فهذه جمل البحار، وعند أكثر الناس أنها أربعة في المعمور من الأرض، ومنهم من يعدها خمسة، ومنهم من يجعلها ستة، ومنهم من يرى أنها سبعة منفصلة غيرمتصلة، وعلى أنها ستة فأولها البحر الحبشي، ثم الرومي، ثم نيطش، ثم ما نطش، ثم الخزري، ثم أوقيانوس الذي لا يعلم أكثر نهاياته، وهو الأخضر المظلم المحيط، وبحر نيطش متصل ببحر ما نطش، ومنه خليج القسطنطينية الذي يصب إلى بحر الروم ويتصل به، على حسب ما ذكرنا، والرومي بدؤه من بحر أوقيانوس الأخضر؛ فيجب على هذا القياس أن يكون ما وصفنا بحرا واحدا لاتصال مياهها، وليست هذه المياه ولا شيء منها والله أعلم متصله بشيء من بحر الحبش، فبحر نيطش وبحر مانطش يجب أن يكونا أيضا بحرا واحدا، وإن تضايق البحر في بعض المواضع يبنهما، أو صار بين الماءين كالخليج، وليست تسمية ما اتسع منه وكثرماؤه بمانطش، وما ضاق منه وقل ماؤه بنيطش، يمنع من أن تجمعهما في اسم مانطش أو نيطش، فإذا عبرنا بعد هذا الموضع في مبسوط هذا الكتاب فقلنا ما نطش أو نيطش، فإنما نريد به هذا المعنى فيما اتسع من البحر وضاق.قال المسعودي: وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري يتصل ببحر ما يطس، ولم أر فيمن دخل بلاد الخزر من التجار ومن ركب منهم في بحر مايطس ونيطس إلى بلاد الروس والبلغر أحدا يزعم أن بحر الخزر يتصل ببحر من هذه البحار أو بشيء من مائها أومن خلجانها إلا من نهر الخزر، وسنذكر ذلك عند ذكرنا لجبل القبق ومدينة الباب والأبواب ومملكة الخزر وكيف دخل الروس في المراكب إلى بحر الخزر، وذلك بعد الثلثمائة، ورأيت أكثر من تعرض لوصف البحار ممن تقدم وتأخر يذكرون في كتبهم أن خليج القسطنطينية الآخذ من نيطش يتصل ببحر الخزر، ولست أدري كيف ذلك، ومن أين قالوه. أمن طريق الحدس أم من طريق الاستدلال والقياس. أو توهموا أن الروس ومن جاورهم على هذا البحر هو الخزر وقد ركبت فيه من أبسكون، وهو ساحل جرجان، إلى بلاد طبرستان، وغيرها، ولم أترك ممن شاهدت من التجار ممن له أدب وفهم ومن لا فهم عنده من أرباب المراكب إلا سألته عن ذلك، وكل يخبرني أن لا طريق له إليها إلا من بحر الخزر حيث دخلت إليه مراكب الروس، ونفر من أهل أذر بيجان والباب والأبواب وبردعة والديلم والجبل وجرجان وطبرستان إليها لأنهم لم يعهدوا عدوا يطرأ عليهم، ولا عرف ذلك فيما سلف، وما ذكرنا فمشهور فيما سمينا من الأمصار والأمم والبلدان، سالك مسلك الاستفاضة فيهم.ورأيت في بعض الكتب المضافة إلى الكندي وتلميذه وهو أحمدابن الطيب السرخسي، صاحب المعتضد بالله أن في طرف العمارة من الشمال بحيرة عظيمة بعضها تحت قطب الشمال، وأن بقربها مدينة ليس بعدها عمارة، يقال لها تولية، ولقد رأيت لبني المنجم في بعض رسائلهم ذكر هذه البحيرة، وقد ذكر أحمد بن الطيب في رسالته في البحار والمياه والجبال عن الكندي أن بحر الروم طوله ستة آلاف ميل من بلاد صور وطرابلس وأنطاكية واللاذقية والمثقب وساحل المصيصة وطرسوس وقلمية إلىمنار هرقل، وأنا أعرض موضع فيه أربعمائة ميل، هذا قول الكندي وابن الطيب.وقد أتينا عيى قول الفريقين جميعا وما بينهما من الخلاف في ذلك من أصحاب الزيجات وما وجدناه في كتبهم وسمعناه من أتباعهم، ولم نذكر ما ذكروه من البراهين المؤيدة لما وصفا ة لاشتراطنا في هذا الكتاب على أنفسنا الاختصار والإيجاز.
مبادىء تكوين البحار
وأما ما تنازع فيه المتقدمون من أوائل اليونانيين والحكماء المتقدمين في مبادىء كون البحار وعللها فقد أتينا على مبسوطه في كتابنا أخبار الزمان في الفن الثاني من جملة الثلاثين فنا، وقد ذكرنا قول كل فريق منهم وعزونا كل قول من ذلك إلى قائله، ولم نخل هذا الكتاب من إيراد لمع من قولهم.وذهب طائفة منهم إلى أن البحر بقية من الرطوبة الأولى التي جفف أكثرها جوهر النار، وما بقي منها إستحال لاحتراقه.ومنهم من قال: إن الرطوبة الأولى المجتمعة لما احترقت بدوران الشمس وانعصر الضف منها إستحال الباقي إلى ملوحة ومرارة.
صفحة ٤٨