من يعطينا شمعة أمل في ظلمات اليأس المطبق؟ أين، متى يجتمع العلم مع الثورة والعاطفة مع المنطق؟ أترانا نخدع أنفسنا بالوهم المطلق؟ ونظام العدل «الممكن » هل يتحقق؟ أم تبقى عين الحلم مسهدة والجفن مؤرق؟ لم ننتظر وقد يأتي أو لا يأتي، قد ينجح في مسعاه أو قد يخفق؟ ماذا لو ينقذ كل منا نفسه؟ يخرجها من ظلمات الكهف ومن أسر الرق؟ ويشيد مع إخوته بيت العدل ومدن الحق؟!
إنقاذ الدولة
«ما لم يصبح الفلاسفة ملوكا على المدن، أو يبدأ أولئك الذين يسمون الآن ملوكا وحكاما في التفلسف الحقيقي، وما لم تتجمع السلطة والحكمة في شخص واحد، وما لم يصدر من جهة أخرى، قانون صارم يقضي باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شئون الدولة ...»
ماذا لو لم يحدث شيء مما تقوله العبارة المشهورة؟
ما لم يحدث ذلك كله، فلن تهدأ، يا عزيزي جلوكون، حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله (الجمهورية 3773ج-د، 473-499د). «ولن يتخلص الجنس البشري من البؤس حتى يصل الفلاسفة الحقيقيون الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء» (الرسالة السابعة 326د).
تعبير الملوك الفلاسفة أو الحكام الحكماء يتكرر ذكره في الكتاب السادس من الجمهورية، وتكاد الرسالة السابعة «التي ثبتت صحة نسبتها إلى أفلاطون، كما ثبت أنه كتبها في العقد الثامن من عمره» أن تكون شهادة اعتراف بهذا الأمل الذي ملأ عليه حياته، وباليأس الذي أصابه من إخفاقه في تحقيقه على أرض الواقع. وقد سبق له أن عبر في «برنامجه» الفلسفي الذي أعلنه في محاورة «جورجياس» - وهي أول ما ألفه بعد أن أسس الأكاديمية واستقر به الرأي على بذل بقية حياته وجهده للتعليم بدلا من تبديدهما في مغامرات لا جدوى منها ... - عن فكرته الصحيحة عن الدولة بعد مقارنتها بالطبيب الذي يعلم ماهية الصحة والأسباب الحقيقية التي تؤدي إليها أو تذهب بها، على خلاف الطباخ الذي لا يعرف إلا فن الطعام الجيد المذاق فحسب. فالسياسي الحق هنا يلجأ لوسائل أخرى غير وسائل القهر والعسف.
لكنه فصل هذا كله في الجمهورية وقدم لنا تصوره عن نموذج الدولة. لم يغب عنه أنه مثل أعلى من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيقه. أنها الدولة التي تحقق فكرة العدالة في عالم المكان والزمان والضرورة، عالمنا التجريبي المتغير، بقدر ما تسمح فكرة «المشاركة» بتحقيقها على الأرض. ولا تتضح فكرته عنها حتى يتضح رأيه في ترتيب الطبقات الثلاث التي تتألف منها، وهي طبقة الحكام، والحراس، والفلاحين والصناع والتجار. وتتحقق العدالة إلى أقصى قدر ممكن عندما «تقوم كل طبقة بواجبها»؛ إذ لو فعلت كل منها ما تريد لسادت الفوضى وعم الاضطراب. وإذا أرادت الدولة ككل أن تظل حية فلا بد أن تحافظ على هذا الترتيب المناسب لها، أي أن تحافظ على روحها. كيف يتم هذا الترتيب؟ بتقسيم واجبات كل طبقة حسب المبدأ الأول للفلسفة، فكل معرفة تفترض أن اللامعرفة مناقضة لها. ولهذا فلا بد للدولة أن تفرق منذ البداية بين أولئك الذين عرفوا المبدأ الأسمى، وهو أن يقوم كل إنسان بواجبه، أن يشغل المكان الذي تؤهله له قدراته وبين أولئك الذين لم يعرفوه ...
لن نبدأ إذا بالدولة المثالية، بل سنحاول أن نعرفها بضدها؛ إذ لو شئنا الدقة لقلنا إنه لا يصور مثال الدولة العادلة الخيرة، لأنه يقدم الصورة المقابلة عن الدولة الظالمة السيئة. ولو أراد أن يقدم ذلك المثال لما أمكنه أن يفعل؛ لأن عالم المثل لا ينطوي إلا على الخير. أما حيث توجد «النفس» فلا بد أن يوجد الخير والشر معا لأن النفس هي التي تختار بينهما. ولما كان للدولة «نفس»، ولما كانت صورة مكبرة من نفس الفرد، فلا بد أن يوجد نموذجان للدولة الخيرة والدولة السيئة، كما توجد صورتان للعارف والدجال، للمنقذ والطاغية المحتال.
فلنبدأ بالضد الأسوأ حتى نتبين ضده. ولنعرف طبع الطاغية الحاكم في الأموات الفانين، قبل لقاء الكامل والقديس الموعود، في بلد تشرق فيها شمس العدل على البشر المدعوين إلى مأدبة الدود ...
الدولة السيئة ليست كلا متحدا متجانسا. إنما هي شيء ممزق، دولة «بوليسية» ينفصل فيها الشعب عن الحكومة، فيسيطر البعض ويأمرون، ويخضع الآخرون ويطيعون. أما الدولة الخيرة فتكون فيها الطبقات كلا متحدا متجانسا، كيانا حيا عاقلا يعبر عن الحياة المنظمة المتآلفة.
صفحة غير معروفة