لكن ذلك هو عصرنا، الذي قبل أن تجتمع فيه جمعية للأمم، يخطب فيها الأعضاء بما يعبر عن رغبات شعوبهم، دون أن يكون الهدف تخاطبا أو تفاهما، وذلك هو عصرنا الذي يئس من عالم الصحو فلجأ إلى عالم الأحلام.
4
إن هذا الموقف الذي تكثر فيه المقابلة بين الذات، والموضوع، بين الإنسان والعالم، لم يعرف له - فيما أظن - مثيل في تاريخ الفكر كله، فلو اقتصر الأمر على تحليل يبين علاقة الطرفين أحدهما بالآخر في تحصيل الإنسان لمعرفته بالعالم الذي حوله، لقلنا إنها قضية قديمة، لكن الأمر يجاوز ذلك إلى حالة من الصراع والشعور بالقلق والغربة، كأنما الإنسان قد أحس بأن هذا العالم ليس هو مسكنه ومأواه، بل هو العدو المتربص، فأصبحت مهمته أن ينظر في طريقة الوقاية والدفاع.
إنني لا أعرف بين عصور التاريخ عصرا شعر فيه الإنسان بذاته بمثل ما شعر في عصرنا، ولا استبد به القلق فيه، كما استبد به في عصرنا، وحسبك أن ترى كم ألف مقالة وكتاب أخرجتها المطابع بكل لغة من لغات الأرض، يحلل فيها الإنسان نفسه. ما الذي يجري بين جوانحها ويصطرع، كأنما الجراح قد حمل بين أصابعه مبضعه، وتلفت فلم يجد أولى به من ذات نفسه.
لقد شهد تاريخ الفكر عصورا غنية بفكرها، شهدها في أثينا والإسكندرية ودمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وشهدها في النهضة الأوروبية وفي العصر الحديث منذ تلك النهضة. وما أظننا واجدين في أي من تلك العصور، انشغالا من الإنسان بتحليل نفسه، كالذي نجده منه اليوم، حتى لقد أصبحت مصطلحات التحليل النفسي بضاعة يتبادلها سواد الناس في أحاديثهم الجارية، وحتى لقد وضعت طبيعة الإنسان نفسها موضع التشكك والتساؤل: أهي عقل أم لا عقل؟ أهي وعي أم لا وعي؟ أهي الفكر المنطقي أم العقد المكبوتة والشهوات الحبيسة؟ وإن مؤرخي الفكر المعاصر لا يذكرون أربعة أعلام صنعوا هذا الفكر كله، إلا ويذكرون فرويد رسول اللاوعي، مع دارون في التطور، وماركس في الاشتراكية، وأينشتين في النسبية.
وقد أوشك أن يخلو الميدان للنظرية الفرويدية في طبيعة الإنسان، لولا أن أخذت فلسفات جديدة قوية تظهر، مؤكدة حقيقة الإنسان الواعية من جديد؛ فلم يكن الإنسان يعرف لنفسه - قبل فرويد - تعريفا أرجح صوابا من التعريف الأرسطي بأنه الحيوان الناطق، أي أنه - بين سائر الكائنات - هو الكائن المفكر العاقل الواعي؛ وحتى حين اشتد الشعور الديني في عصر الإيمان - العصر الوسيط - جعل الفلاسفة همهم لا أن يتنكروا للعقل المنطقي، بل أن يلتمسوا وسيلة للتوفيق بينه وبين العقيدة. وجاء العصر الحديث ليستهله ديكارت بقولته المشهورة: أنا أفكر فأنا موجود، أي أن الوعي أو الشعور أو الفكر أو العقل، هو شرط وجوده، فلو كان لا واعيا لما كان موجودا من حيث هو إنسان، ثم توالى الفلاسفة من ديكارتيين في القارة الأوروبية أو تجريبيين في إنجلترا وأمريكا، على هذا المنوال نفسه، وأيدهم في اتجاههم علم النفس التجريبي منذ ظهوره، فالوعي - أو الشعور - هو الأساس عند وليم جيمس كما كان هو الأساس عند فنت. ولم ينحرف بنا عن الطريق إلا فرويد وتابعوه، لكن الوقت لم يطل بنا مع انحرافه هذا، حتى ظهرت - كما قلنا - فلسفات تعدل الميزان، أخص بالذكر منها فلسفة الظواهر عند هوسرل، التي أرادت أن تبعد عن الرؤية كل ما هو طاف في مجرى الوعي من موضوعات وحالات، لترى ماذا تجد وراء ذلك، فوجدت وعيا خالصا، وليس وراء الوعي إلا وعي، وتلك هي حقيقة الإنسان وجوهره. وقد جاءت فلسفة سارتر لتنهل بدورها من هذا المعين، فلم يجد سارتر في الإنسان - بعد كل تحليلاته في أغوار النفس - إلا حالات من الوعي.
ولا أدع فرصة هذا الحديث عن الوعي، دون أن أشير إلى نقطة فرعية لها أكبر الخطر في الفكر المعاصر، ألا وهي فكرة «الآخر»؛ فقد كان الفلاسفة من قبل على ظن بأن الإنسان يمكنه الوعي بنفسه، مفردا، دون حاجة منه إلى شخص آخر، لا بل ربما دون حاجة منه كذلك إلى الكون بأسره، قال سقراط للإنسان: «اعرف نفسك بنفسك»، كأنما ذلك في مستطاعه، وكأنما اقتصار الإنسان على نفسه هو وحده كاف لمعرفته لتلك النفس. وكذلك قال ديكارت: «أنا أفكر فأنا موجود.» كأنما وجوده متوقف على كونه، هو في حد ذاته، مفكرا، دون أن نسأل: «مفكر في ماذا؟» ولكن معاصرينا جميعا، ممن تناولوا الوعي الإنساني بالتحليل والدراسة، وجدوا أن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء، فمجرد اعترافنا بقيام الوعي أو الفكر، يصبح في الوقت نفسه اعترافا بوجود ما نعيه أو ما نفكر فيه، أي أنه يصبح اعترافا بعالم الأشياء والأشخاص. ومن هنا بات واضحا أن كلمة «أنا» التي جعلها ديكارت محوره، لا يتم معناها إلا «بالآخر»، كما أصبحت معرفة الإنسان لنفسه، التي أوصى بها سقراط مستحيلة إلا إذا أخذنا «الآخر» في اعتبارنا؛ لأن وجود الآخر شرط جوهري لمعرفتي لذاتي.
وإني لأنظر إلى هذه الفكرة الغنية الخصبة، فكرة أن الذات المتفردة بخصائصها الفريدة المميزة، تتضمن بالضرورة وجود الآخرين، ثم أنظر إلى تيار الفكر العربي الراهن، فلا أجد فكرة واحدة تمثله بأجلي مما تمثله هذه الفكرة، فلو سئلت: ما قضية القضايا في الفكر العربي المعاصر؟ لأجبت في غير تردد، إنها هي التماس الأساس النظري الذي يضم الفرد المتميز إلى تضامن الجماعة، دون أن ينمو أحدهما على حساب الآخر، فأولا - على المستوى الثقافي العام - مشكلتنا الفكرية الأولى، هي أن نحافظ على كياننا الثقافي الخاص دون أن ننحصر فيه، بل نمد من أطرافه حتى يشمل أركان الثقافة العصرية كذلك، بعبارة أخرى: مشكلتنا هي أن نخلق مركبا ثقافيا يتيح لنا أن نقول: ها نحن، بكل خصائصنا ومميزاتنا، شريطة أن تتضمن الإشارة إلى أنفسنا، إشارة إلى كل مقومات الحضارة العلمية الجديدة.
وانظر إلى قادة الفكر وأعلام الأدب في تاريخنا العربي القريب، تجدهم - في الكثرة الغالبة - يحاولون هذه المحاولة: محمد عبده يعرض مبادئ الدين الإسلامي على نحو يبين ألا تعارض بينه وبين العلم، لطفي السيد يبسط المبادئ السياسية بسطا يقربنا من مناخ عصرنا، العقاد يشيع من مبادئ النقد الأدبي ما ينقلنا إلى تصور جديد يتفق مع قيم العالم من حولنا، طه حسين يدرس الأدب على ضوء المناهج العلمية، وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة يشكلان بأدبهما الإنسان العربي الجديد، وغير هؤلاء وأولئك كثيرون. ثم ها هم أولاء كتاب المسرحية والقصة جميعا، يدخلون على الأدب العربي فنونا لم يألفها من قبل، فيستعيرون من الغرب القوالب الفنية ليملئوها بمضمونات عربية محلية، وانطلق الباحثون في مجال الدراسة الفلسفية، يعيدون كتابة الفلسفة الإسلامية ليبرزوا جوانب الأصالة فيها، ويسايروا مع ذلك تيارات الفلسفة كلها السائدة في عصرنا، والمعبرة عن روح ذلك العصر.
جهود فكرية متلاحقة، منذ أول هذا القرن؛ وإلى يوم الناس هذا، تدور كلها حول إيجاد الصيغة التي تحمل طابعنا العربي المميز، مقرونا بملامح العصر.
صفحة غير معروفة