أما قاعة جورجيوس فسميت باسم القديس الذي تحترمه الطوائف الأرثوذكسية وتروى عنه حكاية التنين، وقد جعلوا طول هذه القاعة الفخيمة من قصر كرملن 61 مترا، وبنوها من الرخام الأبيض البديع تزينه عروق من الذهب ورسوم كثيرة ، وأرض هذه القاعة من الخشب المصقول مثل أكثر القاعات الكبرى في قصور الملوك والأشراف، وسقفها قائم على عمد ودعائم من الرخام أيضا نقش عليها بماء الذهب تاريخ الفتوحات الروسية وأسماء المواضع التي ملكها الجيش الروسي، وعلى الجدران أسماء الفرق التي امتازت بالإقدام في هذه الحروب والقواد الذين شادوا لهذه السلطنة صروح الفخار في معامع النزال، وأحسن إليهم بوسام القديس جورجيوس وهو أعلى وسام يناله المرء عندهم بسبب بسالته وإقدامه، وفي آخر القاعة تماثيل قواد عظام من الفضة مثل القائد يرماك الذي فتح سيبيريا، وفيها ثريات لا يقل عدد شموعها عن 4500 شمعة وكلها آية في الجمال والبهاء.
ويتصل بهذه القاعة العظيمة قاعة القديس إسكندر نفسكي، وهي حمراء والجدران محلاة برسوم ذهبية طولها 31 مترا وعلو قبتها 21 مترا. وفي هذه القاعة صور تمثل حياة القديس نفسكي الذي سميت القاعة باسمه، وفيها 14 شباكا أمامها مراء ترى فيها ما وراء القصر من المناظر وحركة المارين.
ثم قاعة القديس أندراوس وهو يعد حامي بلاد الروس ووسامه أشرف وسامات الدولة الروسية، أنشأه بطرس الكبير سنة 1697، وقد جعلوا هذه القاعة العظيمة خاصة بالعرش ولونها أزرق معرق بالذهب، وضعوا في صدرها عرش القياصرة يحمله نسران عظيمان والقيصر يجلس عليه حين قدوم المهنئين بعد حفلة التتويج، وطول هذه القاعة 49 مترا، وهي محاذية للقاعتين السابقتين تكون معهما خطا واحدا، وتتصل بهما بأبواب فسيحة، فطول القاعات الثلاث كلها 146 مترا، ولها منظر غاية في الجمال وهي تقام فيها الحفلات العظيمة وتولم الولائم للسفراء ورؤساء الكنيسة وكبراء الدولة بعد انقضاء حفلة التتويج، ووراء قاعة العرش هذه قاعات للحرس الإمبراطوري ثم قاعات القيصرة وسيدات الشرف من الأميرات اللائي يسرن بمعيتها، وكل هذه القاعات من الرخام الثمين المذهب، وفي بعضها عمد بديعة الشكل من حجر المالكيت، وأما رياشها وأدواتها فيكفي أن يقال بأنها تليق بأعظم القصور وأعظم القياصرة ولا حاجة بعد هذا للإسهاب، وقد رأيت أن قاعة الطعام في هذا القصر كل كراسيها ومناضدها من الفضة الخالصة وأدوات الأكل كالملاعق والسكاكين من الذهب، وهنالك حمام على النسق الشرقي كله رخام وبلور ورسوم ذهبية وستائر ثمينة كتب فوق بعضها ألفاظ شرقية، وكل معداته دالة على منتهى الترف، وكنيسة هذا القصر فاخرة فخيمة صنع بابها من الفضة المحلاة بالذهب ومثله الهيكل.
هذا كله في القسم الجديد من قصر القياصرة في الكرملن، وأما القسم القديم فإنه باق على حاله من أيام القيصر فيودور ألكسوفتش والد بطرس الكبير الذي بنى هذا المنزل لأولاده، فله عند الروسيين اعتبار عظيم؛ ولهذا القصر القديم أربع طبقات كان بطرس وإخوته يشتغلون في الأوليين منهما بالصنائع كالرسم والنجارة والحدادة وغيرها، ويقيمون في الدورين الباقيين، والغرف كلها واطئة بسيطة إذا قابلتها بقاعات القصور الحديثة، منها غرفة الرقاد فيها سرير من الحديد قديم في غاية البساطة لوالد بطرس الكبير، وبساط صنعته ابنة ذلك القيصر العظيم بيدها وصندوق كانت توضع فيه عرائض المتظلمين والمشتكين، فكان القيصر ينزل في آخر النهار إلى هذا الصندوق ويأخذ ما فيه من الأوراق بنفسه ثم ينظر فيها وينصف أصحابها، وفي داخل هذه الغرفة غرفة أخرى صغيرة خصت بالعبادة توقد فيها الشموع حول الأيقونات ليلا ونهارا، ومررنا من الدهليز إلى القسم المخصص للمجمع المقدس، حيث كانت تعقد جلساته للمفاوضة في الأمور الدينية، وفي جدران هذا القسم صور تمثل الحوادث الدينية المذكورة في التوراة والإنجيل.
وعلى مقربة من قصر القيصر هذا دار التحف الإمبراطورية، وهي ذات طبقتين: الأولى منهما للعربات الفاخرة كان يستعملها القياصرة في حفلات التتويج ترى في أشكالها المختلفة صناعة كل عصر وذوق أهله، وأكثر العربات القديمة ضخمة ثقيلة واسعة تشبه القاعة الكبرى كثيرة الزخرف، وأما العربات الحديثة وأخصها التي استعملها إسكندر الثاني مدة تتويجه فجميلة رشيقة فاخرة قليلة الأدوات، والقسم الذي فوق العجلات منها كله ذهب وأطلس نفيس، وقد كان القياصرة يسيرون في شوارع موسكو بعد التتويج بعرباتهم هذه ولكنهم صاروا يركبون الخيل ويسيرون على ظهورها ليراهم الناس جميعا من بعد تتويج إسكندر الثالث، وفي هذا القسم غير العربات المختلفة أسلحة استعان بها بطرس الكبير على زمرة من الجنود طغوا وبغوا يعرفون باسم أوسترلتز، وهم أشبه بالمماليك الذين أبادهم محمد علي في مصر أو الإنكشارية الذين أبادهم السلطان محمود في الآستانة.
كاترينا الثانية إمبراطورة روسيا.
هذا جل ما في الدور الأسفل من دار التحف. وأما الدور الأعلى ففي صدره صورة الإمبراطورة كاترينا الثانية امتطت جوادا مطهما، وقد ركبت كما يركب الرجال لا كما يركب نساء هذا العصر، وتردت بأثواب الفرسان فلا يظنها الرائي لأول وهلة من النساء. وفي غرف هذا المتحف أنواع الأسلحة من قديمة وحديثة وشرقية وغربية، وفيها شيء كثير أهدي إلى قياصرة الروس من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء خيوا وبخارى وألبانيا والجركس، هذا غير أسلحة القياصرة الكثيرين مرتبة في دائرة واسعة وضعوا في وسطها رايتين للقائد يرماك فاتح سيبيريا، وراية للبرنس يازارجسكي الذي أنقذ الروس من دولة بولونيا في سنة 1612 على ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وأعلاما أخرى للإمبراطور ألكسي، وغيرها لبطرس الكبير وسواه تشهد بمفاخر الروس وفعالهم في الحروب.
وفي هذه الدار غرف وضعت فيها مجوهرات القياصرة والقيصرات وملابسهم الرسمية والأكاليل الفاخرة وعصي الملك الثمينة والحلي النفيسة، وهي تامة هنالك مرتبة ترتيبا تاريخيا مدة هؤلاء القياصرة، فترى ملابس كل قيصر أو قيصرة في موضعها حتى الأحجبة التي كانوا يعلقونها تحت قمصانهم وكذلك كراسيهم، أو هي العروش يجلسون عليها في ساعات الحكم والإمارة، أذكر منها عرش القيصر ألكسي وهو مرصع بنحو ثمانمائة حجر من الألماس، وعرش إيفان فيه نحو تسعمائة حجر من الألماس والفيروز أكثرها هدايا من شاه إيران في أيامه، وقد جلس جلالة القيصر الحالي على هذا العرش يوم تتويجه، وعرش بطرس الكبير فيه ألفان ومائتا حجر من الألماس، ورأيت هنالك كرسي الملك قسطنطين آخر ملوك الدولة الشرقية في الآستانة صنع من العاج وقد نقل من الآستانة إلى موسكو بمساعي الإمبراطورة صوفيا، وهو الذي جلس عليه إسكندر الثاني يوم تتويجه.
ومما يذكر بين تحف هذه الدار العظيمة سيف عثماني مرصع بالألماس، وسرج عربي مرصع أيضا ولجام وركابات صنعت على النمط العربي، وهي من الفضة محلاة بالذهب، وقد أهديت هذه كلها إلى الإمبراطورة كاترينا الثانية من السلطان سليم الثالث، وهنالك آنية من الذهب وبقية المعادن الثمينة لا تعد أكثرها هدايا لقياصرة الروس من أقيال الشرق والغرب، من ذلك آنية للمائدة كاملة كلها من الذهب الخالص تستعمل في ولائم التتويج، ومنضدة وسيف وديك ونسر من الفضة أهديت من مدينة باريس في أيام نابوليون الأول، وقصع جميلة قدم عليها الخبز والملح للقياصرة علامة الخضوع، وطاقم صيني من أنفس أنواعه صنع في معمل سيفر المشهور، وأهدي من نابوليون الأول لإسكندر الأول، ورأيت هنالك كرسي خان خيوا استولى عليه الروس سنة 1873 وكرسي عباس ميرزا سلطان إيران أخذ سنة 1827، وسريرا لبطرس الكبير كان يضطجع عليه مدة الحروب، وسريرا لإسكندر الأول لهذه الغاية وسريرين لنابوليون بونابرت وقعا في قبضة الروس سنة 1812 حين تقهقر ذلك الفاتح العظيم عن بلادهم بعد واقعة موسكو. وأما ملابس القياصرة الموجودة في هذه الدار فيعجز القلم عن وصفها ويضيق المقام، أذكر منها ملابس إسكندر الثالث وقرينته، وهما والدا القيصر الحالي، وهي حلة من الحرير الأصفر الفاخر فوقها رسوم النسر الروسي بالقطيفة السوداء ولها ذيل طويل مبطن بالفرو الأبيض الثمين، وفي صدرها «بطرشين» إكليريكي عليه رسوم النسر الروسي والملائكة وفوقها التاج البطريركي مرصع بأنفس الحجارة الكريمة على أشكالها، وفي قمته نسر من الذهب فوقه صليب من الفضة، وأما حلة القيصرة فقد صنعت كلها من الفضة الرقيقة وبطنت بالحرير الأبيض وزركشت بالرسوم مماثلة لما ذكرنا عن حلة القيصر، وفوقها تاج أصغر من تاج القيصر ولكنه لا يقل عنه جمالا وثمنا، وهذه حلة ثقيلة لا يمكن للقيصرة المسير بها، ولكن الأميرات التابعات لها يرفعن جوانب الحلة من وراء القيصرة مدة وقوفها في حفلة التتويج ومسيرها القليل، وقد وضعوا هاتين الحلتين داخل قباء أو مظلة من الحرير الأصفر المزركش بالرسوم الروسية يتدلى من جوانبها أهداب حريرية صفراء، وهي قائمة على عمد رفيعة من الفضة المحلاة بالذهب عدتها اثنا عشر، يمسك بكل منها قائد من قواد السلطنة الروسية، ويرفعون هذه المظلة فيسير من تحتها القيصر والقيصرة بأبهة عظيمة، وقد أوصت القيصرة الحالية في باريز على بدلة التتويج حين توج قرينها القيصر فاشتغل مهرة الرجال والنساء بها 12 شهرا، وبلغ ثمنها 40 ألف جنيه، والبدلة كلها حجارة من الألماس واللؤلؤ نسجت بخيوط مستدقة من الذهب، وقدر بعضهم قيمة ما في هذا المتحف من النفائس بنحو 12 مليون جنيه.
تتويج القيصر نقولا الثاني.
صفحة غير معروفة