «يقدر»، ومثله إهمال «لا» الناهية، نحو:
لا تهين الفقير علك أن
تركع يوما والدهر قد رفعه
وإن أولها النحاة بتقدير نون التوكيد الخفيفة، ومثله إعمال «إذا» الشرطية في الشعر وإهمالها في النثر، ومثله جزم الفعل المرفوع في قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي
وجهك بالعنبر والمسك الذكي
ومثله قوله:
يا لك من قنبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
قد رفع الفخ فماذا تحذري
ومثله قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
بإسكان الباء في «أشرب» إلى غير ذلك ... ومنه نوع لا يزال مستعملا في اللغة إلى اليوم، وإليك البيان: يقول النحاة: إن المسند إليه والمسند يرفعان؛ لأنهما عمدة، ولكننا نراهم ينصبون الأول بعد «إن» أو إحدى أخواتها، وينصبون الثاني بعد «كان» أو إحدى أخواتها، فلماذا نصبا إذا كانا عمدة؟ لا شك أن ذلك أثر من آثار التشويش في الإعراب. ومثله بناء «أي» على الضم في مثل قولهم: «سلم على أيهم أفضل»، وبناء الظروف المنقطعة عن الإضافة في مثل قولهم: «الحمد لله من قبل ومن بعد»، ومثل بناء بعض الألفاظ المبنية. فإذا كانت اللغة إعرابية فما معنى بناء بعض ألفاظها؟ ومثل إعمال «ما» على لغة أهل الحجاز وإهمالها على لغة أهل تميم؛ بل إعمالها على لغة أهل الحجاز بشرط أن تكون متصلة ولم ينتقض نفي خبرها بإلا، نحو: «ما زيد شاعرا»، وإهمالها إذا لم تكن كذلك، نحو: «ما قائم زيد»، و«ما غلامك عمرو ضارب»، و«ما زيد إلا شاعر»، و«ما إن عمرو كريم»، بخلاف «ليس» في ذلك كله مع أنها نافية مثلها، ومثل نصب جمع المؤنث السالم بالكسر، ومثل إعراب الفعل المضارع - ولا سيما في حالتي الرفع والنصب - فقد حار النحاة في سبب إعرابه، وغير ذلك مما ليس من غرضنا تعداده وإحصاؤه. وهذا النوع الثاني من التشويش أصبح قياسيا في اللغة، وأكبر لذة في درس اللغات تكون في هذا المزيج من المعقول وغير المعقول، والقياسي والشاذ، وقد قال أحد علماء اللغة: إن اللغة مثل صديق هفواته تعززه لدينا وتزيدنا حبا له.
تكلمنا عن الأدوار التي تدرج فيها الإعراب، وبقيت لنا كلمة في الإعراب نفسه، هل دلالة العلامات الإعرابية كالضمة والفتحة والكسرة والسكون على الحالات الإعرابية كالفاعلية والمفعولية والإضافية والطلبية اعتباطية أو وضعية؟ أي هل رفع الفاعل ونصب المفعول وخفض المضاف إليه وسكن الفعل الطلبي اتفاقا، أو هل هناك أسباب طبيعية لذلك؟
هذا بحث دقيق يحتمل كلاما طويلا نوافق في بعضه النحاة فنثني عليهم، ونخالفهم في البعض الآخر فنستميحهم العفو.
يقول النحاة: إن علامات الإعراب حركات وحروف، وهم يعتبرون الألف والواو والياء حروفا، والصحيح أن الألف حركة طويلة بالنسبة إلى الفتحة مثل الألف في «كتاب»، وممدودة مثل الألف في «سماء» و«مادة» فهي حركة لا حرف. وأما الواو والياء؛ فقد تكونان حركتين طويلتين بالنسبة إلى الضمة والكسرة، مثل: الواو والياء في «عود» و«عيد»، وحركتين ممدودتين مثل الواو في «وضوء» والياء في «مسيء »، وقد تكونان حرفين مثل الواو في «ثوب» والياء في «بيت»، فهما من الأشكال المشتركة بين الحروف والحركات، وهما تستعملان كعلامتي إعراب تارة باعتبار أنهما حركتان، وتارة باعتبار أنهما حرفان، وعلى ذلك فالأسماء الخمسة من المعربات بالحركات لا بالحروف، وجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات إلا جمع المذكر السالم من المنقوص، فإنه يعرب بالحروف، نحو: «جاء المصطفون»، و«رأيت المصطفين»، و«مررت بالمصطفين»، وإلا المثنى في حالتي النصب والخفض، نحو: «رأيت الرجلين»، و«مررت بالرجلين»، وعليه فجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات والحروف معا لا بالحروف وحدها كما يقول النحاة، ومما يعرب بالحروف - غير المثنى وجمع المذكر السالم المنقوص - الأفعال الخمسة من الفعل المضارع؛ فإثبات النون فيها يدل على حالة، وحذفها يدل على حالة أخرى. ولا يعرب بالحركات القصيرة - أي الضمة والفتحة والكسرة - من الأسماء غير الاسم المفرد وجمع التكسير وجمع المؤنث السالم، ويستثنى من ذلك الأسماء الخمسة في حالة الإضافة إلى غير ياء المتكلم؛ فإنها تعرب بالحركات الطويلة بدلا من الحركات القصيرة؛ ولعل السبب في ذلك أن اللغة العربية القديمة كانت تعرب بالواو والألف والياء، مثل: اللغة النبطية، ثم استبدلت الحركات الطويلة بحركات قصيرة للتخفيف في كل الأسماء إلا في الأسماء الخمسة فكان ذلك فيها أثرا باقيا من ذلك العهد.
وأما الفعل فلا نتعرض له الآن بل نترك الكلام عنه إلى محاضرة أخرى. إذا عرفنا علامات الإعراب يبقى علينا أن نعرف صفة كل منها، فالضم سواء كان بالضمة أم بالواو أقوى الحركات وأفخمها، والفتح سواء كان بالفتحة أم بالألف أخف الحركات لسهولة إخراج الصوت والفم مفتوح، والخفض سواء كان بالكسرة أم بالياء أثقل الحركات؛ لما يقع من التعاند بين إخراج الصوت وخفضه، وقد تنبه النحاة إلى شيء مثل هذا في مواضع مختلفة. واللغات التي يكثر فيها الضم تكون فخمة جزلة، والتي يكثر فيها الفتح تكون خفيفة رشيقة ، والتي يكثر فيها الخفض تكون ثقيلة مستبشعة ولا تناسب الغناء؛ لأن رفع الصوت مع الضم أو الفتح أسهل منه مع الخفض ، ويكثر هذا الصوت في لغة دون ذاك لأسباب عديدة أهمها الإقليم، فالذين يسكنون الأماكن الباردة يميلون في ألفاظهم إلى الضم والخفض، وبعبارة أخرى لا يفتحون أفواههم خوف البرد، والذين يسكنون الأماكن الحارة يميلون في ألفاظهم إلى الفتح استبرادا، ولما كان العرب سكان قفر حار يعيشون في الهواء الطلق كثر الفتح في لغتهم سواء كان حركة بنائية أم حركة إعرابية، وفي كل ذلك كلام لا يتسع له المقام. وأما إذا كانت علامات الإعراب بالحروف، فالواو في جمع الذكور السالم من المنقوص، والألف في المثنى أفخم من الياء فيهما، فعلامات الإعراب في الاسم تقسم بحسب ما تقدم إلى ثلاثة أقسام: قوية، وخفيفة، وثقيلة.
لنأت الآن إلى البحث في الحالات الإعرابية، يقول النحاة: إن حالات الاسم الإعرابية ثلاث: رفع، ونصب، وخفض؛ لأن الاسم لا يخلو أن يكون - على رأيهم - إما عمدة، وإما فضلة، وإما مشتركا بينهما، فحالة العمدة الرفع، وحالة الفضلة النصب، وحالة المشترك بينهما الخفض. وما هي العمدة؟ قالوا: هي ما لا ينعقد الكلام بدونه؛ كالفاعل في نحو: قام زيد. وما هي الفضلة؟ قالوا: هي ما زاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام؛ كالمفعول به في نحو: ضرب زيد عمرا، وإن لم يكن فضلة في المعنى لاحتياج العبارة إليه في إتمام المراد منها. وما هو المشترك بينهما؟ قالوا: هو ما يكون تارة مكملا للعمدة، نحو: جاء غلام زيد، وتارة مكملا للفضلة، نحو: رأيت غلام زيد، ويقع تارة في موضع العمدة، نحو: سرني قدوم زيد، وتارة في موضع الفضلة، نحو: هذا ضارب زيد، وقد ألحقوا من العمد بالفضلات المنصوب في باب النواسخ، وبالمضاف إليه المجرور بالحرف، هذا ما يقوله النحاة. ولكن إذا كانت العمدة ما لا ينعقد الكلام بدونه؛ فكل جزء من الكلام عمدة لا يستغنى عنه، سواء في ذلك الأسماء والأفعال والحروف، وسواء كان الاسم فاعلا أم مفعولا به، أم مضافا إليه ، أم ظرفا، أم حالا، أم غير ذلك؛ لاحتياج العبارة إلى كل جزء من أجزائها في إتمام المراد منها، وإذا كانت الفضلة ما زاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام فأحرى بذلك الزائد أن يصبح لغوا يجب حذفه لاستغناء العبارة عنه، وإذا كان المشترك بينهما ما كان مكملا للعمدة أو للفضلة فهل التكميل حالة إعرابية؟ وإذ كان حالة إعرابية، أما كان يجب أن تكون للاسم المكمل للعمدة علامة خصوصية غير علامته إذا كان مكملا للفضلة ليتميز الواحد عن الآخر؟! ثم إذا كان يقع تارة في موضع العمدة وتارة في موضع الفضلة، فلماذا لا يكون عمدة في الأول وفضلة في الثاني؟! وهنا ليسمح لنا النحاة أن نبدي رأيا آخر.
الاسم في الجملة قد يكون عمدة؛ ليس لأنه لا ينعقد الكلام بدونه؛ بل لأحد سببين آخرين: إما لأهميته، نحو: «الولد مجتهد»، الأول مسند إليه والثاني مسند، وكلاهما عمدة لا يستغني الواحد عن الآخر؛ إذ لا يكون مسند إليه بدون مسند، ولا مسند بدون مسند إليه ولو تقديرا، وإما لقوته بالنسبة إلى غيره في الجملة، نحو: «ضرب زيد عمرا»، لزيد وظيفتان: عمل الفعل والدلالة عليه، ولعمرو وظيفتان: قبول أثر الفعل والدلالة عليه؛ فلأنهما يشتركان في الدلالة على الفعل لخروجه من الأول ووقوعه على الثاني، فهما مهمان لا يستغني الواحد عن الآخر؛ إذ لا يكون ضارب بدون مضروب، ولكن لأن الأول عمل الفعل فهو قوي؛ ولأن الثاني وقع عليه الفعل فهو ضعيف، فهما يتساويان في الأهمية ولو لم يكن غير هذا الاعتبار لكان كلاهما عمدة، ولكن لأنهما يختلفان في القوة والضعف وجب أن ينظر إليهما باعتبار هذا الاختلاف؛ فالقوي منهما نعتبره عمدة لقوته وليس لأهميته، وإذا حذف الضارب وبقي المضروب لم يبق دليل آخر على وقوع الفعل غيره، ولأنه الدليل الوحيد فإنه يكتسب أهمية فينظر إليه باعتبارها ونعده عمدة، ويسقط عنه اعتبار الضعف؛ لأننا إنما نظرنا إليه باعتبار الضعف لوجود قوي بإزائه، فإذا ذهب القوي لم تبق حاجة إلى هذا الاعتبار، وسمي نائب فاعل لأنه ناب عنه في الدلالة على الفعل وليس في عمله. وقد يكون فضلة إما لضعفه بالنسبة إلى غيره ك «عمرا» في قولنا: «ضرب زيد عمرا» وإن كان مثل «زيد» في الأهمية كما قدمنا، وإما لكثرة دورانه في الكلام كالحال، نحو: «جاء زيد راكبا»، والظرف نحو: «جاء زيد صباحا»، وغير ذلك من المنصوبات، فإذا كان الاسم عمدة أخذ العلامة القوية الإعرابية للتناسب بين أهمية الكلمة في الجملة أو قوتها وبين قوة العلامة الإعرابية، وإذا كان فضلة اختاروا له العلامة الخفيفة، ولعلهم راعوا في ذلك الخفة لكثرة دوران الفضلة في الكلام.
وأما ما يسمى في اصطلاح النحاة مشتركا بينهما فاختاروا له العلامة الثقيلة؛ لقلة دورانه على اللسان. والذي يلوح لنا أنه لم يكن للاسم في الأصل إلا حالتان: عمدة وفضلة، أو رفع ونصب، وأن الحالة الثالثة - أي حالة الخفض - طارئة على اللغة، أو أنها ثقيل مستبشع، يرفع الاسم لأنه مهم أو قوي، وينصب لأنه ضعيف أو كثير الدوران على اللسان، وأما خفضه فلماذا؟!
ولنا على ذلك أدلة كثيرة: (1)
أن الفعل المضارع - الذي يشبه الاسم في الإعراب - يرفع وينصب ويجزم ولكنه لا يخفض. (2)
أن أكثر الأسماء ليس لها إلا علامتان إعرابيتان: الأولى الرفع والثانية النصب والخفض معا؛ كجمع المذكر السالم، فتقول: «جاء المعلمون» و«رأيت المعلمين» و«مررت بالمعلمين»؛ وكالمثنى، فتقول: «جاء المعلمان» و«رأيت المعلمين» و«مررت بالمعلمين»؛ وكالممنوع من الصرف، فتقول: «جاء إبرهيم» و«رأيت إبرهيم» و«مررت بإبرهيم»؛ وكجمع المؤنث السالم، نحو: «جاءت المؤمنات» و«رأيت المؤمنات» و«مررت بالمؤمنات»، فلو كان هناك فرق بين النصب والخفض في الاعتبار لوجب أن يكون لكل منهما علامة خصوصية تميز الواحد عن الآخر في هذه الأنواع من الاسم، وهي كثيرة. (3)
أن الظروف التي تجر بحرف «في» يجوز أن يسقط حرفها فترجع إلى النصب، فتقول: «جئت في الصباح» و«جئت صباحا»، فلو كان الخفض لبيان حالة إعرابية لخفض الظرف بحرف جر وبدونه. (4)
أن كثيرا من الأفعال المتعدية بواسطة حرف خفض قد تتعدى بنزع الخافض فينصب الاسم المخفوض بذلك الحرف على المفعولية الصريحة؛ لأن الفعل حينئذ قد وصل إليه بنفسه، ومنه قول الشاعر:
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكم علي إذن حرام
أي: تمرون على الديار، فحذف الحرف ونصب المخفوض به، ولا فرق بين نصب الاسم أو خفضه، وإذا لم يرد نزع الخافض في بعض الأفعال، مثل: «بصرت بزيد» فقد يستبدل الفعل بآخر يتعدى رأسا، نحو: «أبصرت زيدا، أو نظرته أو رأيته»، فلو كانت الرؤية لا تتم إلا بالخفض لوجب أن يستعمل حرف الجر مع كل الأفعال التي تدل على الرؤية. (5)
المفعول لأجله المخفوض بحرف التعليل، نحو: «هربت للخوف أو من الخوف» يجوز فيه إسقاط حرف الخفض، وحينئذ يعود إلى النصب، فلو كان للخفض معنى إعرابي للزم المفعول لأجله الخفض سواء جر بحرف أم لا. (6)
مميز «كم» الاستفهامية يجوز فيه النصب على الأصل، والجر بحرف «من»، نحو: «كم كتابا قرأت؟» و«كم من كتاب قرأت؟» ومميز «كم» الخبرية يخفض على الأصل وينصب إذا فصل بينهما، نحو: «كم صديق لي!» و«كم لي صديقا!» فالخفض والنصب متعاقبان هنا. (7)
أن بعض الظروف تلزم البناء على الفتح ولو تقدمها حرف خفض، نحو: من الآن، ومن أين، ولا شك أن ذلك أثر من آثار النصب حين لم يكن الخفض مستعملا. (8)
أن قسما مما يعتبر اليوم حرف جر كان في أصله فعلا، مثل: «على»، فإنها مأخوذة من «علا، يعلو»، وكذلك «خلا، وعدا، وحاشا»، وهذه الثلاثة الأخيرة لا تزال إلى اليوم تنصب وتخفض. (9)
ضمائر النصب والجر واحدة، إلا للشخص المتكلم المفرد، فتقول: كتابك، ورأيتك، وكتابه، ورأيته.
الخلاصة أن الاسم لا يكون إلا عمدة أو فضلة، فالعمدة أخذت الرفع لأنه أقوى الحالات أو أشرفها كما يقول النحاة، والفضلة كانت تنصب ثم طرأ على بعضها الخفض، أو كانت تنصب وتخفض على السواء ثم مالت اللغة إلى النصب، ولولا القليل لزال الخفض كما زال من الفعل المضارع، والله أعلم.
الأفعال في اللغة العربية1
من قابل كتب الصرف والنحو في اللغة العربية - على كثرتها بين قديمة وحديثة - بمثلها في اللغات الإفرنجية يجد هناك فروقا كثيرة، أهمها أن الإفرنج قد طبقوا أحكام لغاتهم وقواعدها على ما وصلوا إليه من الحقائق في علم اللغة أو فلسفتها، وهو العلم الذي يبحث عن تاريخ الألفاظ وتنوعها ودلالتها مع ما طرأ عليها من التغير كما قال المرحوم جرجي زيدان في كتابه «فلسفة اللغة»، بحيث صارت أحكام لغاتهم وقواعدها لا صناعة فقط كما هي عندنا بل علما أيضا، ولهم في ذلك غرضان: الأول؛ تسهيل تلك الأحكام على الطالب وتقريب منالها منه؛ لأن الأحكام المعقولة أسهل فهما وأقرب تناولا من الأحكام غير المعقولة. الثاني؛ جعل الفائدة من تلك الأحكام أتم. •••
لكل موضوع من موضوعات التعليم؛ كالقراءة، والكتابة، والحساب، والصرف، والنحو، وغير ذلك فائدتان: الأولى؛ ذاتية، أي: يتعلمه الطالب لأنه سيحتاج إليه في الحياة. والثانية؛ عرضية، أي أن درس ذلك الموضوع يساعد على توسيع إدراك الطالب وترويض قواه العقلية، وتعويده التفكير والملاحظة والاستنتاج، ولا تتم هاتان الفائدتان إلا إذا كانت حقائق كل موضوع معقولة صحيحة تربط فيها الأسباب بنتائجها ويرجع في النتائج إلى أسبابها مما خلت منه كتبنا الصرفية والنحوية، بلى قد حاول الصرفيون والنحويون أن يعللوا أحكامهم ويربطوها بأسبابها، إلا أن أكثر الأسباب التي ذكروها واهية حتى ضرب المثل بضعف حجة النحوي، والطالب الذي يتعلم على هذا الأسلوب السطحي الشاق، ويقتنع بتلك الأسباب والعلل الواهية، ويتعود أن يتلقاها بدون نكير ولا تفكير، تظلم مع الأيام بصيرته، ويأفن رأيه، وتضعف فيه أداة الحكم بحيث يسهل استدراجه إلى تصديق كل خرافة واعتقاد كل سخافة، فضلا عما يستغرقه الدرس على ذلك الأسلوب من الوقت الطويل عبثا، فما أجرأنا والحالة هذه أن نتدارك الأمر فنجري على الطريقة الإفرنجية في بناء أحكام لغتنا وقواعدها على مبادئ علمية جديدة؛ تسهيلا على الطالب واقتصادا في وقته وترويضا لعقله، وهذا ما أحاول بسطه لديكم راجيا أن تغتفروا خروجي عن المألوف المتعارف، وسأقتصر على الكلام عن الفعل في اللغة العربية؛ لأن البحث في الفعل أهم الأبحاث الصرفية في كل لغة. •••
تعرفون أن الفعل لا يمكن أن يحدث من تلقاء نفسه؛ بل لا بد له من فاعل يفعله، فالجلوس لا بد له من جالس، والخروج لا بد له من خارج، وكذلك لا بد له من وقت، فإذا وجد الفاعل ولم يكن وقت، أو وجد الوقت ولم يكن فاعل فلا يقع فعل. فإذا أردنا تصريف الفعل احتجنا إلى ثلاثة أشياء: صيغة للفعل، وعلامة للفاعل، وعلامة للزمان.
الصيغة
صيغة الفعل مأخوذة من المصدر، ومعنى ذلك أن العرب كانوا يصرفون المصدر مع الضمائر، ولا تزال آثار ذلك في اللغة إلى اليوم؛ إذ لا نزال نستعمل المصدر أمرا فنقول: صبرا، مهلا، رفقا، ولم يكن في الأصل فرق بين صور المصدر وصيغ الفعل، ولا تزال بعض الأفعال تشبه المصدر، مثل: «طلب، والطلب» من الصحيح و«جر والجر» من المضاعف. وكانت صور المصدر قليلة على عد صيغ الفعل، فكان المصدر من الصحيح يجيء على وزن «طرق» بإسكان الأول والآخر؛ لأن أول ما وضع من أسماء الأحداث كان البعض منه محكيا عن الأصوات المسموعة من الحيوان أو الجماد، فإذا حاكينا الأصوات الخارجية في ذي ثلاثة أحرف جئنا به ساكن الأول والآخر. ولا يزال المصدر في السريانية كذلك على حكايته الأصلية، ثم حركنا الحرف الأول فيه في الماضي تفاديا من خشيبة اللفظ وتعسر الابتداء بالساكن كما قال جبر ضومط في كتابه «خواطر في اللغة». وكانت حركته الفتح؛ لأن الفتح أخف الحركات، ورددناه إلى السكون في المضارع على ما كان عليه في الأصل؛ لانتفاء الابتداء بالساكن لوقوع حرف المضارعة قبله. وكان المصدر من الناقص على وزن «رمى»، وأصل حكايته من باب حكاية الصحيح، أي: الأصل فيه أن يكون ساكن الأول كما هو في اللغة السريانية.
وكان المصدر من المضاعف على وزن «جر»، وهو إما أن تقصد به حكاية الصوت، نحو: «فحت الأفعى» و«أن المريض» و«خر الماء» و«شق الثوب» و«جر الحبل» و«مص الشراب» و«شم الطيب»، وإما أن تراعى فيه حكاية الحركة، مثل: «هب النائم» و«حل العقدة» و«شبت النار»، أو حكاية صفة الشيء بما توهم في مقاطع الحروف من الصفات وما في اقترانها من الهيئات، نحو: «رث الثوب» و«كل السيف» و«خف الحمل» و«جف الغصن»، ومن ذلك في لغة الأطفال «دح» للشيء الحسن، و«كخ» للشيء القبيح؛ لما توهموا في اقتران الدال والحاء من الحسن واقتران الكاف والخاء من القبح.
وكان المصدر من الأجوف على وزن «قام» وأكثر ما يقصد به حكاية الحركة؛ نحو: «سال الماء» و«ذاب الجامد» و«ماع السائل» و«فاح الطيب» و«حام الطائر» و«غاص الحوت» لما بين المد فيه وحركة المحكي من المطابقة.
2
وعلى ذلك فصور المصدر الأصلية أربع على عدد صيغ الفعل، ثم مع كرور الزمان وتلاعب اللسان خرج المصدر عن الحكاية الأصلية وتفرع إلى صور عديدة كثيرة الأشكال مختلفة الحركات بين مشبعة وقصيرة، مثل: كتابة، ورجوع، وعلانية، وندامة، وعرفان، وجولان، ورحيل، وقيام ... إلى نحو اثنين وأربعين شكلا كما هو مذكور في كتب الصرف المطولة؛ ولذلك تكون «الكتابة» مثلا صورة جديدة عن «كتب»، و«الجلوس» صورة جديدة عن «جلس».
ويظهر أن هذا التفرع نشأ بعد أن تولدت في اللغة صيغ الفعل، وإلا فكان يجب أن تكون صيغ الفعل على قدر صيغ المصدر الجديدة. وقد لزمنا في التصريف حكاية المصدر الأصلية لخفتها وحسن وقعها؛ لأننا لو صرفنا أشكال المصدر على اختلاف صورها وكثرة مقاطعها مع الضمائر لجاءت ثقيلة طويلة. إذن ليست صيغ الفعل إلا صور المصدر القديمة. وإذا قلنا إن المصدر هو أصل الفعل عنينا بذلك صوره القديمة لا صوره الجديدة التي تفرعت عنها، وهذه الصور القديمة لا تزال محفوظة في صيغ الفعل كما تحفظ «الأحافير» في طبقات الأرض مما قد يوهم أن الفعل هو الأصل وأن المصدر هو الفرع.
الفاعل
المهم في بيان الفاعل معرفة جنسه؛ أي: هل هو مذكر أم مؤنث؟ وعوده؛ أي: هل هو مفرد أم مثنى أم جمع؟ وشخصه؛ أي: هل هو متكلم أم مخاطب أم غائب؟ وقد استعملنا الضمير المتصل لبيان ذلك في الماضي والمضارع والأمر، فمن أين أتينا بهذه الضمائر؟! لم يكن في الأصل إلا ضمائر منفصلة كما نرى في اللغات الإفرنجية، ولا بد أنه مر زمان طويل على العرب كانوا يستعملون فيه الضمائر المنفصلة في التصريف، فكانوا يقولون في تصريف الماضي: «ضرب هو»، «ضرب هما»، «ضرب هم»، «ضرب هي»، «ضرب هما»، «ضرب هن» ... إلخ، وفي تصريف المضارع: «هو ضرب»، «وأنا ضرب»، و«نحن ضرب»، و«أنت ضرب» ... إلخ، وفي تصريف الأمر: «اضرب أنت»، «اضرب أنتما»، «اضرب أنتم» ... إلخ، ثم مع كرور الزمان وتلاعب اللسان نحتنا منها الضمائر المتصلة، وسنعود إلى هذا البحث عند كلامنا عن صيغ الفعل الماضي والمضارع والأمر.
الزمان
الزمان ثلاثة أنواع: ماض، وحاضر، ومستقبل، وفي اللغة العربية ثلاث صيغ للفعل: صيغة الماضي: وهي موضوعة للماضي، وصيغة المضارع: وهي مشتركة بين الحال والاستقبال، وصيغة الأمر: وهي مختصة بالاستقبال، فما هي علامة الزمان في هذه كانوا يستعملون فيه الصيغة الواحدة بدلا من الأخرى أحيانا، ونرى مثل ذلك في اللغة العبرية، فإنهم مع وجود صيغ الماضي والمضارع والأمر في لغتهم قد يستعملون الصيغة الواحدة بدلا من الأخرى، فهم يقولون مثلا: «اذهب» و«قلت لهذا الشعب» كما هو وارد في الماضي للحاضر، نحو:
فلله يوم أنت فيه مسلم
وهبت له جرم الزمان الذي خلا
أي: أهب؛ ونحو كما «يقول الشاعر» أي: كما قال، وك «بعتك الدار» في الإنشاء الإيقاعي، أي: أبيعك. وقد نستعمل الماضي للمستقبل في الإنشاء الطلبي، نحو: «رحمك الله»، أي: يرحمك، وفي الشرط، نحو: «إن قمت قمت»، أي: إن تقم أقم، ونستعمل المضارع للماضي مع «لم» في النفي المنقطع، نحو: «لم أذهب» ومع «لما» في النفي المتصل بالحاضر، نحو: «جئت ولما تطلع الشمس»، وللمستقبل القريب مع السين في حالة الإثبات، نحو: «سأذهب»، ومع «لا» في حالة النفي، نحو: «لا أذهب»، وللمستقبل البعيد مع «سوف» في حالة الإثبات، نحو: «سوف أذهب»، ومع «لن» في حالة النفي، نحو: «لن أذهب».
ونستعمل الماضي والمضارع للأزمنة كلها؛ نحو:
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله
أي : من يؤمن دائما،
والله يحيي ويميت
أي: يحيي ويميت دائما، إلا أن استعمال الصيغة الواحدة لغير الزمان الموضوعة له محصور في مواطن مخصوصة لا يتعداها، فصار استعمالها كذلك قياسا، وفيما عدا ذلك لا يجوز استعمال الصيغة الواحدة إلا فيما وضعت له، فكيف تدل الصيغة على الزمان؟ إذا اعتبرنا الضمائر المتصلة علامات للفاعل فليس هناك إلا صيغة الفعل وعلامة للفاعل، وأما الزمان فليس له علامة.
وقد اختلف الصرفيون في دلالة الفعل على الزمان؛ فمنهم من قال إن الفعل يدل على الحدث والزمان معا بالمطابقة؛ كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، فإنه تمام المعنى الموضوع له اللفظ، وهذا مذهب الجمهور، وقال آخرون؛ كالسيد: إن دلالة الفعل على الحدث والزمان تضمن كدلالة الإنسان على الحيوان فقط أو الناطق فقط لدخول الجزء ضمن المعنى الموضوع له اللفظ، وقد اختار ذلك الصبان، وقال الشاطبي: إن الفعل يدل على الحدث بالمادة، وعلى الزمان بالصيغة، نحو: «ضرب» فالضاد والراء والباء تدل على الحدث في المصدر، والفعل واسم الفاعل وسائر المشتقات من هذه المادة، وبناؤها على وزن «فعل» يدل على الزمان؛ بل قالوا إن الفعل يدل على الفاعل والمكان التزاما كدلالة الإنسان على الضاحك، فالضاحك خارج عن الإنسان ليس كلا له ولا بعضا منه، ولكنه لازم للمعنى الموضوع له اللفظ، هذا ما يقوله الصرفيون، ولكن إذا كان الفعل يدل على الحدث والزمان بالمطابقة أو التضمن، وعلى الفاعل والمكان بالالتزام كما يقولون، فلماذا لا يكون للمصدر وسائر المشتقات كل هذه الدلالات؟ على حين نرى أن البصريين جردوا المصدر من الدلالة على غير الحدث في احتجاجهم على الكوفيين؛ إذ قالوا إن مدلول المصدر واحد وهو الحدث، ومدلول الفعل متعدد؛ لأنه يدل على الحدث والزمان بالمطابقة وعلى الفاعل والمكان بالالتزام، والواحد قبل المتعدد، وإذا كانت الصيغة تدل على الزمان كما قال الشاطبي، فكيف نعرف الزمان إذا تساوت صورة الماضي والمضارع، مثل: «مس يمس»، و«خاف يخاف»، لا بد إذن أن تكون هناك قرينة أخرى على الزمان، كان يجب أن تكون علامة خصوصية للزمان كما أن هناك علامة خصوصية للفاعل على ما نرى في بعض الأفعال في اللغة الإنكليزية، مثل:
he-wolk-ed
فلفظة
he
علامة للفاعل، ولفظة
wolk
صيغة الفعل، ولفظة
ed
علامة للزمان، ولكن العرب استخدموا علامة الفاعل للدلالة على الفاعل بلفظها، وعلى الزمان بموضعها، فإذا أرادوا الماضي وضعوا علامة الفاعل في الآخر.
فكانت صيغة الماضي، نحو: ضربت وضربنا، وإذا أرادوا الحاضر وضعوا علامة الفاعل في الأول نحو: أضرب ونضرب، وإذا أرادوا المستقبل استخدموا صورة الحاضر مع قرائن أخرى كالسين وسوف وغيرهما، كما يفعل الأخرس؛ فإنه إذا أراد الإشارة إلى فعل فعله في الزمان الماضي فإنه يشير أولا إلى الفعل ثم إلى نفسه، وإذا أراد الإشارة إلى فعل يفعله في الحاضر أو المستقبل أشار أولا إلى نفسه ثم إلى الفعل. فالزمان إذن ليس له علامة خاصة به كالفاعل ولكن له موضعا، وعلامة الفاعل تستخدم لأمرين: للدلالة على الفاعل بلفظها، وعلى الزمان بموضعها. ولنشرع الآن في الكلام على كل صيغة بمفردها.
الماضي
يتميز الماضي عن المضارع والأمر في الأصل بوضع علامة الفاعل في آخره، وسترى أن علامات الفاعل في آخر المضارع والأمر ليست أصلية فيهما أولا، وهي غير علامات الفاعل في آخر الماضي ثانيا. وقد قلنا إن الضمائر المتصلة منحوتة من الضمائر المنفصلة، وإليك تصريف «ضرب» مثلا مع الضمائر:
هو ضرب .
هما ضرب ا.
هم ضرب و.
هي ضرب ت.
هما ضرب تا.
هن ضرب ن ... إلخ.
فالفتحة في «هو ضرب» مأخوذة من «هو»، والألف من «هما» والواو من «همو» التي لا نزال نستعملها أحيانا في الشعر؛ مثل قوله: «همو رحلوا عنا لأمر لهم عنا»، والتاء في «هي ضربت» أصلها هاء، أي إن العرب مر عليهم زمان طويل كانوا يقولون في: «هي ضربت»: «هي ضربه»، ثم قلبوا الهاء تاء؛ لأن الهاء خفية، فصاروا تارة يقولون: «هي ضربه» وتارة: «هي ضربت»، ثم استقرت على التاء. ولا تزال اللغة العبرية تستعمل تارة الهاء وتارة التاء، وقلب الهاء تاء مألوف في اللغة العربية؛ فإن الهاء في نحو «المدرسة» إذا تحركت تحولت تاء، وإذا وقف عليها تحولت هاء، و«تا» في: «هما ضربتا» مأخوذتان من «هما» بعد حذف الميم وقلب الهاء تاء، والنون في «هن ضربن» مأخوذة من «هن»، والتاء من «ضربت» مأخوذة من «أنت»، و«تما» من «ضربتما» مأخوذة من «أنتما»، و«تم» من «ضربتم» مأخوذة من «أنتم»، والتاء في «ضربت» مأخوذة من «أنت»، و«تما» في «ضربتما» مأخوذة من «أنتما»، و«تن» في «ضربتن» مأخوذة من «أنتن»، و«نا» في «ضربنا» مأخوذة من «نحن»، وأما التاء في «أنا ضربت» فإنها ترجع إلى أصل قديم لا محل لبيانه هنا، فالفتحة في «هو ضرب» ليست حركة بنائية، والتاء في «هي ضربت» ليست علامة للتأنيث كما توهم الصرفيون، وإنما هما ضميران، وعليه يكون الضميران في «هو ضرب» و«هي ضربت» ظاهرين لا مستترين. وكان هذا النحت في الضمائر؛ لأنها طويلة، بعضها من مقطعين وبعضها من ثلاثة، بخلاف الضمائر في اللغات الإفرنجية، فإنها قصيرة، فليس في استعمالها مع الفعل ثقل على اللسان ولا طول ... بقي هناك كلام كثير عن تصريف الماضي مع الضمائر أضربنا عنه خوف الإطالة.
المضارع
أهم صيغ الأفعال في اللغة العربية صيغة الفعل المضارع؛ لأنه يستعمل للحال المثبت والمنفي، والاستقبال المثبت والمنفي، والقريب والبعيد، وقد يستعمل خبرا وطلبا، نهيا وأمرا، ويستعمل للماضي المنفي المنقطع عن الحاضر ب «لم»، والمنفي المتصل بالحاضر ب «لما»، فلو دل على الماضي المثبت لأغنى عن صيغتي الماضي والأمر، وصيغة المضارع هي صيغة الماضي؛ فهي مأخوذة من المصدر مثله، فكان يجب ألا يكون اختلاف في الصيغة بين الماضي والمضارع، لكن مع كرور الزمان وتلاعب اللسان، وقع الاختلاف في الصيغتين في أفعال كثيرة، فكانت أبواب الفعل الصحيح ستة، وهي:
ضرب يضرب.
نصر ينصر.
علم يعلم ... إلخ.
ويدلك على أن تلاعب اللسان هو سبب هذا الاختلاف أن الأبواب الثلاثة الأولى أكثر استعمالا، وقد وقع هذا الاختلاف في عين الفعل لأنها متحركة في أصل وضعها، فهي عرضة لتلاعب اللسان، فجاءت تارة مفتوحة وتارة مكسورة وتارة مضمومة، ثم قد تتفق عين الماضي وقد تختلف، أما اتفاقها فلأن الصيغتين من أصل واحد، وأما اختلافها فلا سبب له غير تلاعب اللسان، ويدلك على ذلك أن الفعل الواحد قد يجيء على بابين أو أكثر من هذه الأبواب، فلو كان هناك سبب طبيعي، أو قصد اعتباري، لما جاز ذلك؛ بل إذا أخذنا فعلا من الأفعال الثلاثية ولم نكن نعرف أصله فلا نستطيع أن نحكم أنه من هذا الباب أو ذاك؛ إذ ليس لدينا قياس نعتمد عليه، وهذه حالة في اللغة لا تنطبق على مذهب النشوء والارتقاء، أي لو بقيت اللغة مطلقة لصار لكل باب من هذه الأبواب معنى خاص لا تجيء عليه إلا أفعال خاصة كما وقع ذلك في البعض من هذه الأبواب قبل عهد التدوين، فإن الأفعال التي تدل على عيب في الخلقة لا تجيء إلا من باب «علم يعلم» مثل: «خرس يخرس» و«طرش يطرش»، وإن كان غيرها يجيء عليه أيضا وعلى غيره، والأفعال التي تدل على الغرائز يجيء أكثرها على باب «كرم يكرم»، مثل: «شرف يشرف» و«حسن يحسن»، والأفعال التي عينها أو لامها حرف حلق يجيء أكثرها على وزن «فعل يفعل» بفتح العين في الماضي والمضارع لسهولة لفظ الحرف الحلقي مع الفتح، وباب «حسب يحسب» أغلب ما يجيء عليه الأفعال المبدوءة بواو، مثل: «ورث يرث» و«ولي يلي» ...
فأنت ترى أن الأفعال الثلاثية في اللغة العربية مرت على دورين ووقفت عند الدور الثالث. أما الدور الأول فهو الذي كانت فيه صيغتا الماضي والمضارع متشابهتين، وأما الدور الثاني فهو الدور الذي وقع فيه الاختلاف بينهما، وأما الدور الثالث فهو أن يختص كل باب بمعنى أو معنيين أو أكثر، ولكن جاء التدوين فوقف في وجه الدور الثالث، وإن كانت قد ظهرت طلائعه حينئذ كما تقدم.
وتتميز صيغة المضارع عن صيغة الماضي بموضع علامة الفاعل؛ فإن كانت في آخر الفعل فالفعل ماض، وإن كانت في أوله فالفعل مضارع، ولا نستطيع أن نعتمد في التمييز بينهما على ما وقع في الصيغتين من الاختلاف؛ لأنهما قد تتشابهان كما تقدم. •••
العلامات التي نضعها في أول المضارع أربع، فكيف تكفي لأربعة عشر شخصا، كان يجب أن يكون لكل شخص علامة خاصة تميزه عن غيره كما رأينا في الماضي، وربما كان الفعل المضارع لأول عهده يصرف بالعلامات الأربع، وهي: الهمزة والنون والتاء والياء. أما الهمزة فمأخوذة من «أنا»، وأما النون فمن «نحن»، وأما التاء فمن «أنت»، أو الهاء من «هي» بعد أن قلبت تاء، وأما الياء فمأخوذة من الهاء في «هو» بعد أن مرت على أدوار مختلفة مجهولة. ولما وقع الاشتراك بين عدة أشخاص في الياء؛ لأنه يشترك فيها أربعة أشخاص، وفي التاء؛ لأنه يشترك فيها ثمانية، لم يكن بد من مميز آخر؛ لئلا يقع الالتباس، فوضعوا هذه المميزات في آخره، فجعلوا للمثنى ألفا ونونا، ولجمع المذكر العاقل واوا ونونا، ولجمع المؤنث نونا، وللمخاطبة ياء ونونا، وكلها مأخوذة من أصول قديمة للضمائر المنفصلة لا تزال محفوظة في اللغتين العبرية والسريانية. •••
عرفنا أن علامة الفاعل تستعمل لغرضين: للفاعل والزمان، والمقصود من بيان الفاعل معرفة جنسه وشخصه وعدده؛ فإذا كان المضارع بعلامة واحدة، مثل: اذهب، ونذهب، ويذهب، وتذهب، فكل علامة تدل على أربعة أشياء: الزمان، وجنس الفاعل، وعدده، وشخصه؛ مثل: الياء في «يذهب»، والتاء في «تذهب»، فالياء تدل على أن الزمان حاضر، وأن الفاعل مذكر، وأنه مفرد، وأنه غائب. والتاء في «أنت تذهب» تدل على أن الزمان حاضر، وأن الفاعل مذكر، وأنه مفرد، وأنه مخاطب. إلا الهمزة والنون فإنهما تدلان على أن الزمان حاضر، وعلى عدد الفاعل وشخصه، ولا تدلان على جنسه؛ لأنهما تستعملان للمذكر والمؤنث على السواء.
وإذا كان المضارع بعلامتين في أوله وآخره فما ينقص في الأولى تكمله الثانية، وعليه فالياء في «هو يذهب» و«هما يذهبان» و«هن يذهبن» ليست متساوية في الدلالة، فالياء في «يذهب» تدل على أربعة أشياء: على الزمان، وجنس الفاعل، وعدده، وشخصه. وفي «يذهبان» تدل على الزمان، وجنس الفاعل، وشخصه، ولكنها لا تدل على عدده؛ لأنها موضوعة للمفرد، وهي هنا للمثنى، والياء في «يذهبن » تدل على شيء واحد وهو الزمان، ولا تدل على جنس الفاعل؛ لأنها موضوعة للمذكر، وهي هنا للمؤنث، ولا تدل على عدده؛ لأنها موضوعة للمفرد، وهي هنا للجمع، ولا تدل على شخصه؛ لأنها موضوعة للغائب، وهي هنا للغائبات، فأغنت عنها في ذلك كله النون في الآخر. وأما النون في «أنتن تذهبن» فلا تدل على ما تدل عليه النون في «هن يذهبن»؛ لأن التاء في «أنتن تذهبن» تدل على أن جنس الفاعل مؤنث؛ لأن التاء تستعمل للمذكر والمؤنث، وأن شخصه مخاطبه؛ لأن التاء تستعمل للمخاطب والمخاطبة، فلا يبقى إلا العدد فتدل عليه النون، فالنون في «هن يذهبن» تدل على جنس الفاعل وعدده وشخصه، والنون في «أنتن تذهبن» لا تدل إلا على العدد. ومع وجود العلامتين في أول المضارع وآخره فإن بعض صوره تتشابه، مثل: «أنتما تضربان» للمخاطبين، و«أنتما تضربان» للمخاطبتين، و«هما تضربان» للغائبتين؛ لذلك لا بد من الاعتماد على القرينة في التمييز بين الصورة الواحدة والأخرى. •••
وعلامة الفاعل في أول المضارع كانت في الأصل تحرك بالفتح، أو الكسر، أو الضم، بدون ضابط. ثم استقرت على الفتح؛ لأنه أخف الحركات، وإنما تضم في الأفعال الرباعية؛ لتتميز عن الفعل الثلاثي، ولا يقع التباس في مضارع الثلاثي والرباعي إلا في وزن «أفعل»، فإن مضارع «رجع» «يرجع»، ومضارع «أرجع» «يرجع»، ولولا ضمة الياء في مضارع «أرجع» لالتبس بمضارع «رجع»، ثم ضمت مع بقية الأفعال الرباعية طردا للباب.
وقد ورد في بعض لغات العرب كسر حرف المضارعة في باب «علم» وما افتتح بهمزة الوصل، وعليه يروى قول الراجز:
قلت لبواب لديه دارها
تئذن فإني حمها وجارها
وقرئ
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ،
وإياك نستعين
بكسر حرف المضارعة في الجميع، ولا يزال حرف المضارعة يكسر في «إخال» على لغة طيئ. •••
ويقسم الفعل المضارع باعتبار آخره إلى ثلاثة أقسام: الأفعال الأربعة: وهي الأفعال المجردة عن علامة في الآخر؛ وهي «يفعل، وتفعل، وأفعل، ونفعل»، والأفعال الخمسة: وهي الأفعال التي تلحقها الألف والواو والياء مع نون الإعراب؛ وهي: «يفعلان ، تفعلان، يفعلون، تفعلون، تفعلين»، والفعلان وهما اللذان تلحقهما نون الإناث، وهما: «يفعلن، وتفعلن»، وكلها معربة إلا الفعلين، وقد اختلف في أسباب إعرابها مما لا حاجة إلى ذكره، والحقيقة أن الإعراب لم يقع في الفعل المضارع إلا عن تلاعب اللسان، فكان العرب يرفعونه وينصبونه ويجزمونه اتفاقا، ثم جعلوا يرفعونه في مواضع مخصوصة، وينصبونه أو يجزمونه في مواضع أخرى، والفرق بينه وبين الاسم في الإعراب أن الاسم يخفض وأما الفعل فيجزم، فلماذا جزم بدلا من الخفض؟! جزم بقصد التأكيد، ولذلك جزم في الطلب، نحو: «ليذهب، ولا تذهب»؛ لأن الجزم أنسب للطلب وأدل على التأكيد، وإنما جزم في النفي ب«لم» و«لما» مع أنه غير طلبي فلتأكيد النفي، ف «لم يضرب» أدل على التأكيد من «ما ضرب»؛ ولذلك سمي السكون في «ليذهب» و«لا تذهب» و«لم يذهب» جزما أي قطعا، فالسكون على الطاء في «أطلب» سكون، وعلى الباء سكون وجزم، وبعبارة أخرى إن السكون لفظي - أي إبطال الحركة - والجزم معنوي أي تأكيد، ثم إن الجزم قد يكون بغير سكون كالجزم في الأفعال الخمسة والأفعال الناقصة؛ لأن حذف النون من الأفعال الخمسة واستبدال الحركة الطويلة بحركة قصيرة في الأفعال الناقصة، تقصير للكلمة، والتقصير يناسب الجزم والتأكيد، ومن هنا يظهر أن للجزم سببا معقولا لا نجده في الرفع أو النصب، والله أعلم.
الأمر
لم يكن في اللغة العربية صيغة خاصة للأمر؛ بل كنا نستعمل المصدر للأمر، كما لا نزال نستعمله إلى الآن، مثل: صبرا، رفقا ... والمصدر المستعمل أمرا لا يصرف مع الضمائر؛ بل يستعمل للجميع على السواء؛ لأن الفاعل يعرف من توجيه الكلام إلى المخاطب. ثم مع الزمان تولدت في اللغة العربية صيغة للأمر، وهي مأخوذة من المضارع. فلماذا أخذنا صيغة الأمر من المضارع ولم نأخذها من الماضي؟ لذلك سببان: الأول؛ أن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال، وأما صيغة الماضي فموضوعة للماضي؛ ولأن الأمر لا يدل إلا على الاستقبال، كانت صيغة المضارع أنسب له. الثاني؛ للمضارع ثلاث حالات إعرابية: «رفع، ونصب، وجزم »؛ ولأن الجزم أنسب للأمر أخذنا له المضارع المجزوم، وعلى ذلك يكون الأمر معربا لا مبنيا، وليس له إلا حالة واحدة وهي الجزم على رأي الكوفيين، وليس جزمه بناء كما يقول جمهور الصرفيين.
ولم يكن للأمر في أصل استعماله علامة للفاعل، فكان يعرف الفاعل من القرينة، وهي توجيه الكلام إلى المخاطب، فإذا قلت لشخص واقف أمامي «اذهب» عرف الفاعل بدون علامة خاصة له؛ لأن المقصود من العلامة بيان الفاعل، فإذا كان الفاعل معروفا من توجيه الكلام استغنينا عنها. وكما استغنينا عن علامة للفاعل استغنينا عن علامة للزمان؛ لأن هناك قرينة تدل عليه، وهي الطلب؛ إذ العمل الذي نطلبه لا يكون إلا في المستقبل بعد الطلب، إذن فالفاعل في الأمر يعرف من قرينة توجيه الكلام إلى المخاطب، والزمان يعرف من قرينة الطلب، فلما أخذنا صيغة المضارع المجزوم حذفنا العلامة من أوله لاستغنائنا عنها، ثم لما تولدت هذه الصيغة في اللغة، وكان العرب يميلون إلى الدقة في البيان أضافوا إلى الأمر علامات للمثنى، ولجمع المذكر العاقل، ولجمع المؤنث، وللمخاطبة، وإن كانت هناك قرينة معنوية تغني عن هذه العلامات كما تقدم. وتركوا الأمر للمخاطب بدون علامة لفظية؛ اكتفاء بالقرينة حسب الأصل. وقد اختصت صيغة الأمر بالشخص المخاطب في حالة الإثبات، ولكن إذا أردنا توجيه الأمر إلى غير المخاطب استعملنا صيغة المضارع المجزوم مع اللام للأمر المثبت، وإن جاز استعمال هذه الصيغة للمخاطب وغيره، ومع لا الناهية للأمر المنفي، فقلنا: «ليذهب» و«لا يذهب». وقد امتاز الأمر بأنواع كثيرة أجعل الكلام عنها خاتمة هذا البحث: (1)
الأمر بالصيغة، نحو: «قم، اذهب، اشرب». (2)
الأمر باللام، نحو: «ليقم، ليذهب، ليشرب». (3)
الأمر ب «لا الناهية»، نحو: «لا تقم، لا تذهب، لا تشرب»، ويقال له نهي. (4)
الأمر بالمصدر، نحو: «رفقا، صبرا، مهلا». (5)
الأمر المركب، نحو: «تعال نذهب، قم ننطلق، قفا نبك».
يقول النحويون: إن المضارع جزم في هذه الجمل على تقدير شرط، أي: «إن تجئ نذهب، إن تقم ننطلق، إن تقفا نبك» على أن هذه الجمل لا يصح فيها الشرط ؛ لأن الشرط يقتضي أن يكون الثاني نتيجة عن الأول، وهنا لا يصح هذا التقدير؛ لأن الذهاب ليس نتيجة المجيء؛ ولأن الانطلاق ليس نتيجة القيام؛ ولأن البكاء ليس نتيجة الوقوف. وإنما يصح تقدير الشرط في مثل: «ادرس تحفظ»، «اجتهد تنجح»؛ فإن الحفظ نتيجة الدرس، والنجاح نتيجة الاجتهاد، فالفرق واضح بين التمثيلين ... ولم نجد في كتب النحو تنبيها على ذلك، وإنما جزم المضارع في: «تعال نذهب» و«قم ننطلق» و«قفا نبك» وأمثالها لأنه بمعنى الأمر؛ بدليل أنك تستطيع أن تستبدله بأمر فتقول: «لنذهب، لننطلق، لنبك»، والجزم أنسب للأمر؛ لذلك يجب أن يجزم المضارع في مثل قول الشاعر:
تعالوا بنا نطو الحديث الذي جرى
أي: «لنطو»، وإن ورد هذا البيت في ديوان الشاعر بصورة الرفع. (6)
اسم فعل: مرتجلا ك «صه» أي: «اسكت»، أو منقولا عن مصدر ك «رويد» أي: «أمهل»، أو عن ظرف ك «دونك» أي: «خذ»، أو حرف جر نحو: «عليك» أي: «الزم». (7)
اسم فعل على وزن «فعال» بكسر اللام، ك «نزال» أي: «انزل»، و«حذار» أي: «احذر» للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، أي بدون علامة للفاعل حسب الأصل كما تقدم. وهو يبنى من كل فعل ثلاثي تام متصرف، وشذ من مزيد الثلاثي ك «دراك» معدولا عن «أدرك»، و«بدار» معدولا عن «بادر»، وأشذ منه الرباعي، نحو: «قالت له ريح الصبا قرقار» أي: قالت ريح الصبا للسحاب قرقر بالرعد، أي: صب ما عندك من الماء مقرونا بصوت الرعد. (8)
التحضيض، وهو الطلب العنيف، نحو: «هلا تستغفر الله» و«ألا تستغفر الله» بالتشديد، و«لولا تقري الضيف»، و«لو ما تجيب الداعي». (9)
العرض، وهو الطلب اللين، وأداته «ألا» المخففة، نحو:
ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، و«لو» نحو: «لو تنزل عندنا». (10)
الأمر بالهمزة، نحو: «أتأكل» أي: «كل» ... وقد جاء المضارع في التحضيض والعرض والأمر بالهمزة مرفوعا مع أنه كان يجب أن يكون مجزوما قياسا على كون الجزم أنسب للأمر، ولعل ذلك لأن الجزم - أي التأكيد - تدل عليه الأداة، فلم تبق حاجة لجزمه ، والله أعلم.
الحروف الهجائية1
لا أتعرض هنا للكلام عن أساليب تعليم الحروف الهجائية؛ فإني سأتكلم عنها في كتاب «أساليب التعليم» الذي سيظهر بعد حين، وسيكون الكتاب الأول من كتب القراءة التي أشتغل بوضعها الآن مبنيا على أحدث تلك الأساليب ... ولا للكلام عن مخارج هذه الحروف وقسمتها إلى طوائف كالحروف المهموسة، والمجهورة، والشديدة، والرخوة، والمتوسطة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمستفلة أو المنخفضة، وغير ذلك مما تكفل به علم الصرف والتجويد، ولا غنى لمن يتولون تدريس اللغة العربية في الفصول الابتدائية عن معرفته ومراعاته إقامة للفظ على الوجه الصحيح ... ولا للكلام عن صور هذه الحروف وكيفية تركيبها خطا، مما وفاه حقه كثيرون، منهم: «القلقشندي» في كتابه «صبح الأعشى»، ولا غنى لأساتذة الخط ولمن يضعون كتبا للقراءة عن الاستبصار به، ولكنني سأقتصر على ثلاثة أبحاث أخرى: في الأول: أتكلم عن الحروف الهجائية العربية نفسها، وفي الثاني: أقابلها بغيرها وأذكر بعض مزاياها، وفي الثالث: أتكلم عن تاريخها والأطوار التي مرت بها إلى أن وصلت إلى صورتها الحاضرة.
البحث الأول: الحروف الهجائية العربية
تسمى الحروف التي تتركب منها الألفاظ حروف الهجاء، أو حروف التهجي، أو حروف المبنى، أو حروف المعجم، ويسميها سيبويه والخليل بن أحمد حروف العربية. وقد اختلف الصرفيون بين أن تكون ثمانية وعشرين حرفا أو تسعة وعشرين حرفا، ولكنها في الحقيقة تقسم إلى أربعة أقسام: حروف مفردة، وحروف مركبة، وحركات، وضوابط.
الحروف المفردة
أ. ب. ت. ث. ج. ح. خ. د. ذ. ر. ز. س. ش. ص. ض. ط. ظ. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. ه. ة. و. (مثل الواو في: ثوب) ي. (مثل الياء في: بيت) وعددها تسعة وعشرون حرفا.
الحروف المركبة
الحروف المركبة نوعان: إما أن تكون مركبة من حرف وحركة، وهي:
آ: أي همزة وألف في نحو: «مآكل»، وأصل كتابتها هكذا «أا».
لا: أي لام وألف.
وإما أن تكون مركبة من حركة وحرف، وهي:
تنوين ضم، وعلامته .
تنوين فتح، وعلامته ا بألف، أو بدونها.
تنوين كسر، وعلامته .
فالأول مركب من ضمة ونون، والثاني من فتحة ونون، والثالث من كسرة ونون، ولكنهم لم يكتبوا النون استغناء بمضاعفة الحركة عنها، وعدد الحروف المركبة على نوعيها خمسة.
الحركات
وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: قصيرة، وطويلة، وممدودة.
القصيرة تقسم إلى: الضمة والفتحة والكسرة.
الطويلة تقسم إلى: الألف.
الواو، مثلها في «عود».
الياء، مثلها في «عيد».
الممدودة: وهي «الألف، والواو، والياء» إذا وقعت قبل همزة أو شدة، فالألف في «ماء ومادة» أطول من الألف في «باب»، والواو في «وضوء وقوص مجهول قاص» أطول من الواو في «عود»، والياء في «بريء» أطول من الياء في «عيد»، وعددها على اختلاف أقسامها تسع.
الضوابط
السكنة أو السكون، وعلامته .
الوصل، وعلامته ا، وهي مأخوذة من كلمة «صل».
المد، وعلامته آ، وهي مأخوذة من كلمة «مد».
التشديد، وعلامته وهي مأخوذة من كلمة «شد».
فعدد الجميع من حروف مفردة، وحروف مركبة، وحركات، وضوابط سبعة وأربعون حرفا، إلا أن البعض منها قد يكتب على أشكال مختلفة معروفة.
وهنا استدعي انتباه الأساتذة الكرام إلى النقاط الآتية: (1)
لا يزال الصرفيون يعتبرون الألف والواو والياء حروفا، والحقيقة أن الألف ليست إلا حركة، وأما الواو والياء فمن الأشكال المشتركة بين الحروف والحركات؛ فالواو في «ثوب» حرف، وفي «عود» حركة، ويقابل الأول عند الإفرنج حرف
W ، والثاني حرف
O . والياء في «بيت» حرف، وفي «عيد» حركة، ونجد مثل هذا الاشتراك في الحروف الإفرنجية؛ فحرف
Y
يكون تارة حرفا؛ مثله في كلمة
yes ، وتارة حركة؛ مثله في كلمة
truly
وحرف
W
يكون تارة حرفا مثله في كلمة
was ، وتارة حركة؛ مثله في كلمة
saw . (2)
الألف والواو والياء قد تكون حركات طويلة، مثل: الألف في «باب»، والواو في «عود»، والياء في «عيد». وقد تكون حركات ممدودة إذا وقعت بعدها همزة أو شدة؛ مثل الألف في «ماء ومادة»، والواو في «وضوء وقوص مجهول قاص»، والياء في «بريء» - كما تقدم - وقد كان يجب أن يكون للحركات الممدودة شكل خاص لها غيره للحركات الطويلة - وقد تكون كراسي للهمزة، مثل: «رأس وسؤل وبئر». (3)
اصطلحوا على كتابة الألف الممدودة الواقعة قبل همزة برسم مدة فوقها، مثل: «مآء وسمآء»، وكان يجب أن توضع علامة المد على الحركات الممدودة سواء كانت ألفا أم واوا أم ياء، وسواء وقعت قبل همزة أم قبل شدة حسب اصطلاح القرآن، ولكنهم اقتصروا عليها مع الألف الواقعة قبل همزة لكثرة ورودها في الكلام، ثم لما كان موضع الألف الممدودة معلوما جاز إهمال هذه المدة في الخط اعتمادا على فطنة القارئ، ولكن هناك موضعا آخر لكتابة المدة لا يجوز فيه إهمالها، وهي المدة التي تكتب فوق الهمزة التي بصورة الألف، نحو: «مآكل»؛ لأنها هنا ليست للمد مثلها في «مآء وسمآء»، وإنما هي ألف طويلة مثلها في «مدارس ومكاتب». وكان حقها أن تكتب هكذا «مأاكل»، ولكنهم استبشعوا أن تتوالى ألفان في الكتابة فكتبوا الثانية فوق الأخرى، فأشبهت المدة، وهي ليست كذلك. ولهذا يكون قولهم إن المدة مقتطعة من كلمة «مد» - لأنهم كانوا يكتبون فوق الألف الممدودة لفظة «مد»؛ إشعارا بأنها ممدودة تمييزا لها عن الألف الطويلة، ولفظة «مد» تشبه «المدة» - لا يصدق إلا على المدة التي تكتب فوق الألف الممدودة الواقعة قبل همزة، مثل: «مآء» لا على المدة التي تكتب فوق الهمزة التي بصورة الألف، مثل: «مآكل». وتكون الألف الممدودة مع المدة فوقها؛ مثل «مآء» حرفا مستقلا بسيطا، والهمزة مع المدة فوقها، في مثل «مآكل» حرفا مركبا من همزة وألف، وكان يجب أن يذكروا هذا الشكل بين الحروف ويسموه: «همزة ألف» كما ذكروا شكل كتابة اللام مع الألف وسموه «لام ألف».
الخلاصة أن المدة في مثل «مآء» هي مدة مقتطعة من كلمة «مد» وفي مثل «مآكل» هي ألف، ولا يجوز في كتب القراءة أن يجمع بين المدتين في مكان واحد. (4)
الألف تكتب على أربعة أشكال غير شكلها مع اللام؛ فهي تكتب قائمة مثل الألف في «عصا»، وأفقية مثل الألف في «مآكل»، وبصورة الياء بدون نقطتين، مثل الألف في «فتى»، وألفا صغيرة فوق الحرف لا بعده في بعض الكلمات، مثل الألف في «الله» و«ذلك». وكلها تسمى الألف الهاوية، أي ذات الهواء أو الملساء أي اللينة. ولكن لا يزال كثيرون حتى بعض المؤلفين يسمون الألف في مثل «فتى» ألفا مقصورة، وهذا خطأ؛ لأن الألف المقصورة هي الألف على كل أشكالها الأربعة السابقة. وسميت مقصورة؛ لأنها أقصر في اللفظ من الألف الممدودة في مثل «حمراء ومادة»، وإن جاز في بعض المواقف مد الألف وأختيها الواو والياء في غير مواضع المد كما تمد الألف في «لا» إذا أردت تأكيد النفي، وكما يمد المنادي صوته في أداة النداء «يا» إذا كان المنادى بعيدا أو غير منتبه، وكما تمد الألف في لفظة واسع في قولهم «الله واسع الرحمة»، والياء في لفظة «كبير»، والواو في لفظة «غفور» في قولهم: «الله كبير غفور» للتأثير على السامعين في مواقف الوعظ وغير ذلك، ولكن هذا المد لا يكون إلا إذا اقتضاه الحال. (5)
إذا اعتبرنا الألف التي هي أول الحروف الهجائية همزة، فقد كان يجب أن تكتب فوقها همزة هكذا «أ» وتسمى همزة لا ألفا؛ لأن الألف ليست إلا كرسيا لها. وإذا اعتبرناها حركة فنكون قد أهملنا ذكر الهمزة بين الحروف، على أنه يظهر من ترتيب الحروف الهجائية على طريقة نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك - وهو الترتيب المتبع الآن - أنهما ابتدآ بالألف والباء؛ لأنهما أول الحروف في «أبجد»، ولكن الحرف الأول في «أبجد» هو همزة لا ألف؛ لأن الألف لا تقع ابتداء، ولعلها سميت ألفا لأنها قد تكتب على الألف في بعض المواضع كما تكتب على الواو والياء في مواضع أخرى، فيكون ذلك على حد تسمية الكل باسم الجزء، وتكون الألف اسم شكلها لا اسم حكمها. أما سيبويه فإنه ابتدأ في ترتيبه بالهمزة بدون كرسي، ثم ذكر الألف وحدها بين الحركات الطويلة في آخر الحروف. ومن الترتيبين يظهر أن الحرف الأول من الحروف الهجائية هو همزة لا ألف، أما الألف التي هي حركة فقد ذكرت في الترتيب الأول في لام ألف، وفي الترتيب الثاني وحدها.
البحث الثاني: في مقابلة الحروف العربية بغيرها
للحروف العربية مزايا عديدة، أذكر منها ما يأتي: (1)
أنها تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار كالسريانية والعبرية وسائر اللغات التي اقتبست الحروف العربية بخلاف الحروف الإفرنجية، فإنها تكتب من اليسار إلى اليمين، وبخلاف الحروف الهيروغلوفية فإنها - وإن بدئ بها من اليمين في أول سطر - يجوز أن يبدأ بالسطر الثاني من اليسار، وهكذا يبدأ كل سطر من حيث انتهى سابقه، وعليه قول الشاعر:
لصاحب الأحباس برذونة
بعيدة العهد من الربط
تمشي إلى خلف إذا ما مشت
كأنها تكتب بالقبطي
وبخلاف الحروف الصينية فإنها تكتب من أعلى لأسفل ...
ومن الغريب اصطلاح الإفرنج على الكتابة من الجهة اليسرى دون اليمنى، على حين نراهم في كل أمورهم وأعمالهم يجرون من اليمين إلى اليسار، فمنازل الأعداد عندهم تتدرج من اليمين إلى اليسار - وإن كانوا يقرءونها بالعكس - وعلى حين أن الرسام أو النقاش إذا أراد أن يبدأ بعمله ابتدأه من اليمين، ولا سيما إذا كانت الرسوم متقابلة؛ بل «إذا كان أمامك درهمان على مائدة، وكلاهما على بعد متساو منك، وأردت أن تتناول واحدا منهما فإن كنت أيمن انقدت بالسليقة إلى أن تأخذ الذي إلى جهة يمينك» كما قال بعض العلماء في بحث تحت عنوان «الأعسر والأيمن». وكان ذلك كذلك؛ لأن نحو 98 في المائة من الناس يعملون باليد اليمنى دون اليسرى، وقد أثبت بعض علماء منافع الأعضاء أن ذلك أمر فطري في الإنسان ناشئ عن تركيب البنية مما ليس من شأننا الخوض فيه، وإنما يهمنا هنا أن نقول إن اصطلاح العرب أقرب إلى الطبع وأسهل تناولا، فإذا استسهل الإفرنجي الكتابة من الجهة اليسرى بحكم العادة والتربية والتعليم، استسهلناها من الجهة اليمنى بحكم العادة والتربية والتعليم وفوق ذلك بحكم الفطرة. (2)
من مزايا الحروف العربية أنها قليلة الأشكال بالنسبة إلى الحروف الإفرنجية مع أنها أكثر عددا. الحروف العربية تقسم إلى قسمين: كبيرة وصغيرة، فإذا تعلم التلميذ الحروف الكبيرة عرف الصغيرة؛ لأنها مقتطعة منها، إلا حروفا قليلة ليس لها إلا صورة واحدة، وهي الألف والواو والدال والذال والراء والزاي والطاء والظاء، فكأن القسمين قسم واحد، ولا فرق في ذلك بين حروف الكتابة وحروف الطباعة. وأما الحروف الإفرنجية فتقسم إلى قسمين: حروف طباعة وحروف كتابة، وكل منهما يقسم إلى قسمين آخرين: حروف كبيرة وحروف صغيرة، ولا شبه بين الواحد والآخر في الجميع فتكون الحروف الإفرنجية مضاعفة أربعة أضعاف. (3)
إذا تتابع حرفان متجانسان أو متقاربان في المخرج في كلمة واحدة وكان أولهما ساكنا، والثاني متحركا كتب الحرفان حرفا واحدا فوقه شدة للاختصار، وأما الإفرنج فإنهم يدغمون الحروف المتجانسة أو المتقاربة ولكن بتكرار الحرف إذا كان من جنس الحرف الذي قبله أو باللفظ إذا كان قريبا منه، وليس عندهم علامة على التشديد أو الإدغام. (4)
العرب يكتبون الحرف الكبير من حروفهم في آخر الكلمة إيذانا بأن الكلمة انتهت، وأما الإفرنج فيكتبون الحرف الكبير في أول الكلام، أو في أول بعض كلماتهم ولا دليل على أن الكلمة انتهت إلا فصلها عن الكلمة التي بعدها فيضطرون إلى ترك جزء من القرطاس خاليا. (5)
أن الكلمة في اللغة العربية تأخذ فسحة أصغر من الفسحة التي تأخذها الكلمة الإفرنجية لأسباب: (أ)
لأن حروفنا أدق شكلا، ولا سيما الحروف الابتدائية والوسطى. (ب)
لأننا نكتب الحرفين المتجانسين أو المتقاربين في المخرج إذا تتابعا في كلمة واحدة وكان أولهما ساكنا والثاني متحركا، حرفا واحدا فوقه شدة كما تقدم. (ج)
لأن حروفنا متصلة بعضها ببعض إلا حروفا قليلة، وأما حروفهم فكلها منفصلة. (د)
لأن الحركات القصيرة عندنا - وهي الضمة والفتحة والكسرة - والضوابط - وهي السكنة والوصلة والمدة والشدة - والتنوينات على اختلاف أنواعها، تكتب كلها فوق الحرف أو تحته، لا في صلب الكلمة، وقد نستغني عنها؛ لأن لها مواضع معلومة مطردة، بخلاف اللغات الإفرنجية؛ فإنه لا بد من رسم حركاتها في صلب كلماتها؛ لأنها لا تجري على قياس مطرد. (6)
قال ابن فارس: «انفردت العرب بالهمز في عرض الكلام، مثل: «سأل، وقرأ»، ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء»، ولكن مع وجود الهمزة ابتداء في اللغات الإفرنجية، لم يضعوا لها صورة بين حروفهم، فهم يقرءون همزة القطع ولا يكتبونها، ويسقطونها في درج الكلام وليس عندهم علامة للوصل، فهمزة القطع عندهم واردة فيما كان من كلماتهم مبدوءا بحركة، مثل :
on
أو
at
أو
it
فيلفظونها ولا يكتبونها، أي إنهم استخدموا الحركة لأمرين: للهمز، وللحركة، وكان الحق أن نقرأ هذه الكلمات بالإشمام، وهو عبارة عن الإشارة بالشفاه إلى الحركة من غير تصويت، أو بالروم، وهو عبارة عن حركة مختلسة مخفاة (راجع الإشمام والروم في القاموس)، أو كان يجب أن يضعوا قبل كل حركة في هذه الكلمات وغيرها حرفا يدل على الهمز، كما نفعل نحن، فإننا نكتب كل كلمة من هذه الكلمات المتقدم ذكرها بثلاثة أحرف، وهم يكتبونها بحرفين، فالكلمة الأولى نكتبها هكذا «أن» أي بهمزة وضمة ونون. والكلمة الثانية هكذا «أت» أي بهمزة وفتحة وتاء، والكلمة الثالثة هكذا «إت» أي بهمزة وكسرة وتاء ... بل هم إذا أرادوا أن يكتبوا كلمة «سأل» العربية مثلا كتبوها هكذا
sa-al ، فهذا الخط الصغير بين الحركتين ناب عندهم مناب الهمزة.
وأما همزة الوصل عندهم فهي ذات همزة القطع إذا وقعت في درج الكلام، فهم يلفظون هذه الكلمات
put it on
موصولة معا بدون أن تكون هناك علامة للوصل، كما كان يفعل العرب قبل أن اصطلحوا على كتابة علامة الوصل، فتكون الحروف العربية من هذه الجهة أتم من الحروف الإفرنجية ... والشأن هنا ليس في اختصار الكتابة بل في ضبطها، وما كان أحراهم لو كانوا يتوخون الاختصار في الكتابة أن يتركوا الحروف الكثيرة التي يكتبونها ولا يقرءونها - ولا سيما في اللغة الإنكليزية - بحجة أنها كانت في وقت ما ملفوظة، فهي في كلماتهم كالأعضاء الأثرية في جسم الحيوان. وكانت القراءة عندهم مع هذه الزيادات على طريقة «انظر وقل»
look and say
أي إنهم يقرءون بدون أن يتنبهوا لكل حرف من حروف الكلمة؛ بل يرون لها صورة مجملة، كما أن من ينظر إلى أخيه لا يدقق نظره في شكل عينيه وحاجبيه وتقاطيع وجهه، بل يرى له صورة مجملة تنطبق على الصورة الكلية التي في ذهنه. ولسنا ننكر عليهم أن القارئ الحاذق في كل لغة يقرأ الكلمات ولا يتهجى الحروف، فقد تكون الكلمة مغلوطا فيها بزيادة أو نقصان فيقرؤها على الوجه الصحيح بدون أن يتنبه إلى ما فيها من الغلط ، وهذا من غرائب النظر، فقد يصور لك الأشياء بغير صورتها، يريك الصحيح خطأ، والخطأ صحيحا، والصغير كبيرا، والكبير صغيرا، وهذا سر أكثر ما يقع من الأغلاط المطبعية.
ولا ننكر عليهم أيضا أن الكاتب في كل لغة يكتب الكلمات كما اعتادت يده كتابتها لا كما يتهجاها. قد تسأل الإنكليزي كيف تتهجى الكلمة الفلانية فلا يعرف إلا إذا أخذ قلما وكتبها بسرعة وإذا تمهل في الكتابة فقد يخطئ. ولكن ذلك كله لا ينفي أن الكتابة المضبوطة أسهل تناولا وأضمن للصحة في القراءة والإملاء؛ فالكتابة عندهم من هذه الجهة أشبه بالكتابة الصينية التي هي كتابة أشكال ورموز يدل بها على المعاني المختلفة، لا كتابة حروف يتركب منها لفظ الكلمات، وقد حاول الأمير «كيون» بتر هذه الأعضاء الأثرية من جسم كلماتهم، ولكنهم لم يوفقوا. ويستثنى في اللغة العربية بعض كلمات تكتب فيها بعض الحروف ولا تقرأ أو تقرأ ولا تكتب، وهي قليلة لا يعتد بها.
وهناك فرق آخر، وهو أن همزة الوصل عندنا محصورة في مواطن معدودة، وأما همزة الوصل عندهم، فهي كل همزة وقعت في درج الكلام كما رأيت، فلغتهم من هذا القبيل كلغة قريش الذين كانوا يكرهون الهمزة، قال علي: «نزل القرآن بلغة قريش، وليسوا بأصحاب نبر، ولولا أن جبريل - عليه السلام - نزل بالهمزة على النبي
صلى الله عليه وسلم
ما همزنا»؛ لأن للهمزة نبرة في الحلق تجري مجرى التهوع. وقد كاد العرب أنفسهم يلغون كل همزة في درج الكلام، أي الهمزة الابتدائية إذا سبقتها كلمة، وكل همزة في عرضه، أي الهمزة الواقعة في وسط الكلمة أو آخرها. فقد وصلوها في مواطن الوصل المعروفة، وأجازوا للشاعر أن يصل همزة القطع عند الضرورة، كأن يقول في «لو أن»: «لو ان». ولولا القليل لوصلوا كل همزة في الشعر والنثر، وأوجبوا إبدالها إذا سكنت بعد همزة فإن كانت حركة الهمزة الأولى فتحة أبدلت الثانية ألفا، نحو: «آثر»؛ فإن أصلها: «أأثر»، وإن كانت ضمة أبدلت واوا، نحو: «أوثر»؛ فإن أصلها: «أؤثر»، وإن كانت كسرة أبدلت ياء ، نحو: «إيثار»؛ فإن أصلها: «إئثار». وأجازوا فيها الإبدال والتحقيق إذا انضمت الهمزة الثانية أو انكسرت وانفتح ما قبلها، فأجازوا في مضارع «أم» أن تقول: «أؤم أوم»، وفي مضارع «أن» أن تقول: «أئن وأين»، وفي جمع «إمام» أن تقول: «أئمة وأيمة» ... بل إذا سكنت بعد غير الهمز فإن كان ما قبلها مفتوحا أبدلت ألفا، فتقول في «رأس»: «راس»، وإن كان مضموما أبدلت واوا، فتقول في «سؤل»: «سول»، وإن كان مكسورا أبدلت ياء، فتقول في «بئر»: «بير» ... بل أجازوا الإبدال والتحقيق إذا تحركت بعد غير الهمزة، فقالوا في «تأمم»: «تيمم» أي: توضأ بالتراب، والثانية أشيع وإن كانت الأولى هي الأصل، وقالوا في «قرأ»: «قرا»، وفي «قرئ»: «قري»، وفي «التجرؤ»: «التجري» كأنه مصدر «تجرى» لا «تجرأ»، وبسبب ذلك كانت القاعدة الغالبة لكتابة الهمزة «أن تكتب بحسب (ما تلين)» أي إذا كانت تلين بالواو كتبت على واو، أو بالألف كتبت على ألف، أو بالياء كتبت على ياء.
وكل همزة على ألف أو واو أو ياء تهمز وتلين على الغالب، فهي على أشكالها هذه مثل التاء المربوطة التي يجوز فيها أمران: إما أن تكون تاء، وأن تكون هاء. ولولا القليل لوجب إبدال الهمزة وبطل تحقيقها في كل المواطن التي ذكرناها. وقد أجازوا قصر كل ممدود، فقالوا في «سماء»: «سما»، وفي «حمراء»: «حمرا»؛ بل قد ابتدأ إلغاء الهمزة في عرض الكلام في غير المواطن السابقة، من ذلك قولهم: «سل ولا تسل» بدلا من: «اسأل ولا تسأل»، وقولهم في مضارع «رأى» وأمره: «يرى ر» بدلا من: «يرأى إرأ» على الأصل، مثل: «نأى ينأى إنأ»، وقولهم في الأمر من «أكل وأخذ وأمر»: «كل وخذ ومر» بإسقاط الهمزتين معا: همزة الأمر، وهمزة الفعل. ومن ذلك أنهم أجازوا حذف همزة التسوية فتقول: «سواء علي أكان كذا أم كذا» بالهمزة، و«سواء علي كان كذا أم كذا» بدونها ...
وقد كانت قريش تنطق بالهمزة حرفا بين الهمزة وبين حرف حركتها ويسمى هذا الحرف «بين بين» ... فأنت ترى من كل ما أوردته لك من الأمثلة أن اللغة كانت تتدرج إلى إلغاء الهمز في درج الكلام أو عرضه، إما بالوصل، وإما بالإبدال، وإما بالحذف، كما وقع في اللغة العربية العامية إلا قليلا. واندثار بعض الأصوات في اللغات مألوف، فهذه اللغة الآشورية السامية يقال إنها فقدت حروفها الحلقية منذ أربعة آلاف سنة. (7)
أن لكل حرف في اللغة العربية صوتا خاصا له لا يتغير، كما أن لكل صوت حرفا خاصا له يدل عليه؛ إذ إن الأصل في الخط العربي أن يكون مطابقا للفظ فتكتب كل كلمة كما ينطق بها، وينطق بها كما تكتب، بخلاف بعض اللغات الإفرنجية التي تصور الصوت الواحد بصور عديدة، فصوت الكاف يصور عندهم تارة بحرف
k ، وتارة بحرف
q ، وتارة بحرف
c ، وتارة بحرف
x
ممزوجا بحرف
s ، أو تجعل للحرف الواحد أصواتا عديدة، مثل حرف
s ؛ فإنه ينطق به في بعض الكلمات سينا، وفي غيرها شينا، وفي غيرها زايا، وفي غيرها صادا. (8)
ومن مزايا الحروف العربية أن للصوت المفخم فيها صورة خاصة له، وللصوت الرقيق صورة أخرى، مثل: السين والصاد، والتاء والطاء، والدال والضاد، والذال والظاء، والكاف والقاف، بخلاف اللغات الإفرنجية؛ فإن في بعضها حركات مفخمة وحركات رقيقة توضع بعد الحرف فيفخم أو يرقق كما في اللغة الروسية، وأما في غيرها فلا تجد إلا حرفا واحدا يستعمل تارة مفخما وتارة رقيقا بدون ضابط، فحرف
s
في الإنكليزية قد يكون رقيقا؛ مثله في:
sow ، وقد يكون مفخما؛ مثله في
saw ، وحرف
d
قد يكون رقيقا؛ مثله في
do ، وقد يكون مفخما؛ مثله في:
doll ، وعليه فليس العرب وحدهم هم الناطقين بالضاد. وحرف
L
قد يكون رقيقا؛ مثله في:
low ، وقد يكون مفخما؛ مثله في:
law . وحرف
c
الذي يكون في بعض الكلمات كافا، قد يكون رقيقا؛ مثله في:
cold ، وقد يكون مفخما؛ مثله في:
called . وحرف
t
قد يكون رقيقا؛ مثله في:
tell ، وقد يكون مفخما؛ مثله في:
tall . (9)
في اللغة العربية صور معلومة للحركات الطويلة وصور أخرى للحركات القصيرة ، على حين لا تجد في بعض اللغات الأخرى قياسا مطردا للحركات الطويلة والقصيرة فيها، فقد يضاعفون الحركة في اللغة الإنكليزية بقصد تطويلها، مثل :
food ، ولكنهم قد يقصرونها مع مضاعفتها، مثل:
foot ، فضلا عن أن الحركة الواحدة؛ مثل:
a
قد تستعمل مثل
o ، كما في قولهم:
tall ، وقد تستعمل على لفظها في مثل هذا التركيب، كما في
shall
وغير ذلك. (10)
لعل الحروف العربية أجمل، وقد حلت في التمدن الإسلامي محل التصوير والنقش من الفنون الجميلة، فزينوا بها أبنيتهم ورياشهم وآنيتهم وأسلحتهم وأعلامهم، ومن زار الحمراء في إسبانيا رأى من الزخارف الكتابية على جدرانها ما يروعه ويغترق بصره؛ لأن الحروف العربية تتألف من كل الأشكال؛ ففيها الخطوط المنحنية والمستقيمة والمستديرة والبيضية والهرمية والمجوفة والمحدبة والقوسية والمستنة والطويلة والقصيرة والذاهبة صعدا أو نزولا، متصلة أو منفصلة، فوقها أو تحتها من النقط والحركات والشدات والتنوينات والمدات وهمزات الوصل والقطع مما لا تشبهها فيه لغة أخرى، وقد كانوا في قديم الزمان يلونون كتابتهم بألوان مختلفة، فالسواد للحروف، والحمرة للشكل، والصفرة للهمزات، والخضرة لألفات الوصل فيخالها الرائي قطع الرياض أو قطع الفسيفساء. يقال إنهم في بعض مدن أوروبا في الأجيال الوسطى بنوا كنيسة على طراز شرقي، وإذ أحبوا أن يزينوا جدرانها على الطريقة الشرقية نقلوا فيما نقلوه من الزخارف أسماء الصحابة وهم يحسبونها زخارف ورسوما، فكنت ترى على جدران تلك الكنيسة اسم علي وحمزة وأبي بكر وغيرهم كأنها من أسماء قديسيها؛ بل قد استخدم الشعراء بعض الحروف العربية في غزلهم على سبيل التشبيه، فشبهوا القامة الهيفاء بالألف، وعطفة الصدغ بالهمزة، والعارض باللام، والحاجب بالنون، والطرة المصففة من الشعر بالسين الواقعة غير طرف؛ لأنها تستوي على شكلها، وغير ذلك. (11)
من الفروق بيننا وبينهم أن الإفرنج قد يكتبون نصف الكلمة أو جزءا منها في آخر السطر والجزء الآخر في أول السطر الذي يليه، وهذا مكروه في اللغة العربية، حتى الواو فإنهم يحسبونها جزءا من الكلمة فلا يفصلونها؛ بل كرهوا فصل المضاف عن المضاف إليه.
البحث الثالث: تاريخ الحروف الهجائية وتطورها
لم يصل الخط إلى ما هو عليه الآن إلا بعد أن قطع أربعة أدوار: (1)
دور التصوير الذاتي: كانت تصور فيه الحوادث والأشياء التي تقبل التصوير، فكانوا إذا أرادوا أن يكتبوا مثلا كلمة «أسد» صوروا أسدا، أو كلمة «وردة» صوروا وردة. (2)
دور التصوير الرمزي: اصطلحوا فيه على اتخاذ رموز للمعاني التي لا يمكن تصويرها، كأن يرمز عن المحبة بالحمامة، وعن البغض بالحية. (3)
الدور المقطعي: وتدل فيه الصورة على أول مقطع من اسمها، أي إن الشكل الواحد بعد أن كان يدل على كلمة في الدور التصويري الأول استعمل في هذا الدور للدلالة على حرف وحركة معا، فصورة الحصان التي كانت تدل على حصان استعملت للدلالة على مقطع مؤلف من حاء مكسورة، وصورة الغراب التي كانت تدل على غراب استعملت للدلالة على مقطع مؤلف من غين مضمومة مثلا، ولعل كتابة الهمزة عندنا على الألف والواو والياء - فتفتح مع الألف بدون أن تكون هناك فتحة، وتضم مع الواو بدون أن تكون هناك ضمة، وتكسر مع الياء بدون أن تكون هناك كسرة - من الأشكال المقطعية. (4)
الدور الهجائي: استعملوا فيه المقاطع حروفا مستقلة، فصورة الحصان التي كانت تدل على حاء مكسورة مثلا في الدور المقطعي استعملت في هذا الدور للدلالة على الحاء الساكنة، وهو أقل الأدوار أشكالا وأسهلها استعمالا.
والفضل في وضع الحروف الهجائية راجع إلى الفينيقيين، وإذا كانت الكتابة هي الجسر الذي مرت عليه الإنسانية من الهمجية إلى المدنية، كان الفينيقيون أهم سبب في تمدن أكثر أمم الأرض، وإذا صح رأي فريق من المؤرخين أنهم من العرب أبناء إسماعيل بن إبرهيم كان للعرب اليد البيضاء - التي لا تؤدى - على الإنسانية جمعاء. •••
لا شك أن الكتابة في أدوارها الأولى كانت مقروءة من تلقاء نفسها، حتى في أول الدور الهجائي؛ لأن العلاقة بين الأصوات والنقوش الموضوعة لها كانت معقولة واضحة، فكان كل الناس قراء، ولكن تلك العلاقة لم تلبث في الدور الهجائي أن أخذت تخفى شيئا فشيئا إلى أن أصبحت دلالة النقش على الصوت اعتباطية، وعادت الحروف الهجائية لا تؤخذ إلا بالدرس، فانقسم الناس بسبب ذلك إلى أميين ومتعلمين. •••
الحروف المعروفة اليوم، أصلها فينيقي بدليلين: الأول؛ أن أسماءها لا تزال إلى اليوم فينيقية، بعضها بلفظه الأصلي، وبعضها بتصرف قليل، والثاني؛ أن أكثر أشكالها تكاد تشبه الأشكال الفينيقية. ولا شك أننا استعملنا الحروف الفينيقية بعينها لأول عهدنا بالكتابة، ثم مع توالي الأيام تغيرت حروفنا شيئا فشيئا حتى بعد الشبه بينها وبين الحروف الفينيقية، وليس من السهل تتبع هذا التغير؛ فنكتفي بالإشارة إلى شيء منه على قدر ما تيسر لنا من الأشكال عند الطبع.
من ذلك الألف والواو والياء؛ فقد كانت الألف في الأصل تكتب على شكل يشبه رأس ثور حسب أصل كتابتها في القلم الهيروغليفي، وكانت الواو والياء تكتبان على شكلين آخرين لم نوفق إلى صورة لكل منهما عند الطبع، فاستبدلوا أشكالها هذه بأشكالها المعروفة، والذي يخطر لنا أنهم راعوا في هذا الإبدال شكل الفم عند التلفظ بها، فجعلوا الألف خطا عموديا هكذا «ا»؛ لتكون فتحة الفم عمودية، وجعلوا الواو على شكل دائرة؛ ليكون الفم عند قراءتها مضموما، وهي تشبه حرف
o
الإفرنجية في الخط، إلا أننا زدنا لها ذنبا، ولعله كان قصيرا في أول عهده ثم طولناه حسب عادتنا من مشق الحروف ومطها في أواخرها عند الإسراع في كتابتها؛ بل إن الإفرنج أنفسهم يضعون مثل هذا الذنب لحرف
o ، ولكن الفرق بيننا وبينهم أن الذنب عندنا في ذيل حرفنا والذنب عندهم في رأس حرفهم، وجعلوا الياء على صورة دائرة مستطيلة عرضا لتكون على شكل الفم عند قراءتها، ثم فتحوها قليلا من الأعلى وجعلوا لها منقارا، ووضعوا نقطتين تحتها للتزيين أو ليميزوها عن غيرها. فإذا صح استنتاجنا كانت الألف والواو والياء من أدل الحروف على شكل الفم؛ بل كانت مقروءة من تلقاء نفسها.
ثم إن هناك أحرفا أخرى نقلوها عن شكلها الفينيقي إلى شكل آخر، صوروا به شكل الفم، وهي: الباء والتاء والثاء والنون، فإن الباء والتاء والثاء تشبه الفم المطبق، وهو يكاد يكون كذلك عند التلفظ بها، إلا أنه ينفرج قليلا جدا عند خروج الصوت، وقد كانوا يعتمدون في التمييز بينها على ما يقتضيه المعنى، ثم ميزوا بينها بالنقط، ولعلهم اختاروا أن تكون نقطة الباء من تحتها؛ إشارة إلى حركة الشفة السفلى عند التلفظ بها، ووضعوا للتاء نقطتين فوقها إما لمجرد التمييز وإما إشارة إلى إظهار سنين عند التلفظ بها، والنقط تشبه الأسنان. وميزوا الثاء بثلاث نقط؛ إشارة إلى إظهار طرف اللسان بين الأسنان العليا والسفلى. وأما النون فهي تشبه غار الفم، وقد جعلوا في وسطها نقطة؛ إشارة إلى التصاق طرف اللسان بأعلى الحنك عند التلفظ بها، وهي تشبه النون السامرية إلا أنهم يكتبونها بالطول هكذا
ࠍ
على شكل الفم عند التلفظ بها، ونحن نكتبها بالعرض. وأصل كتابة حرف «نون» في اللغة الفينيقية واللغة اليونانية القديمة على شكل أشبه بالحرف نفسه في اللغات الإفرنجية إذا كان مكتوبا لا مطبوعا. ومن الاتفاق الغريب أن الاصطلاح الأخير في كتابتها ردها إلى أصلها؛ إذ يكتبونها اليوم هكذا ن.
وهناك حروف نقلناها عن اللغة الفينيقية بعد أن جعلنا أعلاها أسفلها، مثل الكاف؛ فهي في اللغة الفينيقية هكذا
𐤊
فقلبناها وكتبناها هكذا «ك»، وأما الإفرنج فقد غيروا هذا الحرف من جهتين؛ أولا: جعلوا أعلاه أسفله، ثم جعلوا يمينه يساره، فجاء هكذا:
k .
ومن الحروف ما غيرنا جهة كتابته من اليسار إلى اليمين؛ مثل اللام، فهي في اللغة الفينيقية واليونانية القديمة هكذا
L
على صورتها في اللغات الإفرنجية اليوم فغيرنا جهتها وكتبناها هكذا «ل».
ومن الحروف ما غيرناه من الوضع العمودي إلى الوضع الأفقي؛ مثل الياء، فإنها تكاد تشبه الياء في اللغة اليونانية القديمة، إلا أنهم كانوا يكتبونها هكذا
ʎ ، فقلبناها وكتبناها هكذا «ي»، وأما الإفرنج فجعلوها عمودية هكذا
ʏ .
وأما حرف العين فقد كان في أصله دائرة تشبه حاسة البصر، ولا نزال نكتبه كذلك إلا أنه إذا وقع طرفا زدنا له نصف دائرة مستطيلة على شكل نصف دائرة الوجه لتكون قرينة على أننا نقصد به العين التي هي حاسة البصر، وهو من الحروف التصويرية الواضحة في لغتنا.
وقد كان هذا التغيير من أعلى لأسفل أو من اليسار إلى اليمين أو من العمودية إلى الأفقية تسهيلا للكتابة؛ لأننا نبتدئ من الجهة اليمنى. •••
كانت حروفنا في أصل وضعها منفصلة فجعلناها مع الأيام متصلة إلا «الألف، والواو، والدال، والذال، والراء، والزاي»؛ فإنها لا تزال إلى اليوم تكتب منفصلة عما بعدها. وكانت مهملة - أي بدون تنقيط - فأعجمناها - أي نقطناها - والهمزة في «أعجم» للسلب - أي أزلنا عجمتها وإبهامها - فإذا كان التنقيط حادثا في العربية، فالحروف التي وضعت في الأصل لم تكن تسعة وعشرين أو ثمانية وعشرين، ولكنها كانت تسعة عشر أو ثمانية عشر شكلا على عدد أشكالها بدون تنقيط، فكيف تكفي هذه الأشكال القليلة لكتابة اللغة؟ استخدموا الشكل الواحد لعدة أغراض.
استخدموا الألف همزة وحركة طويلة وحركة ممدودة، واستخدموا الواو والياء حركتين طويلتين وحركتين ممدودتين وحرفين.
واستخدموا الألف والواو والياء حركات قصيرة - أي بدلا من الضمة، والفتحة، والكسرة - ولعل الواو في «أولئك» وفي «عمرو» من آثار ذلك العهد. ومن العجيب أنهم عادوا فاستعملوا الحركات القصيرة بدلا من الطويلة في مثل: «إسحق»، و«إبرهيم»، و«الرحمن»، و«سليمن»، و«السموات»، و«الملئكة»، و«رؤس»، و«أنبؤني»، و«إياي فارهبون» - أي فارهبوني - وغير ذلك.
واستخدموا شكل الباء ل «الباء، والتاء، والثاء»، وللياء إذا وقعت أولا أو وسطا.
وشكل الجيم ل «الجيم، والحاء، والخاء».
وشكل السين ل «السين، والشين».
وشكل الصاد ل «الصاد، والضاد».
وشكل الطاء ل «الطاء، والظاء».
وشكل العين ل «العين، والغين».
وشكل الفاء ل «الفاء، والقاف».
ومع ما في ذلك من الصعوبة فإنهم كانوا يقرءون ويكتبون، فما أشبه كتابتهم في أول عهدها بكتابة هذا العصر التي يسمونها بالخط المختزل، والتاريخ يعيد نفسه.
النحو1
نقل الشيخ بدر الدين الزركشي في قواعده عن بعض المشايخ أنه كان يقول: العلوم ثلاثة: «علم نضج وما احترق، وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق، وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق، وهو علم الفقه والحديث.» فعلم النحو هو من العلوم التي نضجت وما احترقت، فإذا استقريت كلام العرب فلا تجد أداة أو حرفا أو حالة من حالات الكلمة في الجملة إلا استنبط لها النحاة حكما ترجع إليه، فإذا كان الاسم مرفوعا أو منصوبا أو مخفوضا مثلا فلا يخرج عن حكم المرفوعات أو المنصوبات أو المخفوضات التي نصوا عليها.
وما هو النحو؟ هو فن الإعراب والبناء، قال القدماء: «النحو في الاصطلاح هو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها.»
وقال المتأخرون: «هو علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء.»
وما هي فائدته؟ قال النحاة: إن فائدته التحرز من الخطأ، وقال ابن الوردي:
جمل المنطق بالنحو فمن
يحرم الإعراب بالنطق اختبل
أي إن فائدته ليست في نفسه؛ بل في تجميل المنطق والتحرز من الخطأ، وبعبارة أخرى في إقامة الملكة العربية. ولكنهم تدرجوا فيه من العناية به إلى الإخصاء فيه إلى اعتباره غاية يطلب لنفسه، فخصصوا له مدارس لا يعلم فيها غيره، منها المدرسة النحوية في جوار المسجد الأقصى في القدس؛ بل كان هو الغاية من كل دروس اللغة والأدب، وما من كتاب أو شعر أو قول أو مثل أو حديث شرحوه إلا عنوا بإعرابه وتطبيقه على قوانين النحو؛ بل ما من كتاب في اللغة أو الشعر أو الأدب أو الأخبار أو التفسير أو غير ذلك حتى مما لا علاقة له باللغة إلا وفيه نحو؛ بل قد تجد من دقائق النحو في غير كتب النحو ما لا تجده في أمهات كتبه. وما من علم شاعت اصطلاحاته وأمثاله ولغته على ألسنة الناس حتى الأميين منهم مثل علم النحو، من ذلك أنهم إذا أرادوا أن يقولوا: «ليس إلى هذا الشيء حاجة» قالوا: «لا محل له من الإعراب»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «فات الشيء» قالوا: «أصبح في خبر كان»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «وغير ذلك»، قالوا: «وهلم جرا» أو «وقس عليه ما ورد».
وقوانين النحو كانت في أصلها قليلة على قدر ما دعت إليه الحاجة لأول عهد الملكة بالفساد، ثم توسعوا في الاستنباط إلى ما تقتضيه الصناعة لا الحاجة، ثم خرجوا بها إلى مماحكات لا طائل تحتها، مما أوشك به علم النحو بعد نضجه أن يحترق.
إذن كان النحو آلة فأصبح غاية، وكانت قوانينه على قدر ما تقتضيه الحاجة فتوسعوا فيها إلى ما لا تقتضيه، وقد كان الغرض منه على اعتباره آلة، وعلى الوقوف به عند حد الحاجة - إقامة الملكة كما تقدم، وكان ذلك لأن اللغة بملكتها تبقى ببقائها وتفسد بفسادها وتذهب بذهابها، ولا يغني اللغة إذا ذهبت ملكتها أن يكون لها ألفاظ ومعاجم ألفاظ؛ فإن الألفاظ تقل وتكثر وتتطور، يندثر منها ما يندثر، ويتولد فيها ما تقتضيه الحاجة ويتحول عن معناه منها ما يتحول، فإذا بقيت الملكة فاللغة باقية قلت ألفاظها أم كثرت، وتحولت عن معانيها أم لم تتحول. ألا ترى أن ملكة الطفل في اللغة العامية مثل ملكة الرجل فيها على اختلاف في مقدار ألفاظهما؟! ولما كان العرب حريصين على ملكتهم - وحقهم أن يكونوا حريصين عليها - استنبطوا قوانينها ومقاييسها ووضعوا حدودها إلى ما لم يجارهم فيه أحد، حتى إذا تحيفتها الركاكة وطغت عليها العجمة توصلوا بتلك القوانين إلى إصلاح ما فسد منها وإرجاعها إلى أصلها.
ولكن ما هو أثر هذه القوانين في تلك الملكة؟ هذا ما يجب أن نستدعي الانتباه إليه.
قال ابن خلدون: «إن العلم بقواعد الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل؛ ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصد من قصوده، أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد من يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين في المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية، فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد تجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتفاقي.»
هذا ما قاله ابن خلدون، فالأنواع ثلاثة: من يحسن الملكة ولا يحسن الصناعة، ومن يحسن الصناعة ولا يحسن الملكة، ومن يحسن الملكة والصناعة معا. وفي الحقيقة أن النوع الثالث - على كونه قليلا واتفاقيا - هو من النوع الأول في إحسان الملكة، ومن النوع الثاني في إحسان الصناعة، لا نوع قائم بنفسه ولا أثر لإحسانه الواحدة في إحسانه الأخرى، وإلا فلماذا لا يحسن الملكة من يحسن الصناعة؟! ولا يحسن الصناعة من يحسن الملكة؟! وقد بين ابن خلدون سبب إحسان القليلين الملكة والصناعة معا بقوله:
أكثر ما يقع ذلك للمخالطين لكتاب سيبويه، فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط؛ بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعلم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعلمها فكان أبلغ في الإفادة.
أي إنه تعلم الملكة على حدة من مخالطته لما جاء في الكتاب من كلام العرب، وتعلم الصناعة على حدة مما جاء في الكتاب من قوانين الإعراب، فلو خلا الكتاب من قوانين الإعراب لما أثر ذلك على الملكة شيئا، فالملكة إذن مستغنية عن الصناعة، ولا أثر للصناعة فيها. •••
إن العناية بقوانين اللغة مذهب قديم جدا، أخذه المتأخرون عن المتقدمين على سبيل التقليد أو العدوى، فالعرب حين خالطوا السريان في العراق اطلعوا على آدابهم، وفي جملتها النحو، فأعجبهم فنسجوا على منواله، يؤيد ذلك أن العرب بدءوا بوضع علم النحو وهم في العراق بين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية مثلها في السريانية، كما قال زيدان. والإفرنج نسجوا على منوال اللغتين اللاتينية واليونانية، واقتبسوا اصطلاحاتهما، فهي لا تزال غريبة عن لغاتهم إلى اليوم، ولا يفهمها تلميذهم إلا إذا ترجمت إلى لغته؛ بل لا يزال في أحكام اللغات الإفرنجية الحديثة ما لا ينطبق عليها؛ مثل حالات الاسم بين أن يكون مسندا إليه
Nominative
أو مضافا إليه
possessive
أو مجرورا
Dative
أو مفعولا به
objective
أو منادى
Vocative ، ولا علامات إعرابية لتلك الحالات عندهم إلا في الإضافة، ولا يتغير في بعض هذه الحالات إلا الضمير . ومن العجب أنهم يسمون الحالة الأولى في الإنكليزية رفعا
Upright ... خفضا
Falling
حسب اصطلاح العرب؛ بل إن مصيبة الإفرنج أعظم؛ فإن الأديب عندهم لا يعول على أدبه إلا إذا درس مع لغته اللغتين اللاتينية واليونانية، يتعلم ثلاث لغات ليكون أديبا في واحدة. •••
قلنا إن العرب نسجوا على منوال السريان، وقد مر عليهم بعد وضع علم النحو دوران: في الدور الأول جمعوا بين القوانين والشواهد من كلام العرب، وعلى هذا الأسلوب جرى سيبويه في كتابه كما رأيت. وكان هذا أسلوب أهل الأندلس، قال ابن خلدون: «وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم؛ لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعلم فتنقطع النفس لها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها»، وقد كان هذا أسلوب أهل الشرق أيضا لعهد الدولة الأموية والعباسية كما قال ابن خلدون في موضع آخر.
فالذين يتفقهون في كلام العرب في هذا الدور أحسنوا الملكة، والذين انصرفوا إلى القوانين أحسنوا الصناعة، والذين عنوا بالأمرين أحسنوا الملكة والصناعة معا.
وفي الدور الثاني اقتصروا على القوانين وجردوا كتبهم من أشعار العرب وكلامهم، وهو أسلوب أهل المغرب وإفريقية وغيرهم. قال ابن خلدون: «أما من سواهم - أي سوى أهل الأندلس - من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب - إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه - فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه، وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم ، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علما بحتا، وبعدوا عن ثمرتها.»
وعن أهل المغرب وإفريقية أخذنا هذا الأسلوب الذي نتبعه اليوم فتعلقنا بالصناعة وأهملنا الملكة. •••
ما كان أغنى المتأخرين من عرب وإفرنج عن تقليد المتقدمين من سريان وكلدان ولاتين ويونان في التعلق بهذه القوانين على غير حاجة، وما كان أحراهم إذا أرادوا إقامة ملكاتهم أن يفتشوا عن أسلوب آخر؛ بل ما كان أحرانا في هذا العصر إذا لم يكن بد من النسج على منوال المتقدمين أن نأخذ الأسلوب الأندلسي على الأقل لا الأسلوب المغربي، ثم بدلا من أن نجرده من أشعار العرب وأمثالهم وشواهد كلامهم ونقتصر فيه على قوانين الإعراب كما فعل أهل المغرب، فنحصل على علم اللسان صناعة، نجري فيه على عكس ذلك أي نجرده من القوانين ونقتصر على الشواهد فنحصل على علم اللسان ملكة ... وهذا هو الأسلوب الذي أشار به ابن خلدون فيلسوف العرب وأستاذهم الأكبر في مواطن كثيرة من مقدمته، وإليك ما قاله في بعض تلك المواطن:
إن اللغات لما كانت ملكات كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات، ووجه التعلم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل - لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور - منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحل له الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة، ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينهما وبين مقتضيات الأحوال، والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما، وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا، ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها.
وقال في موضع آخر:
تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ بينهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم.
هذا رأي ابن خلدون، وبذلك تكون الأساليب ثلاثة: الأسلوب الأندلسي، والأسلوب المغربي، والأسلوب الخلدوني، وغرضنا في هذا المقال الدعوة إلى الأسلوب الخلدوني. •••
إذا كان غرضنا إقامة الملكة بعد أن فسدت؛ بل إحياءها بعد أن فقدت، فأحسن الطرق وأقربها أن نخاطب المبتدئين باللغة الصحيحة رأسا، وأن نحرص على أن نجعلهم لا يقرءون من الكتب ولا يحفظون من كلام السلف والمولدين إلا ما كانت ملكته صحيحة لا تتنازعها ركاكة أو عجمة، وأن نمرنهم كثيرا على الكتابة، وأن نقوم ما انآد من عباراتهم في القراءة والكتابة والكلام قياسا على كلام العرب لا على قوانين اللغة، فنقول: «قال الرجل» بالضم قياسا على «قال النبي»، و«قال الأحنف»، و«قال المهلب». ونقول: «النهار جميل» برفع الاثنين قياسا على قولهم: «العلم زين»، و«الصدق عز والكذب خضوع»، و«الخير عادة والشر لجاجة»، وإذا أخطأ أحدهم أرشدناه أو قلنا لرفاقه: «أرشدوا أخاكم فقد ضل» ... وعلى الجملة أن نعلمهم اللغة كما يتعلم الطفل لغة أمه فهو يسمعها، ثم يألفها، ثم يفهمها، ثم يتكلمها بدون أن تعلمه أمه قوانين اللغة، وبدون أن تفسر له ألفاظها أو تترجمها. قد يخل بالأسلوب في أول أمره، كما قد يسيء التلفظ ببعض حروفه، ولكنه لا يلبث أن يهتدي إلى الصواب بحكم التقليد وبضرورة أن يكون مفهوما؛ بل كما يتعلم الطفل ابتسامات أمه وحركاتها وإشاراتها، وكما يتعلم أن يلبس وأن يمشي وأن يغني، إلى غير ذلك مما يأخذه بالتقليد والتمرن، وهي نفس الطريقة التي بها يتعلم كل أجنبي لغة أمه، فهو يحسن ملكتها قبل أن يعرف شيئا من أحكامها.
وفي اللغات الأجنبية ما هو أصعب من اللغة العربية كثيرا؛ مثل اللغة الروسية والألمانية؛ فإن فيها من التصاريف وتعدد الحالات على الاسم والشذوذ ما لا يذكر بجانبه ما في اللغة العربية منه.
وإذا تعلم الأجنبي قوانين لغته فليس عن حاجة إليها، ولا لإحسان ملكته، ولكنه إنما يتعلمها تبعا للعادة، أو لما قد يكون في درس هذه القوانين من ترويض للعقل؛ ولذلك سمي النحو في اللغات الإفرنجية منطق اللغة أو إقليدس اللغة. وقد رأيت أن ابن خلدون قال في كلامه عن الأسلوب المغربي الذي مر ذكره: «إن صناعة العربية أصبحت من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل» ولكن رياضة العقل فيما لا تدعو إليه حاجة إسراف في غير محله. وكم نجد في اللغات الأجنبية من كبار الكتاب والشعراء والخطباء من لم يتعلموا شيئا من قوانين لغاتهم، وهي نفس الطريقة التي كان العرب يأخذون بها لغتهم قبل وضع علم النحو، فكم نبغ في الأمة العربية في ذلك العهد من الشعراء والخطباء، وبينهم من لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل: المتلمس، والفرزدق، وذي الرمة وغيرهم، وهم هم الذين من أقوالهم استخرج النحاة أحكام النحو، وبأقوالهم لا يزالون يحتجون.
وعلى هذه الطريقة جرى كثيرون بعد وضع علم النحو من قديم الزمان إلى اليوم وبينهم من لم يكونوا في أول نشأتهم من أهل العلم والأدب؛ بل كانوا يتعاطون أعمالا يدوية مثل سري الرفاء، الذي نبغ في الشعر على عهد سيف الدولة وهو يرفو ويطرز في دكانه. ومن الذين جروا على هذه الطريقة في عصرنا هذا الذي كدنا نصبح فيه غرباء عن اللغة العربية محمود سامي البارودي، الذي قيل فيه إنه متنبي عصره، فقد كان من أولئك الذين تعلموا على الأسلوب الخلدوني، أي تعلم اللغة من اللغة نفسها، فكان إذا وقع الاسم في كلامه بعد «أن» أو إحدى أخواتها نصبه قياسا على نظائره من أقوال غيره من الشعراء المتقدمين لا على أحكام «أن» وأخواتها، ومثله كثيرون؛ بل لعل أكثر الذين يحسنون الملكة من كتابنا وأدبائنا لا يحسنون الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور.
وقد لوحظ أن الذين يشتغلون بتمثيل الروايات الموضوعة باللغة العربية الصحيحة قد أصبح الإعراب فيهم ملكة مع أن أكثرهم أميون، فكيف اكتسب كل هؤلاء ملكة اللغة؟! اكتسبوها بالتقليد والبداهة والحفظ والاستعمال. وإذا عرف الذين نبغوا بعد وضع علم النحو قوانين اللغة وراعوها في الاستعمال فلأنهم استخرجوها من اللغة بالاستقراء فهم تعلموا الصناعة من الملكة لا الملكة من الصناعة، وهذه الأحكام التي استخرجوها بالاستقراء لم يكن لها أقل علاقة بإجادتهم في الفنين من المنظوم والمنثور؛ بل إن الذين درسوا النحو في مطولاته إذا قرءوا أو كتبوا أو تكلموا راعوا في ذلك وحي السليقة لا أحكام النحو على حد قول الشاعر:
ولست بنحوي يلوك لسانه
ولكن سليقي أقول فأعرب
إذا رأينا أبناءنا يعجزون عن اكتساب ملكة اللغة قراءة وكتابة وتكلما، فليس ذلك ناشئا عن جهلهم قوانين اللغة، ولا عن صعوبة اللغة العربية، ولا عن عجز الأساتذة عن تدريسها؛ وإنما السر في ذلك أن اللغة في أكثر مدارسنا ليست اللغة الحية. فسدت الملكة العربية يوم خالطنا الأعاجم فما قولك الآن وقد حلت اللغات الأجنبية محل لغتنا في بيوتنا ومدارسنا وتعاملنا؟! يدخل أبناؤنا إلى المدارس الأجنبية فلا يلبثون أن يعرفوا اللغات الأجنبية أكثر مما يعرفون لغتهم، فيحسب الوالدون ورؤساء المدارس أن ذلك ناشئ عن صعوبة اللغة العربية وسهولة اللغات الأخرى، ولو تدبرنا الأمر لرأينا أن أبناءنا إنما يتقنون اللغات الأجنبية على صعوبة أكثرها بالقياس إلى لغتنا، وعلى جهل أكثر أساتذتها بأساليب تدريسها؛ لأنهم يسمعونها ويستعملونها دائما، فهم يدرسونها في الحساب والجغرافيا والتاريخ والموسيقى والرسم واللعب وسائر الفروع، فضلا عن دروس اللغة من قراءة واستظهار وإنشاء ومحادثة وإملاء وخط، ويتكلمون بها في غرف التدريس وفي ساحات اللعب، وفي دخولهم وخروجهم، فلا عجب إذا انطبعت على ألسنتهم واستسهلوا فيها كل صعب. والأمر بالعكس في لغتهم فهم لا يستعملونها إلا قراءة، وإذا تكلموا في المدرسة أو خارجها، فبلغة أخرى، إما بلغة أجنبية وإما باللغة المحكية العامية، فما أشبه لغتنا - والحالة هذه - باللغتين اللاتينية واليونانية القديمة اللتين تدرسان لا لتستعملا في التخاطب والتعامل مثل سائر اللغات الحية، ولكن لفهم أدبياتهما القديمة؛ بل ما أشبهها باللغات الميتة التي يدرسها البعض لأغراض فيلولوجية أو تاريخية. •••
لا تحيا لغتنا إلا إذا كانت لغة التعليم، إلا إذا استعملناها تكلما وقراءة وكتابة، ولا بأس هنا من التفصيل ولو باختصار تتمة للفائدة.
أما التكلم فيجب على الأستاذ أن لا يخاطب تلاميذه إلا باللغة الصحيحة وأن لا يستعمل اللغة المحكية في حال، وإلا انطبعت هذه اللغة المحكية العامية التي يخاطبهم بها على ألسنتهم أكثر من اللغة الصحيحة التي يحاول أن يعلمهم إياها. وإذا كانت أحسن الطرق لاكتساب ملكة اللغة هي مشافهة أهلها ومعايشتهم، وإذا لم يكن هذا العصر عصر فصاحة، فلا بد أن يمثل الأستاذ بنفسه الأمة العربية في عهد فصاحتها؛ ولذلك يجب أن يكون الأستاذ مهذب اللفظ، جميل الذوق، بصيرا بحال الملكة؛ لأن التلميذ يتعلم من لغة أستاذه أكثر مما يتعلم من شواهد كلام العرب. وليس شيء أضر باللغة وأدعى بفساد الملكة من الأستاذ العيي الذي يعلم قوانين اللغة وأصول الفصاحة والبلاغة وهو عامي اللفظ يرمي الكلام على عواهنه. ما أشبه أستاذ اللغة العربية الذي يعلم اللغة الصحيحة ولا يتكلم إلا بالعامية بمن يعلم اللغة الإنكليزية وهو يخاطب تلاميذه بالإفرنسية أو غيرها، وما أحراه أن يفشل. إذا أردت أن تكلف تلميذك القيام أو القعود أو القراءة أو الكتابة فقل له: قم، اقعد، افتح الكتاب، اقرأ السطر الأول، اكتب، امح اللوح، أمسك القلم، فيتعلم الأمر من قام وقعد وقرأ وكتب ومحا وأمسك، ويتعلم أن ينصب المفعول به في: «افتح الكتاب» و«اقرأ السطر» و«امح اللوح» و«أمسك القلم»، من فوره وبدون عناء، ويقيس أمثالها عليها، ولا يفيده شيئا أن يعرف قاعدة بناء الأمر من الصحيح والمضاعف والمثال والأجوف والناقص واللفيف المفروق واللفيف المقرون والمهموز من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي، ولا يفيده شيئا أن يعرف أحكام المفعول به بحذافيرها، وإنما يفيده أن يسمع غيره يستعمل اللغة على الوجه الصحيح فيقلده، وكذلك يجب على الأستاذ أن يكلف تلاميذه ألا يتكلموا إلا باللغة الصحيحة وهم إذا سمعوها فألفوها ففهموها هان عليهم التكلم بها.
وأما القراءة فهي من أهم مصادر اللغة. أين توجد اللغة؟ اللغة لا توجد في كتب النحو ولا في معاجم اللغة، وإنما توجد في أدبياتها، في أشعارها، في أمثالها، في كتب تاريخ الأمة وأخبارها، في كتب علومها؛ كالحساب والجغرافيا وسائر الفروع، وما أجدر الأستاذ أن يتناول دروسه في القراءة كل هذه الموضوعات لا أن يقتصر على موضوع واحد، وليعلم أن المقصود من دروس القراءة ليس التمرين عليها؛ فإن هذا يكفيه الكتاب الأول في الفصول الابتدائية، وإنما الغرض من دروس القراءة التعرف باللغة والتفقه في تراكيبها وأساليبها ومخالطة عباراتها، ولكل ذلك أصول دقيقة ليس هذا محل التبسط فيها. ليرغب الأستاذ تلاميذه في المطالعة؛ ولذلك يجب أن يكون في كل مدرسة مكتبة صغيرة للتلاميذ تجمع فيها الكتب النقية العبارة، الصحيحة الأسلوب، المنزهة عن العجمة والركاكة والتعقيد. وليحذر أن يجعل في أيديهم تلك الكتب التي توخى فيها أصحابها العناية بالصناعة اللفظية فخرجوا باللغة عن حالتها الطبيعية، فقد آن للأمة العربية أن تخلص من هذا المرض، واحتفاظا برغبة التلاميذ في المطالعة يجب عليه أن ينوع الكتب ويجددها من وقت لآخر.
وأما الكتابة فبعد أن يمرن تلاميذه عليها في الفصول الابتدائية يجدر به أن ينشئ لهم جمعية يقدمون فيها الخطب والمناظرات، ويلقون فيها أجمل ما يستظهرون من القصائد على مثال الأسواق الأدبية التي كان العرب يجتمعون فيها للمفاخرة والمناشدة والمناضلة، كسوق عكاظ في الجاهلية، وسوق المربد في الإسلام، ثم لينشئ لهم جريدة يتولون كتابتها بأنفسهم، ولكن ليحذر من أن يكثروا أبوابها، ومن أن يتقاضاهم أن يطيلوا في مقالاتهم، ومن أن يكتبوا في موضوعات لا يعرفون عنها شيئا؛ فإن ذلك يرهقهم ويسئمهم وينفرهم من الكتابة. •••
ومما لا بد منه استدعاء الانتباه إليه أن كل دروس اللغة من قراءة ومحادثة وإنشاء وإملاء يجب أن تمزج معا، لا أن يؤخذ كل منها على حدة. فكل درس يجب أن يقرأه التلميذ، وأن يفهمه، وأن يتكلمه، وأن يمليه، وأن يتمرن على الإنشاء فيه، فإذا كان درس القراءة القصة التالية:
كان صبي مرة يصيد الجراد فوجد عقربا فظنها جرادة، فمد يده ليأخذها، ثم تباعد عنها. فقالت له: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد.
فبعد أن يقرأها التلاميذ ويفهموها، ليكن السؤال والجواب على الوجه الآتي:
ماذا كان الصبي مرة يصيد؟ كان الصبي مرة يصيد الجراد.
ماذا وجد الصبي؟ وجد الصبي عقربا.
ماذا ظن الصبي العقرب؟ ظن الصبي العقرب جرادة.
لماذا مد الصبي يده؟ مد الصبي يده ليأخذها.
لماذا تباعد الصبي عن العقرب؟ تباعد الصبي عن العقرب؛ لأنه عرف أنها عقرب.
ماذا قالت له؟ قالت له العقرب: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد.
وبعد هذه المحادثة يكلفهم أن يحكوا القصة باللغة الصحيحة، ومن أخطأ أرشده وطلب منه أن يعيد العبارة، ثم يكلفهم أن يكتبوها كما حكوها؛ ففي ذلك تمرين على الإنشاء والإملاء معا، ثم ليكلفهم أن يحولوها للمؤنث بأن يقولوا: كانت بنت مرة تصيد الجراد ... إلخ، ثم للمتكلم بأن يقولوا: كنت مرة أصيد الجراد ... إلخ، ثم ليكلفهم أن يكتب كل منهم خمس جمل على مثال: «وجد الصبي عقربا»، مثل: «وجد التلميذ قلما»، «وجد سليم ريشة»، وخمس جمل على مثال: «لو أنك قبضتني لتخليت عن صيد الجراد»، مثل: «لو أنك أسرعت لأدركت القطار»، «لو أنك انتبهت لفهمت كلام الأستاذ»، وما استعصى عليهم تحصيله فليكثر من تمرينهم عليه، وليكثر من التكرار.
ويجب أن يكون في كل درس جديد بعض ما في الدرس الذي سبقه من ألفاظ وتراكيب؛ لتكون الدروس سلسلة يؤدي بعضها إلى بعض. ولما كان العدد في اللغة العربية كثير التفاصيل، وقد قال فيه أحد أدباء العصر:
في النحو لا يقهرني
إلا تفاصيل العدد
فالأولى أن تعلم هذه التفاصيل ويمرن التلاميذ عليها وعلى مميز «كم» الاستفهامية في دروس الحساب، كما قد يعلم غيرها ويمرن عليه في غيره. وإحياء اللغة قراءة وتكلما وكتابة يحتمل كلاما طويلا، ولكن بهذا القدر كفاية.
هذا هو الأسلوب الذي ندعو إليه وللأساتذة الكرام في إيثاره الرأي الموفق إن شاء الله.
قصيدة حافظ إبرهيم في الدستور والدكتور طه حسين1
انتقد الدكتور طه حسين قصيدة حافظ في الدستور بعد أن صدر انتقاده بمقدمة تشف عن أدب رائع وأسلوب رشيق جميل يفتن القارئ، ويغري الكتاب أن يتحدوه، ولست الآن في مقام درس أسلوبه، وإنما غرضي من هذه العجالة أن أعلق كلمة على انتقاده لقصيدة حافظ: أعرف للأستاذ طه حسين مكانته، وأعده مع طائفة من كتاب مصر وأساتذتها أصحاب الكفايات، من أركان هذه النهضة الجديدة في مصر؛ بل في العالم العربي كله. وقد كنا نتطلع دائما إلى ما يكتبه الأستاذ ورفاقه، وكم يتمنى كثيرون لو يستطيعون أن يؤموا مصر ليتلقوا ما يلقيه الأستاذ ورفاقه من الدروس العالية في الجامعة المصرية الزاهرة؛ بل كم كنا نتمنى لو ينشط الأستاذ ورفاقه إلى إنشاء مجلة أو جريدة يعرضون فيها ما تعمقوا فيه وأحاطوا به من علم وفلسفة وأدب وسياسة، فكانت جريدة السياسة الغراء ما نتمنى ...
الجامعة المصرية وجريدة السياسة من أهم ما تحتاجه البلاد في دورها الجديد، وللأستاذ طه حسين فيهما المنزلة العالية.
وبعد، فليسمح لنا الأستاذ أن نبدأ بكلمتنا عن انتقاده.
يظهر لنا من أسلوب الأستاذ في انتقاده أو تقريظه أنه يكتفي بالإشارة إلى مواضع الإساءة أو الإحسان بدون أن يوطئ لقوله ببيان الأصول التي يرجع إليها، مما قد يوهم أنه متحكم وليس هناك تحكم، أو أنه متحامل وليس هناك تحامل، ولست أحمل ذلك منه إلا على أحد أمرين: إما على اعتقاد منه أن القارئ يعرف تلك الأصول؛ فلا حاجة إلى بسطها، وإما على أن المقام أو الوقت لا يتسعان للتبسط فيها، على أنه إذا كان بين القراء من يعرف بعض تلك الأصول، فإن أكثرهم يجهلها أو ليس بينهم من يعرفها كلها، وإذا كان المقام أو الوقت لا يتسعان لبسط تلك الأصول، فما أحرى الأستاذ أن يحيلنا على مراجعها، أو أن يعدنا بالتبسط فيها وهمته عالية. •••
كان علامتنا المرحوم الشيخ إبرهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء يضطر فيما ينتقده على الأولين والآخرين إلى بيان الأصل الذي يرجع إليه إذا كان معروفا، أو إلى بسطه إذا كان من استنباطه واجتهاده، فكان انتقاده دروسا ثمينة في اللغة والأدب. من ذلك أبحاثه الطريفة الطويلة في: «الشعر» و«المجاز» و«اللغة والعصر»، ولا يخفى ما في ذلك من تعزيز انتقاده، وإنصاف الذين ينتقدهم، وإفادة قرائه. وللأستاذ في إيثار هذه الطريقة رأيه العالي. •••
يقول الأستاذ: إن حافظا قد شعر كثيرا فأجاد الشعر وأحسنه، ولكنه لم يذكر شيئا من ذلك الشعر الذي أجاده وأحسنه، ووجه الإجادة والإحسان فيه.
يقول إنه بحث عن الشعر في هذه القصيدة فلم يجد شيئا، فما هو الشعر؟
يقول إن الشاعر قد يرتفع وقد يهوي، فما هي الأحوال التي قد يرتفع الشاعر وتلك التي قد يهوي فيها؟ أو بالأحرى ما هي الأحوال التي علت بحافظ وتلك التي هوت به؟
يقول إن هذا العصر ليس عصرا شعريا، فهل السبب في ذلك الحياة السريعة العملية التي صرنا إليها، أم أن هناك أسبابا أخرى تضاف إلى هذا السبب؟ ثم ما هو ذلك الشيء في حياتنا الاجتماعية الذي يضطر الشعراء إلى السكوت؟ وماذا يكرههم على أن يتكلموا؟
ثم أخذ بعض الأبيات من تلك القصيدة واكتفى بسؤال القارئ: «هل ترى فيها شيئا من جمال الشعر وروعة الفن؟» كيف يكون الشعر جميلا، وكيف يكون الفن رائعا؟ أجل الأستاذ عن أن يحيلنا في إدراك ذلك الجمال وتلك الروعة على الذوق، فإننا نعتقد أن هناك أصولا للجمال وشروطا لروعة الفن، ثم ماذا يعني بالابتذال؟ ومتى يكون الكلام رصينا متينا في غير وحشية ولا ابتذال؟ وهل في قولنا: «طلعت الشمس» و«غاب القمر» و«جاء الرجل» و«ضحك الغلام» ابتذال؟
ثم أخذ قول حافظ:
أيأذن لي المليك البر أني
أهنئ مصر بالأمر الكريم
فقال: «أترى فيه لفظا من ألفاظ الشعر أو معنى من معاني الشعر؟» مما يستفاد منه أن الشعر قد يكون شعرا بلفظه، وقد يكون شعرا بمعناه، وقد يكون شعرا بهما معا، فما هي ألفاظ الشعر؟ وما هو جنس المعاني الذي يكون به الشعر شعرا؟ إلى غير ذلك مما لا نشك أن الأستاذ من أقدر الناس على التبسط فيه، ولعل وقته يتسع له إن شاء الله.
اللغة العربية في نهضتها الأخيرة1
لم تستيقظ الأمة العربية منذ جيل أو أقل من سباتها الطويل، إلا وقد انقطع عهد الألسنة باللغة الفصحى، ولم يبق من صلة بين الأمة والسلف الصالح إلا ألفاظ قليلة تبدلت مقاطعها وتغيرت هيئاتها، وإلا تعبيرات مشوشة مختلة.
ولو أن داعيا دعا في ذلك العهد إلى استبدال اللغة العامية من الفصحى، واعتمادها في الكتابة لم يجد من ينكر عليه ذلك؛ لأن الأمة بأسرها كانت غريبة عن اللغة الفصحى وآدابها، فكيف تتعصب لها وتذود عنها وهي لا تعرفها؟ وفوق ذلك لم يكن التعليم في يدها، بل كان في يد غيرها.
ولكن من حسن حظ هذه اللغة أن جعل التعليم بها، وكان أول ما فعله أولئك الرؤساء الغرباء الكرام أن جمعوا ما وصلت إليه أيديهم من الكتب العربية - وكانت مبعثرة هنا وهناك لا يعرف أحد قيمتها - وأوعزوا إلى من استعانوا بهم من الأساتذة أن يتصفحوها ويستقروا ألفاظها، ويستخرجوا مخبآتها بحيث كانت النهضة لأول عهدها لغوية.
ومن تصفح أول ما وضع من الكتب المدرسية في اللغة والرياضيات والجغرافيا والهيئة والطبيعيات والطب وسائر الفروع؛ رأى من صنع أولئك المؤلفين أنهم حرصوا كل الحرص على اقتباس ألفاظ القدماء العلمية والفنية، ومع تقصيهم في التنقيب والاستقراء لم ينزلوا من اللغة العربية منزلة أهلها؛ بل كانوا منها مكان الغرباء عنها، عرفوا الشيء الكثير من ألفاظها وتراكيبها وأحكامها، ولكنهم لم يحسنوا استعماله واستثماره، فكنت ترى كتاباتهم خليطا من الفصيح والركيك، والجيد والرديء، فالفصيح والجيد مما ينسخونه، والركيك والرديء مما يمسخونه؛ بل ما كان أشبه اللغة الفصحى عندهم باللغة اللاتينية أو اليونانية عند الغربيين اليوم؛ يأخذون منهما ألفاظهم العلمية والفنية وهم غرباء عنهما، وهما ميتتان عندهم.
لم يكن هناك علم لغة أو أدب أو شعر؛ إذ لم يكن اللغوي لغويا إلا على قدر ما يعي في صدره من ألفاظ اللغة وغرائبها وشواردها، فكان أشبه بالحفاظ والرواة منه بالعلماء، ولم يكن الأديب أديبا إلا على قدر ما يغير على ألفاظ المتقدمين فيسردها سردا ويكيلها جزافا، فكان أبرعهم في الأدب من إذا كتب في موضوع نسخ كل كلمة فيه من كلام متقدمي الأدباء والكتاب، ولو سلخ في تفقد اللفظة والتفتيش عنها في مظانها الأسبوع والأسبوعين، فإذا أراد أن يقول: «رجع فلان خائبا» قال: «رجع بخفي حنين»، وإذا أراد أن يقول: «ليس لفلان في الأمر دخل» قال: «لا ناقة له فيه ولا جمل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا استقصى أطراف علم كذا» قال: «ملك عنانه وقياده ورسنه» و«له فيه القدح المعلى»، و«إليه تشد الرحال وتضرب أكباد الإبل»، وإذا أراد أن يقول: «إن هذه المسألة لا يختلف فيها اثنان» قال: «لا ينتطح فيها عنزان»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا يشبه فلانا» قال: «حذوك التمرة بالتمرة، والقذة بالقذة، والغراب بالغراب، والنعل بالنعل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا منقطع النظير» قال: «فلان قريع وحده» إذا مدح، و«جحيش وحده» إذا ذم، وإذا هنأ بزواج قال: «بالرفاء والبنين»، وإذا رثى قال: «انقض علي نعي فلان انقضاض الصاعقة» و«ثل بموته عرش المجد ونضب معين الأدب»، وإذا وصف قوما بالإطراق والتفكير، قال: «كأن على رءوسهم الطير»، إلى غير ذلك.
والكلمة التي لا يعرف لها قائلا لا يتنازل إلى استعمالها ولو وردت في كل معجمات اللغة؛ بل كان من الأدباء ولا يزال منهم إلى اليوم من إذا أراد أن يستعمل كلمة بحث عن عمرها فإذا لم يرب على ألفي سنة أو ألف على الأقل فلا يستعملها؛ بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم من إذا جاء بكلمة أتبعها بمرادفاتها على غير اقتضاء ولا مناسبة؛ تبجحا بكثرة محفوظه وسعة معرفته. وقد وقع في يدي من عهد قصير كتاب لكاتب من أمثال هؤلاء الكتاب لم ترد فيه كلمة إلا ومرادفاتها معها، من ذلك قوله: «فلان قصي مدى البصر بعيد مرمى النظر»، وقوله: «لسنا بغاة نصفة ولا عفاة معدلة»، وقوله: «لم نر إلا رجلا مغشيا بالغل محنيا على الضغينة»، بحيث لو حذفت المترادفات منه لم يبق منه إلا الربع أو الخمس أو أقل، بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم من أولع بالغريب، فإذا رأى أن كلمة «ورق» مثلا شائعة معروفة استعمل كلمة «قرطاس»، فإذا شاعت استعمل كلمة «كاغد»، فإذا شاعت استعمل كلمة «مهرق»، فإذا شاعت ولم تبق لديه أو في اللغة كلمة غريبة بمعناها؛ تحاشى الكلام في موضوع له علاقة بالورق؛ بل قد يهجر الكتابة بتاتا إذا كلف أن يكتب بلغة الناس ... وقد بلغ من تهافت كاتب في مصر في الجيل العشرين على الغريب أنه قال في كتاب ترجمه عن الإفرنسية: «خريت سبروت هذه الفكرة هو فولتير» أي: صاحب هذه الفكرة هو فولتير.
أعوذ بالله وأعيذ اللغة العربية من مثل هذا، فأنت ترى أن الأديب كان أشبه بالناسخ بل بالماسخ منه بالأديب.
لم يكن الشاعر شاعرا إلا إذا قلد المتقدمين من الشعراء في المديح والهجاء والتشبيب والرثاء وغير ذلك من أبواب الشعر في ألفاظهم وأساليبهم، فكان أشبه بالوزان منه بالشاعر؛ بل بالصدى منه بالصائت المحكي.
وعلى الجملة لم يكن هناك علماء وأدباء وشعراء بل حفاظ ورواة ونساخ ووزانون، وكلهم مقلدون، والتقليد كما رأيت لا يكون في أوله إلا مشوشا ثم يصير إلى الإجادة والإتقان، وقد رأينا من الكتاب في العهد الأخير ولا تزال منهم طائفة إلى اليوم من إذا كتبوا أحسنوا التقليد وجروا على مناحي العرب، كأنهم من سلالة صاحب الأغاني أو العقد الفريد أو الكامل، أو كأنهم الجاحظ وابن المقفع والزمخشري وبديع الزمان الهمذاني والحريري بعثوا في هذا العصر.
ولكن التقليد تقليد؛ سواء أكان مشوشا أم متقنا، والمقلد مهما أجاد وأتقن فإنما هو غريب دخيل، وما زمن التقليد في حالتي التشويش والإتقان إلا زمن تعلم وتحصيل لا زمن ابتكار واستثمار.
وقد كان من فائدة هذا التقليد أن تجدد عهد الفصاحة، ولعمري إنها لفائدة عظيمة يستحق عليها كل من اشتغلوا باللغة الثناء الطيب ولو كانوا مقلدين، لم تكن للأمة لغة فصارت لها لغة، وإنها للغة غنية، ولم تكن لها أدبيات فصارت لها أدبيات، وإنها لأدبيات راقية، وما إحياء لغة انقطع عهد الألسنة بها منذ أمد بعيد، وما إحياء أدبيات كاد يعفيها الزمان؛ بالمطلب السهل الذي يتم في زمن قصير مثل هذا الزمن الذي مضى منذ أول هذه النهضة إلى اليوم، لولا همة أولئك الأبطال زعماء النهضة، وما رزقوا من الذكاء والجلد، وهيهات أن يجود الزمان بمثلهم، يكفيهم فضلا أنهم وصلوا ما انقطع من سلسلة نسبتنا إلى السلف الصالح، وأنزلونا منهم منزلة الأبناء من الآباء، بعد أن كنا أدعياء لا أصل لنا ولا فصل. ولم يبق لنا بعد أن اجتزنا دوري التقليد - أي دور التشويش ودور الإتقان - إلا أن ننزل من اللغة منزلة أبنائها منها.
فعالم اللغة اليوم لا تقاس معرفته بما وعى من ألفاظ اللغة وشواردها وغرائبها، ولكن بما عرف من أصولها وخصائصها، والأديب ليس ذلك الذي إذا كتب استعار ألفاظ غيره؛ سواء أرادها أم لم يردها، ناسبته أم لم تناسبه، ولكن هو الذي يتصرف بألفاظ اللغة كما كان يتصرف بها أبناؤها، فكل كلمة يقولها هي له تترجم عما في نفسه. والشاعر ليس ذلك المقلد الوزان، ولكنه هو الذي يصدر فيما يقوله عن وحي طبعه وإلهام خياله، يتحكم بلفظه لا يتحكم لفظه به ... ويسرنا أن نقول إن في مصر اليوم من أنصار هذا المذهب الجديد عددا ليس بقليل، ونمسك القلم عند هذا القدر ولعلنا أطلنا.
كتاب الكامل وبعض كتاب هذا العصر
قال ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفرع منها.»
لست أقصد أن أبين لك ما هو الأدب في عرف ابن خلدون وشيوخه، وإنما أقصد أن أبين لك أسلوب كتاب الكامل ثم ما بينه وبين صحفنا وكتبنا من شبه أو اختلاف.
ترى في كتاب الكامل صرفا ونحوا ولغة وشعرا وأخبارا، وما تراه في كتاب الكامل تراه في غيره من دواوين الأدب التي أشار إليها ابن خلدون مع اختلاف قليل فيما يروونه. ولكن كتاب الكامل وأشباهه من الكتب القديمة ليست من أمهات الكتب في الصرف والنحو واللغة والشعر والأخبار، وإنما هي تعاليق على هذه الأبواب كلها، قد تستفيد منها ولكنك لا تكتفي بها ... وكان الأولى أن يكون كل نوع منها حواشي على كتبه الخاصة به، أي أن تضم الأبحاث الصرفية إلى كتب الصرف، والأبحاث النحوية إلى كتب النحو، والأبحاث اللغوية إلى كتب اللغة، وأن يرد كل شعر إلى ديوان قائله، وأن تضم الأخبار إلى كتب الأخبار إذا كانت في هذه الحواشي والتعاليق استدراكات مفيدة خلت منها أمهات كتبها، وإلا فإن هذه الأبحاث المقتضبة غير المستوفاة قليلة الفائدة، فإنك إذا قرأت كتاب الكامل من أوله إلى آخره فلا تخرج منه صرفيا ولا نحويا ولا لغويا ولا يقضي حاجتك كلها ما يرويه من الشعر وما يقصه من الأخبار، ولا بد لك في استيفاء حاجتك من ذلك كله أن ترجع إلى كتبه الخاصة به.
ومن يقرأ صحفنا الراقية وبعض ما يظهر بين آن وآخر من الكتب ير أنها أشبه بكتاب الكامل من حيث الأسلوب فهي ليست إلا تعاليق في كل فن وعلم ومطلب، قد تستفيد منها ولكنك لا تجد حاجتك كلها فيها، تبحث في الأدب والعلم والفلسفة والاقتصاد وغير ذلك ولكنها كلها أبحاث مقتضبة غير مستوفاة ولا مشبعة، وقل بين كتابنا - مهما أحاط بموضوعه - من يستطيع أن يفرغ كل ما يمكن أن يعلم عن ذلك الموضوع في مقاله ... وما رأي كتابنا وأدبائنا لو كلفوا أن يجعلوا من مقالاتهم ورسائلهم التي ينشرونها في الصحف أو يجمعونها في كتاب برأسه محاضرات وأباحوا للسائلين أن يسألوا، أفلا يضيقون ذرعا بما يتوارد عليهم من السؤالات والاستيضاحات؟ أو لا يضطرون أن يتوسعوا في البحث بما يكون توطئة له أو استدراكا عليه أو تعمقا فيه؟ مما لا تحسب معه رسائلهم المنشورة وكتبهم المجموعة إلا شيئا يسيرا لا يغني القارئ كثيرا؛ بل قد يشوش عليه الأمر ويستدرجه إلى اعتياد الإلمام بكل موضوع والاكتفاء منه بنتف يتناولها بإمرار النظر ... وما قولهم لو أرادوا أن يضعوا كتابا برأسه في كل موضوع من الموضوعات التي يتعرضون لها في الصحف، أفلا يرون أنفسهم أنهم لا يكتفون بما كتبوا؟ أو لا يجدون أن ما كتبوه ليس إلا شيئا يسيرا مما يجب أن يكتب؟ وأن هذه الفصول التي يكتبونها قد لا يجدون لها محلا مخصوصا في كتبهم؛ لأنها ليست فصولا قائمة بنفسها.
وقد رأينا من كتابنا من يعتذر عن اضطراره إلى الإيجاز أو الإجمال أو الاقتضاب، واكتفائه بالإلماع وسكوته عن شيء كثير مما كان يجب أن يقال، بأن الصحف لا تحتمل التعمق والإشباع والإحاطة وإرضاء الكاتب والقارئ، وأنه حسبه مما يكتب أن يسرك ويبعث في نفسك الشوق إلى طلب المزيد ... ولكن إنما يجوز ذلك إذا كان هناك كتب يرجع إليها في اللغة العربية.
نحن - معشر القراء - في احتياج إما إلى كتب في هذه الأبحاث، وإما إلى عناية من الكتاب في إفراغ كل ما يعلمونه في مقالة برأسها، أو في سلسلة مقالات تجمع أشتات ذلك الموضوع وتحيط بأصوله وفروعه ولا تترك حاجة في نفس الكاتب والقارئ. ولعل الفرق بين كتاب الكامل وما نقرؤه في صحفنا وكتبنا اليوم أن لأبحاث كتاب الكامل أمهات يرجع إليها، فإذا شوقك إلى الاستزادة وجدت من الكتب ما يقضي حاجتك، وأما ما يكتبه كتابنا وأدباؤنا فلا مرجع له في اللغة العربية، قد تسر بما يكتبون، وتتشوق إلى الاستزادة، فلا هم يزيدونك ولا كتاب يحيلونك عليه.
لغة الجرائد1
مع انتشار صناعة القلم، وإحسان الكثيرين من كتابنا الألباء ملكة اللغة، وإتقانهم علوم اللسان، لا نزال نرى حتى في كلام الراسخين في اللغة والإنشاء شذوذا عن القياس أو السماع في ألفاظ اللغة وأحكامها وتعلقا بأساليب وتراكيب لا يحكمها طبع، ولا يعينها ذوق، ولا تلائم الحياة، ولا تنطبق على ما تقتضيه الحالة، مما تدعو معه الحاجة إلى أن يكون هناك من الجهابذة المحققين من يتفرغ لإصلاح الخطأ، والإهابة بالكتاب إلى اتباع المنهج السديد ... فإن الاستمرار على ذلك والتهاون به مما يفسد اللغة ويذهب برونقها.
فهل لجريدة السياسة الغراء أن تعنى بسد هذه الحاجة ورأيها موفق وهمتها عالية. •••
ولعل القارئ الكريم يذكر أن علامتنا المرحوم الشيخ إبرهيم اليازجي صاحب مجلة «الضياء» كان أول من تصدى للتنبيه على الغلط، فأنشأ في ذلك الفصول الطوال في مجلته في لغة الجرائد، وفصولا أخرى في أغلاط العرب وأغلاط المولدين؛ مما يجدر بكل أديب الرجوع إليه والاستبصار به. وقد مات - رحمه الله - وفي نفسه حزازات من لغة الجرائد، كما مات قبله الفراء وفي نفسه شيء من «حتى». وقد حاول المجمع العلمي في دمشق في المدة الأخيرة أن يخلفه فلم يزد على تكرار ما قاله، وكان الأولى به أن يعيد نشر مقالات شيخنا اليازجي ويكفي نفسه مئونة هذا العناء.
ومن العجب أن ترى الأغلاط التي نبه عليها لا تزال متفشية إلى اليوم. •••
وهنا أتطفل على القارئ الكريم بإيراد شيء - على سبيل المثال - من تلك الأغلاط التي لا يخلو منها كتاب أو جريدة، وبذكر بعض تلك التراكيب والأساليب التي أرى أن الأجدر بنا أن نتجافاها، ولا سيما ونحن ندعي أن اللغة العربية لغتنا، وأننا نزلنا منها منزلة أبنائها، وأترك التبسط في ذلك كله إلى أربابه.
من تلك الأغلاط قولهم: «فلان كفؤ لهذا الأمر» أي: أهل له أو قوام به، وهو من ذوي الكفاءة بالهمز، وإنما الكفؤ النظير، تقول: هو كفؤ لفلان أي: معادل له، والكفاءة المصدر من ذلك، تقول: لا كفاءة بيننا. وأما المعنى الذي يريدونه فهو من معاني «كفى» المعتل، يقال: استكفيته أمر كذا أي: كلفته القيام به فكفانيه، وهو كاف لهذا الأمر وكفي له أي: قوام به، وهو من أهل الكفاية.
وقولهم: «أمكن له أن يفعل كذا، ولا يمكن له أن يفعل كذا» يعدونه باللام وهو متعد بنفسه.
وقولهم: «عودته على الأمر وتعود عليه واعتاد عليه »، والصواب حذف الجار في الكل.
وقولهم: «أمر هام» بصيغة الثلاثي، والأفصح: «مهم» بالرباعي.
وقولهم: «هل سنفعل كذا؟ وهل سيؤدي هذا إلى كذا؟» يريدون النص على الاستقبال في الفعل فيأتون بالسين بعد «هل»، وهو خطأ؛ لأن «هل» إذا دخلت على المضارع خصصته للاستقبال مثل السين، وحينئذ يجتمع حرفان لمعنى واحد، والصواب حذف السين.
وقولهم: «هل لا يجوز أن يكون الأمر كذا؟ وهل لم تزر زيدا؟ وهل ليس عمرو في الدار؟ وهل إذا فعلت كذا كان كذا؟» فيدخلون «هل» على النفي والشرط، والصواب استعمال الهمزة في كل ذلك.
وقولهم: «حديث مستفاض»، ومنه قول أبي تمام:
صلتان أعداؤه حيث كانوا
في حديث من عزمه مستفاض
والصواب: حديث مستفيض أو مستفاض فيه.
وقولهم: «سواء عليه فعل كذا أو كذا»، والصواب: فعل كذا أم كذا، وقد لحن في «المغني» قول الفقهاء: سواء كان كذا أو كذا.
وقولهم: «قرأت هذا في صحيفة كذا من الكتاب»، يعنون الصفحة، وهي أحد وجهي الصحيفة، وإنما الصحيفة الورقة بوجهيها، ومنه قول السياسة وغيرها «صحيفة الأدب» و«صحيفة السيدات» وليس هناك إلا صفحة واحدة.
ومن ذلك تأنيث البلد، وأبشع منه تأنيث الرأس، والصواب التذكير فيهما، ومنه تذكير السن والصواب تأنيثها، ومنه «رجل عجوز» ولفظة «عجوز» من الصفات الخاصة بالمرأة، إلى غير ذلك مما ليس من غرضنا تتبعه وتعداده من إنزال الكلمة في غير منزلها، واستعمال صيغة في موضع صيغة أخرى، أو حرف جر في موضع حرف جر آخر، مما نراه كل يوم في جرائدنا حتى في أكبرها وأرقاها، ولا يجوز السكوت عنه.
أما التراكيب التي ورثناها عن الأجيال الماضية ولم يبق مسوغ لها في عصرنا هذا؛ إما لهجنتها، وإما لأنها لا تنطبق في شيء على حياتنا، فكثيرة.
من التراكيب المستهجنة قولهم: «رفع فلان عقيرته» أي: صوته، والعقيرة: الساق المقطوعة، وليس في هذه المادة ما يدل على الصوت، وإنما الأصل في ذلك أن رجلا قطعت إحدى ساقيه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ، فقيل بعد لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته.
ومن ذلك قولهم: «كأن على رءوسهم الطير» أي: ساكنون هيبة، وأصله فيما يزعمون أن الغراب يقع على رأس البعير فيلقط منه القراد فلا يتحرك البعير؛ لئلا ينفر عنه الغراب ، وغير ذلك ... ومن التراكيب التي لا تنطبق على حياتنا قولهم: «ألقى فلان عصا التسيار» و«فلان تشد إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الإبل»، و«ملك عنان الأمر وقياده»، و«له فيه القدح المعلى»، وهل للعصا والرحال والإبل والأعنة والمقاود والقداح دخل في حياتنا؟
يقولون إن اللغة مرآة الأمة، وسجل تاريخها، وصورة أحوالها في كل أدوارها، بحيث إن من تفقد ألفاظها، وتدبر معانيها واستقصى تاريخها، وجد فيها آثارا تدل على ماضي الأمة وتطورها من حال إلى حال، كما تدل الأحافير والعاديات على حالة الأمم الغابرة. ولكن ما لنا لا نزال نستعمل لغة البداوة، وقد انفسح بيننا وبينها الأمد، وانقطعت بيننا كل صلة؟! وإذا تفقد الناس في المستقبل البعيد لغة هذا العصر أفلا يقولون إننا كنا في الجيل العشرين عصر الحضارة الراقية عصر السيارات والترامات والطيارات والسكك الحديدية بدوا رحلا، وافقنا الوحش في سكنى مراتعها، وخالفناها بتقويض وتطنيب كما قال المتنبي؟!
لا تكون لغة حية إلا إذا انطبقت على حياة الأمة التي تستعملها، وما استعمال لغة البداوة في عهد الحضارة إلا من قبيل إنزال الشيء إحلال غير محله.
ثم إن هناك تراكيب أخرى لاكتها الأفواه حتى كادت تمجها، ومع ذلك لا نزال حريصين على استعمالها، لا نتحول عنها يمنة أو يسرة، من ذلك قولهم: «نشد فلان ضالته»، و«هذه هي الضالة المنشودة»، و«فلان يصيد في الماء العكر» و«تلك حال تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور»، و«مزق فلان فروة فلان ونحت أثلته» مما أجتزئ منه بهذا القدر.
أما الأساليب فيحتاج الكلام عنها إلى مقالة برأسها نرجئها إلى فرصة أخرى.
تطور الصحافة
2
إن صحافة كل أمة تابعة لها، لا تجد صحافة راقية في أمة منحطة، ولا تجد صحافة منحطة في أمة راقية. ومن قابل صحافة اليوم بما كانت عليه إلى عهد قريب رأى أنها قد دبت فيها الحياة، وأخذت تترقى يوما فيوما تبعا لنهوض الأمة وتطورها.
وهذه بعض الوجوه التي تتميز بها صحافة اليوم عما كانت عليه قبله: (1)
نزل إلى ميدان الصحافة كبار الناس أصحاب الجاه العريض والثروة الطائلة من زعماء السياسة، يستعملونها للتبشير بمذاهبهم، ينفقون عليها عن سعة، فصارت أكثر الصحف تعيش على أصحابها، بعد أن كان أصحابها يعيشون عليها؛ بل يبتذلونها في سبيل التعيش والتكسب، فأثرى القليلون، وأدركت الكثيرين حرفة الأدب. (2)
جعلت الصحافة تعنى بالعلم والأدب عنايتها بالسياسة، فكانت السياسة سببا لترويج العلم والأدب، وكان العلم والأدب سببا لترويج السياسة، فهي أول وهما المحل الثاني أو هما أول وهي المحل الثاني.
وقد كانت جريدة السياسة الغراء في طليعة هذا الدور، فهي تعيش على أصحابها، وفيهم أصحاب الجاه العريض والثروة الطائلة، وهي تبحث في السياسة والعلم والأدب والاجتماع وغير ذلك، وفيها من الكتاب من أصحاب مذهبها من انتهت إليهم الرياسة في صناعة القلم؛ مما اضطر غيرها إلى متابعتها فاختارت هذه الدكتور منصور فهمي، وغيرها المازني، وغيرها العقاد، وخصصت بعضها صفحة في الأسبوع للأدب، وأخرى للألعاب الرياضية، وأخرى لغير ذلك. فنهضت الصحافة بأولئك الزعماء وهؤلاء الكتاب إلى مستوى راق تتراجع دونه سوابق الهمم ... كان الكاتب الواحد يتولى بنفسه كتابة الجريدة من أولها إلى آخرها، فيضطر إلى السرعة ويرضى بما يجيء لا بما يجب، وإذا تولاه الفتور أو أخذه الإعياء شغل القسم الأكبر من جريدته بفضول القول ومستهجن البحث، فصار اليوم لأكثر الجرائد كتاب عديدون، قد لا يصيب الواحد منهم في الأسبوع غير مقالة واحدة يتبسط فيها ما شاء علمه وأدبه.
وكانت الجريدة الواحدة لا تعنى إلا بالسياسة على غير علم ولا حنكة فتبرم قراءها، فأصبحت اليوم معرضا لشتى الأغراض مما ينفع الناس ويهمهم الاطلاع عليه.
كانت أكبر جريدة قبل اليوم ذات أربع صفحات يشغل القسم الأكبر منها الإعلانات، فأصبحت اليوم ذات ثماني صفحات كبيرة لا تشغل الإعلانات منها قسما كبيرا.
وأما القراء فقد كانوا قبل اليوم يكتفون من قراءة الجريدة بإمرار النظر، ولا يقرءون شيئا إلا أدركهم الضجر، فصاروا اليوم يراقبون وقتها مراقبة المشوق المستهام، ولا يقرءونها إلا بتدبر واهتمام، ولو كانت سياستها على غير مذهبهم، ولعل الناس لا يقرءون اليوم غير الجرائد.
ولا بد أن يقل عدد المتطفلين على الكتابة بعد اليوم، ولا بد أن يرتقي ذوق القراء فلا تقرأ جريدة لا يشترك في كتابتها صاحب كفاية.
لن يكتب بعد اليوم في السياسة إلا الاختصاصي في السياسة، ولن يكتب في الأدب إلا الاختصاصي في الأدب، ولن يكتب في العلم إلا الاختصاصي في فرع من فروعه، ولن يكون صاحب كفاية إلا مقدورا قدره.
ومتى كان أصحاب الكفايات وكبار السن هم أساتذة الأمة وزعماءها، سارت في طريقها على هدى إلى الأحسن والأعلى، إلا أن هناك موضع نظر لا بد من الإشارة إليه استيفاء للحديث.
يظهر أن الصحف اليومية على ارتقائها لا تحتمل متابعة البحث في موضوع واحد أو التقصي فيه، ومن تتبع آثار الأستاذ طه حسين في جريدة السياسة الغراء، رأى أنه طرق أبحاثا كثيرة طريفة لم يسبقه إليها أحد في اللغة العربية، وكلها تشف عن بصيرة نيرة وعلم نضيج؛ بل تدل على أنه أكتب مما يكتب وأعلم مما تقرأ له، لا تقرأ له شيئا إلا تركك تشعر أن الذي قرأته ليس إلا قليلا من كثير، على حين لا تكاد تقرأ شيئا لكثيرين غيره إلا شعرت أن ما قرأته هو كل ما عندهم؛ بل أكثر مما عندهم؛ بل قد تشعر أنهم قد عدوا طورهم وتعرضوا لما ليس من شأنهم أو اختصاصهم، وأنه كان الأولى بهم أن لا يتعرضوا له.
ولكن الأستاذ على إعجاب القراء بكل ما يكتب، وتطلعهم إلى المزيد منه، لا يكاد يتناول بحثا إلا طواه إلى غيره فغيره، ولا يعود إلى بحثه الأول إلا بعد أن يعتقد القراء أنه لن يعود إليه، وقد يكتفي من البحث بما لا يرضيه، وعذره أنه يكتب في صحيفة يومية، فلو ألف كتابا أو كتب في مجلة علمية لكانت أبحاثه أوفى، مما يجوز معه أن يقال إن العلم في الصحف اليومية هو في المحل الثاني، وإن السياسة هي في المحل الأول. وإن الصحافة لم تعن بالعلم إلا خدمة للسياسة، إغراء للقراء على اختلاف مذاهبهم بالإقبال عليها ، واستدراجا لهم من حيث يشعرون ولا يشعرون إلى انتحال مذهبها. ولم يكن هذا التنقل في البحث على غير استيفاء ولا استقصاء إلا لأنه أشوق للقراء وأدعى لاهتمامهم، فيكون مثل الصحافة اليوم مثل المبشرين بالدين يؤسسون المدارس ويقيمون المستشفيات ويعنون بالألعاب الرياضية، لا للتعليم ولا للعناية بالمرضى ولا لترويج الألعاب الرياضية، ولكن تذرعا بذلك كله إلى نشر الدعوة.
إن استخدام العلم للسياسة ينفع السياسة، ولكن لا يرقي العلم بل يحط من شأنه.
لتشتغل الصحافة بالسياسة، وليدع كل إلى مذهبه، ولكن لتعط العلم والأدب حقهما، ولتجلهما عن أن يكونا وسيلة في يد السياسة.
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (1)1
أرجو من القارئ الكريم أن يعير هذه «المراجعات» التي دارت بيني وبين الأمير شكيب أرسلان - أحد أركان النهضة وأكبر زعماء الأدب في هذا العصر، حول المذهبين القديم والجديد في الكتابة - جانب اهتمامه. ***
تتطور اللغة في ألفاظها وأساليبها تطورا مستمرا في تؤدة وخفاء، فلكل عصر، بل لكل إقليم في كل عصر، لغته وأسلوبه، حتى إنك لتستطيع أن تعرف القول من أي عصر أو من أي إقليم هو، وإن كنت لا تعرف قائله، وإذا كنت ممن أولعوا بالأدب العربي فلا بد أن تكون قد رأيت آثار هذا التطور في كل عصر وكل إقليم.
وقد كان هذا التطور في العصور العريقة في القدم، أيام كانت الأمة الواحدة تنقسم إلى قبائل متعادية، تعيش في أقاليم مختلفة في الخصب والجدب، والاعتدال والانحراف، والشدة والرخاء، وما إلى ذلك من اختلاف المجاورات والحالات الروحية والعقلية والاجتماعية والسياسية، سببا لتفرع اللغات بعضها من بعض. تنقسم به اللغة إلى لهجات، ثم تستقل كل لهجة لغة بنفسها. كما ترى آثار هذا الاختلاف لعهدنا هذا في اللغتين المحكية والمكتوبة، فإن لكل إقليم من الأقاليم العربية لغة محكية ولغة مكتوبة تخالفان ما لغيره كثيرا أو قليلا، واللغتان خاضعتان للتطور المستمر، فلغتا مصر المحكية والمكتوبة اليوم غيرهما قبله، وكلتاهما غير لغتي سوريا، من أمثلة ذلك في اللغة المحكية أنهم يسألون في فلسطين إذا لقي الواحد الآخر عن حاله، وفي دمشق عن لونه، وفي مصر عن زيه، وفي لبنان عن خاطره. وقد كان الناس قبل هذه النهضة الأخيرة، قبل انتشار لغة المدرسة، ولغة الصحافة، ولغة التمثيل، ولغة الغناء، لو سار السوري في مصر، أو المصري في سوريا، لسار بترجمان؛ بل لو تغيب السوري أو المصري عن بلاده إلى بلاد لا يسمع فيها لغته لعشرين سنة أو أقل، ثم رجع إلى بلاده لرأى من تطور اللغتين المحكية والمكتوبة فيها ما لم يكن له به عهد، وما يحس معه أنه أصبح غريبا في قومه.
ومن أمثلة ذلك في اللغة المكتوبة أن السوريين يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ك «سيف» و«أسياف»، وقد شاع هذا الجمع في سوريا ومصر دهرا طويلا، ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعون هذه اللفظة على «ميول» ك «سيف» و«سيوف»، وكلا الجمعين صحيح. ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.
ومن ذلك أن السوريين يقولون: «بحث عن الأمر أو في الأمر»، ولكن رأينا كثيرين من كتاب مصر يقولون: «بحث الأمر» بدون حرف جر.
ومن ذلك أن السوريين يقولون: «سمى فلان ولده كذا» على وزن «فعل» بتشديد العين، ولكن المصريين عدلوا في الزمن الأخير عن وزن «فعل» إلى وزن «أفعل»؛ فهم يقولون: «أسمى فلان ولده كذا»، وكلا الوزنين صحيح، وقد استعمل المتنبي وزن «أفعل» في قوله:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
ولكن وزن «فعل» أشهر.
ومن ذلك لفظة «فحسب»
2
فإنها درجت في هذه الأيام على ألسنة المصريين فتابعهم في استعمالها بعض السوريين، وقد كانوا يستعملون لفظة «فقط».
ومن ذلك النسبة إلى «طبيعة وبديهة»؛ فإن السوريين يقولون فيهما: «طبيعي وبديهي»؛ جريا على الاستعمال دون القياس، وأما المصريون فجعلوا يقولون: «طبعي وبدهي»؛ جريا على القياس دون الاستعمال .
ومن ذلك أن السوريين يقولون: «تمدن الرجل» أي: تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة، أما المصريون فيقولون في ذلك: «تمدين». (راجع القاموس)
وهناك ألفاظ وتعبيرات كثيرة انفرد بها أحد الفريقين دون الآخر، مما تستطيع معه أن تعرف القول هل هو سوري أم مصري؛ بل قد تعدى هذا الاختلاف لغة الأدب والصحافة إلى لغة العلم، فإذا قابلت كتب سوريا في الطبيعة أو الكيميا أو الحساب أو الجغرافيا أو غير ذلك بكتب مصر رأيت أنه يكاد يكون هناك لغتان، ولولا وحدة الأصل، واعتبارات كثيرة تربطنا بذلك الأصل فلا نخرج عنه إلا رجعنا إليه؛ لاتسعت مع الأيام شقة الاختلاف إلى أن تصبح اللغة العربية لغتين لا تكادان تتشابهان في شيء.
هذا في اللغة، وأما الأساليب فهناك مذهبان: مذهب قديم ومذهب جديد، وإني أحاول هنا أن أشير إلى الفرق بين المذهبين على قدر ما تعين عليه البصيرة الضعيفة.
مما أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار، والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها، فإذا قالوا: «تمادى الرجل في ضلاله» قالوا: «ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه»، وإذا قالوا: «أحزنني هذا الأمر» قالوا: «وشجاني وأمضني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي»، وإذا قالوا: «سرني أمر كذا» قالوا: «وأفرحني وحبرني وأبهجني وأبلجني وأثلج صدري».
وهنا أستأذن القارئ الكريم بتقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكاتب كبير قال:
يا إخواننا إن الصارخة القومية، والنعرة الجنسية، قد بدأت في الأقوام، ونشأت مع الأمم، مذ الكيان ومنذ وجد الاجتماع البشري، وتساكن الإنسان مع الإنسان»، وقال: «مهما انتبذ لنفسه مكانا منزويا، وتنحى جانبا معتزلا»، وقال: «مهما ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار»، وقال: «وإن هذه النعرة الجنسية والحمية القومية وإن عم أمرها جميع الأمم، ولم يخل منها عرب ولا عجم، فقد اختص منها العرب بالشقص الأوفر والحظ الأكمل» فتأمل.
وسبب ذلك إما قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية، وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبا نحريرا. أو
3
أن يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العرب من الترادف لضرورة؛ كقول الشاعر: «فألفى قولها كذبا ومينا» أو تقليدا لأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، ولكن أحمد فارس لم يأت بالمترادفات لأنه يذهب إلى هذا النوع من الكتابة، وإنما أراد أن يضع كتابا في المترادفات ككتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، فبدلا من أن يسرد المترادفات لغير مناسبة أتى بها في سياق كلام، على اعتقاد منه أن ذلك أشوق للقارئ ... ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي، أو غير عربي، أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر. •••
الكلام ثلاثة أنواع: إما أن يكون مساويا للمعنى المراد لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، وهو المساواة، وإما أن ينقص عنه، وهو الإيجاز، وإما أن يزيد عليه، وهو الإطناب. أما المساواة فمقبولة مطلقا، وأما الإيجاز والإطناب فلهما مواطن وشروط نص عليها البيانيون، وليس فيما نصوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلا.
وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز، وأنهم يكرهون التطويل الممل؛ بل إن عندهم نوعا من الحذف يقال له «الاكتفاء»، فبدلا من أن يقولوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قالوا: «لا حول ولا» ومنهم من يختصر هذه أيضا فيقول: «لا ولا» ... فما قولك في عصر كادت تتغلب فيه لغة التلغرافات؟! فلو كان الكاتب يدفع ثمن كل كلمة يقولها لما سلك من طرق الأداء إلا أخصرها وأوضحها، ولو كان ينقد عن كل كلمة يقولها لما وجد من يشتري له قولا.
بل نحن في عصر تغلبت فيه روح الاقتصاد، فإذا لم يراع الكاتب الاقتصاد فيما يكتبه - في وقته ووقت القارئ - لم يجد من يقرؤه .
بل نحن في عصر المعنى فيه الأول واللفظ المحل الثاني، وبعبارة أخرى إذا لم يرتكز الأدب فيه على العلم فلا قيمة له.
لكل مقام مقال1
بينما أنا أسرح الطرف في صحيفة الأدب من «السياسة» الغراء إذ وقع نظري على مقالة لأحد أدباء فلسطين، عنوانها: «تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها»، وهو موضوع طالما نازعني إليه خاطري وشعرت بافتقار الأدب العربي إلى بحث واف بمكانه؛ إذ كان كل دور من أدوار اللغة العربية - سواء كان دور الجاهلية والمخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده - لا يخلو من ديباجة خاصة تظهر على ألسن خطباء ذلك الدور وأقلام كتابه، وإن كان النصاب الأصلي للغة لا يزال واحدا.
ولم ينحصر اختلاف الأسلوب وتداول طائفة خاصة من الألفاظ بالأدوار والأعصار؛ بل إنك لتجده بين الأقاليم والأمصار، فللأندلس منزع يعرفه من ألف مطالعة كتب ذلك القطر، ولليمن مذهب لا يشبه مذهب المنشئين في العربية من فارس في كثير من الأمور، ولمصر لهجة خاصة يعرف الناقد البصير منها نسبة مؤلف الكتاب ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك من ألف ليلة وليلة، وللشام أسلوب يختلف شيئا عن أسلوب أهل مصر في الكتابة وكثيرا في الحديث، كما أن للعراق نمطا غير نمط الشام ومصر وهلم جرا، ولعلنا نلم بهذا الموضوع في وقت آخر.
ولقد أمعنت النظر في مقال «تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها» فوجدت الكاتب الأديب صاحبها أتى بشيء منه وأصاب بعض شواكله، ولكنه خرج فيه أحيانا عما هو من باب تطور اللغة باختلاف الأعصر والأمصار إلى ما ليس منه؛ كتمثيله لهذا التطور بقوله إن السوريين كانوا يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ك «سيف وأسياف»، وقد شاع هذا الجمع في مصر وسورية دهرا طويلا ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعونه على «ميول» ك «سيف وسيوف»، وكلا الجمعين صحيح، ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.
والحقيقة أن ليس هذا العدول عن «أميال» إلى «ميول» أثرا من آثار التطور الذي أراده؛ بل كانت العامة ومن لا يحقق في اللغة من الخاصة يجمعون «ميلا» بفتح الميم على «أميال» يجرونها مجرى «ميل» بكسر الميم، فجاء من قال لهم إن «فعلا» بفتح الفاء لا يجمع على «أفعال»؛ بل على «فعول»، وإن كان ورد شيء من ذلك فمن الذي لا يقاس عليه. فعدل عند ذلك الكتاب عن جمع «ميل» بالفتح على «أميال» إلى جمعه على «ميول» نظير «بيع وبيوع»، وقد سبق أنهم كانوا يجمعون «خصما» على «أخصام» وقد رأيت هذا الجمع في كلام كاتب مصري من الأدباء الراسخين الذين نبغوا منذ نحو نصف قرن فلما نبه بعضهم إلى أن جمع «خصم» على «أخصام» غلط عدلوا إلى جمعه الصحيح على «خصوم»، فلا نجد كاتبا الآن إلا وهو يقول «خصوم» ويتجنب «أخصام». ثم إنه قد ورد في كلام اليازجي الكبير جمع «فعل» بفتح الفاء على «أفعال» وذلك في قوله: «مضى يجمع الأفضال وهي عبيده» فعابوه فيه وذكر ذلك أحمد فارس في مناقشة مع ابنه؛ فلذلك لا يجمع «فضلا» على «أفضال» اليوم إلا العامة يقولون لا ننكر أفضالك، فأنت ترى أن السبب في ذلك التطور هو متابعة القاعدة واعتقاد تنكب الخطأ، على أن الخطب يسير، فإن «فعلا» بفتح الفاء إذا كان من الأجوف كثيرا ما يجمع على «أفعال» وله أمثال لا تحصى.
وكذلك «بدهي وطبعي»، أخذ المصريون يستعملونها ذهابا إلى أن «بديهي وطبيعي» هو غلط في النسبة، مع أن السوريين يرونه غلطا مشهورا هو أولى من الصواب المهجور، ويرون له في «ولكن سليقي أقول فأعرب» شاهدا مؤنسا. فالعدول عن «أميال» إلى «ميول»، وعن «طبيعي» إلى «طبعي» كان في اعتقاد من فعله مجرد اتباع للقاعدة لا مجرد عدول عن اصطلاح إلى آخر إذ كلاهما صحيح. ثم وصل الكاتب إلى قوله: «هذا في اللغة وأما في الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهب قديم ومذهب جديد، وإني أحاول هنا أن أشير إلى الفرق بين المذهبين على قدر ما تعين عليه البصيرة الضعيفة، مما أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار (اعتراف منه هنا بأن للتكرار مواطن) والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها، فإذا قالوا: «تمادى الرجل في ضلاله» قالوا: «ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه»، وإذا قالوا: «أحزنني هذا الأمر» قالوا: «وشجاني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي»، إلى أن يقول: «بل أستأذن القارئ الكريم في تقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكاتب كبير قال: يا إخواننا، إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية قد بدأت مع الأقوام، ونشأت مع الأمم مذ الكيان ومنذ وجد الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان» وقال: «مهما انتبذ لنفسه مكانا منزويا وتنحى جانبا معتزلا» وقال: «ومهما ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار ... إلخ.»
ثم قفى على ذلك صاحب المقالة بقوله: «تأمل، وسبب ذلك إما قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية (كذا ولعله سها عن وضع «إما» في الجملة الثانية سهوا؛ إذ «إما» هذه لا بد من تكرارها عند التخيير كما لا يخفى). وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبا نحريرا، أو يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العرب من التكرار لضرورة؛ كقول الشاعر: «فألفى قولها كذبا ومينا» أو تقليدا لأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، ولكن أحمد فارس لم يأت بالمترادفات لأنه يذهب إلى هذا النوع من الكتابة، وإنما أراد أن يضع كتابا في المترادفات ككتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني» إلى أن قال: «ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي (كذا) أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر» ثم قال: «وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز وأنهم يكرهون التطويل الممل»، ثم عاد فاستدرك بقوله: «إن للإطناب مواطن وشروطا نص عليها البيانيون وليس فيما نصوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلا ... إلخ.»
فظاهر أن هذا الكاتب الأديب يقصدني في تعريضه، لاستشهاده ببعض جمل من نداء كان الوفد السوري وجهه إلى الأمة العربية قاصيها ودانيها وحاضرها وباديها وخاصيها وعاميها، مراعيا حالة من يخاطبهم وضرورة تمكين المعاني من نفوسهم وتحريك عواطف حميتهم مما هو في كل لغة وفي كل منطق وفي كل أدب موطن التكرار الأكبر ومحل التأكيد الألزم؛ إذ كانت المناشير العامة والرسائل الموجهة إلى الجماهير دائما على هذا النسق، ولم تكن قاعدة «خير الكلام ما قل ودل» موضوعة لمثلها، إلا إذا اختلت قاعدة أخرى هي أعم منها، وهي: «لكل مقام مقال»، والفصاحة هي المطابقة لمقتضى الحال.
وقد كنت فكرت في أن أترك هذا الكاتب وشأنه، وأن أعرض عنه وأتجاهل انتقاده تاركا اللغة العربية ونظمها ونثرها ومتونها وأصولها وأمثلتها ترد عليه وتقنعه بخطئه، لولا أنني رأيته - وأرجو منه أن لا يؤاخذني على هذا القول - واضعا نفسه موضع أستاذ اللغة، وشيخ الصناعة، والجهبذ الذي يقبل هذا ويزيف ذاك، والقاضي الفيصل الذي يحكم ولا معقب لحكمه، ماضيا في غلوائه مسرورا بآرائه راضيا عن أنحائه، فحرصت على أن لا يتمادى في وهمه، وأشفقت من أن يتصل وهمه إلى غيره، وعولت على أن أبين له مناهج اللغة في باب الإيجاز والمساواة والإطناب ومقام كل منها ليعلم أن مقام منشورنا المرسل إلى الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها هو مقام إطناب، كما لا يخفى على كل من شدا شيئا من الأدب أو طالع شيئا من آثار هذه الأمة.
ولكنني قبل الشروع في موضوعي أحب أن أسأله عن قوله: «وأما الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهب قديم ومذهب جديد»، فإنني لا أعلم مذاهب جديدة إلا في العلم والفن، وأما في الأدب واللغة فلا أعرف إلا مذهبا واحدا هو مذهب العرب، وهو الذي يريد أن يسميه بالمذهب القديم، وهو الذي يجتهد كل كاتب في العربية أن يحتذي مثاله ويقرب منه ما استطاع؛ لأنه هو المثل الأعلى والغاية القصوى، وإذا أراد الكاتب العصري أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة، استنفد جميع منته في إلباس هذه المعاني الجديدة حلل الأساليب العربية القديمة التي هي أصل اللغة والطراز المنسوج على منواله. وقصارى الأديب العربي اليوم أن يتمكن من إفراغ الموضوع العصري في قالب عربي بحت لا يخرج باللغة عن أسلوبها ولا يهجن لهجتها ولا يجعلها لغة ثانية؛ إذ كان التباعد عن الفصاحة والحرمان من حظها هما على مقدار التجانف عن أسلوب العرب عندما كانوا عربا لم تخامر لغتهم العجمة ولم تفسد منهم السليقة. وإن القمة العليا من ذلك هي لغة الجاهلية وصدر الإسلام، ثم ما يليه نوعا عندما كانت العربية في عنجهيتها والفصاحة في إبان سورتها. فأما المذهب الجديد الذي أشار إليه في الأدب والإنشاء العربي فلا نعلمه في المذاهب ولا وصل إلينا خبره، فحبذا لو أتانا صاحبنا بتعريف المذهب الجديد هذا ودلنا على أمثلة منه وكتب مؤلفة فيه، وأخبرنا من هم أساطين هذا المذهب وحملة أعلامه، فإننا نقر بكوننا لا نعرف في العربي إلا مذهبا واحدا كلما قرب إلى نسق الأولين كان أقرب إلى الفصاحة. وأما في العلوم والفنون فذاك موضوع آخر كل يوم نحن منها في شيء جديد، فلا يجوز أن نخلط هذا بذاك.
إن اللغة الفرنساوية التي هي أفصح لغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها قد رست عليه قواعدها منذ نحو ثلاث مائة سنة، وبلغ كماله في عصر لويس الرابع عشر الذي يماثل صدر الإسلام في العربية، فكل كاتب في اللغة الفرنسوية يخالف أسلوبها الذي اصطلح عليه أدباء الفرنسيس يقولون له: هذا ليس بفرنساوي، ولا ينفعه عند ذلك أن يقول لهم: هذا مذهب جديد في الكتابة، فإنهم يجاوبونه أن التجدد في الكتابة لا بد لأجل أن يكون مقبولا أن يتمشى على الأسلوب الفرنساوي المصطلح عليه.
إنني أريد أن أنزه حضرة الكاتب صاحب مقالة «التطور في اللغة» عن أن يكون مقصده الانتقاد لأجل الانتقاد، ولإثبات فضله وإظهار طوله على غيره. ولكنني من جهة أخرى أعجب من كون أديب بارع مثله متصد للفتيا في اللغة تصدي حضرته يذهب عنه ما يليق بكل أديب أن يطلع عليه.
قال في صبح الأعشى في باب الإطناب: وهو الإشباع في القول وترديد الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وقد وقع منه الكثير في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى:
كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ، وقوله عز وجل:
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا
كرر اللفظ في الموضعين؛ تأكيدا للأمر وإعلاما أنه كذلك لا محالة (تأمل) إلى أن يقول: وقد وقع التكرار للتأكيد في كلام العرب كثيرا كما في قول الشاعر: «أتاك أتاك اللاحقون.»
ثم ذكر ما قيل في المساواة والإيجاز والإطناب والتفاضل بينها، فقال: وذهب قوم إلى أن الإطناب أرجح، واحتجوا لذلك بأن المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يحصل إلا بإيضاح العبارة، وإيضاح العبارة لا يتهيأ إلا بمرادفة الألفاظ على المعنى حتى تحيط به إحاطة يؤمن معها من اللبس والإبهام، وإن الكلام الوجيز لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، ومن ثم لم يحصل على معانيه إلا خواص أهل اللغة العارفين بدلالات الألفاظ. (ليتذكر القارئ أن منشور الوفد السوري لم يكن موجها إلى خواص أهل اللغة فقط؛ بل العوام من قرائه أكثر من الخواص) بخلاف الكلام المشبع الشافي؛ فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في جهته.
ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لقيس بن خارجة: «ما عندك في جمالات ذات حسن؟» قال: «عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع.» فقيل لأبي يعقوب الجرمي: هلا اكتفى بقوله: «آمر فيها بالتواصل» عن قوله: «وأنهى عن التقاطع»، فقال: «أوما علمت أن الكناية والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشف؟ ألا ترى أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأحزاب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا، وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم وتأخر معرفتهم، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في فهمه.»
قال: وذهبت فرقة إلى ترجيح مساواة اللفظ المعنى واحتجوا لذلك بأن منزع الفضيلة من الوسط دون الأطراف، وإنما الحسن إنما يوجد في الشيء المعتدل» قال: قال في «مواد البيان» والذي يوجبه النظر الصحيح أن الإيجاز والإطناب والمساواة صفات موجودة في الكلام، ولكل منها موضع لا يخلفه فيه رديفه إذا وضع فيه انتظم في سلك البلاغة ودل على فضل الواضع، وإذا وضع غيره دل على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.
ومنه يستنتج أن منشورا طبعت منه ألوف وألوف من النسخ ليوزع على ملايين من الأمة العربية في المدر والوبر لو جاء يكتبه الإنسان كما يكتب رسالة إلى رجل من طبقة عبد القادر الجرجاني ويجتهد في إيداع أوسع المعاني أقصر الألفاظ لكان ذلك من باب وضع الشيء في غير موضعه ولدل على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.
ثم قال في صبح الأعشى: «فأما الكلام الموجز فإنه يصلح لمخاطبة الملوك وذوي الأخطار العالية والهمم المستقيمة والشئون السنية، ومن لا يجوز أن يشغل زمانه بما همته مصروفة إلى مطالعة غيره.»
إذن ليست هناك مسألة تطويل ممل وإيجاز مخل؛ بل مسألة الإيجاز في محل الإيجاز، والإطناب في محل الإطناب، فإذا خوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللا بأصول الكتابة ومنافيا للذوق السليم ... كما أنه إذا خوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيا إلا كان بجانبه ألف عامي، بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفا لآداب الكتابة وفات الغرض المقصود من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر من ذلك إلى وضع الشيء في محله.
قال في صبح الأعشى: «وأما الإطناب فإنه يصلح للمكاتبات الصادرة في الفتوحات مما يقرأ في المحافل والعهود السلطانية ومخاطبة من لا يصل المعنى إلى فهمه بأدنى إشارة ... إلخ.»
إلى أن قال نقلا عن «مواد البيان» قال: «أما أنه لو استعمل كاتب ترديد الألفاظ ومرادفتها على المعنى في المكاتبة إلى ملك مصروف الهمة إلى أمور كثيرة متى انصرف منها إلى غيرها دخلها الخلل لرتب كلامه في غير رتبه ، ودل على جهله بالصناعة. وكذا لو بنى على الإيجاز كتابا يكتبه في فتح جليل الخطر حسن الأثر يقرأ في المحافل والمساجد الجامعة على رءوس الأشهاد من العامة ومن يراد منه تفخيم شأن السلطان في نفسه لأوقع كلامه في غير موقعه ونزله في غير منزله؛ لأنه لا أقبح ولا أسمج من أن يستنفر الناس لسماع كتاب قد ورد من السلطان في بعض عظائم أمور المملكة أو الدين، فإذا حضر الناس كان الذي يمر على أسماعهم من الألفاظ واردا مورد الإيجاز والاختصار لم يحسن موقعه وخرج من وضع البلاغة ... إلخ.»
ولا أظن منتقدنا يقول إنما هذا ينطبق على الكتب الواردة من السلطان في أخبار الفتوحات، ومنشوركم هذا ليس عن السلطان ولا هو في فتح، فالجواب عند ذلك أن المنشور الذي يوجه إلى أمة كبيرة من وفد من وفودها في الاستنفار إلى تلافي خطب أو سد خرق أو مقصد من تلك المقاصد العالية التي تتعلق بها حياة تلك الأمة هو أيضا في حكم كتب الفتوحات وأجدر منها بمراعاة أصول المناشير العامة.
ولقد ورد في رسائل أبي إسحق الصابئ الذي كان رئيس كتاب ديوان الخلافة في بغداد كثير من الكتب التي تتشابه في المعنى أسجاعها وتتوالى مترادفاتها، وقد أوضحت يومئذ في حاشية تلك الرسائل التي طبعتها أن هذا المذهب هو خلاف قاعدة الإيجاز، ولكنه مما يستحب في خطاب الأمة ونداء الجمهور ممن لا بد للكاتب أن يعيد المعنى عليهم ويصقله مرارا حتى يتشربوا معناه ويشتفوا مغزاه.
بقي علينا أن نأتي بشواهد على مذهب فصحاء العرب في استعمال المترادف وإبراز المعنى الواحد بصور مختلفة، وهذا هو أكثر من أن تحيط به المجلدات، وما على المكابر فيه إلا أن يقرأ خطب العرب ونخب رسائلهم وغرر أقوالهم ويتصفح كتابات فحول البلاغة، مثل: الجاحظ، والزمخشري، وبديع الزمان، والخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، وأبي إسحق الصابئ، والقاضي الفاضل، وابن خلدون، ولسان الدين ابن الخطيب وغيرهم، فيجد في كل صفحة من صفحات كتبهم شيئا يحقق له كون هذا المذهب مذهبهم عندما يقتضيه المقام، ولكن لما كان المثل الحاضر أوقع في النفس توخينا أن نأتي بشيء من الأمثال مما حضرنا على طريق المصادفة، فنقول: قال أبو الهلال العسكري في «الصناعتين» وهو من أساتذة الصناعة: «فإن صاحب العربية إذا أخل بطلب هذه العلوم وفرط في التماسها؛ فاتته فضيلتها، وعلقت به رذيلة قوتها، وعفى على جميع محاسنه، وعمى سائر فضائله.»
فأنت ترى المشابهة في المعنى بين «أخل» و«فرط» والطلب والالتماس وفوت الفضيلة وعلوق الرذيلة، وكذلك بين «عفى، وعمى، والمحاسن، والفضائل» وليس الفرق بين هذه الألفاظ ومدلولاتها أعظم من الفرق بين الصارخة القومية والنعرة الجنسية وأنها بدأت مع الأقوام ونشأت مع الأمم منذ الكيان ... إلخ، وبين مدلولاتها؛ بل كل ذلك من قبيل إشباع المعنى وتمكينه في ذهن السامع بالصور المختلفة.
وقال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب حسن التوسل: وهذه العلوم وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقحة، والبديهة النجيبة، والروية المتصرفة، لكان العالم بها متمكن من أزمة المعاني وصناعة الكلام، يقول عن علم، ويتصرف عن معرفة، وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان ... إلخ.
فإن قيل: إلا أن هذا ليس من الترادف لوجود فروق دقيقة بين «قريحة وروية، وفكرة وبديهة، وحجة ودليل وبرهان، ويتخير ويستحسن»، فالجواب أن هذه الفروق الدقيقة هي أيضا في الجمل التي عابها علينا صاحب مقالة التطور، مثل: «الانتباذ»، و«التنحي»، و«الانزواء»، و«الاعتزال»، و«ترامت به عن منبته الأقطار»، و«تباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار». وإن كثيرين من أئمة اللغة ينكرون وجود مترادف حقيقي فيها، ويقولون إن الناس صاروا يعدون بعض الكلام مترادفا لجهلهم بأصل معناه وإنما هو تشابه لا غير. ولا ينبغي أن ننسى أن صاحب حسن التوسل لا يتكلم عن جمهور أكثرهم ليسوا من أهل الفن بل كلامه موجه إلى الخواص دون غيرهم، ومع هذا فقد مر بك إطنابه.
وانظر إلى قول أبي طالب حين خطب النبي
صلى الله عليه وسلم
خديجة: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبرهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوزن بأحد إلا رجحه ولا يعدل بأحد إلا عدله.
هاك مثلا من قول عثمان بن عفان - رضي الله عنه: إن لكل شيء آفة، وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة (تأمل في: آفة وعاهة ودين وملة) قوم عيابون طعانون (تأمل أيضا) يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أمورا (تأمل أيضا) قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقما ودمغكم (انظر إلى تقارب: وقم ودمغ وكلاهما بمعنى: أذل وقهر) حتى لا يجترئ أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه (وهنا المعنى واحد أشير إليه بصورتين مختلفتين ليزداد رسوخا في فكر السامع).
فنظن أن عثمان بن عفان كان عربيا، لا بل من الطبقة الذين تؤخذ عنهم لغة العرب، وخطبته هذه معدودة من غرر الخطب التي يستشهد بها في البلاغة.
فانظر كم ثمة من الجرأة عندما يقول صاحبنا: «هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي»، فإن هذا النوع الذي وصفه بكونه غير عربي هو هذه الطريقة بعينها كما مر بك وكما سيأتيك.
وإليك من كلام زياد ابن أبيه الذي ضرب المثل بفصاحته فقيل «أخطب من زياد»: فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي على النار ما فيه سفهاؤكم. إلى أن يقول: من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر والعدد غير قليل والجمع غير متفرق. إلى أن يقول: إني لو علمت أن أحدكم قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا ... إلخ.
عندك هنا: الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والضعيف يقهر، والضعيفة لا تنصر، والكشف والهتك، والقناع والستر، فماذا يقال لهذا إن لم يكن مترادفا؟! ولماذا هذا يجوز ويستشهد به في أنموذجات البلاغة ويعاب قولنا: «وأما هذه النعرة الجنسية والحمية القومية وإن عم أمرها جميع الأمم ولم يخل منها عرب ولا عجم ... إلخ.»
ولعبد الملك بن مروان ومكانه من البلاغة والفصاحة مكانه: فتنزل بكم جائحة السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدا رفاتا، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا ... إلخ. ما هو المعنى الجديد بين «جائحة السطوات» و«بوادر النقمات»، وبين «تجعلكم رفاتا» و«تشتمل عليكم الأرض أمواتا؟» أم تقول هذا حشو ولو صدر من عبد الملك بن مروان. كلا أيها الأديب هذا تكرار وتأكيد من سلطان يريد أن يرهب رعيته وينذر قومه حتى يستقيموا على الطاعة، وهو أبلغ وأوفى بالغرض من الكلام الذي قل ودل والذي ليس فيه تكرار معنى؛ بل هو أوقع في نفوس السامعين مما لو اقتصرنا على قوله: «فتنزل بكم جائحة السطوات وتطأ رقابكم العقوبة فتجعلكم رفاتا.»
وإليك من الحجاج بن يوسف من خطبة على أهل العراق: إنني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. إلى أن يقول: لقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته بين يديه فجمع عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم ورماني بكم يا أهل الكوفة يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق؛ لأنكم طالما أوجفتم في الفتنة واضطجعتم في منان الضلال وسننتم سنن البغي، وايم الله لألحونكم لحو العود ولأقرعنكم قرع المروة. والله لا أحلف إلا صدقت، ولا أعد إلا وفيت ... إلخ. ثم يقول: فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا. ا.ه.
تذكر تهكم صاحب المقالة بمن تمادى في ضلاله ولج في غوايته، وقابل ذلك بقول الحجاج هنا وتكريره ثلاث فقر متتابعة في معنى الفتنة والضلال والغي، ثم تدبر قول الحجاج: اعتدلوا ولا تميلوا، فإن الاعتدال وعدم الميل شيء واحد، ثم قوله: اسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا، وكل هذا متقارب المعنى من قبيل الشقص الأوفر والحظ الأكمل» التي عابها علينا.
وخذ ما قاله أبو بكر الصديق لأبي عبيدة بن الجراح حينما أرسله إلى علي - رضي الله عنهم جميعا - عندما تلكأ علي عن المبايعة وهو من جملة كلام: «ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك، فتأت له أبا عبيدة وتلطف فيه وانصح لله - عز وجل - ولرسوله
صلى الله عليه وسلم
غير آل جهدا ولا قال حمدا والله كالئك وناصرك وهاديك ومبصرك إن شاء الله. امض إلى علي، أخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس
صلى الله عليه وسلم
مكانه، وقل له: البحر مغرقه والبر مفرقه، والجو أكلف والليل أغدف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قداحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العداوة.» إلى أن يقول: «ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوي به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك. أعجمة بعد إفصاح، أتلبيس بعد إيضاح.» إلى أن يقول: «زمان كنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان الشبيبة.» ومثله قول الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن علي: «إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه.» فقال له أبو بكر: «متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة.» وميعة الشباب وحداثة السن ثم البركة والنعمة وكله من باب واحد. ومن جملة قول أبي بكر في تلك الرسالة إلى علي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم «إنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه (جمع سجير وهو الخليل الصفي) إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة أتظن أنه
صلى الله عليه وسلم
ترك الأمة سدى بددا عباهل مباهل (عباهل مهملة مسيبة، ومباهل من أبهل الوالي الرعية: تركهم يركبون ما شاءوا) طلاحي مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط ولا حائط، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي. كلا ما اشتاق إلى ربه ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله ... إلخ.» إلى أن انتهى بقوله: «دعنا نقضي (كذا) هذه الحياة بصدور بريئة من الغل ونلقى الله بقلوب سليمة من الضغن.» هل نحن محتاجون إلى التنبيه على ما مر بك من المترادفات والمعاني المبرزة في صيغ مختلفة اللفظ متحدة المآل أم تغنينا دراية القارئ عن الإيضاح؟!
ومن كلام عمر في رسالة إلى علي: «إن أكيس الكيس من منح الشارد تألفا، وقارب البعيد تلطفا، ولا خير في علم مستعمل في جهل، ولا خير في معرفة مشوبة بنكر.» إلى قوله: «بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة، وثمرة حكمة وأثرة رحمة، وعنوان نعمة وظل عظمة.» (تأمل في قوله: نور نبوة وضياء رسالة ... إلخ).
وكان من جملة جواب علي: «لما وقذني به رسول الله وأودعني من الحزن لفقده؛ وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا وذكرني شجنا.» (قابل هذه الجمل بما قاله صاحب مقالة التطور في هذا المقال وتأمل).
وما على القارئ إلا أن يأخذ نهج البلاغة ويتصفح ما فيه من الخطب التي تتقطع من دونها الأعناق ليعلم ما فيها من هذا النوع الذي يزعم صاحبنا أنه ليس بعربي ... ومن كلام عمر: «ومن أعجب شأنك قولك: ولولا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي. وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟! تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها.» ا.ه.
سبحان الله بعد أن قال: «سالف عهد» فما الحاجة إلى «سابق عقد»؟ ثم ما هو الفرق بين «استأصل شأفتها» وبين «اقتلع جرثومتها »؟ ولا أظنه أعظم من الفرق بين «انتبذ مكانا» وبين «تنحى جانبا» أوكان عمر غير بصير بالعربية؟!
ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي : «إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمة.»
ومن كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضا: «أيها الناس، ارعووا وارجعوا؛ إنكم أصبحتم في فتنة، غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها.»
وقال سعيد بن عثمان بن عفان حين دخل على معاوية: «ائتمنك أبي واصطنعك حين بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى ... إلخ.» فقال له معاوية: «أما ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة.» ا.ه.
فانظر أيها القارئ إلى: المدى الذي لا يجارى، والغاية التي لا تسامى، وإلى: تواتر الآلاء وتظاهر النعماء، وإلى: المكافأة والمجازاة، هل ترى في هذا الترادف فرقا عن: «ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت به عن أهله الأوطان والأوطار» أم أسلوب سعيد بن عثمان ومعاوية بن أبي سفيان غير عربي؟
والعربي هو أسلوب الأستاذ صاحب مقالة التطور! الذي هو مع هذا كله ينسى أنه قال في هذه المقالة ما يأتي: وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة، فما هو يا ترى ذلك الفرق العظيم بين البربرية والجهل، وبين الظرف والأنس، وما هو البون بين هذه المترادفات هنا، وقوله أحزنني وأمضني وأقض مضجعي على فرض ورودها على الشكل الذي أورده.
وكنا نحب أن نطلع على كتابات هذا الفاضل ونقرأ له أكثر من مقالة واحدة (كذا)؛ لننظر هل تمكن من جعل كلامه كله من قبيل (كلا ولا)؟ وهل راعى شروط الاقتصاد الذي يقتضيه هذا الزمان؟ وهل أفرغ جميع فصوله في قالب تلغرافات؟
فليعلم أن الاقتصاد في غير موضعه هو تبذير وتفريط وهو أشبه باقتصاد من يهمل استدعاء الطبيب وشراء العلاج حبا في التوفير فتطول علته ويتعطل عمله ويخسر أضعاف ما وفر. وكذلك لغة التلغرافات تبقى إلى الأبد لغة تلغرافات لا تصلح لتفصيل مجمل ولا للإحاطة بموضوع ولا لشفاء غليل من مبحث. ومن قرأ كتب الغربيين وطالع مقالاتهم اليومية وسمع محاضراتهم المستمرة علم أنهم يذهبون مذهب التطويل أكثر منا، وأن لا وجه للمقايسة بيننا وبينهم في الإطناب والشرح.
وربما يعترض بأن تطويلهم هذا إنما هو لتوفية الجزئيات حقها وإيضاح الغوامض وتشريح الدقائق العلمية حال كون العرب إنما يعيدون المعنى فيقولون: أمضني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي. والجواب ماذا نقول في كتب القصص «الرومان» التي تصدر بالألوف وليس فيها شيء من المباحث الفنية، نجد الكاتب إذا أراد أن يصف لك أقل منظر أو أدنى حادث أو أخف حالة نفسية لم يزل يعيد لك المعنى ويصقله ويقربه إلى الفهم ويبدي فيه ويعيد حتى تمر الصفحات بعد الصفحات وأنت لم تزل في ذلك المعنى نفسه. أفهذه لغة التلغرافات؟!
ولنأت لك بشيء من كلام الجاحظ الذي كان يعرف أن يكتب العربية ... قال في وصف الكتاب: «نعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، الكتاب وعاء ملئ علما وظرف حشي ظرفا.» ثم يقول: «فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر.» ثم يقول: «ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل إملالا ولا إبراما، ولا أبعد عن مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرا، ولا أقرب مجتنى ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة.» إلى أن يقول: «ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك ... إلخ.» إلى أن يقول: «ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمها، ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها من غاب عنا وفتحنا بها كل منغلق علينا ... إلخ .»
ثم يقول في جواب شرط: «علم أن ذلك أتم وأبلغ وأكمل وأجمع.» ويقول في محل آخر: «فرأى الكتاب أبهى وأحسن وأكرم وأفخم.» ويقول في مكان آخر: «وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخا لأمر جسيم أو عهدا لأمر عظيم كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب قيروان.» ويقول أيضا: «ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس.»
ويقول: «وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات ... إلخ.»
كان يقدر الجاحظ أن يقول في الكتاب: بستان يحمل في ردن ما رأيت جارا أبر ولا رفيقا أطوع ولا صاحبا أظهر كفاية ولا أقل إبراما ولا أبعد عن مراء من كتاب. ويختصر كثيرا مما جاء على معنى واحد تقريبا، ولكن لم تكن النفس لتشبع من الموضوع شبعها منه بعد هذا التكرار والتأكيد.
وقال علي بن الجهم: «إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتابا فأجد اهتزازي فيه من الفوائد والأريحية التي تعتادني وتعتريني من سرور الانتباه وعز التبيين، وإني إذا استحسنت كتابا أو استجدته ... إلخ.»
ومن كلام بديع الزمان: «والموت أمر عظم حتى هان وخشن حتى لان ... إلخ.» ومن أقواله: «ما وقع من حرب وحدث من خطب، وكان من يابس ورطب ... إلخ.»
ومن كلام الخوارزمي: «ويموت سيد من آل بيت المصطفى وشريف من عترة المجتبى فلا تشهد جنازته ولا تجصص مقبرته، ويموت مسخرة لهم (أي لبني العباس) أو لاعب أو زامر أو ضارب ... إلخ.»
وأول مقدمة ابن خلدون:
الحمد لله الذي له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنعوت، القادر فلا يعزب عنه شيء في السموات والأرض ولا يفوت، العالم فلا يخفى عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت، خلقنا من الأرض نسما، واستعمرنا فيها أجيالا وأمما، ويسر لنا فيها أرزاقا وقسما تكتنفنا الأرحام والبيوت، ويكفلنا الرزق والقوت، وتتداول آجالنا الأيام والوقوت، ويجري علينا ما خط علينا كتابها الموقوت، وهو الحي الذي لا يموت ... إلخ.
إن صح رأي صاحبنا فما معنى: «يعزب ويفوت، وأجيالا وأمما، وأرزاقا وقسما، ورزق وقوت، وأيام ووقوت» أفليس كل زوج منها واحدا؟
ومن ترسل الصابئ في التهنئة بمولود: فأخذ ذلك عندي مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج، وسألت الله أن يختصه بالبقاء الطويل والعمر المديد. إلى أن يقول: ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها، أو فترة تخترم زمانها، أو نائبة تشوبها أو تنغصها، أو رزية تثلمها أو تنقصها إلى انتهاء الأمد الأبعد والعمر الأطول. إلى قوله: الأيام التي استشعرت نورا من سنائه، وآنست جمالا من بهائه، وثابت مصالحها ببركته، وتوافت خيراتها بيمنه، واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه أسبابها ناجمة إلي بمنجمه ... إلخ.
وفي الموضوع نفسه لعلي بن حمزة بن طلحة: فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي، وتملكتني بهجة ثوت في مرابع قلبي، وطفقت مبتهلا وتضرعت متوسلا أن يجمع له بين العمر المديد والجد السعيد وأن يجعل للحياة أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد مترادفة الأمداد ... إلخ. إلى أن يقول:
وأن يقيه من كيد عاند إذا عند، ويحميه من شر حاسد إذا حسد، وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى ... إلخ.
وماذا عسى الإنسان أن يستشهد مما ليس له نهاية؟! وأرجو الأستاذ المنتقد ألا يؤاخذني على الإطناب؛ لأنه ضروري لإيجاد صورة تامة في الذهن، ولإقناع من كان مكتفيا برأيه، وأن يتغمد «قلة بضاعتي ونزارة مادتي الفكرية» بوفرة بضاعته وغزارة مادته، وفوق كل ذي علم عليم.
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (2)1
كنت نشرت في أحد أعداد الأربعاء السابقة من جريدة السياسة الغراء في صفحة الأدب منها مقالا عنوانه «تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها» تكلمت في آخره عن فرق من فروق كثيرة بين المذهبين القديم والجديد في الكتابة، وهو أن أصحاب المذهب القديم أولعوا بالمترادفات يكيلونها جزافا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها. وقدمت على ذلك مثلا من رسالة لكاتب كبير لم أذكر اسمه، من ذلك قوله: «أيها الإخوان إن الصارخة القومية، والنعرة الجنسية، قد بدأت مع الأقوام ونشأت مع الأمم، مذ الكيان، ومنذ الاجتماع البشري، وتساكن الإنسان مع الإنسان ... إلخ.» فالصارخة هي النعرة، والقومية هي الجنسية، وبدأت هي نشأت، والأقوام هي الأمم، ومذ الكيان هي منذ الاجتماع البشري، ومنذ الاجتماع البشري هي منذ تساكن الإنسان مع الإنسان.
فأنت ترى أنه ما من كلمة إلا ومرادفتها معها على غير حاجة إليها ولا فائدة منها. ثم قلت إن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي، أو غير عربي، أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر. فلما وصلت جريدة السياسة الغراء إلى ذلك الكاتب الكبير الذي نعرف فضله - وإن كنا ننكر عليه مذهبه هذا - غضب جدا، لا لأن انتقادي جاء في غير محله؛ بدليل أنه لم يتصد أحد للرد علي منذ نشرت رسالتي إلى أن تفضل هو بالرد عليها، والفترة ليست قصيرة، وبدليل أن جريدة السياسة الغراء - ومكانها في الصحافة الراقية مكانها - قد شرفتني فجعلت مقالي في صدر صفحة الأدب وهو المكان المعد لرسائل الأستاذ طه حسين، ولم يكن ذلك منها إلا لأنها رضيت عن رسالتي، ورأت أن ما شرعت في الكلام عنه من الفروق بين المذهبين القديم والجديد في الكتابة، مما تمس إليه الحاجة تعزيزا للمذهب الجديد الذي تدعو هي إليه.
نعم إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي المذهب القديم جاء مباينا لوجه الصواب، وإنما غضب لأني استشهدت بأقواله، ولم أستشهد بها إلا لأني اخترت أن أستشهد بأقوال كاتب كبير يوثق به «أشفقت» أن يقلده غيره في أسلوبه هذا بلا بحث ولا انتقاد.
نعم لم يغضب لأني انتقدت وإنما غضب لأني استشهدت بأقواله، فلو تركته ولم أترك أحدا من المتقدمين والمتأخرين إلا انتقدته واستشهدت بأقواله، لكان الخطب عنده هينا، ولكان انتقادي حينئذ في محله، ولكفى نفسه مئونة هذا الرد الطويل العريض، الذي أرجو أن لا يتعجل في الغضب علي إذا قلت إن هذا الرد من أوله إلى آخره جاء دليلا جديدا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم، وأنه لا يزال مولعا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.
وإليك شيئا من كثير مما جاء في رده قال: «كل دور من أدوار اللغة العربية سواء دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده» فالدور والعهد والعصر والقرون مترادفات، أجمل بقوله كل دور من أدوار اللغة العربية ثم فصل بقوله: سواء دور كذا أو عهد كذا أو عصر كذا، ثم أجمل بقوله: والقرون التي بعده، لا لأنه يريد الإجمال فالتفصيل فالإجمال، ولكن ليأتي بمترادفاته وقد كان التفصيل على قدر ما عنده من تلك المترادفات. وقال: «فللأندلس منزع ولليمن مذهب ولمصر لهجة وللشام أسلوب وللعراق نمط» فالمنزع والمذهب واللهجة والأسلوب والنمط مترادفات، ولو بقيت لديه بقية من المترادفات ولو من الألفاظ الغريبة المهجورة لقال: ولفلسطين كذا وللسودان كذا ولأهل المدر كذا ولأهل الوبر كذا. وقال: «في كل لغة وكل منطق.» وقال: «إذا أراد الكاتب أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة.» وقال: «إن اللغة الفرنساوية التي هي أفصح لغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها». وقال: «لإثبات فضله وإظهار طوله.» إلى غير ذلك مما لو شئت تتبعه لجاء ردي مثل رده طويلا عريضا بل أطول وأعرض ... ما قول الأمير - أعزه الله - لو شئنا أن نترجم عباراته هذه إلى لغة أجنبية، ولم يكن فيها من المترادفات ما في اللغة العربية، أفلا نضطر إلى تكرار اللفظ بعينه في غير مواطن تكراره؟ فنقع في عيب حاول الأمير أن يتجنبه بذكر مرادف اللفظ، وإن لم يكن فرق في الحقيقة بين تكرار اللفظ بعينه وتكراره بمرادفه، ثم ما الفائدة من تكرار اللفظ بلفظه أو بمرادفه؟ وليس رده علي كلاما عن سلطان ولا هو في فتح إذا جاز الإتيان بالمترادفات تكال كيلا في الكلام عن سلطان أو فتح على رأي الأمير. أما كان الأولى بأدبه وعلمه أن يلزم نفسه قاعدة «خير الكلام ما قل ودل؟» ولكنه يظهر أنه لم يراع هذه القاعدة لا في منشوره الذي «طبعت منه ألوف وألوف من النسخ ليوزع على ملايين وملايين من الأمة العربية في المدر والوبر» أو «الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها» أو «الأمة العربية قاصيها ودانيها وحاضرها وباديها وخاصيها وعاميها» نعم لم يراع هذه القاعدة لا في منشوره ذاك، ولا في رده هذا.
إذا كان لكل مقام مقال فما باله - أعزه الله - يجعل المقال الواحد لكل مقام؟! ولست أظن أن كاتبا كبيرا مثله يتعذر عليه أن يتنكب هذا الأسلوب من الكتابة لولا أنه ألفه واتخذه مذهبا في كل ما يكتب سواء أكان منشورا تقرؤه الأمة العربية جمعاء في المدر والوبر وفي آفاق الأرض ومناكبها ... إلخ، أم ردا ينشر في صفحة الأدب ولا يقرؤه إلا من يهمه أمره، وقليل ما هم. فصار إذا أمسك القلم انهالت عليه المترادفات كأنه يتناولها عن حبل ذراعه فلا يتركها حتى يجيء على آخرها. وليس هذا أسلوب الأمير، ولكنه أسلوب قديم أكل الدهر عليه وشرب، ولعله يتصل بعصر الكهان، وليس الأمير فيه إلا مقلدا، وإني أعرف كثيرين من أدباء عصر الأمير وخريجي مدرسته وأستاذه ينحون نحوه في الإكثار من المترادفات يكيلونها كيلا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها ... ولولا خوفي أن يغضبوا كما غضب الأمير لاستشهدت في هذا المقام بأقوالهم كما استشهدت في رسالتي تلك بأقوال ... ما أدراني أنهم هم أيضا يغضبون علي ولو لم أستشهد بأقوالهم، لأنهم قد يكونون حسبوا أن تعرضي لأحد زعماء مذهبهم تعريض بهم، على أني لم أكتب ما كتبت لأغضب فلانا وفلانا، أو كما قال الأمير - أعزه الله: «لم يكن مقصدي الانتقاد لأجل الانتقاد» ولكن لأقرر مذهبا جديدا، فإذا لم يقبلوه فهم وشأنهم، لهم مذهبهم ولي مذهبي.
اعتمد الأمير في رده علي على أصول اقتبسها من كلام صبح الأعشى وعلى شواهد اقتبسها من أقوال من يسميهم بلغاء وفصحاء ... ويظهر أنه أجهد نفسه ونقب في تضاعيف الكتب كثيرا. أما الأصول فليسمح لي الأمير أن أقول إنها ليست مما يصح الاستشهاد به فيما نحن فيه، فهي من واد ومسألتنا من واد، ولولا خوفي أن أمل القارئ الكريم، وأن أشغل من صفحة الأدب على حسابي ما لا يجوز لي أن أشغله، لحللت تلك الأقوال وأظهرت أنها لا تعني ما يريد الأمير أن تعنيه؛ لأنها لم تزد على أن للإيجاز مقاما وللإطناب مقاما، وقد سبقت فقلت في رسالتي تلك إن للإيجاز والإطناب مواطن وشرائط نص عليها البيانيون أمسكت عن ذكرها؛ تأدبا مع الأمير، ولو فرضنا أنها تعني ما يريد فأرجو أن أنبه من الأمير غير غافل أننا نتكلم عن مذهب جديد لا مذهب قديم.
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فأحالني على المواطن التي يكرر فيها الكلام بلفظه أو بمرادفه عن حاجة إليه وفائدة منه. هذا ليس موضع الانتقاد يا سيدي، التكرار لا يكون إلا لنكتة كزيادة التوكيد؛ نحو
كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ؛ ونحو: «إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن.» وزيادة التوكيد هذه لا يقتضيها إلا المعاني التي يراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها. فهل قولك: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأمم وبدأت مع الأقوام مذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان»، وقولك: «في كل لغة وكل منطق»، وقولك: «إذا أراد الكاتب أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة»، وقولك: «للغة الفرنساوية أسلوب خاص ونمط قائم بها» هل كل ذلك من المعاني التي يراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها؟
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فقال إن منشوري للعامة، إن العامة يا سيدي الأمير لا تفهم منشورك، أكثرت فيه من المترادفات أم أقللت. إذا أردت أن تخاطب الجمهور فلا إخالك تنكر علي أنه يجب أن تخاطبه بلغة مفهومة تتجنب فيها مثل قولك: «الشقص الأوفر» إلا إذا كان قصدك أن تنومه لا أن تفهمه. إذا أردت أن تكثر فليس الإطناب إكثارا، كما أنه ليس الإيجاز اختصارا، قد توجز مع الإكثار ، وقد تطنب مع الاختصار، فإذا أردت أن تكثر فلا دخل للإطناب والإيجاز في إكثارك، وإنما الإكثار أن تضاعف معانيك ما شئت وشاء المقام، لا أن تضاعف ألفاظك على غير حاجة إليها ولا فائدة فيها.
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فأحالني على صبح الأعشى في كلامه على التفاضل بين المساواة والإيجاز والإطناب. ليسمح لي الأمير أن أتجرأ على فضله فأقول: لا تفاضل بينها؛ لأن كلا منها غير الآخر ولأن لكل منها محلا لا يجوز أن يحل فيه غيره. وأما الكلام الوجيز الذي لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، فهذا من الإيجاز المخل الذي أشار إليه البيانيون، ولا يجوز لعربي أن يعتمده لا مع العامة ولا مع الخاصة ...
أما الشواهد التي جاء بها على ذمة راويها دليلا على أن أسلوبه عربي، فلست أظن أنه يجهل أني لا أعجز عن أن أورد له أضعاف أضعافها لا ترادف فيها ولا تكرار من كلام من يوثق بعربيته.
كان الأولى بالأمير أن يقول إنه قد ورد في بعض أقوال العرب المنقولة إلينا على ذمة راويها شيء من الترادف، لا أن هذا أسلوب العرب، وإلا فكان يجب - على رأيه - إذا قبل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق، وعنوان الفضل خشية الباري.
أعيذ اللغة العربية من مثل هذا.
ولكل دولة رجال ...1
كنا نظن أننا بعد الإتيان بنصوص علماء الأدب وشواهد فحول البلاغة، مثل الجاحظ والبديع الهمذاني وابن خلدون وأمثالهم، نأمن المناكرة والمكابرة ويقع التسليم بأن المترادف - هذا إذا كان ثمة مترادف حقيقي - مألوف في لغة القوم قد يأتي في الأحايين لتمكين المعنى في نفس السامع، وأن للإطناب مقامات وللإيجاز مقامات، وأن وضع الواحد منهما موضع الآخر مخل بالفصاحة التي هي المطابقة لمقتضى الحال، إلى غير ذلك، فلم نستفد شيئا ، وإذا بصاحبنا لا يعييه شيء، ولا تقف في وجهه حجة ملزمة بل كل شيء له عنده جواب مهما كان ذلك الجواب كبيرا عليه. وإذا وضعته بإزاء أولئك الأئمة الذين هم قدوة الناس في البيان قال لك ما محصله: ومن هم هؤلاء؟ ومن هو الجاحظ؟ ومن هو بديع الزمان؟ لا بل من هو علي؟ ومن هو عمر؟ ومن هو زياد ابن أبيه؟ ومن هو الحجاج؟ هؤلاء لهم مذهبهم في القول وأنا لي مذهبي ... صاحبنا أصبح صاحب مذهب، ولا غرو فلكل زمان أبطال ولكل دولة رجال.
يقع واحد في الخطأ ويقول ما لم يقله الناس، فإذا ردوه إلى القواعد واستظهروا عليه بالشواهد أجاب: هذا مذهب أولئك ولكنه ليس مذهبي.
لا تظن أنني مبالغ في شيء؛ بل أدين صاحبنا من نفس كلامه، قال: «لم يكن مقصدي الانتقاد لأجل الانتقاد ولكن لأقرر مذهبا جديدا (كذا) إذا لم يقبلوه فهم وشأنهم لهم مذهبهم ولي مذهبي.»
وقال في موضع آخر: «ولولا خوفي أن أمل القارئ الكريم وأن أشغل من صفحة الأدب على حسابي ما لا يجوز لي أن أشغله لحللت تلك الأقوال وأظهرت أنها لا تعني ما يريد الأمير أن تعنيه لأنها لم تزد على أن للإيجاز مقاما وللإطناب مقاما» إلى أن يقول: «ولو فرضنا أنها تعني ما يريد فأرجو أن أنبه من الأمير غير غافل إلى أننا نتكلم عن مذهب جديد لا مذهب قديم.»
لا، بل والله كنت غافلا عن أنك صاحب مذهب، ولم يخطر ببالي أن أسلوب الجاحظ صار قديما باليا وأن مثلي ومثلك صرنا مجددين في اللغة. لا تحمل كلامي محمل التهكم فليس بتهكم أن يقال لك: لست بالجاحظ ولا علي بن أبي طالب، وإذا كان لهؤلاء مذهب فلست أنت بالذي يقدر أن يأتي بنقيضه ... فاربع على ظلعك ولا تركب في غير سرجك، فلسنا وإياك من تلك الطبقة. أما قوله إنه لو شاء لحلل تلك الأقوال وأظهر أنها لا تعني ما أريده ... إلخ، فليت شعري ماذا تعني تلك الأقوال؟ وقوله: «فهي في واد ومسألتنا في واد» فأي واد نحن فيه غير هذا الوادي؟ أنكر جواز استعمال المترادف مطلقا فأوردنا له نقطة من بحر من كلام الأئمة الذي فيه ما فيه من المترادف. زعم أن للإطناب مواطن غير المواطن التي أطلنا فيها فأوردنا له النصوص والشواهد التي هي مثل فلق الصبح على كون الإطناب مألوفا في المناشير العامة - التي هي في موضوع منشورنا إلى الأمة العربية - فكيف تكون تلك الشواهد في واد ومسألتنا في واد؟ ورحم الله القائل:
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقال: «اعتمد الأمير في رده على أصول اقتبسها من كلام صبح الأعشى، وعلى شواهد اقتبسها من أقوال من يسميهم بلغاء وفصحاء.»
أنا اعتمدت على أصول البيانيين التي وردت في صبح الأعشى وغير صبح الأعشى؛ لأن الأصول أصول أينما وجدت، فهل يريد أن نأتي له بنصوص أخرى من غير صبح الأعشى على أن للإطناب مقاما وللإيجاز مقاما، وأن التأكيد غير منكر في المناشير العامة، لا، بل الإيجاز فيما يخاطب به الجمهور مخالف لشروط الكتابة. أنا استشهدت في ردي السابق بكلام الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبي عبيدة وزياد ابن أبيه والحجاج بن يوسف وعبد الملك بن مروان وسعيد بن عثمان بن عفان والزرقاء الهمدانية وأم الخير البارقية ثم الجاحظ وعلي بن الجهم وبديع الزمان والخوارزمي وابن خلدون والصابئ، وغيرهم. وهذا ما حضرني قبسة عجلان. أفهؤلاء الذين يقول صاحبنا «من يسميهم بلغاء وفصحاء» أي إنني أنا أسميهم بلغاء وفصحاء والحقيقة أنهم ليسوا كذلك.
نشدت الله كل قارئ منصف أليس مراد الأديب السكاكيني بقوله: «من يسميهم بلغاء وفصحاء» أنني أنا وحدي أسمي هؤلاء الرجال المار ذكرهم بلغاء وفصحاء وأنه لا يسميهم كذلك إذ لا يجد لهم بلاغة ولا فصاحة؟ لا جرم أن هذا هو مراده بهذه الجملة وكان الأولى أن أمسك القلم عن مناظرته من بعد هذا ولكنني أكمل هذا الفصل ليزداد القراء بصيرة بالأمر وبعد ذلك أترك هذا العناء في مناظرة من لا يعجبه إلا رأيه. وقال: «فأحالني على صبح الأعشى في كلامه على التفاضل بين المساواة والإيجاز والإطناب. ليسمح لي الأمير أن أتجرأ على فضله فأقول لا تفاضل بينها ؛ لأن كلا منها غير الآخر ولأن لكل محلا لا يجوز أن يحل فيه غيره.»
والله قد أعيتني الحيلة، ما أصنع لأقنع مناظري بالعدول عن هذا المراء الذي لا يليق بأديب مثله. أعيد ما قلته بحرفه بعد إيراد النصوص. «إذن ليست هناك مسألة تطويل ممل وإيجاز مخل؛ بل مسألة الإيجاز في محل الإيجاز، والإطناب في محل الإطناب، فإذا خوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللا بأصول الكتابة، ومنافيا للذوق السليم، كما أنه إذا خوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيا إلا كان بجانبه ألف عامي بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفا لآداب الكتابة، وفات الغرض المقصود من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر إلى وضع الشيء في محله.»
أفرأيت كيف يذكرني مناظري بنفس الشيء الذي كنت قلته ليوهم الناس أنني مكابر فيه، ثم قال وهو من أغرب ما جاء في رده:
أما الشواهد التي جاء بها الأمير على ذمة راويها دليلا على أن أسلوبه عربي، فلست أظن أنه يجهل أني لا أعجز عن أن أورد له أضعاف أضعافها لا ترادف بها ولا تكرار من كلام من يوثق بعربيته.
كلا لا تعجز عن إيراد شواهد على الكلام الموجز الذي ليس فيه مترادف ولا تأكيد وأنا مع عجزي وتسميتي تلك الطبقة بلغاء وفصحاء، واعترافي بأنني لا أصلح أن أكون من تلاميذهم لا أعجز أيضا عن الإتيان بأضعاف الأضعاف التي وعدت بها من الشواهد أيها الأستاذ، ولكن لم أفهم معنى كلامك هذا؛ هل أنكرت أنا فضل الإيجاز وقلت لا بهاء لكلام موجز ولا مكان له عند العرب حتى تأتيني بتلك الشواهد التي تبطل دعواي؟ وهل ورد في كلامي شيء يدل على كون المترادف هو أصلا من أصول البلاغة لا غنى عنه جاء في محله أو في غير محله؟ متى وأين ادعيت ذلك؟
تحرير القضية أنك أنت تنكر المترادف مطلقا، وأنا أقول: بل له مواضع، وقد جاء في كلام أهل اللسان المقتدى بهم في البيان. ولا ينشأ من ذلك كما يفهم بالبديهة أنني أنكر بدائع الإيجاز أو أوجب الإطناب في كل مكان حتى تورد لي شواهد على ما لم تسبق لي دعوى بإنكاره وتتكثر هذا التكثر بدون سائق له.
أما قوله «على ذمة راويها» فتلك مسألة أخرى، يظهر أنه لا يعجزه شيء، وقد أخذ اللغة بالجسارة والقوة، فإذا استشهدت له بكلام أساطين العربية قال لك: أنت تراهم بلغاء، أما أنا فلا، أو: مذهبي غير مذهبهم، وإذا خاف أن ينكر عليه القراء كون الرسول
صلى الله عليه وسلم
لم يصب شاكلة البلاغة عندما قال عن علي: «أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه»، وكون أبي بكر تكلم بعربي فصيح عندما قال: «لم يدع أحدا من أصحابه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة» أو تذكر أن عليا صاحب «نهج البلاغة» لم يكن محتاجا أدباء آخر الزمان أن يردوه إلى العربية الصحيحة عندما قال: «لولا سالف عهد وسابق عقد»، وعند قوله: «استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها.» وأن معاوية أيضا كان لا بأس به في العربية، وهو القائل: «تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي.» وأن الجاحظ كان أكتب مني ومن الأستاذ السكاكيني وأمثالنا، وهو الذي يقول: «أمنعها من الدروس وأبعدها من الدثور» عاد فقال لك: وما يدريك فلعلهم لم يقولوا ذلك وحاول جرح الرواية ولو كانت القضية قضية جملة أو جملتين أو مائة أو مائتين من هذا القبيل لكان الأمر سهلا، ولكن هناك ما لا يحصى ولا يعد (لا يحصى ولا يعد) هو أيضا من كلام العرب، وهو من باب التأكيد وإشباع المعنى؛ لأن «يعد» هو نفس «يحصى»، فماذا عسى صاحبنا يجرح من الروايات وماذا عساه يتحمل من الأجوبة على أقوال لم يختلف في روايتها اثنان.
ثم قال: «كان يجب - على رأيه - إذا قيل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق وعنوان الفضل خشية الباري» إذا كنت استشهدت بأقوال العلماء عن مواطن الإيجاز ومواطن الإطناب وأوردت شواهد من الخطب والكتابات التي وقع فيها مترادف لنكتة مقصودة أو لمعنى قريب من معنى أو لتمكين صورة في ذهن أفتكون نتيجة ذلك أنني أوجب أن لا يقال رأس الحكمة مخافة الله حتى يقال ودليل العقل تقوى الخالق؟ أومثلي أنا ينكر جوامع الكلم وينكر مزايا الإيجاز؟ وهل هذا هو مبلغك من الإنصاف أيها الأديب؟!
ثم قال: «أعيذ اللغة العربية من مثل هذا» أي يعيذ العربية من مثل كلام الجاحظ ومن سبق ذكره ... ويظهر أنه أحس بكونه لا مخرج له من تبعة قوله أن هذا الأسلوب غير عربي، فقال: «ثم ما باله اهتم كثيرا بقولي إن أسلوبه غير عربي ولم يهتم بقولي إنه غير طبيعي أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر» أي إنه قد يكون عربيا ولكنه غير طبيعي، فكأن العرب ينقصهم في دولة فصاحتهم هذه صفاء القرائح وتجويد المنطق، فجاءوا بما يخالف الطبيعة، وجاء هو يبين لهم أن أسلوبهم هذا غير طبيعي، فليطبقوا أسلوبهم على الطبيعة، ثم نزل عن ذلك العموم إلى دائرة أضيق فقال: «لا يستمرئه ذوق هذا العصر» فجعل نفسه ممثلا لذوق العصر، وظن أنه بقوله: «هذا مذهب جديد» انقطعت الحجة وارتفع النزاع، ونسي أن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كل عصر واحدة تميل إلى الإيجاز في محل الإيجاز، وتهتف بالمترادف في محل التأكيد، وأن الذي قرره من ذلك علماء الأدب هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد، وأن ذوق هذا العصر أيضا وذوق أدباء أوروبا هو الإيجاز في محله والإطناب في محله، وأن وضع الواحد موضع الآخر مخالف للذوق. وأما أنه لو أراد الإنسان ترجمة المترادف إلى لغة أجنبية للزم تكرار اللفظ بعينه فليس بوارد لأن كل لغة لها روح. ولا يقال إن هذا الفرنساوي ليس بفصيح؛ لأننا عندما ترجمناه إلى العربي بنصه لم يكن له طعم، ولا أن هذا العربي غير بليغ، أفلا ترى أننا عندما جعلناه فرنسويا ظهرت فيه كلمات مكررة فمن البديهيات أن معيار فصاحة اللغة لا يكون إلا في نفس اللغة. خذ «فكتور هوغو» وترجمه إلى العربية فماذا تجد فيه مما يستحق كل هذا الإعجاب؟ مع أنه في لغته هو السنام الأعلى.
ويقول: «إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي جاء مباينا لوجه الصواب، وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» ثم ما مضى سطران حتى عاد فقال: «نعم لم يغضب لأنني انتقدت وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» بالله عليك أيها القارئ اللبيب هل تجد في هذه الجملة الثانية معنى جديدا لم يكن في الأولى؟ فلماذا أجاز هذا التكرار أستاذ المذهب الجديد؟ أم يحلونه عاما ويحرمونه عاما؟! ثم أطال في تبيين سبب غضبي وانحصاره في انتقاده لكلامي يريد أنني لولا ذلك لكنت استحسنت جرأته على أرباب اللغة وما علمت من أين جاءه نبأ هذا السبب؛ إذ ليس في جوابي ما يدل على شيء مما قال، فكيف اطلع على سريرتي من القدس إلى لوزان، أبمناجاة الأرواح أم بقراءة الأفكار، فعلم أنني كنت موافقه على ما قاله لولا كونه تعرض لي؟! بل والله ما غضبت لنفسي مثلما غضبت لأساطين اللغة وسلاطين البلاغة أن يقوم اليوم واحد مثلي أو أعجز مني فيقول إن بلاغتهم صارت قديمة بالية وإنه هو سيغنينا عنهم بأسلوب جديد.
ومن جملة تكراراته التي يعيبها على الناس ويقع فيها قوله في رده الأخير: «ليس الإطناب إكثارا، كما أنه ليس الإيجاز اختصارا، قد توجز مع الإكثار، وقد تطنب مع الاختصار، فلا دخل للإطناب والإيجاز في إكثارك، وإنما الإكثار أن تضاعف معانيك، وتتبسط فيها ما شئت وشاء المقام»، ما بالك تزري على الناس تكرار الجمل للتأكيد ثم تقول: «ليس الإطناب إكثارا كما أنه ليس الإيجاز اختصارا؟» فعلى مذهبك قد انتهى هذا المعنى هنا، وصار من الحشو أن تقول فيما بعده: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار»، فأي معنى جديد أتيتنا به في هذه الجملة التالية؟! وأي تبسط تبسطته في المعاني هنا؟! فأنت الذي بعد هذا ينتقد قولي: «المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة» ويهزأ بعبارتي: «إن اللغة الفرنساوية التي هي أفصح لغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها»، ثم يعيب قولي: «كل دور من أدوار اللغة العربية؛ سواء دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده»، ثم يقول: «فالدور والعهد والعصر والقرون مترادفات، أجمل بقوله: كل دور من أدوار اللغة، ثم فصل بقوله: سواء دور كذا أو عهد كذا أو عصر كذا، ثم عاد فأجمل بقوله: والقرون التي بعده، لا لأنه يريد الإجمال ولكن ليأتي بمترادفاته.»
ثم أجملت بقولي: «كل دور من أدوار اللغة العربية» ثم لزم أن أفصل هذه الأدوار وأعينها ليعرف أي الأدوار التي كانت لها ديباجة تعرف بها. فقلت: «دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي» فما فهمت وجه الاعترض هنا أترى عنده دور الجاهليين هو نفس دور المخضرمين، والعهد الأموي هو العصر العباسي، فلا يكون ازداد المعنى بهذا التفصيل أم ماذا؟! كما أني لم أفهم كيف أني بقولي: «والقرون التي بعده» لم أقصد إلا الإتيان بمترادفاتي، أراه ينكر فائدة هذه الجملة ويرى القرون التي بعد العصر العباسي وهي نحو ستمائة سنة هي نفس العصر العباسي؛ فلذلك يرى أن ليس من معنى جديد في ذكرها، أعترف أنني عجزت هنا عن حل معمى انتقاده، وأنا أستنجد القراء الكرام أن يفيدوني محل التكرار بدون فائدة في عباراتي هذه. كما أني أستنهض هممهم أن يشرحوا لي ما زاد الأستاذ من معاني في قوله: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار» بعد قوله: «ليس الإطناب إكثارا كما أنه ليس الإيجاز اختصارا.»
ثم زعم أني قلت: «فللأندلس منزع ولليمن مذهب ولمصر لهجة وللشام أسلوب وللعراق نمط.»
والحال أن عبارتي هي هذه: «فللأندلس منزع يعرفه من ألف مطالعة كتب ذلك القطر، ولليمن مذهب لا يشبه مذهب المنشئين في العربية من فارس في كثير من الأمور، ولمصر لهجة خاصة يعرف الناقد البصير منها نسبة مؤلف الكتاب ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك من ألف ليلة وليلة، وللشام أسلوب يختلف شيئا عن أسلوب أهل مصر في الكتابة وكثيرا في الحديث، كما أن للعراق نمطا غير نمط أهل الشام ومصر وهلم جرا.»
أنا أعرض هذه الجمل على كل من شم رائحة العربية وأرجو منه أن يخبرني أين التكرار الممل والحشو الزائد هنا؟ هل يا ترى إذا قلنا: «فللأقطار العربية منازع مختلفة في الكتابة» نكون وفينا كل المعنى الذي يستفاد من هذا التفصيل ولا يكون ذلك إيجازا مخلا بما نريد بيانه؟
فإن كان مثل هذا حشوا، فماذا يكون قوله هو: «وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة» أم تكون البربرية بلا جهل، ويكون الأنس بدون معرفة؟ أو هناك فروق ودقائق لا توجد في المترادفات التي وقعت في كلامنا، وما هو المعنى الجديد المتبسط في قوله: «على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»؛ إذ ما الفائدة مما لا حاجة إليه؟ لقد أعجبته جدا كلمته هذه حتى كررها مرارا في رده الأخير.
قال في العمود الأول من رده: «يكيلونها كيلا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»، ثم بعد أسطر معدودات من موضعها الأول قال: «ما من كلمة إلا ومرادفاتها معها على غير حاجة إليها ولا فائدة منها» ثم بعد أسطر من هذا المكان عاد فكررها قائلا: «دليلا جديدا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم وأنه لا يزال مولعا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم جاء في العمود الثاني من مقالته فقال: «أعرف كثيرين من أدباء عصر الأمير وخريجي مدرسته وأستاذه ينحون نحوه في الإكثار من المترادفات يكيلونها جزافا من غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال في العمود الثالث من مقالته: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد ذلك بقليل في نفس العمود: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فقال منشوري للعامة.» ثم قال بعد ذلك بنحو عشرة أسطر: «لا أن تضاعف ألفاظك على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد هذه الجملة بسطرين لا غير أي حين لم يحن له أن يشتاق إلى هذه الجملة: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فأحالني على صبح الأعشى.»
وبالاختصار فإنه أورد جملة هي في الحقيقة: «لا حاجة إليها ولا فائدة منها» ثماني مرات في مقالة هي ثلاثة أعمدة، ولم يكثر عليه أن يرميني بالمترادف لغير فائدة وأن ينكر أسلوب العرب الأولين أهل اللسان، وأن ينصب نفسه إماما يجب على الناس أن يصلوا خلفه، وبهذا القدر كفاية. •••
بعد تحرير هذه المقالة اطلعت على صحيفة الأدب من «السياسة» الغراء المؤرخة في 21 نوفمبر فوجدت فيها مقالتين ممتعتين إحداهما بإمضاء «صدقي» والثانية بإمضاء «علي أدهم»، كل منهما ممن يتحدى الأسلوب الغربي ويحاكي مذهب كتاب الإفرنجة على شرط المحافظة على ديباجة العربية وإفراغ المعاني الجديدة والمنازع الأوروبية في القالب المتين مما هو نكتة المحيا والغاية القصوى.
فقد تصفحت هاتين المقالتين فوجدت في أولاهما ما يأتي في ذكر رسالة الغفران:
تطير نفسه شعاعا إلى نعيمها وملاذها.
يعدد ألوان النعيم ويصف أفانين الملاذ بأقصى قصارى مبالغاته.
ليست رسما مسطورا أو قصورا جامدة لا حراك بها.
لا مندوحة إذن عن أن المخيلة تحدس وتفترض.
فعلى مذهب الأستاذ السكاكيني «شيخ الطريقة الجديدة» لا وجه لذكر ملاذها بعد نعيمها، ولا محل لأفانين الملاذ بعد ألوان النعيم. وأي معنى لقوله: «لا حراك بها» بعد قوله: «إنها جامدة»، وما هي الضرورة لكلمة «تفترض» بعد كلمة «تحدس»، ولا فائدة للتأكيد ولا حاجة للتأثير على السامع، ومن قارن بين الاعتراضات التي اعترضها علي وبين هذه الجمل علم أن اعتراضاته واقعة على هذه أيضا وعلى العربية من أصلها.
وجاء في المقالة الثانية ما يأتي في وصف الكاتب الروسي الروائي إيفان ترجنيف. «زيادة اتساع الإحساس وترامي حدود المعرفة والإحاطة »، «ظاهرة ذات شأن كبير وحادثة بعيدة التأثير»، «وهو من كبار مفسري النفسية الروسية ومترجمي أسرار القلب السلافي.» سيقول لك السكاكيني أن لا محل لترامي الحدود بعد الاتساع، ولا لزوم لجملة بعيدة التأثير بعد ذات شأن كبير، وسينكر عليك ترجمة أسرار القلب بعد تفسير النفسية.
ثم ورد:
من العبقريات الثرة الفياضة»، «وربما كانت حماسته وتأججه أكثر من فيضه وتدفقه وعمق نفسه وبعد قرارها أكثر من اتساعها وانفراج ما بين أطرافها»، «ويدرس إشارة بذاتها ولمحة بعينها ويعي كل ذلك في حافظته ويرسمه في لوح ذاكرته.» سامحك الله أيها الكاتب الأديب، كيف تجرؤ أن تقول: ثرة وفياضة؟ أليستا مترادفتين؟ وكيف تجيز وضع عمق النفس بجانب بعد القرار، أوليسا شيئا واحدا؟ وما معنى لمحة بعينها مع إشارة بذاتها؟ وهل تحتاج أن تقول: «يعي كل ذلك في حافظته» ثم تردفها بقولك: «ويرسمه في لوح ذاكرته»؟ ولعلك تقول إن هذا من باب تنويع الصور للمعنى الواحد وارتياد التأثير في النفس ولكن هنا من لا يبيح لك هذا الأسلوب ومن يعيذ العربية منه ...
ثم ورد:
نفس سرية غير مسرفة ولا مبذرة.
الدائمة الحركة بلا ونية ولا انقطاع السائرة أبدا إلى الأمام مبتلعة كل شيء غير مبقية على شيء.
وكانت هذه النغمة متأصلة في نفسه، عريقة في طبعه، فقد كان لتأمله قوة الطبيعة وهولها يغمر مشاعره الجميلة بسيل من الحزن والأسى ويثير في نفسه العطف والحب للبشر شركائه في الخطب وإخوانه في البلاء.
أبعث على الكآبة وأكثر إثارة للشجن.
لا سيما غابة الصنوبر؛ فهي متشابهة متماثلة الشكول.
والمحيط يهدد ويتوعد.
التي ترمقه بغير ما عطف ولا حنان.
في ذلك الموقف تتراجع الآمال وتنكص على الأعقاب.
هناك يشعر الإنسان بعزلته وقلة حوله ونفاذ حيلته.
وفي الدنيا التي خلفها يستشعر الراحة والطمأنينة وفيها يستطيع أن يثق بقدرته ويصدق بقوته.
بادي الكآبة والحزن.
أخذت الظلال تنمو وتتكاثف وتخيم.
كيف أنتفع من عطاياك ومنحك.
وهل أنا هذا الشيء الخامد الهامد.
الصمت الملي بالحزن والشجو.
تهفو بي أشباح خادعة غرارة.
سرعان ما تنفجر لها ينابيع السعادة وتجيش شآبيبها.
يتزايد حزنك ويطغى شجنك.
أردت راحة ونشدت هدوءا.
لا أظن القارئ البصير يحتاج إلى تبين ما في هذه الجمل البديعة من المترادفات التي تزيد المعنى توضيحا وصبغة القول تلوينا، والتي لولاها لا يتم التأثير المطلوب في النفس، ولكن قاعدة الأستاذ السكاكيني تحظر كل هذا وتعده (غير عربي)، وإذا حاججته بكلام السلف الذين ورد في كلامهم مثله قال لك: «غير طبيعي، أو لا يستمرئه ذوق هذا العصر» وإذا قلت له إن هذا أسلوب الروائي الروسي إيفان ترجنيف ولا شك أنه أسلوب عصري أوروبي لا تقدر أن تقول فيه شيئا، أجابك: إلا أن هذا ليس مذهبي، وجف القلم. ومن هنا تعلم أن صاحبنا ليس في القديم ولا الجديد.
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (3)1
انتقدت إكثار الأمير من المترادفات بدون مسوغ، فرد علي ردا طويلا استغرق أربعة عشر عمودا من السياسة الغراء دافع به عن مذهبه وحاول أن يثبت أنه أسلوب عربي، فرددت عليه بثلاثة أعمدة قلت فيها إن التكرار لا يكون إلا لنكتة كزيادة التوكيد، نحو:
كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ؛ ونحو: «إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن.» وإن زيادة التوكيد هذه لا يقتضيها إلا المعاني التي يراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها، وإن المناشير إلى العامة يجب أن تكون بلغة مفهومة يتجنب فيها مثل قوله: «الشقص الأوفر»، وأن لا دخل للإطناب والإيجاز في إكثاره، وإنما الإكثار أن يضاعف معانيه ويتبسط فيها ما شاء وشاء المقام لا أن يضاعف ألفاظه على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.
وقد كنت أظن أنه لم يبق مجال للأخذ والرد، وإذا بالأمير يعود إلى الرد علي بكلام استغرق سبعة أعمدة من السياسة الغراء فقط! وإذا بنا لا نزال حيث كنا، كلامي في واد وكلامه في واد آخر. ومن العجب أن يلزمني كلاما لم أقله؛ إذ قال: «تحرير القضية أنك أنت تنكر المترادف مطلقا، وأنا أقول بل له مواضع»، وتحرير القضية أني قلت إن للإطناب - ومنه تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه - مواطن وشرائط نص عليها البيانيون، وأن الأمير يكثر من المترادفات، اقتضاها المقام أم لم يقتضها، فأنت ترى أن الجدال أصبح عقيما.
ولكني قلت لأجرد نفسي عن أن أكون المعني برد الأمير، ولأجعل منها شخصا ثالثا، ولأنظر في رده الأخير باعتبار أنه كلام الأمير لا باعتبار أنه رد علي، وللأمير في أن يسعني بحلمه فيما أعلقه على كلامه الرأي الموفق إن شاء الله.
إن الأمير - أعزه الله - وإن تكلف الدفاع عن مذهبه في الكتابة جهد ما يستطيعه كاتب كبير مثله، لم يسعه إلا أن ينكب في رده هذا الأخير عن مذهبه الذي ألفه وألفناه منه؛ إذ لم يأت فيه بالمترادفات يكيلها كيلا اقتضاها الحال أم لم يقتضها، كما فعل في منشوره إلى الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها ... إلخ، وكما فعل في رده الأول. ولا شك أن تنكيبه عن مذهبه - الذي لم يدافع عنه هذا الدفاع الشديد على غير طائل إلا ليقال إنه لم يعجز عن الرد - اعتراف منه أنه مذهب بال وأنه ليس طبيعيا ولا عربيا ولا يستمرئه ذوق هذا العصر. ولا شك أن أصحاب المذهب الجديد يرحبون بل يعتزون به، وأنا الضمين لهم ألا تحدثه نفسه بالعودة إليه، فلن يقول بعد اليوم كما قال قبله بدون مسوغ: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأمم وبدأت مع الأقوام مذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان»، وكما قال: «الشقص الأوفر والحظ الأكمل»، وكما قال: «إذا أراد الكاتب أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة»، وكما قال: «للغة الإفرنسية أسلوب خاص ونمط قائم بها» إلى غير ذلك ... ولا أخال الأمير إلا معترفا لي في قلبه أني قد كسبته - ولا أقول غلبته - وحسبي ذلك فخرا.
إن الأمير - أعزه الله - اعتمد في رده الأول على قواعد اقتبسها من صبح الأعشى، وعلى شواهد اقتبسها من أقوال بعض القدماء على ذمة راويها، فلم تغنه في الدفاع عن مذهبه شيئا، وأما في رده الثاني فقد جعل يستشهد بكتاب العصر، ولا شك أن هذا دليل آخر على أنه تجدد.
إن الأمير - أعزه الله - كان في رده الأول على علمه وفضله متأبها شديدا لا يقيم لأحد وزنا، وقد غضب لأن يقوم واحد مثلي فينتقده، وأما اليوم فقد ضاق ذرعا وجعل يتظلم ويستنجد القراء ويستنهض هممهم وينشدهم الله ويرجوهم، وإليك الدليل على ذلك من كلامه، قال: «والله قد أعيتني الحيلة، ماذا أصنع لأقنع مناظري بالعدول عن هذا المراء» وقال: «وأنا مع عجزي واعترافي بأنني لا أصلح أن أكون من تلاميذهم» أي من تلاميذ الفصحاء والبلغاء القدماء الذين استشهد بقولهم، وقال: «هل هذا مبلغك من الإنصاف أيها الأديب»، وقال: «نشدت الله كل قارئ منصف»، وقال: «أنا أعرض هذه الجمل على كل من شم رائحة العربية وأرجو منه أن يخبرني»، وقال: «أستنجد القراء الكرام، أستنهض هممهم، بالله عليك أيها القارئ الكريم» ... إلى غير ذلك؛ بل قد تواضع كثيرا فذكر اسم مناظره ووصفه بالأديب والأستاذ، وإن لم يخل رده من غمزات؛ كقوله: «صاحبنا أصبح صاحب مذهب، ولا غرو؛ فلكل زمان أبطال ولكل دولة رجال.»
لست يا سيدي الأمير صاحب هذا المذهب الجديد في الكتابة ولكنني من دعاته، فإذا كان لك شيء فدونك المذهب ففنده ولا شأن لك مع أصحابه ودعاته، إلا إذا كنت أرستقراطي المذهب في الكتابة كما أنك أرستقراطي المذهب في الاجتماع، فلا يجوز في عرفك أن يكون الكتاب من غير الأمراء؛ وكقوله: «فاربع على ظلعك، ولا تركب في غير سرجك»، وكأنه أحس بشدة هذه الغمزة - وإنه لإحساس عال أشكره عليه كثيرا - فاستدرك وقال: «فلسنا وإياك من تلك الطبقة»؛ وكقوله: «والله ما غضبت لنفسي مثلما غضبت لأساطين اللغة وسلاطين البلاغة أن يقوم اليوم واحد مثلي أو أعجز مني فيقول إن بلاغتهم صارت قديمة بالية»، ولا شك أنه يعنيني بقوله: «أعجز مني»، إني لأعجز كاتب أيها الأمير، أما وقد تشرفت أن أكون مناظرك فإذا نسبت إلي العجز في معرض الدفاع عن نفسك لا عن أساطين اللغة وسلاطين البلاغة فتلك كلمة أنت أدرى بما يفهم منها في هذا المقام ... ثم ألا يجوز أن يقال إنك لم تعظم من شأن القدماء فقلت إنهم أساطين اللغة وسلاطين البلاغة إلا تعظيما لشأنك؛ لأنك تكتب كما يكتبون، فكأنك قلت عن نفسك إنك من أساطين اللغة وسلاطين البلاغة، وليس قولك في آخر العبارة: «أن يقوم واحد مثلي أو أعجز مني فينتقدهم» إلا من قبيل التمدح في معرض التواضع؛ لأنك لم تنتقدهم، ولقد ذكرني تمدحك هذا في معرض التواضع بذلك الرجل الذي سئل: من كان في مجلس كذا؟ فقال: كان الأمير فلان والوزير فلان والكبير فلان والعبد الفقير، يعني نفسه على سبيل التواضع؛ وكقوله: «أدباء آخر زمان» كأنه يعني أنه خاتمة الأدباء فلا يجوز أن يتجرأ أحد بعده أن يمسك قلما. على أنه قد يفهم من ذكر اسمي بعد أن قال: «أنا استشهدت في ردي السابق بكلام الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبي عبيدة ... إلى أربعة عشر اسما» وقد جاء بهم قبسة عجلان أنه لم يذكره لا ليغري الكتاب والقراء وليعرفوا على من يصبون نقمتهم، فكأنه قال لهم هذا هو الذي يتنقص فضل السلف الصالح فارجموه.
يقول الأمير - أعزه الله: «إذا كان لهؤلاء مذهب - أي للجاحظ وعلي بن أبي طالب، فاستعمل «هؤلاء» للمثنى - فلست أنت الذي يأتي بنقيضه.» إذن يجوز أن ينقض ولكن على يد أمير مثله لا على يد صعلوك مثلي. ثم ما باله يصرف النقد عنه إلى الجاحظ وعلي بن أبي طالب وغيرهما؟ أنا لم أتعرض لأحد من هؤلاء، أم لعله يريد أن يحتمي بهم كما احتمى بأديبين من أدباء العصر.
مع إقلاع الأمير عن مذهبه كما ترى من مقابلة رده الأخير بمنشوره إلى العامة ورده السابق، ومع تواضعه في انتحال المذهب الجديد لم يسعه في رده علي إلا أن يظهر بمظهر المحافظين، فقال: «إن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كل عصر واحدة، وإن الذي قرره علماء الأدب هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية، الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد. إذا كان هذا مذهبك أيها الأمير - ولا أخال أحدا يقرك عليه - فقد انقطع الجدال وكفى الله المؤمنين القتال، وصار يحق لي الآن أن أقول: «لك مذهبك ولي مذهبي»، وإنهما لمختلفان جدا، ومن المستحيل أن أقنعك، ومن المستحيل أن تقنعني، وما أحراني أن أقف هنا وأترك بقية تعليقاتي على ردك.
العربي شرط لازم في القديم والجديد1
قرأت في جريدة «السياسة» فصلا عنوانه: «القديم والجديد» لأديب لم أعرف اسمه؛ لأنه لم يضع إمضاءه تحت ما كتبه، ولا أعلم هل يقصد من إبقائه رسالته غفلا هكذا أنه يتكلم بلسان «السياسة»، وكل ما يرد فيها بدون إمضاء يعتبر منسوبا إليها أم هناك وجه آخر؟
أنا لم أقل في وقت من الأوقات إنه لا يوجد أسلوب جديد، وإنه يحرم على الناس التجدد، وإنه إن جاز في شيء فلا يجوز في البيان، وإنما قلت إن لكل لغة أسلوبا أصليا أو نصابا معروفا لا بد من المحافظة عليه، وليس هذا خاصا بالعرب وحدهم. وإن اللغة العربية يمكنها أن تسع من المعاني الجديدة ومن المواضيع العصرية كل ما يعن للكاتب ويتوخاه المؤلف مع مراعاة ديباجتها الأصلية التي إن خرج البيان عنها كان عند العرب مستهجنا.
وقلت في موضوع التجدد: إن العقل البشري هو بنفسه لا يتغير؛ بل المعلومات هي التي تتغير، فأما الميزان الذي هو الراجع إليه الحكم بأن هذا صحيح وهذا فاسد، وأن هذا أصح من هذا، فإذا كان قابلا للتغيير فقد بطلت جميع الأحكام. وإن رقم 2 مع رقم 2 مجموعهما أربعة، كان ذلك منذ عشرة آلاف سنة، وهو الآن كذلك وسيبقى إلى ما شاء الله، ولو مضت مائة ألف سنة لا تصير الاثنان والاثنان خمسة.
وإن تناسب الأعضاء أو الأقسام هو الجمال أو الطلاوة استحسنهما الناس من زمان نوح كما استحسنهما الناس اليوم، ولا يمكن أن يصير الحلو مرا والمر حلوا بسبب تغيير الأيام وتجدد الأزمان؛ فالخلق استحلوا العسل من زمان سيدنا آدم ، واستمروا الصاب، ولا يزالون يستحلون هذا ويستمرون هذا إلى هذه الساعة، ولا يجوز أن يغمزوا من أجل ذلك بالجمود والنفور من كل شيء جديد؛ وذلك أن هناك ذوقا خلق في فطرة الإنسان لا يزول إلا بزوال هذه الفطرة أو استئناف فطرة ثانية مباينة للأولى. وليس المراد من ذلك حظر التجدد في الطرق والأساليب والزيادة والنقصان، ومراعاة المكان والزمان والتلون بصبغة الألوان المختلفة، كلا، إن التجدد في هذه العوارض هو مما لم يخل منه زمان ولا قال بمنعه عاقل، كما أن هذا لا يمنع القول بوجود مبادئ ثابتة راهنة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
إذن لست ممن يعترضون على أولئك الذين يريدون «أن يأخذوا بحظهم من الحياة ويريدون أن يفهموا الناس ويفهمهم الناس ويعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصلة بينهم وبين الأجيال الماضية»، كلا لأني من هؤلاء القوم أنفسهم لي ماض يشهد لي بذلك، و38 سنة في عالم المطبوعات؛ من أهرام، ومؤيد، ومقتطف، ومقتبس، وجرائد ومجلات عديدة عشت فيها مع الجيل الذي أنا فيه، واجتهدت أن أفهم الناس وأن يفهمني الناس، وجلت في أكثر المواضيع العصرية، وطالما ألبست يدي عند الكتابة قفازا. ولكنني حرصت على أن يبقى أسلوبي عربيا، وأن أقتدي بنغمة السلف في دولة فصاحتهم، وأن لا أقطع علاقتي مع الأجيال الماضية كما يوصي الأديب الذي يكتب في «السياسة»، ولو أردت أن أعيد نشر ما سبق لي في معنى حضارة المعاني في بداوة الألفاظ لظهرت لكل قارئ صحة دعواي هذه.
ولست بمن ينكر أن لكل عصر من الأعصر أسلوبا يمتاز عن غيره متلونا بلون ذلك العصر، ولا بمن يجحد أنه لو تلي الكلام المترجم في زمان بني العباس على أعرابي في الفلاة أو على من يألف هاتيك الألفاظ والاصطلاحات الجديدة لما فقه منه شيئا. إلا أنني أقول إن ذلك النسق لم يفارق نصاب اللغة، وأن للنزوع إلى الجديد حدا ينبغي أن يقف عنده، وهو الحد الذي لا يخرج به عن روح العربية ولا عن طريقة القوم أفصح وأبلغ ما كانوا.
وأما كون كل قديم في الأصل جديدا، وكل جديد سيعود قديما، فقد سبق إلى هذا الشاعر القائل:
إن هذا القديم كان جديدا
وسيبقى هذا الجديد قديما
ليس في ذلك مرية.
ولما كان الله قد من علي بمعرفة بعض اللغات الأوروبية ومطالعة آدابها والبحث في كثير مما يبحث فيه الأدباء الذين منهم صاحب مقالة القديم والجديد في «السياسة» كان لي الحق بأن أقول: ليست لغة من هذه اللغات فوضى يركب الكاتب فيها رأسه كما يشاء، ويغير ويبدل في آدابها وأساليب التعبير فيها ما يشاء بحجة التجديد والمعاصرة؛ بل ثمة قواعد وضوابط لا يمكن الكاتب عندهم أن يتعداها، وإن تعداها قيل لذلك «بربرية»، وإن شئنا أوردنا الشواهد. وأختم أسطري هذه بالاعتراض على جملة جاءت في مقالة كاتب السياسة، وهي: «إن شكيب أرسلان يرى الإطناب خصلة من خصال اللغة العربية قد عمد إليها أكبر الكتاب وأرفعهم قدرا منذ كان النثر العربي إلى الآن، فمن الحق أن نتبع طريقهم في ذلك. ويرى الآخر - أي الأديب السكاكيني - أن الإطناب خصلة من خصال اللغة العربية ولكن له مقامه.»
فليسمح لي الأديب في القول إن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وإن هذا غير جائز؛ خصوصا لمن أراد أن يحرر هذا الخلاف ويقف فيه موقف من يضبط الواقعة؛ إذ إن شكيب أرسلان لم يقل أصلا ولا في موضع من المواضع إن الإطناب خصلة من خصال اللغة العربية ملازمة لها ولا بد منها، لا؛ بل شكيب أرسلان كرر عدة مرات من قبل ومن بعد أن كلا من الإطناب والإيجاز والمساواة له مقام إن عدل به إلى غيره أخل ذلك بالفصاحة، فمن أين جاز لصاحب مقالة السياسة أن يعزو إلي ما لم أقله؟! ويجعل غيري هو القائل لما قلته وأكدته؟ إن كان ذلك صدر منه بدون تثبت ولا إمعان فليس بجائز الحكم قبل مطالعة نص كل من الفريقين، وإن كان بعد المطالعة والتدقيق فتكون المسألة أعظم، على كل حال فلم أفهم سبب هذا الافتئات علي ولا أنا ممن يفتأت بالسهولة عليهم.
نتفة من الشواهد على المترادف
إن هذا ليس بالشيء الذي لا يحصى حتى يجهد الإنسان نفسه في إحصائه؛ بل قلما أخذت يدك كتابا عربيا إلا وجدت هذا المذهب فيه مستفيضا يحاول فيه فصحاء العرب تمكين المعنى في نفس السامع، والتأثير على المخاطب بإبراز المراد في صور متعددة، وليس هذا هو من قبيل: لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن؛ بل هو من قبيل: لا آذن ولا أسمح ولا أرخص، إذا كان المقصود شدة النهي والمبالغة في المنع.
وإنما نأخذ على وجه المصادفة بعض الشواهد من الأولين والمحدثين ليزداد القارئ بصيرة.
قال الزمخشري في مقدمة الكشاف:
وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع، وسمات منشئ مخترع.
أنشأ كتابا ساطعا تبيانه قاطعا برهانه.
أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر صورة منه ناهض من بلغائهم على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر.
المثبت بالعصمة، المؤيد بالحكمة، الشادخ الغرة، الواضح التحجيل، النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل.
اعلم أن متن كل علم، وعمود كل صناعة.
طبقات العلماء فيه متدانية متدانية، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطى يسيرة، أو تقدم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة.
ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان تدق فيها مباحث الفكر، ومن غوامض أسرار محجبة وراء أستار لا يكشفه عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم.
ثم إن إملاء العلوم بما يغمر القرائح وإنهاضها بما يبهر الألباب القوارح كثير المطالعات طويل المراجعات.
مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها.
تمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما أزمنة.
يقظان النفس دراكا للمحة، وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة، وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا ولا غليظا جافيا.
قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف.
كثير السؤال والجواب، طويل الذيول والأذناب.
فهز ما رأيت من عطفي، وحرك الساكن من نشاطي.
مع تزاحم ما هو فيه من المشادة بقطع الفيافي وطي المهامه، ووفق الله وسدد. انتهى.
هذا ما قبسناه من كلام الإمام جاد الله الزمخشري في مقدمة الكشاف التي لا تزيد على خمس أو ست صحائف، وهذا ما يقول عنه الأديب السكاكيني «غير عربي» أو «غير طبيعي»، ومتى أعيته الحيلة في إبطال عروبيته أو تهجين أسلوبه التجأ إلى كلمة «لا يستمرئه ذوق هذا العصر.»
إن كان جاد الله الزمخشري لا يعرف أسلوب العرب في الكتابة فمن العبث أن ننشد هذه الضالة عند آخر وإن كان ممن أسميهم أنا وحدي بلغاء وفصحاء ولا يسلم لهم الأستاذ السكاكيني بالفصاحة والبلاغة فيا ضيعة العرب والعربية؛ لأن الناس سلموا للزمخشري بأنه من أقطاب العربية ومثلها العليا.
فانظر كيف لا يجوز لي أنا أن أقول في منشور للجمهور أكثر قرائه من العوام أو ممن شدا شيئا من العربية «منذ وجد الكيان وتساكن الإنسان مع الإنسان» ويجوز للإمام الزمخشري أن يقول للخواص الذين يقرءون تفسيرا مثل الكشاف «مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها.»
وانظر كيف يسمج قولي «الحظ الأكمل والشقص الأوفر»، ويستحسن قول الحجة القدوة الزمخشري: «قطع الفيافي وطي المهامه.» وتأمل أي كبيرة ارتكبت في قولي: «لها أسلوب خاص ونمط قائم بها»، ومثل الزمخشري من يقول: «يرتب ويؤلف وينظم ويرصف» ولا يرى ذلك علماء البيان من الكبائر، وهلم جرا.
ثم أثناء ما وقع نظري على الكشاف فأخذت منه هذه الجمل عثرت على تاريخ ابن الأثير فأخذت عن مقدمته الجمل الآتية: وليس ابن الأثير ممن يعد في طبقة الزمخشري ولكنه من علماء العربية، وبكل الأحوال أعلى طبقة من السكاكيني ولو رأى نفسه غير ما يراه غيره.
فأتت متناسقة متتابعة آخذا بعضها برقاب بعض.
لم أصلح ما فيها من غلط وسهو ولا أسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو.
والعزم على إتمامه فاتر والعجز ظاهر للاشتغال بما لا بد منه لعدم المعين والمظاهر ولهموم توالت ونوائب تتابعت.
طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب.
من أحيا المكارم وكانت أمواتا، وأعادها خلقا جديدا بعد أن كانت رفاتا، من عم رعيته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وأفضاله.
أخبار الماضين وحوادث المتقدمين، فإذا طالعها فكأنه عاصرهم، وإذا علمها فكأنه حاضرهم.
ومنه ما يتجمل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها، ونقل طريفة من طرائفها.
يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم ... إلخ.
ويناسب المقام أن نأتي بنبذة ثانية من كلام الكتاب العصريين راجين من حضرة مناظرنا أن لا يقول إننا احتمينا بهم لأنه ليس كل من استشهد بكلام أحد فقد احتمى به كما لا يخفى، وما أنا بأرفع من أن ألجأ إلى أحد من ذوي الفضل، لكنني لا أرى نفسي محتاجا إلى عضد أحد في مناظرته فأستعدي عليه الناس ليرجموه كما زعم، فأقول: لاحت لي مقالة في مقطم 6 ديسمبر الماضي للعلامة الأستاذ أحمد زكي باشا - الذي نظن أنه قرأ كثيرا ونقب كثيرا - فرأيت فيها ما يأتي:
يراجعون أضابيرهم وطواميرهم.
الرجوع إلى المصدر الحقيقي والينبوع الأصلي.
هذا الدرب كان عند تخطيطه وإنشائه.
مما يدعو إلى الاختباط والاختلاط.
وهو الإمام الحجة الثقة ابن سعيد الأندلسي.
فالمعنى الحتم والمدلول الجزم.
نجتزئ من كلام العامة المشار إليه بهذا القدر عن أن نتتبع هذا النمط في سائر مقالاته.
وهاك ما أخذناه من كلام الأستاذ طه أفندي حسين في بعض مقالاته الأخيرة في «السياسة»، فمنها ما جاء في مقالة في 16 ربيع الآخر:
أشرف وأنبل من أن تخدعه عن نفسها.
يصيح بلعن المرأة واستنزال سخطه عليها.
تكره أن تخضع لهذه المراقبة الدنيئة وهذا التجسس المرذول.
وزوجة تستعطفه وتترضاه.
أما صاحبه فيشبعه لوما وتأنيبا.
وتسألها عفوها ومغفرتها.
وإذا أخته فرحة مبتهجة.
إنها لذيذة ممتعة.
ثم من كلام الأستاذ طه حسين أيضا في مقالة بتاريخ 11 جمادى الأولى:
يضطربان ويترددان في ملعب التمثيل فيستأثران بهواك ويخلبان لبك:
وستحب هذا الأمر وترغب فيه.
لذتنا بهذه الآية واغتباطنا بها.
إلى الحزن والكآبة.
في غير هدنة ولا مهلة وفي غير تكلف ولا تصنع.
من الابتهاج والسرور إلى الابتئاس والعبوس.
ويتممون الليل في لهو ولعب (وهذا كما في آية كريمة).
سمح طلق سهل القياد.
فيعترف بفقره وإفلاسه.
وهي فرحة مبتهجة وهو تعس حزين ... إلخ.
وله من مقالة عن وزارة المعارف في 23 جمادى الأولى:
وكما يناقشون ويجادلون.
ولكن في أناة ومهل وعن بصيرة ورشد.
مفيد حقا نافع حقا لا يتغير ولا يزول بمجرد أن يتغير الوزير.
ومعنى هذا واضح جلي ... إلخ.
ومن كلام الأديب العصري «صدقي» الذي كتب على رسالة الغفران ما يأتي بتاريخ 21 ربيع الثاني من «السياسة»:
وفيه منادح لصرفه على غير السخرية والاستهزاء.
مما نتقارع فيه الحجج ونتساجل البينات.
أمثلة يتفاقم خطرها وتستفحل شدتها.
ويطير الطاووس الذي أكله واحتوته معدته.
استمتاع ملك أيديهم وطوع تصرفهم.
الخيالات التي تقلق ضمائرنا وتروع منهم أحلامنا.
ولم يستحدث أهل الجفوة والبداوة رقة المنعمين المترفين.
لا على مشيئة المؤلف وهواه.
أبقى على كل منهما شيمته موفورة بادية الميسم معروفة الشارة.
فعلى مذهب الأدب السكاكيني لا يكون محل لقول طه أفندي حسين: «وستحب هذا الأمر وترغب فيه»؛ بل كان عليه أن يقول: «ستحب هذا الأمر» ولا يتخطى هذه الجملة في هذا المعنى. وبعد أن ذكر الحزن فلا يجوز إردافه بالكآبة، وكذلك فأي ضرورة للتصنع بعد قوله «التكلف»، وما هو السائق لقوله «السرور» بعد قوله «الابتهاج»؟ وما هي زيادة المعنى في «سمح طلق سهل القياد»؟ أو في «فرحة» بعد «مبتهجة»؟ ثم لماذ يقول الكاتب العصري صدقي «السخرية» ويردفها ب «الاستهزاء»؟ وكيف يؤكل الطاووس ولا تحتويه المعدة؟ ولماذا يقول «المترفين» بعد قوله «المنعمين»؟ وهلم جرا.
وممن يصح الاستشهاد به البيان الصادر عن الوفد الفلسطيني، وأغلب الظن أنه بقلم الأستاذ المعترض نفسه؛ لأنه كاتب سر اللجنة التنفيذية، وقد اطلعت عليه في جريدة «الحقيقة» بتاريخ 29 جمادى الآخرة.
فقد جاء فيه: ذلك الماضي الفخم الضخم الذي كانت فيه الأمة العربية ... إلخ.
وفي اللغة: فخم الشيء فخامة: ضخم ، فما هو الداعي إلى إرداف «فخم» ب «ضخم» إذن؟
ثم قال:
مختلفة الأهواء والأمزجة.
في سبيل شهواته وأغراضه.
الخمول أو الانحطاط أو الهرم.
ممتلئة الجسم مكتنزة العضل.
يضعف وغيره يقوى ، يذل وغيره يعتز، وينحط وغيره يرقى.
وتعلن تعلقها به وإخلاصها له.
الحصن الحصين والملجأ المنيع الأمين.
فنحن في غنى عن إيضاح ما في هذه العبارات من الترادف بدون نكتة جديدة سوى تقوية المعنى في نفس القارئ. ومن سوء الحظ أننا لم نطلع على شيء من نثر الكاتب المعترض لنحاكمه إلى نفسه من نفس كلامه، وكل ما وقع لدينا من فصوله ومقالاته من بعد أن تعرض لانتقادنا وانتقاد فحول العربية الذين لا نصلح أن نكون من تلاميذهم على استعمال المترادف هو سطور معدودة تجنب فيها جهد الطاقة استعمال المترادف، ولكن الأسلوب العربي غلبه كما مر بك من كلامه؛ إذ ليس قوله الملجأ المنيع بعد قوله الحصن الحصين إلا من الترادف الصرف، والذي يضعف ويذل والذي يذل ينحط والتعلق والإخلاص مترادفان ... إلخ. فقد اتبع المذهب الذي أنكره وأعاذ العربية منه. وزعم الأستاذ في أول مقالة تصدى فيها لهذا البحث أن بعض الكتاب يكيلون المترادف جزافا ظانين أنهم بذلك يحتذون على مثال أحمد فارس في الساق على الساق مع أن مذهب أحمد فارس في هذا الكتاب هو الإتيان بالمترادف عمدا لتعليم الألفاظ التي هي في معنى واحد وليس ذلك بأسلوبه في الكتابة إذا لم يقصد هذا الغرض.
فنحن إن شاء المعترض نأتي له بمترادف يتراكم منه كتاب مستقل من كلام أحمد فارس في كشف المخبأ وسر الليال والجاسوس على القاموس ومجاميع الجوائب في المواضع التي لا يقصد بها ذلك الغرض لنفسه؛ بل يكتب على عادته ويكفي أن نسرد له المقالة التي أولها: من الناس من تخالج صدره من فنون الاقتراح خوالج، وتعالج فكره من شجون الاجتراح لواعج ... إلخ.
ومسرور الأستاذ السكاكيني أنه بفضل إرشاده قد مصح ما بي من مرض وصرت أتجافى عنه كما ظهر من مقالاتي الأخيرة، ولا عجب أن يقوم الأستاذ أسلة قلمي بعد أن تجاوزت الخمسين لا الأربعين وأن أصير عنده تلميذا ناجحا ... فقد ورد: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، ولكنه إن كان الله قد تداركني بالتوبة قبل الرحيل فلا أستطيع إلا أن أحزن على أولئك الأعلام من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين ومولدين ومتأخرين، ومن خلفاء وصحابة وتابعين، وعلماء وكتاب وخطباء ومصنفين كيف جاءوا في فترة لم يقيض الله لهم فيها من يهديهم طريق العربية الصحيحة وماتوا وهم على أغلاطهم.
ولم يقتصر الأستاذ - جزاه الله عني خيرا - على تثقيف ملكتي في الإنشاء بل تجاوز ذلك إلى النحو، ووقفني على دقائق من هذا الفن لم أكن أعرفها، أفلا تراه كيف نبهني إلى الخطأ الذي أخطأته في إشارتي إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والجاحظ بكلمة «هؤلاء» مع أن «هؤلاء» هي للجمع لا للمثنى، فمن يعرف هذه الدقيقة الجليلة غيره ... وفوق كل ذي علم عليم.
تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها (4)1
مر زمن غير قصير على اللغة العربية انصرفت عناية الكثيرين من أدبائها وعلمائها فيه إلى الصناعة اللفظية، من ذلك أنهم كانوا يطنبون حيث لا يجوز إطناب، ويكثرون من المترادفات اقتضاها المقام أم لم يقتضها. وقد اشتدت وطأة هذا المرض في زمن الإمام الزمخشري صاحب «الكشاف» و«أطواق الذهب»، وابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ، والطنطراني صاحب القصيدة الترجيعية المشهورة، وعماد الدين الأصبهاني صاحب الفتح القدسي وقد كان عمدة المنشئين في ذلك العصر، وغيرهم ... وقد سرت عدوى هذا المرض إلى عصرنا هذا فلم يسلم منها أحد من أكبر كاتب مثل الأمير شكيب أرسلان إلى كاتب هذه السطور، ولم تخف وطأة هذا المرض إلا من عهد قريب والحمد لله، فأخذ كثيرون من الكتاب أصحاب المذهب الجديد يميلون إلى الإيجاز ولا يطنبون إلا إذا اقتضى المقام الإطناب ...
وإذا كان لكل لغة أسلوب أصلي أو نصاب معروف لا بد من المحافظة عليه كما يقول الأمير شكيب في رده الأخير علي، فالمذهب القديم خروج عن ذلك النصاب المعروف والمذهب الجديد رجوع إليه، والخلاف بيني وبين الأمير ليس على هذا «النصاب المعروف» ولكن على أسلوبه، فهو يقول إن أسلوبه ينطبق على النصاب المعروف في اللغة، وأنا أنكر عليه ذلك، وقد طال الجدال بيني وبينه.
قال إن الإكثار من المترادفات يقتضيه مثل منشوره ذاك إلى الأمة العربية جمعاء.
إذا صح ذلك فما له يكثر من المترادفات في كل ما يكتب؛ سواء كان منشورا إلى العامة أم رسالة في الأدب.
قال إن الإكثار من المترادفات يقتضيه بعض الأحوال لتقوية المعنى، ولكن ما له يكثر من هذه المترادفات في كل حال. فلما رأى ورأى العارفون أن أسلوبه لا ينطبق على الأصول التي نص عليها البيانيون، ترك الأصول ولجأ إلى النقل، فهو يقول في رده الأخير: إذا جاز للإمام الحجة القدوة الزمخشري أن يقول: «وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع وسمات منشئ مخترع»، وأن يقول: «قطع الفيافي وطي المهامه» إلى آخر ما أورد من أقواله. وإذا جاز لابن الأثير وقد قال عنه «إنه ليس ممن يعد في طبقة الزمخشري ولكنه من علماء العربية، وبكل الأحوال أعلى طبقة من السكاكيني ولو رأى نفسه - أي السكاكيني - غير ما يراه غيره» مما ترى منه أنه لا يزال متألما غاضبا. يقول: إذا جاز لابن الأثير هذا أن يقول: «طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب»، وأن يقول: «من أحيا المكارم وكانت أمواتا، وأعادها خلقا جديدا بعد أن كانت رفاتا، من عم رعيته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وأفضاله» إلى آخر ما أورد من أقواله؛ بل قال: إذا جاز للأستاذ طه حسين وللعلامة الأستاذ أحمد زكي باشا وللأديب العصري صدقي وللمعترض نفسه أن يقولوا كذا وكذا، فلماذا لا يجوز لي أن أقول: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأقوام وبدأت مع الأمم مذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري، وتساكن الإنسان مع الإنسان؟» إلى غير ذلك مما جاء في منشوره وفي وروده.
من العجب أن تقول للمريض: أنت مريض، فيقول لك: وأنت مريض وكل الناس مرضى، كأن مرض غيره يعزيه أو ينفي المرض عنه!
لا يا سيدي ، لا يجوز لك ولا للزمخشري ولا لابن الأثير ولا للجاحظ ولا لابن المقفع ولا للحريري ولا لأحد أن يكثر من المترادفات في غير مواطن تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه، وغلطي وغلط غيري لا يشفع في غلطك، ولا يفيد العربية أن تحزن على من مات على مذهبك في الكتابة من العلماء الأعلام، وإنما يفيدها أن تراعي أصولها وأنت سيد العارفين.
والآن اسمح لي أن أنتقل إلى الكلام عن بقية الفروق بين المذهبين القديم والجديد، ويا حبذا لو تتفضل علي بإعلان رأيك فيها فأكون لك من الشاكرين.
قلت في إحدى رسائلي السابقة التي كانت منشأ هذا الخلاف بيني وبين الأمير، إن أصحاب المذهب القديم يكثرون من المترادفات في غير مواطن تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه، وإن أصحاب المذهب الجديد لا يكررون الكلام بلفظه أو بمرادفه إلا في المواطن التي نص عليها البيانيون تفاديا من الحشو وذهابا إلى الإيجاز، ولكن لا بد لي قبل أن أتكلم عن بقية الفروق أن أشير هنا إلى موضع آخر للإيجاز تتمة للحديث هناك.
في الاستعارة قد يكنى عن المستعار إما بجزء منه كقولهم: فلان على جناح السفر، إذا كان متأهبا له تشبيها للسفر بالطائر في سرعة المزايلة، فإنهم لم يذكروا الطائر ولكنهم كنوا عنه بجزء منه وهو الجناح. وأما بلازم معنوي نحو: نطقت الحال بكذا، أي دلت عليه تشبيها للحال بالخطيب وللدلالة بالنطق في الإبانة، فإنهم لم يذكروا الخطيب ولكنهم كنوا عنه بالنطق وهو من لوازمه، وقد يصرح بذكر الجزء مع ذكر اللازم المعنوي، فيقال: نطق لسان الحال بكذا، وقد يصرح بالذات رأسا، فيقال: نطق خطيب الحال.
ومع أن استعارة الجزء أو التصريح بالذات رأسا أبلغ من استعارة اللازم المعنوي كما يستفاد من أقوال البيانيين، يتراءى لي أن أصحاب المذهب الجديد يميلون إلى استعارة اللازم المعنوي دون استعارة الجزء أو التصريح بالذات، فيقولون: نطقت الحال بكذا مثلا، لا نطق لسان الحال أو خطيب الحال، أي إذا كانت الجملة الواحدة بليغة ولكنها موجزة والثانية أبلغ ولكنها أطول، آثروا الأولى على الثانية، وعلى ذلك فإنهم يقولون: «شحذ فلان رأيه وأرهف ذهنه» بدلا من: «شحذ غرار رأيه وغرار ذهنه أو سيفيهما»، و«ركب الباطل» بدلا من «ركب متنه أو مطيته »، و«طوى الحديث» بدلا من «طوى بساطه»، و«أضرم الشر أو أطفأه» بدلا من «أضرم ناره أو أطفأها»، و«زرع الأحقاد أو فثأها» بدلا من «زرع بذورها وفثأ قدورها»، و«استصبح بعلم فلان» بدلا من «استصبح بنبراس علمه»، و«انبت الشمل» بدلا من «انبت حبله» إلى غير ذلك وهو كثير؛ بل هم يستعملون هذه الألفاظ في مثل هذه التراكيب لا على سبيل الاستعارة ولكن على سبيل الترادف، فركب الباطل عندهم مرادفة لقولهم أصر عليه، وطوى الحديث مرادفة لقولهم تركه أو أجله وإلا فإنهم لو قصدوا الاستعارة لاستعاروا ما يناسب الحال ويلائم الحياة؛ لأن قولهم طوى فلان بساط الحديث كان يوم كان المتحادثون يجلسون على البساط، وأما اليوم فإن المتحادثين يجلسون حول موائد حمراء أو خضراء مستديرة أو مستطيلة، فإذا أردنا الاستعارة فالأولى أن نقول: رفعت مائدة الحديث لا طوي بساطه ... وإن قولهم «ركب فلان متن الباطن أو مطيته» كان يوم كان ركوب المطايا مألوفا، وأما اليوم فإن وسائط النقل كثيرة، وأقلها استعمالا المطايا، فإذا أردنا الاستعارة فالأولى أن نقول: تسلق فلان سيارة باطله أو دراجته لا ركب متنه أو مطيته ... بل يخيل إلي أن أصحاب المذهب الجديد يميلون إلى الإقلال من الاستعارات وقد يفضي بهم الأمر إما إلى العدول عنها بتاتا وإما إلى استعمالها في الشعر دون غيره، فيكون للشعر لغة ولغيره لغة أخرى.
أكثر العرب من الاستعارات يوم كانوا أهل خيال وأحلام، فكانت لغتهم شعرية لا يستعملونها إلا في بيان تأثراتهم فكانوا يتلاعبون بالألفاظ للمبالغة في بيان تلك التأثرات، وأما اليوم وهم يحاولون أن يجعلوها لغة العلم والفلسفة والسياسة والاجتماع، فلا بد أن تتطور فتراعى النسبة بين اللفظ والمعنى، وبعبارة أخرى؛ لا بد أن يقصد بها تقرير حقائق بألفاظ محدودة موضوعة لا تقبل الزيادة أو النقصان، ولا بد أن تتغلب هذه اللغة على لغة الشعر؛ لأنها أعم ولغة الشعر أخص، هذا إذا لم تتغير حدود الشعر.
القديم والجديد1
أستأذن القارئ الكريم في العودة إلى هذا الموضوع، فقد بقيت فروق بين المذهبين القديم والجديد لا بد من الإشارة إليها استيفاء للحديث.
التطور ناموس عام، فما من عنصر من عناصر الحياة إلا خاضع له رضينا أم كرهنا، ومن لا يؤمن بهذا الناموس فقد جهل كثيرا.
وإذا كنت قد اطلعت على ما كتبه أكابر كتاب مصر الأعلام في المدة الأخيرة حول المذهبين القديم والجديد في الكتابة، فلا بد أن تكون قد رأيت أن اللغة خاضعة لهذا الناموس، وأنه ما من سبيل لإخراجها عن حكمه، إلا أنهم لم يشيروا إلى آثار هذا التطور في اللغة إلا عرضا.
فما هي هذه الآثار؟
من تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى الإكثار في الكلام ولو خرجوا إلى الثرثرة لاعتبارات اقتضتها عقليتهم، فصاروا يميلون في هذا العصر الأخير - الذي انتشرت فيه روح الاقتصاد - إلى الإيجاز، كما رأيت فيما دار بيني وبين الأمير شكيب أرسلان من الجدال وليس العهد به ببعيد.
ومن تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى التكلف في الكتابة فصاروا يميلون إلى الأساليب الطبيعية فيها، كما كانوا يتكلفون في كل شيء فصاروا طبيعيين في كل شيء.
كان القراء قبل اليوم يجودون تجويدا، أو يستعملون لهجة الوعظ يقلدون بها خطباء المساجد أو رؤساء الكنائس الأجانب، أو يلزمون نغمة واحدة لا يكادون يسفلون فيها أو يعلون. وأما اليوم فإنهم يمثلون المعنى تمثيلا، وبعبارة أخرى صاروا يقرءون كما يتحدثون.
كان المغنون قبل اليوم يلزمون في كل حال نغمة واحدة سواء كان الموقف موقف حب أم حماسة أم بكاء، وأما اليوم فإن لكل موقف نغمة تناسبه.
يقال إن عبده الحمولي الموسيقي المشهور طاف ليلة مع بعض أصدقائه على مجالس الطرب، فما كان يجلس قليلا في أحد تلك المجالس إلا قال لأصدقائه: «قوموا بنا فإن هذا فقهي» أي إن المغنين في ذلك العصر كانوا يجودون لا يغنون.
كان الخطباء قبل اليوم يقلد بعضهم بعضا في إشاراتهم، وكانوا فيها متكلفين، يشير الخطيب بيده إلى الأمام أو إلى الوراء وليس في كلامه ما يقتضي تلك الإشارة، وأما اليوم فإن الإشارات جزء من اللغة تقوي المعنى أو توضحه أو تستدعي الانتباه إليه.
كان الرقص قبل اليوم تفككا، فكل حركة فيه كانت رقصا، وأما اليوم فإن الرقص لغة أخرى تمثل معاني النفس تمثيلا، وقد يمثلون بالرقص ما لا يمثله كلام. قد يكون في الرقص خشوع، وقد يكون فيه حماسة، وقد يكون فيه حب، وقد يكون فيه بكاء، وقد يكون فيه وعظ.
فأنت ترى من هذا كله أن الناس صاروا يميلون في كل مظاهر الحياة إلى الأساليب الطبيعية، وليس شيء أثقل على الروح في هذا العصر من التكلف.
فالأسلوب الطبيعي للكتابة أن يكتب الإنسان كما يفكر وكما يتحدث، فمن حاول أن يكتب ما لا يفكر فيه أو يتحدث به هو أو غيره، وما لا يلائم الحياة في شيء فقد تكلف، قد يكون تفكيره أو حديثه شيئا وما يكتبه شيئا آخر، قد يترجم حديثه نفسه وأما كتابته فلا.
إذا أراد الكاتب من أصحاب المذهب القديم أن يكتب فلا يستوحي عقله أو قلبه، ولا يستعمل من الألفاظ ما يؤدي مراده ويناسب المقام ويفهمه الناس، ولكنه يستوحي القدماء، يفتش عما قالوه في موضوعه في كل مظنة فيستعير معانيهم وألفاظهم ويدعيها لنفسه. لا تقرأ شيئا لهؤلاء الكتاب إلا أحسست أن كل لفظة فيه ليست لهم.
كان القدماء يستحسنون «التضمين» وهو أن يأخذ الشاعر أو الكاتب شطرا من شعر غيره بلفظه ومعناه، و«الاستعانة» وهي أن يأخذ بيتا كاملا، و«الإيداع» وهو أن يصرف معنى ما يأخذه من أقوال غيره عن مراد صاحبه، كما فعل الشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ جمال الدين بن نباتة بإعجاز معلقة امرئ القيس متعاتبين، فقال الأول في أول قصيدته:
أفي كل يوم منك عتب يسوءني
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فأجابه الثاني بقصيدة قال في أولها:
فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
و«الاقتباس» وهو أن يضمن الكاتب أو الشاعر كلامه شيئا من القرآن والحديث.
و«التلميح» وهو أن يشار في الكلام إلى قصة معلومة أو بيت مشهور أو مثل سائر.
و«العقد» وهو أن يأخذ الشاعر كلاما منثورا فينظمه بأن يزيد عليه أو ينقص منه حتى ينطبق على وزن الشعر.
وأما اليوم فإن أصحاب المذهب الجديد لا يميلون إلى شيء من هذا، فإنك لا تجد فيما يكتبونه آية أو حديثا أو مثلا أو شطرا أو جملة من بيت؛ بل لا تجد كلمة ليست لهم أو لا يعنونها.
إذا لم يكن بد للكاتب أو الشاعر أن يستعير معاني غيره ويستعين بألفاظه فعلى ألا يسرف في ذلك، وإلا كان كلامه صدى مرددا، هذا إذا لم نعده مسروقا، وعلى أن يكون ما يستعيره من المعاني وما يستعين به من الألفاظ مما يعنيه، ويقتضيه الحال الذي هو فيه، وإلا فقد يكون ما يعنيه أو ما يقتضيه الحال شيئا وما يكتبه شيئا آخر وهذا هو التكلف، بل الجمود، بل النفاق.
إذا قرأ التلميذ اليوم فتصنع في لهجته فإن الأستاذ يكلفه أن يطوي كتابه وأن يتحدث بما قرأ، والغالب أنه إذا تحدث يرجع إلى لهجته الطبيعية، ثم يكلفه أن يقرأ باللهجة التي تحدث بها.
وما أحرى الكاتب اليوم إذا خشي أن تغلب عليه الكلفة أن يتحدث بما يكتب لنفسه أو لغيره أولا ثم أن يكتب كما تحدث.
ومن أحب أن يرى كيف تكون الكتابة حديثا على سوقه الطبيعي فليقرأ ما يكتبه الدكتور منصور فهمي، والدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والأستاذ سلامة موسى، فإذا قرأهم فكأنه سمعهم يتحدثون.
بل إن أصحاب المذهب القديم أنفسهم على ولوعهم بالتكلف إذا ردوا على منتقديهم كانت كتابتهم أبعد عن الكلفة وأقرب إلى الطبع، كأن الغضب يخرجهم عن الكلفة ويردهم إلى حالتهم الطبيعية.
كان يجب - على رأي هؤلاء المتكلفين - أن يكون هناك كتاب في كل ما يعرض للإنسان من الشئون وما يتمثل له من الخواطر، على حد تلك الكتب الموضوعة في الرسائل التي تبدأ كل رسالة فيها بقولهم: «غب سؤال شريف خاطركم والاستفحاص عن غالي سلامتكم»، فإذا احتاج الكاتب منهم أن يشكر أو يهنئ أو يعزي أو يعتب أو يبث شوقه مثلا، فما عليه إلا أن ينسخ ما يريد من ذلك الكتاب بلفظه ومعناه ويوقعه باسمه.
وأرجو القارئ الكريم أن لا يكلفني أن أستشهد بأقوال أحد؛ فإني لا أحب أن أفتح علي باب الخصومة. •••
ومن آثار هذا التطور أن أصحاب المذهب القديم ينزعون إلى الأرستوقراطية في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الديموقراطية، فصار الكتاب فيه يكتبون لا للخاصة، ولا لتسلية الأمراء والكبراء أو التملق لهم أو السخر منهم، ولا للتفصح أو التمدح؛ بل لعامة الناس فيما ينفعهم في هذه الحياة.
من تلك الأرستوقراطية أن الكاتب منهم لا يقول فيما يكتب «أنا قلت» «أنا رأيت» بصيغة المفرد؛ بل «نحن قلنا» «نحن رأينا» بصيغة الجمع؛ تعظيما لشأنه، ولولا شيء من الحياة لابتدءوا كلامهم بالثناء على أنفسهم والإشادة بفضلهم، وختموه بقولهم: «من يستطيع أن يأتي بمثل هذا؟» على الطريقة البحترية، تعزيزا لمكانتهم عند العامة، وما أدرانا أنهم يكلفون غيرهم أن يقرظوهم ويعظموهم.
ومنها أنهم يبالغون في التأنق وتخير الألفاظ ولو خرجوا إلى الكلفة بل السخافة، وقد قسموا الكلام إلى رصين ومبتذل أو سمين وهزيل، وما الرصين السمين في عرفهم إلا الغريب المهجور، وما المبتذل الهزيل إلا المفهوم المأنوس. ولا تشيع لفظة على ألسنة الناس إلا أصبحت عندهم مبتذلة هزيلة لا يليق بأمثالهم أن يتسفلوا إلى استعمالها، وربما امتنعوا عن الكتابة بتاتا إذا اضطروا أن يكتبوا بلغة الناس.
لا ننكر التأنق؛ فإنه فطرة في بعض الناس، فقد ترى زيدا على غناه ووجاهته يخرج من بيته في الصباح بدون أن يغسل وجهه، على حين ترى جاره - على فقره وخموله - لا يخرج من بيته إلا نظيف الجسم والثوب حسن الهندام مسرح الشعر. والتأنق دليل علو في النفس وسلامة في الذوق، وهو مدعاة إلى الرقي، ولكن على أن لا يظهر المتأنق أنه متأنق، وبعبارة أخرى أن لا يتأنق لأجل التأنق، وإلا كان دليلا على سخافة العقل وفساد الذوق، وكان مدعاة إلى التدني.
كما لا ننكر الابتذال، ولكن الابتذال يكون في الجملة لا في اللفظة، فقولهم: «فلان يصطاد في الماء العكر» من الجمل المبتذلة التي لاكتها الأفواه وملتها الأسماع. وأما كل لفظة في هذه الجملة فلا ابتذال فيها، وإلا فكل ألفاظ اللغة المستعملة مبتذلة.
يقول هؤلاء الكتاب الأرستوقراطيون إنهم يكتبون للخاصة لا للعامة، ومنهم من يبالغ في أرستوقراطيته فلا تفهمه العامة ولا الخاصة.
وقف خطيب في حفلة أقيمت لتكريم شاعر كبير، وبعد أن قرأ كلمته «المحبرة»، وقد جاء فيها بالغريب وغريب الغريب، التفت إلى الشاعر - وكان جالسا إلى جانبه - وقال له: «أظن أنه لم يفهم كلامي إلا أنت وأنا»، فقال له الشاعر: «ولا أنا يا سيدي.»
وتراهم إذا كتبوا اضطروا إلى تفسير ألفاظهم في ذيل كل صفحة، وقد يكون التفسير أطول من المتن وأغمض.
إذا كنتم - أيها السادة الأجلاء - إنما تكتبون للخاصة، فلا حاجة إلى هذا التفسير؛ بل لا حاجة إلى كل ما تكتبون. وإذا كنتم تكتبون للعامة فكلفوا خاطركم غير مأمورين واكتبوا بلغة الناس ولكم الأجر.
نفهم أن الكاتب قد يضطر إلى كلمة غريبة لا يجد لها مرادفا في اللغة المألوفة فيفسرها، أما أن يترك الكاتب الألفاظ المأنوسة والتراكيب السلسة إلى ألفاظ مهجورة بالية وتراكيب معقدة غامضة على غير اضطرار؛ ليدهش الناس ويحملهم على الإعجاب به واستعظام قدره والثناء عليه، فتلك سخافة ليس بعدها سخافة.
ثم لو فرضنا أن هذه الألفاظ الغريبة التي يسميها الأرستوقراطيون «جزلة فخمة»، وأن تلك التراكيب التي يسمونها «أنيقة الديباجة» أصبحت شائعة فماذا يعملون؟ هل يخترعون ألفاظا وتراكيب جديدة، أم يغضبون كما غضب الصاحب بن عباد على صاحب كتاب الألفاظ فقال: «لو أدركت عبد الرحمن بن عيسى مصنف كتاب الألفاظ لأمرت بقطع يده»، فسئل عن السبب، فقال: «جمع شذور العربية الجزلة في أوراق يسيرة فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، ورفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ الكثير والمطالعة الكثيرة الدائمة.»
لم تغضب أيها الصاحب بن عباد على عبد الرحمن بن عيسى لأنه رفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ الكثير والمطالعة الكثيرة الدائمة، وإنما غضبت لأنه حاول أن يجعل من صبيان المكاتب وعامة المتأدبين أرستوقراطيين مثلك، وليس شيء أثقل وأشد على الأرستوقراطي من أن يدانيه أحد من العامة.
لقد أحسن عبد الرحمن بن عيسى في تقريب منال اللغة من المتأدبين، فهو يستحق على ذلك الشكر الجزيل، ولكنه أساء من حيث لا يدري؛ إذ قيد أقلام الكتاب بعده بتلك الألفاظ التي جمعها، فلم يحيدوا عنها، وإذا استعمل أحد غير ألفاظه قالوا هذا ليس عربيا، فكان كتابه هذا أول عهد اللغة العربية بالجمود والتكلف.
ذيل
جاء في [آخر البحث الثاني: في مقابلة الحروف العربية بغيرها]: يقال إنهم في بعض مدن أوروبا في الأجيال الوسطى بنوا كنيسة على طراز شرقي ... إلخ.
وقد اطلع على قولي هذا صديقي الأستاذ عادل أفندي جبر فتفضل بالكلمة الآتية:
إن دار البطريركية اللاتينية في مدينة الجزائر لا تزال فيها كتابات ونقوش إسلامية كثيرة تزين جدران قاعاتها الفسيحة، مثل: محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي ... إلخ، و«توكلت على الله» المنقوشة بالجص مكررة على أعلى تلك الجدران.
وكذا كنيسة (مارتورانا
Martorana ) في مدينة (بلرمه) عاصمة صقلية، فإن أعمدتها زينت بالنقوش العربية والآيات القرآنية، فضلا عن الكنائس المتعددة التي بنيت في إسبانيا بعد إجلاء المسلمين عنها، فإن جلها شيد وزين على مثال المساجد والجوامع بالنقوش والكتابات العربية.
صفحة غير معروفة