بقي علي من هذه القصور العظيمة في ضواحي بطرسبرج قصر بترهوف المشهور، وبترهوف هذه قرية على شاطئ البلطيق قريبة من بطرسبرج أول من عمرها بطرس الكبير فسميت باسمه كما ترى، وكان هذا القيصر ينوي جعل قصره في بترهوف مثل قصور فرنسا في فرسايل فبالغ في إتقانه، وجاءت كاترينا الثانية من بعده ونقولا الأول وغيرهما، فأضافوا إلى هذا القصر العظيم ما تعجز الألسن والأقلام عن وصفه. ويمكن الوصول إلى بترهوف من العاصمة برا أو بحرا في البلطيق، فاخترت طريق البحر ووصلت موضع القياصرة العظام حيث يقضون معظم أشهر الصيف، والحق يقال إني أراني عاجزا عن وصف هذا القصر الفخيم؛ لكثرة محاسنه المشهورة ولكثرة ما تقدم من وصف أمثاله، فأكتفي ببسيط الإشارة إلى أهم ما فيه وهو يظهر لك عن بعد من بريق قباته المذهبة ومن حوله العمائر الفاخرة لأمراء الروس، فكأنما هو الشمس تدور بها النجوم السيارة في فضاء كله جمال وبهاء ما بين بحر نقي ماؤه وأرض فرشت بالسندس ورصعت بأبهى ما في الرياض من زهر وشجر، ولا سيما حديقة القصر الإمبراطوري نفسه، وهي تحكي حدائق النعيم في جمالها واتساعها، حتى إن ألوفا من العربات تسير في جوانبها ولا تظهر بين هاتيك المناظر الفاتنة ، وللقصر أبواب كثيرة، منها واحد ارتقينا عشرين درجة من الرخام الأبيض البديع حتى وصلناه، وأمامه بركة للماء صنعت من الرخام الأبيض أيضا يحف بها أربعون تمثالا مذهبا، وفي وسطها وزة كبيرة من المرمر يتدفق الماء من فمها تدفق السيل صعدا، ثم ينهمل من علو 25 مترا وينصب في البركة فيجري منها بين الأغراس والتماثيل إلى ما وراء القصر ويستقر في بحر البلطيك.
وقد جعلوا رياش كل غرفة في هذا القصر من نسق يختلف عن نسق غيرها، فهذه فرشت على النسق الصيني، وهذه هندية وهذه يابانية وهذه مصرية وهذه تركية وهذه أوروبية، وكلها بدائع إتقان تحار في وصفها الأفهام. وهنالك قاعة عظيمة للرسوم عنيت كاترينا الثانية بجمع أشكال النساء فيها، فأمرت برسم فتيات ونساء روسيات على أشكالهن في كل إقليم، ووضعت تلك الرسوم تمثل حالة المرأة الروسية في أيامها، فلا يقل عدد الصور هنا عن 368 صورة. ويلي هذه الغرفة قاعة الاستقبال الخاصة بهذه الإمبراطورة فرشت بأنفس الطنافس وأثمن أنواع الحرير، وفيها صور بنات حزن قصب السبق في مدرسة البنات التي أسستها هذه الإمبراطورة العظيمة، وقاعة الاستقبال العمومية، وقاعة نساء الشرف التابعات للقيصرة، وقاعة المائدة لها 30 نافذة أو شباكا لكل شباك برواز بارز جميل يحيط به من داخل القاعة، وإلى جانبيه الشمعدانات المذهبة في كل منها 40 شمعة، فيكون عدد الشمعات حول تلك الشبابيك فقط 1200 غير المدلى من سقف القاعة في الثريات البديعة، وفي القصر كنيسة لها قبات مذهبة جميلة، وفيها بعض غنائم الحروب من آسيا الوسطى، وزخارفها أكثر من أن تعد، وهناك قصر ألكساندرين، وقصر إسكندرية، وقصر بطرس الكبير حفظت فيه بعض ملبوساته، فمصيف بترهوف هذا مجموع قصور شيدت في تلك الحديقة العظيمة، وليس قصرا واحدا، وأما عن تلك الحديقة فحدث أني ما رأيت في حدائق القصور أغرب منها ولا أبهى، وقد قضيت النهار أدور في جوانبها وأتفرج على روابيها ونجادها وجزرها وطرقها وأغراسها، واستلفت الدليل نظري إلى شجرة لم أر لها في أول الأمر مزية، ولكنه تنحى عني إلى حيث فتح أنبوبا فانبعث الماء حالا من فروع الشجرة وأوراقها وأزهارها وكل أجزائها ، وعلمت حينئذ أنها شجرة صناعية ملئت بالمسام الغير المنظورة يخرج الماء منها على مثل ما رأيت.
وقد رأيت في تلك الحديقة من الأزهار والأغراس ما غرسته أيدي القيصرات، فإن والدة القيصر الحالي غرست شيئا كثيرا والقيصرة التي تقدمتها كانت مغرمة بهذه الحديقة أيضا، ولكل منهما قطعة تعرف باسمها وتدل على حسن الذوق وكثرة الاعتناء، وفي هذه الحديقة جزيرة صغرى فيها أنواع الغرس والنبت، ومنها شجرة أصلها من أميركا وقد اتفق أن سائحا أميركيا رآها في أحد الأيام مهملة فدفع إلى البستاني مائة ريال؛ ليعنى بأمرها؛ ولذلك أطلقوا على هذه الشجرة اسم واشنطن تخليدا لأريحية ذلك الرجل الأميركي.
والقسم الخاص بكاترينا الثانية بين هذه القصور الشماء قديم العهد، فيه غرفة الطعام الخاصة بها صنعت على شكل يمكن به إرسال الصحون وألوان الطعام في آلة ترفعها في غرفة سفلى فتصل إلى المائدة، ويمكن بهذا الاستغناء عن خدمة يقفون حول المائدة ويسمعون حديث الملكة مع رجال الدولة، وهنالك أيضا غرفة النوم، وفيها بعض ملبوسات هذه الإمبراطورة، وإلى مقربة منها حمامها الصيفي، وهو عبارة عن بحيرة كبيرة كانت تسبح في مائها النقي، وفي وسط البحيرة أنابيب مستدقة ينبعث الماء منها تقرب من المائة عدا، وهي كثيرة الجمال.
وأعود إلى القول إني لو شئت عد الغرائب في قصور بترهوف وحدائقها لما أمكن لي بعض الشيء منه؛ لأن الموضع الذي أجهد البارعون قرائحهم في تحسينه وأنفق القياصرة العظام مالا لا يعد وأعواما طوالا في إعداده، لا يكثر فيه وصف ولا يحيط بجماله وغرائبه علم إلا الذي تسعده الأيام برؤيته، فلما انتهيت من التجول في تلك الجنات البهية عدت إلى العاصمة، وقصدت من بعدها حصون كرونستاد، وهي التي كان دخولنا من البلطيق إليها قبل الوصول إلى بطرسبرج على ما تقدم، وكرونستاد هذه مينا بطرسبرج اشتهر أمرها في الأعوام الأخيرة بزيارة الأسطول الفرنسوي لها، وإبرام المعاهدة فيها بين الدولتين، وقد كان منظرها يوم دخلتها مؤثرا، وهيئة الحصون والقلاع والبوارج الحربية ترسخ في النفس، وأذكر منها بنوع أخص يختا لجلالة القيصر أنفق والده إسكندر الثالث على بنائه وإعداده أربعمائة ألف جنيه، وكان يجتاز البحر فيه كل صيف إلى الدنمارك حيث يجتمع بالأهل والأقارب، ولهذه المدينة مين تجارية ومين حربية كلها كاملة الإتقان، وفي آخرها أرصفة عريضة وطرق جميلة، وأمامها فنادق عظيمة أكثر الذين يؤمونها من ضباط البحرية الروسية، ولا حاجة إلى القول إن استحكامات كرونستاد هذه وحصونها في الطبقة الأولى من القوة والمنعة، قضيت في التفرج على جوانبها زمانا، ثم عدت إلى بطرسبرج مودعا لها متنقلا من موضع إلى موضع ومن شارع إلى شارع، فلما انقضى اليوم العاشر على زيارتي لهذه العاصمة العظيمة غادرتها وأنا معجب بآيات العز فيها، وسرت إلى مدينة موسكو، وهي التي يجيء الكلام عنها في الفصل التالي.
موسكو
يبلغ تعدادها اليوم مليونا ونصف مليون، والمسافة بالقطار الحديدي إليها من بطرسبرج ست عشرة ساعة في مروج كلها مناظر بهية كسيت بالخضرة النضرة، ورصعت بالعمائر والقرى تخرقها الجداول وترويها الأنهار، فكيفما وجهت نظري كنت أرى أرضا أريضة ومزارع مقبلة، ومراعي فسيحة تسرح فيها الأبقار الضليعة والماشية الكثيرة، فتمثل لك في كل جهة مقدار ما يعول الروسيون على الزراعة في بلاد واسعة الأكناف بعيدة الأطراف، هائلة سهولها كثيرة غلالها، يصدرون منها مقادير كبرى في كل عام، وهي مصدر الثروة الكبرى في البلاد، كما أن الصناعة والتجارة مصدر الثروة في بلاد الإنكليز. ولما انقضى زمان المسير وأشرفنا على مدينة موسكو العظيمة ظهرت لنا قبات كنائسها الكثيرة بعضها مذهب تنبعث منه أشعة النور في ذلك السهل الفسيح، وبعضها ملون بألوان مختلفة، هذه صفراء وهذه حمراء وهذه خضراء وهذه بيضاء أو زرقاء، أو لها لون آخر يستلفت الأنظار لا سيما وأن لها أشكالا غريبة لا تراها مجتمعة في مدينة من مدائن الأرض غير موسكو، فإن تلك القباب بعضها مضلع وبعضها مستدير وبعضها إهليلجي وبعضها على شكل الرمان أو الموز أو الشمع أو غير هذا، فالقوم ما تركوا شكلا شرقيا أو غربيا حتى جمعوه إلى تلك الأشكال، وعملوا على مثاله قبات في مدينة الروس المقدسة فإذا رأيت كل هذا وأنت مشرف على المدينة من بعد ذكرت الآستانة ومآذنها، وقد بنيت موسكو في سهل كما بنيت معظم مدائن الروس ومنازلها بعيدة بعضها عن بعضها، وفيها من الحدائق والبحيرات والميادين الفسيحة ما يجعل لها مساحة لا تقل عن مساحة باريس، ولما كانت هي مسكن أهل الطبقة العليا من أشراف الروس وفيها من أكابر التجار الموسرين عدد عظيم لكل منهم قصر أو قصور تحيط به الأغراس والحدائق، فقد اتسع نطاقها وبعدت أطرافها فوق ما يقتضيه عدد سكانها، فزاد في رونقها وجمالها وغرائبها الكثيرة التي سنورد بعضا منها فيما يلي.
وأما أن هذه المدينة مقر الغرائب في بلاد الروس والعظائم فواضح من كثرة قصورها الشماء كما تقدم، ومن كثرة كنائسها أيضا وأديرتها، فهي المدينة المقدسة عند الروس، وهي كانت عاصمة المملكة إلى عهد ليس ببعيد فيها الآن نحو 400 كنيسة و21 ديرا و460 مدرسة أو تزيد، وهي مقر الحاكم العام لولاية موسكو العظيمة يغلب أن يكون الحاكم فيها أميرا من أمراء البيت القيصري، وفيها مركز الفيلق الثاني من الجيش الروسي وكرسي المجمع المقدس يرأسه رئيس أساقفة موسكو، وهو أعظم رجال الكنيسة الروسية بعد القيصر، وقد بنيت هذه المدينة الكبرى إلى جانبي نهر صغير اسمه موسكوفا، فدعيت المدينة باسمه وغلب هذا الاسم بعد ذلك على الولاية كلها ثم على المملكة برمتها؛ لأسباب فصلناها في التمهيد التاريخي، وهي إذا دخلها الزائر الغريب أذهله ما فيها من الأزياء الكثيرة والأجناس المتباينة، يكثر فيها التتر والجراكسة والأتراك والإيرانيون والبولونيون وبقية أشكال المتوطنين فيها من الناس حتى إنك لترى فيها العجمي بقبعته السوداء الطويلة وجبته وسمرة وجهه، والتتري له صفرة وعين تدل إلى شيء من القوة والغدر، وهو بملابسه التترية وعمامته المتدلية أطرافها أو بشيء من الملابس الإفرنجية لا تخفي عن المتأمل حقيقته، وهنالك الجراكسة وأهل داغستان وكرمان وقوقاف بعضهم يلبسون الفرو وجلود الغنم على مثل ما اعتادوا في بلادهم، وهم يمشون بجنب الذين رقوا أعلى درجات التمدن الغربي من الروس وتهذبوا في المدارس الكبرى، أو الذين تراهم على تلك الخيول المطهمة، وفي العربات الفاخرة من أغنياء المدينة وموظفيها وضباطها وأبناء أشرافها فيختلط الشرق بالغرب في تلك المدينة اختلاطه في الآستانة أو أعظم، وفي ذلك نزهة للغريب وفرجة يعسر الوصول إليها في غير هذا المكان.
وقد كانت روسيا في أول عهدها يحكمها أمراء كييف على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، فلما قويت شوكتهم قليلا بعد التنصر بنى أحدهم حصنا على ضفة نهر موسكوفا في سنة 1147، واسم هذا الأمير فلاديميروفتش دولجوروسكي، فكان ذلك بدء تأسيس المدينة وأطلق اسم النهر عليها، والحصن الذي بناه عرف من يوم بنائه باسم كرملن، وهو لفظ تتري معناه القلعة أو الحصن، فبقي هذا الاسم ملازما للجهة الأصلية التي نشأت فيها مدينة موسكو، وهو الآن اسم القصور العظيمة والكنائس والمنازل الفاخرة المختصة بالقيصر وعائلته، ويطلق أيضا على القسم المجاور له من أقسام موسكو وهو أعظمها وأفخمها وأكثرها غرائب، وطفقت موسكو تتقدم من بعد بنائها شيئا بعد شيء حتى صارت مقر الولاية - كما تقدم القول - ولكنها احترقت مرتين في القرن السادس عشر، وعادت إلى النماء حتى إذا قام بطرس الكبير نقل تخت السلطنة منها إلى بطرسبرج ولكن خلفاءه لم يسهل عليهم الانتقال، فعادوا إليها ولم يستقر رأيهم على الانتقال منها نهائيا إلا في أوائل هذا القرن حين أضرم أهلها النار فيها؛ ليردوا جيش نابوليون عنها، ولكن موسكو عادت وبنيت على أحسن مثال من بعد تلك الحرائق وجددت معالمها وشيدت قصورها ومعابدها وهي يتوج فيها القياصرة إلى هذا اليوم، وتعد مقر التجارة الروسية الداخلية ومركز الرأي العام الروسي والكنيسة الأرثوذكسية، وها أنا مورد بعض الشيء من وصف الذي فيها ملتزما خطة الاختصار.
تقدم القول إن قسم الكرملن أهم أقسام المدينة، وهو في منتصف البلدة آخره متصل بنهر مسكوفا بني على رابية مرتفعة واسعة قام فوقها القصر الإمبراطوري والكنائس والأديرة، وقد جمعت هذه الأبنية العظيمة كلها في الدائرة التي تعرف باسم الكرملن وأحيطت بسور واطئ محيطه نحو ألفي متر، وللكرملن هذا عند الروس مقام عظيم واعتبار فائق حتى إن بين أمثالهم مثلا معناه أن الكرملن يعلو كل شيء ولا يعلوه غير السماء، وله مداخل عدة، منها مدخل المخلص وهو باب عظيم علق فوقه أيقونة السيد المسيح جاء بها القيصر ألكسي من بلدة سمولنسك، وهم يضيئون أمامها مصباحا لا يطفأ في الليل ولا في النهار، وقد جرى الروس على عادة قديمة في عهد القيصر الذي ذكرناه واتبعوها بأمره هي أنهم إذا مروا من تحت هذه الصورة رفعوا القبعات احتراما لها وخشوعا، وصار الأجانب في موسكو يفعلون فعلهم أيضا، ولما دخلت الكرملن من ذلك الباب أذهلني كثرة ما يضمه ذلك المكان من الأبنية العجيبة والكنائس، فإنك كلما سرت خطوات معدودة وجدت أمامك كنيسة تزيد التي تقدمتها في محاسنها وغرائبها فقصدت قبل كل أمر قصر القياصرة الذي يقيمون فيه عند زيارة موسكو أو حين حضورهم للتتويج، فارتقينا سلما عريضا من الرخام النفيس درجاته منبسطة لا يكاد الصاعد عليها يشعر بعناء الصعود، وفي آخرها رسوم تاريخية، منها رسم تتويج إسكندر الثالث ومشايخ الأقاليم يقدمون له الخبز والملح علامة الخضوع، وغير هذا من رسوم الحوادث المشهورة، والقصر عظيم الاتساع فيها ثمانمائة قاعة وغرفة ورحبة، شرع نقولا الأول في بنائه سنة 1838، على أطلال القصور السابقة التي أفنتها النار أو تهدمت من طول الزمان، فما تم البناء إلا سنة 1849، وأنفق عليه حوالي 12 مليون ريال روسي، وفي أول القسم الجديد من هذا القصر الفخيم رحبة مستطيلة قائمة على عمد من الرخام المصقول، وهي توصل إلى قاعات ثلاث لها شهرة ذائعة في أوروبا كلها، وقد سميت بأسماء القديسين الذين أعطيت أسماؤهم لأشرف الوسامات الروسية، وهي قاعة القديس جورجيوس وقاعة القديس إسكندر نفسكي وقاعة القديس أندراوس.
صفحة غير معروفة