فلما جاء عصرنا هذا الذي نحياه، بكل ما شاع فيه من الضغوط على فردية الفرد، ولاذ الفرد عندئذ بجبل الفن يعصمه من ذاك الضياع. استقل المصور بتكويناته اللونية عن موضوعات الطبيعة، ووضع على لوحته ما يحقق ذاته هو، لا ما يخضع به لأي شيء خارجي يفرض عليه، وكذلك فعل النحات في تماثيله، إذ جعل همه أن يصوغ مادته على أي نحو شاء، مما يراه متناسبا مع طبيعة تلك المادة، ولا أحسب أن المصور أو النحات قد ضل بذلك جادة السبيل، إذ ليس في اللون نفسه - الذي هو وسيط فن التصوير - ما يفرض علينا استخداما بعينه، كلا، ولا في قطعة البرونز أو الرخام، ما يحتم علينا أن تصاغ على وجه دون وجه آخر، وإلى هنا والأمر مقبول، لكن الشاعر أراد أن يلحق بزميليه المصور والنحات، بأن يرص اللفظ على أي نحو شاء، وها هنا - فيما أرى - شيء من ضلال، لأن مادة الشعر - على خلاف مادة التصوير ومادة النحت - فيها ما يحتم أن يرتبط اللفظ بمدلوله، لأن كل لفظة هي بمثابة تعاقد اجتماعي بين الناس على طريقة استخدامها، أو لم يكن يكفي الشاعر ليضمن لنفسه حريته واستقلاله عن ضواغط الدنيا المحيطة به، أن يبني لنفسه ما شاء من قصور مسحورة يعيش فيها، ونعيش فيها معه، شريطة أن يحافظ لألفاظه على قوة التوصيل، حتى نستطيع أن نتابعه وهما بوهم، وخيالا بخيال؟ انظر إلى فن العمارة كيف جدد نفسه ليلائم عصره، فبنى العمائر والمطارات والفنادق وغيرها؛ بناها متأثرا بالعلم الجديد، وبالحياة الجديدة، لكن الفنان لم ينس قط أن العمارة تبنى لتسكن، وأن المطار يبنى ليصلح للطائرات، وهكذا ينبغي للشعر أن يجدد نفسه كيف شاء على ألا ينسى أن مادته من لفظ، وأن اللفظ صنعه الناس ولم يصنعه الشاعر، أو قل صنعه الشاعر فاستخدمه الناس فالتزم به الشاعر والناس جميعا، وقد صنع اللفظ ليرمز أو يشير، لا ليكون صوتا بلا دلالة، فإلى هنا والشاعر مقيد ملتزم، وبعد ذلك هو حر طليق.
ويجرنا هذا إلى قضية الالتزام في الأدب والفن، وهي قضية يثار حولها الجدل، وتكثر فيها التحليلات والشروح، على أن أبسط صورة لها هي هذا السؤال: هل يكتب الأديب لنفسه ما يشبع هواه؟ أو هو يكتب ليتناول موضوعا مما يهم الناس في مشكلات حياتهم؟ وإنه ليجدر بنا في هذا الموضع من الحديث، أن نذكر بأن سارتر - وهو من أهم من يرجع إليهم في موضوع الالتزام هذا - يخرج الشعر من دائرة الالتزام التي يريدها للنثر وحده؛ ذلك أن اللغة لا تؤدي في الشعر الدور نفسه الذي تؤديه في النثر، ففي الشعر تكون اللغة مقصودة لذاتها، لا لما تدل عليه خارج حدودها؛ وأما في النثر فاللغة أداة بأدق معاني كلمة «أداة»، هي أداة تؤدي لسواها، وليست هي بمقصودة لذاتها، ولذلك وجب أن يكون للنثر موضوع خارجي. فماذا يكون الموضوع الذي يتناوله الكاتب إن لم يكن ماسا بحياة الناس ومشكلاتهم؟
هذه خلاصة ما يقوله سارتر في كتابه «ما الأدب؟» لكن هنالك من يريد أن يوسع من التزام الأديب ليشمل الشعر أيضا، بحيث لا ينظم شاعر ولا يكتب ناثر، إلا إذا أدار نظمه أو نثره حول مشكلة مأخوذة من حياة المجتمع، كما أن هناك من يضيق مجال الالتزام، بحيث يلغيه بالنسبة إلى النثر وإلى الشعر معا ...
هذا هو الوضع من الناحية النظرية، وأما من الناحية العملية، فإني أعتقد أن الأديب غير الملتزم لم تشهده الدنيا لا في قديمها ولا حديثها؛ إذ أقل ما يقال في هذا الصدد، أن الأديب الحق ملتزم بالصدق، سواء كان ذلك الصدق متصلا بموضوع خارجي يتناوله الأديب، أو متصلا بحالة شعورية داخلية. وحسبه بالتزام الصدق التزاما، لأنه حمل ثقيل، لا يقوى على الاضطلاع به إلا الصفوة الممتازة.
وحركة الفن الحديث مرتبطة بقضية أخرى من قضايا العصر، وأعني بها حركة اللامعقول في الفن والأدب، بل إن عصرنا كله، بجميع اتجاهاته ونزعاته ليوسم باللامعقولية هذه، تمييزا له من أعصر سلفت، كان العقل رائدها. لكن ماذا نعني بالعقل، حين نصف به عصرا ولا نصف به عصرا آخر؟ الحق أن تعريف الأشياء والأفكار هو من أشد الأمور عسرا، حتى حين تكون مألوفة متداولة، فما بالك إذا أريد لنا أن نعرف مفهوما هو في ذاته متشعب الحنايا كمفهوم «العقل»، فما أيسر أن تسوق هذه الكلمة في الحديث، حتى إذا ما وقفت عندها تطلب لها تحديدا، ألفيتها زائغة رواغة لا تكاد تمسك من خيوطها خيطا بين أصابعك، حتى يفلت منك ويختفي. والأمر في هذا شبيه بموقفك من المدينة التي تسكنها، تستطيع في يسر يسير أن تجوب خلال شوارعها ودروبها، فإذا قيل لك ارسم لها خريطة تعذر عليك الأمر، ففي مفهوم العقل: ذكاء، ومعرفة، وإرادة، ونوازع، ومشاعر، وإدراك بالحواس واستنباطات رياضية، وخيال، وتذكر، وعشرات الجوانب الأخرى، مما يكون موضوعا علميا بأسره، هو علم النفس، فضلا عن الفلسفات التي عنيت بتحديده وتحليله عن طريق الاستبطان والحدس والتأمل. ترى ماذا يراد من هذه العناصر الكثيرة، حين يقال إن العصر الفلاني - كالقرن الثامن عشر في أوروبا مثلا - كان يسوده العقل، وإن العصر الفلاني الآخر - كالقرن العشرين - عصر يسوده اللاعقل؟
أظن أن أقرب شيء إلى الصواب، هو أن نجعل تحديد الهدف وطريقة الوصول إليه، علامة تميز العقل من اللاعقل، فإذا رأيت رجلين في الطريق، أحدهما يعرف وجهته ويعرف الطريق إليها ويسير وفق معرفته هذه، والآخر يخبط خبط عشواء - كما نقول - فلا هو يعرف لنفسه هدفا، ولا هو بالتالي قد حدد لنفسه طريقا يسير فيه، أقول إننا إذا وجدنا مثل هذين الرجلين، وصفنا أولهما بالعقل، ووصفنا الآخر باللاعقل، على أن طريق السير العاقل، شرطه دائما أن تجيء الخطوات فيه مرتبة على نحو يجعل السابقة فيه مرتبطة باللاحقة، كي ينتهي السير إلى الهدف المقصود.
ونعود إلى عصرنا هذا، فنراه عصرا قد شهد حربين عظميين، ونرجو ألا يشهد ثالثة، برغم أنه يرهف لها السلاح؛ هي حروب استخدم فيها الإنسان كل ما قد بلغه من علم وتقنية ومهارة، لغير ما هدف. إنه عاقل حين أنشأ العلم، لكنه مجنون حين استخدمه.
ونراه عصرا يذهب فيه المحللون للنفس الإنسانية إلى أنها مسيرة بغرائزها، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا تكون الغريزة المسيطرة. ومعنى ذلك أن الإنسان إذ يتصرف في مواقف حياته، وإذ يعامل الناس بالحب أو بالكراهية، فهو لا يتصرف على هدى خطة مرسومة لتحقيق هدف معلوم، بل يتصرف للتخفيف عن نفس مكروبة بما احتبس فيها من رغبة وشهوة.
ونراه عصرا قد سدت فيه وسائل التوصيل بين ذات وذات، حتى ليظن أن كل فرد يعيش في نفسه ولنفسه، كأنما أفراد الإنسان جزر معزول بعضها عن بعض بخلجان من الماء مستعصية على العبور، أو كأنما هم ذرات روحية كالتي قال عنها ليبنتز، كل ذرة منها عالم قائم بذاته لا يفتح نوافذه على ما عداه؟ وإذن فلا تفاهم بين إنسان وإنسان؟ أو فلنوسع من مجال القول بعض الشيء، فنقول إنه لم يعد التفاهم ميسورا بين أمة وأمة، فكان ذلك من أعجب مفارقات هذا العصر، لأن وسائل الاتصال المادية من إذاعة مسموعة ومرئية قد اشتد ربطها لأجزاء الأرض، فاشتد تباعد العقول والنفوس، بدل أن يشتد قربها.
تجمعت هذه العوامل كلها، فلما جاء العلم وتطبيقاته، كاد يغرق الفرد في لجة لا يملك فيها لنفسه أن يختار طريقه في دنيا العمل، ولا أن يختار سبيله في أوقات الفراغ ، ففر إلى عالم اللامعقول، ينشئ فيه أدبا لا تسلسل فيه بين علة ومعلول، بل لا ارتباط فيه بين لفظ ومعنى، وينشئ فنا لا يعني شيئا خارج حدود ذاته، فعليك أن تنظر إلى اللوحة لا تجاوزها إلى مدلول يشار إليه خارجها. وما بالك بعصر يقبل أن يدار على المسرح حوار لا محاورة فيه، لأن العلاقة منبتة بين السائل والمسئول.
صفحة غير معروفة