ذلك في المجال الثقافي بصفة عامة، فإذا انتقلنا إلى المجالات النوعية في حياتنا الفكرية، ألفينا هذه الجهود نفسها تبذل، نحو أن نجمع بين «أنا» و«الآخر» في وحدة واحدة، فثورتنا الاشتراكية تعبير قوي صادق عن هذا المبدأ، إذ المحور فيها هو هذا الدمج بين الخاص والعام، دمجا تظل تشعر فيه ال «أنا» بنفسها لكنها كذلك تشعر أن ليس لها كيان كامل إلا بأن يضم إليها «الآخر» وتضم إليه؛ نعم إن أنظمة كثيرة قائمة في بلاد أخرى، قد غلبت طرفا على طرف، ولم نستطع إقامة الميزان معتدل الكفتين، لكننا في محاولة دائبة نحو تحقيق هذا المثل الأعلى، وقد كان لا بد لنا من المحاولة، لأن التبعة الفردية أمام الضمير وأمام الله جزء من تراثنا الروحي، وينبغي أن تظل جزءا من طابعنا الشخصي المميز، كما ينبغي في الوقت نفسه أن تمتد هذه التبعية حتى تشمل الأمة العربية، بل الأمة الإنسانية إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبذلك يتسع نطاق «الأنا» إلى «نحن» التي تشمل الآخرين مع ذواتنا.
ولعل هذه الرابطة الوثيقة العميقة، بين «أنا» و«الآخر» - وهي رابطة تكمن في جذور الثقافة المعاصرة كلها - أقول لعلها لا تتبدى في قضية من قضايانا الفكرية، تبديها في قضية الوحدة العربية، فما تلك الوحدة في صميمها إلا توسعة من معنى «الأنا» بالإضافة «الآخر» إليها، على أن هذا الآخر بدوره - ومن زاويته - هو «أنا» تتسع هي الأخرى على الصورة نفسها. إن هذا الترابط بين الوحدات في كل واحد يحتويها ويضيف إليها عمقا وأبعادا جديدة، أمر مألوف في الكائنات العضوية كلها، ومن بينها آيات الفن على اختلافها. فالخلية الواحدة في جسمها العضوي، والبيت الواحد في القصيدة والخط الواحد أو اللون في اللوحة الفنية، كل هذه وحدات تضاف إلى أخواتها فتغزر وجودا، وتعمق كيانا، وتزداد خصوبة وغنى، دون أن تنقص في سبيل هذه الزيادة شيئا.
وإن هذا ليصدق أيضا على مشكلة القومية والعالمية، التي يكثر عنها الحديث، حتى ليقال أحيانا إن العصر عصر قوميات، فهاهنا قد يقال: وفيم تقسيم الإنسانية إلى أقوام يتعصب كل منها لوجوده الخاص؟ وجوابنا عن ذلك هو نفس الجواب: إنني إذا ضمنت أن تصان فرديتي، ثم تجيء الإضافة إضافة جديدة، تزيد من وجودي ولا تنقصه، فلن أتردد عندئذ، في أن أفهم إنيتي على الوجه الذي يتسع للآخر، لكن ذلك يستلزم أن يقف مني هذا الآخر كما أقف منه، لا أن يظهر التآخي ويضمر السيادة والسيطرة، فتضيع مني حتى الأنا المعزولة في فقرها وضمورها.
ها نحن أولاء قد بسطنا طائفة من قضايا الفكر المعاصر، وأوضحنا موقفنا - نحن العرب - منها: عرضنا قضية الصراع بين سيطرة العلم والصناعة والتقنيات وبين حريات الأفراد وما تتعرض له من الضياع؛ وعرضنا قضية الموضوع الطبيعي وطغيانه وكيف لاذت النفس الإنسانية بدنيا الفنون تحتمي بها، واقتضى ذلك أن نعرض لقضية الالتزام في الفن والأدب، ولقضية المعقول واللامعقول، ثم جرنا هذا الحديث عن عودة الوعي إلى الظهور على مسرح الفلسفة بعد أن انفرد به اللاوعي حينا. وبينا أن الوعي في تصورنا الحديث يقتضي بالضرورة وجود الآخرين مع الأنا الواعية، وطبقنا هذه الفكرة الأساسية على ثلاث من أهم قضايانا العربية: الأولى هي احتفاظنا بشخصيتنا الثقافية مع ضم الثقافة الحديثة الواحدة إليها، والثانية هي جمعنا بين حرية الفرد الواحد مع ضرورة أن يأخذ سائر المواطنين في اعتباره، والثالثة هي قضية الوحدة العربية، التي تصون لكل قطر مميزاته، ثم تضع الكل في كيان واحد.
ألا أن الإنسان ليحيا، بقدر ما يشارك العصر في فكره، رافضا هنا، معدلا هنا، وراضيا هناك. وإنا لنحمد الله أن نرى الأمة العربية قد استيقظت لعصرها، ترفض منه، وتعدل فيه لترضى آخر الأمر بما تصنعه لنفسها بنفسها.
الإنسان والرمز
لست أعرف حقيقة فلسفية انتقلت من ميدان الفلسفة المحترفة إلى سواد الناس وعامتهم، بمثل هذا الانتشار الواسع الذي انتقلت به الحقيقة القائلة عن الإنسان إنه كائن متميز بالعقل دون سائر الكائنات الحية.
غير أن الفلاسفة إذ يميزون الإنسان بهذه الصفة فإنما هم - في أغلب الحالات - يقصدون بكلمة «العقل» تفصيلات خاصة يحددون بها مفهوم الكلمة في استعمالهم. ولعل من أشهر العبارات التي قالها فيلسوف ليصف الإنسان من هذه الناحية، عبارة أرسطو: «الإنسان حيوان ناطق» وهو يريد «بالنطق» هنا ذلك الجانب من الإنسان الذي يسمى «عقلا»، وهذا الجانب عنده يتمثل في عمليات رئيسية ثلاث:
الأولى:
هي أن يستخلص الإنسان من خبراته الحسية الجزئية تصورات يكون كل تصور منها دالا على نوع بأسره من أنواع الأشياء، ولهذا يطلق على هذه التصورات اسم «المعاني الكلية».
صفحة غير معروفة