سيأتي ذكر معنى القادر والمقدور وتعداد أجناس المقدورات في موضعه من هذا الكتاب، وإنما قال: أجناس ولم يقل أعيان، بناء على أنه لا يصح مقدور بين قادرين وأن الأعيان التي تقدر عليها إنما بقدر الباري على جنسها فقط وسيأتي تحقيقه (العالم يلا يعزب عنه) هو ييم الزاي وكسريي بمعنى يا يبعد مثقال ذرة، أي مقدار أصغر نملة في الأرض ولي في السموات. (الحي الذي لا يعتريه الحال) يعني بالحال هيا ما هو عليه من ثبوت ونفي، فليس كغيره من الأحياء، فإن الحال يعتريهميمن صغر إلى يكبر وصحة إلى سقم وقوة إلى ضعف وغناء إلى فقر وغير ذلك. (الموجود فيما لم يزل) أي فيما مضى لا إلى أول. (وفيما لا يزل) أي وفي الحال والاستقبال. (لا إلى حد ينتهي إليه المدرك للمدركات) أي لكل ما يصح إدراكه من مرئي ومسموع وملموس ومسموم ومذوق. وسيأتي بيان المدركات؛ (لأن لآلات) أي لا بحاسة وواسطة محل الحياة، إذ ليس بجسم ولا له حياة. (يحل في محل ولا له آلة، المستغني في ثبوت هذه الصفات) يعني التي مضي تعدادها وهي القادرية والعالمية والحيية والوجود والإدراك عن المؤثرات الحقيقية التي هي الفاعل والعلة والسبب، وأما ما يجري مجرى المؤثر وهو المقتضى والشرط فلا بد منه فيها على تفصيل وخلاف يأتي في مواضعه، وأما غير هذه من صفاته فمنها ما لا يفتقر إلى مؤثر ولا ما يجري مجراه كالصفة الأخص عند مثبتها ومنها ما يفتقر إلى المؤثر الحقيقي ككونه مرتدا أو كارها عند الجمهور، وقد أشار المصنف بقوله: المستغني في ثبوت هذه الصفات بتمامه إلى فصل الكيفية، وما تقدم فهو تنبيه على إثبات الصانع وصفاته الثبوتية، ثم أشار إلى الصفات النفيية فقال: (الواحد فلا شريك له ولا وزير)، هذه إشارة إلى مسألة نفي الثاني، والمعنى أنه لا مشارك له في الإلهية وفي الخلق والأمر ولا معه من هو أدنى رتبة من الشريك وهو الوزير الذي يعينه ويتحمل بعض مؤنه ويتقوى به في أمر مملكته؛ لأنه سبحانه غني عن جميع ذلك. (المتعالي) أي المنزه عن المضاد. (والنظير) أي المنافي له الذي لا يجمع معه في الوجود لمعاكسته له في صفاته وعن المماثل المشابه له في ذاته وصفاته، وفي هذا إشارة إلى مسألة نفي التجسيم وما يتعلق بها؛ لأنه لو كان جسما أو عرضا كان ذا ضد ونظير. (الغني فلا يجوز عليه المنافع والمضار) أي لا يجوز أن يلحقه مضرة ولا أن يناله منفعة لوجوب استغنائه عن ذلك. وسيأتي ذكر معنى المنفعة والمضرة وأقسامها، وهذه إشارة إلى مسألة نفي الحاجة. (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إشارة إلى مسألة نفي الرؤية بأن أدرج هذه الآية الكريمة التي هي من أدلتها في كلامه، وهذا في علم البديع يسمى الإقتباس. (العدل فليس بظلام للعبيد) إشارة إلى أم مسائل العدل وظلام مبالغة في ظالم والتكثير فيه باعتبار كثرة من يتعلق به الظلم وهم العبيد، لو كان كذلك تعالى الله عنه علوا كثيرا. (الصادق في الوعد والوعيد) أي المخير عن إيصاله الثواب إلى مستحقيه وهو معنى الوعد والعقاب إلى مستحقيه، وهو معنى الوعيد خيرا مطابقا للمخير عنه فلا يقع خلاف ما وعد به. (الذي قضى بالحق وهدى إلى الرشاد) أي الذي ألزم وأمر بالحق وهو الرشاد بمعنى الصواب وما فيه الصلاح، وهذا بمعنى دل، وينزه عن فعل القبيح لعدله وحكمته وإرادة الفساد وهو نقيض الصلاح؛ لأن إرادته من القبيح وهو منزه عن فعلها. (وأزاح علل المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين) أي أزال تعللهم في عصيانهم وعدم امتثالهم بأن لطف لهم بأنواع اللطف، وهي التوفيق والعصمة المطلق، وسيأتي بيان معانيها والتمكين مما كلفهم إياه بخلق القدرة عليه والآه فيه. قال.. في المعنى هذا: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة}. (وأزهق الباطل أي أزاله وأذهبه بمترادف الحجج أي بالحجج المترادفة وهي الأدلة التي ينصبها للمكلفين على ما فيه نجاتهم.(وأوضح للخلق) أي كشف لهم وأبان. عن سواء المهج أي وسط الطريق الموصلة إلى الفوز والنجاة عند الله والطريق الموصلة إلى العقاب يوم يقف العبد بين يديه ويلقاه. (حتى صارت طرق الخير والشر متعتية) أي طرق الهدى والضلال متبينة متميزة. (ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة) أي ليضل من ضل بعد وضوح البينة في ذلك، وقيام الحجة عليه وجعل الضلال هلاكا لناديته إليه ويهتدي من اهتدى، كذلك عن يقين وعلم بأنه على الحق وسمى الهدى حياة من قبيل الإستعارة لإيصاله إلى الخير والتنعيم الدائم، كما أن الحياة موصلة إلى الإنتفاع وفصله إلى إدراك الملاذ، والله أعلم.
صفحة ٦