تتويج القيصر نقولا الثاني.
وقد أشرت مرارا إلى حفلة التتويج كما ترى، فرأيت هنا أن أوضح بعض الشيء عنها؛ لأنها أكبر ما يأتيه البشر من أنواع الأبهة ومظاهر العظمة والفخامة في الحفلات الكبرى، وكانت زيارتي لبلاد الروس في أيام القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي، فاخترت أن أصف كيفية الاحتفال بتتويجه؛ لأن نظام هذه الحفلات يتغير قليلا بحسب مطالب الزمان ورغائب القيصر، ولو أن الأشياء الجوهرية تظل على حالها، وأما إسكندر الثالث فإنه جاء ليتوج في موسكو مع عروسه في قطار خاص يتقدمه قطاران، أولهما رائد الطريق والثاني فيه بعض الأعوان والعمال، وكانت الطرق كلها تحرسها الجنود الروسية والمحطات مزدانة أبهى زينة، وفيها الجنود أيضا يؤدون التحية العسكرية ويضجون بالدعاء كلما مر القيصر بواحدة منها حتى إذا وصل القطار الملكي موسكو أطلقت المدفع، وجرت رسوم الاستقبال العظيم، وسار القيصر والقيصرة إلى سراي بتروفسكي من الضواحي في طرق زينت أفخر زينة، وكانت المدينة كلها يومئذ في فرح عظيم وفيها من الناس ألوف فوق ألوف جاءوا من كل صقع بعيد؛ ليروا أعظم الحفلات الملكية وكانت هذه الألوف تصيح بالدعاء وتطأطئ الرءوس تجلية وإكراما أينما سار القيصر العظيم. وبات القيصر والقيصرة تلك الليلة في قصر بتروفسكي الذي ذكرناه، وهي عادة جرى عليها القياصرة من أول هذا القرن تذكارا لخروج نابوليون بونابارت منه، فإنه جعله منزلا له مدة وجوده في موسكو محاربا للروس، ولما بدأ الصباح التالي قامت موسكو عن بكرة أبيها لتحتفل بيوم التتويج، فما كنت ترى إلا جنودا وقوادا وأمراء وسفراء ووزراء ونوابا وأهل مقام كبير يخطرون بالحلل الفاخرة وسيدات من كل نوع وملة يتهادين بجميل الملابس ويتفاخرون بنفيس الحلي والجواهر، وقد تراكمت ألوف الناس بعضها فوق بعض وامتلأت الطرق بهم وبالرياحين والأزهار والطنافس والرايات وغيرها من أدوات الزينة، وما بقي سطح ولا شرفة ولا نافذة حتى احتشد الجمع فيها بلهفة وشوق إلى رؤية الموكب العظيم، حتى إن البيوت والأماكن الواقعة في الشوارع التي مر منها الموكب استأجرها أهل اليسار بالمال الكثير، ودفع بعضهم خمسة آلاف ريال أو تزيد أجرة موضع تقعد فيه العائلة وتطل على ذلك الموكب حين مروره.
ولما جاءت الساعة التاسعة من يوم التتويج امتطى القيصر صهوة جواد كريم مطهم، وتبعه فريق من أهل الشرف الباذخ والمقام الرفيع على ظهور الجياد أيضا حارسين لجلالته ومعظمهم أمراء وقواد وكبراء بالملابس الرسمية والوسامات العالية، والقيصر يومئذ بلباس قائد من قواد جيشه الباسل، وكان أمام هذه الفرقة العظيمة مركبة فاخرة أكثرها من الذهب قعدت فيها القيصرة، ومن ورائها عربات أخرى بديعة الصنع للأميرات ونساء الأشراف وتابعات القيصرة، وأمام الكل فرق من الجند ما بين مشاة وفرسان ومدفعية وقوزاق، والكل بأبهى الحلل وأجمل المناظر يحار المتفرج في أي أقسام هذا المركب أولى بالتحديق والإمعان، ومن وراء الكل أيضا بقية المحتفلين وفرق الجند مصطفة إلى جانبي الطريق، وما زال الموكب سائرا والأبصار خاشعة والقلوب مفتونة بأبهته وكماله حتى وصل القيصر والقيصرة قصر الكرملن؛ حيث يتوجان، فدخلا من باب المخلص الذي ترفع القبعات عند دخوله، فرفع القيصر ومن أحاط به من القواد والأمراء أيديهم إلى رءوسهم علامة الاحترام ولم يرفعوا القبعات كغيرهم؛ لأنهم كانوا لابسين الملابس العسكرية، وظلوا على ذلك إلى أن اجتازوا الباب، وأما الباقون فكلهم طأطئوا الرءوس ورفعوا القبعات إجلالا وإكراما، وأما القيصرة والأميرات والسيدات فإنهن جعلن يرسمن علامة الصليب على الوجوه والصدور حتى صرن وراء ذلك الباب، ودخل الجميع ذلك القصر الفخيم فلبس القيصر والقيصرة بدلة التتويج - التي مر ذكرها - وحمل التاج الملكي قائد عظيم من قواد الجيش، وحمل الصولجان قائد آخر والكرة الأرضية قائد ثالث - وقد تقدم ذكر هذه الكرة عند وصف الجواهر في القصر الشتوي، وهي ترى صورتها في شعار الدولة الروسية - ثم دخل القيصر والقيصرة تحت المظلة التي وصفناها، وقد رفعها فوق رأس القيصر 12 قائدا، وسار الموكب العظيم - على مثل ما سبق الذكر - إلى كنيسة الصعود بين هتاف صعد إلى السماء من جموع الناس وقصف المدافع، وكان الأساقفة وخدمة الدين في مقدمة الموكب، ومن ورائهم أمراء الدولة والوزراء والقواد، وكل ذي مقام خطير، حتى إذا دخلوا الكنيسة بدأت الصلاة بوقار وجلال عظيم، وكان القيصر قد وقف فوق منصة عالية فرشت أرضها بالأطالس وزينت جوانبها بالذهب وبهي الألوان، ولا حاجة إلى وصف ما في الكنيسة من بدائع وما خامر نفس الحاضر من هيبة ذلك الموقف العظيم، وما كان له من الواقع والجمال الغريب، وتقدم رئيس أساقفة موسكو في خلال الاحتفال الديني فناول القيصر ورقة خط عليها يمين الأمانة، يقسمه القياصرة حين تتويجهم، فأخذها القيصر منه وتلاها بصوت جهير، والناس قد ملأت أفئدتهم هيبة تلك الرسوم ووقار ذلك الموضع، وهاك تعريب القسم المذكور:
يا ربي وإلهي، يا ملك الملوك، إني أعترف برأفتك وإشفاقك، وأنحني خضوعا أمام مجدك العظيم؛ لأنك اخترتني ملكا وقاضيا للسلطنة الروسية المظفرة، فاجعل الحكمة السائدة في عرشك أن تهبط علي من علو قدسك حتى آتي الذي يروق في عينيك، وأفهم كل ما ينطبق على أوامرك، وليكن قلبي مودعا بين يديك الطاهرتين وأهلني لعمل ما يفيد الأمة العظيمة التي أقمتني رئيسا لها، على أن أقدم الحساب عنها في يوم قضائك الرهيب آمين.
هذه صورة القسم العظيم يتلوها القيصر وهو راكع والناس وقوف خاشعون، حتى إذا انتهى من تلاوتها نهض وركع الحاضرون جميعا إلى أن يتم الاحتفال الديني، ولما فرغ القيصر من القسم تناول تاجه من يد رئيس الأساقفة ولبسه علامة أنه هو رئيس الكنيسة الروسية، ثم تناول تاج القيصرة ووضعه على رأسها أيضا، فتقدم رئيس الأساقفة ودهن رأس القيصر ويديه وجبينه بالزيت المقدس، وباركه وبارك القيصرة، وتلا صلاة وجيزة ثم رفع يديه مبتهلا شاكرا الله، وتم بذلك الاحتفال، فنهض الجمع الغفير، ودقت أجراس الكنائس كلها وأولها جرس كنيسة فان فلكي، وعدد هذه الأجراس لا يقل عن ألف وخمسمائة ثم أطلق مائة مدفع ومدفع، وهتفت الجنود بالدعاء، وصاحت جماهير الناس وألوفهم المؤلفة بأصوات الفرح والابتهال حتى إذا اشتد قصف المدافع ورنة الأجراس كلها اختفت عند تلك الأصوات الكثيرة والضجة الهائلة، وعاد القيصر ومن معه في وسط تلك الأصوات المتصاعدة إلى السماء فدخل القصر المشهور واستقر به المقام في قاعة القديس أندراوس - التي ذكرناها - وفي صدرها العرش جلس فوقه والقيصرة عن يساره، وهنالك جاءت وفود المهنئين والذين يقدمون علامات الخضوع خبزا وملحا، وطال المقام لكثرة القادمين من أصحاب المراكز الكبرى حتى جاءت ساعة الطعام فدخلوا قاعته وهم لا يقلون عن ثلاثمائة شخص من أكبر كبراء الأرض والقيصر في أولهم، وفي المساء زينت موسكو زينة باهية باهرة، وظلت الحفلات والولائم والأفراح قائمة بعد ذلك ثمانية أيام عاد من بعدها القيصر إلى العاصمة، وانتهى بذلك الاحتفال بتتويجه.
وبعد أن خرجت من هذا القصر سرت في الطريق الذي اتبعه الموكب إلى كنيسة الصعود التي يتم فيها التتويج، ورأيت غيرها من كنائس موسكو العظيمة، وهي كثيرة العدد أخاف إن أقدمت على وصفها أن يطول الشرح إلى فوق ما يمكن إيراده، ولكنني أقول هنا بالاختصار إن كنائس موسكو تعد في الطبقة الأولى من الأهمية بين الكنائس، يكثر فيها الذهب والرخام وأبواب الفضة والهياكل والمذابح من الفضة أيضا، وفيها صور ثمينة كلها مرصعة، أذكر منها صورة العذراء في كنيسة الصعود هذه يقولون إنها من صنع لوقا الإنجيلي، نقلت من الآستانة إلى كنائس روسيا في القرن الثاني عشر، ولا يقل ثمنها وثمن جواهرها عن خمسمائة ألف ريال روسي، وصورة أخرى هنالك للسيد المسيح يحافظون عليها كل المحافظة، ولا يراها إلا القليلون في بروازها حجارة ثمينة من هدايا القياصرة لا تقل قيمتها عن نصف مليون ريال أيضا، ومذبح هذه الكنيسة من الذهب الخالص صنع على شكل جبل طور سينا، وفي أعلاه صورة الكليم موسى حاملا ألواح الشريعة، ولا يقل ثمن هذا المذبح عن خمسين ألف جنيه .
ويقرب منها كنيسة على اسم رئيس الملائكة، فيها مدافن لبعض قياصرة الروس الذين توفوا في موسكو يزورها كل قيصر يأتي هذه المدينة بعد الاحتفال بتتويجه، ولكنه لا يقف في الكرسي المعد له، بل بين هذه المدافن عبرة وذكر.
ومن ذلك كنيسة العذراء العجائبية يزورها كل قيصر يأتي موسكو أيضا، ولا يمر بها روسي إلا وهو يرسم الصليب على وجهه، فيها صورة العذراء داخل إطار غالي الثمن نفيس الحجارة، وأصل الصورة من دير طور سينا، والناس يعتقدون بكرامة هذه الأيقونة ويقدمون لها النذور الكثيرة، وقد يطوف الكهنة بها في عربة فاخرة تجرها أفراس ستة فيدخلون بها بيوت المرضى، ويجل القوم مقامها إجلالا عظيما ويتبركون بحضورها، فإذا قابلوها في طريق طأطئوا الرءوس ورفعوا القبعات، وفي موسكو غير هذا من الكنائس ما ليس يمكن لنا الإشارة إليه بعد الذي تقدم ذكره.
ورأيت في موسكو ساحة الأعمال الحربية، وهي على مقربة من هذه الكنائس، فيها ركام متراكمة من المدافع القديمة يبلغ عددها 875 مدفعا، منها 366 تركها نابوليون الأول عند تقهقره من بلاد الروس، وعلى بعضها الحرف الأول من اسمه، وهناك مدافع نمسوية وبروسيانية وبولونية وبافارية وهولاندية وأسوجية، وكلها من غنائم الحروب السابقة، وأعظمها مدفع مسكوبي من أيام القيصر فيودور الأول يقال له أبو المدافع وزنه 39000 كيلو وقطره متر، ويلزم لكل طلقة من طلقاته 2000 كيلو من البارود.
ومما رأيت في موسكو متحف الصور، وأكثره رسوم تمثل حوادث التاريخ الروسي، فإني لما رأيت صورة حصار بلفنا مثلا، وقائد الجند الروسي سكوبلف يخطر على جواده بين الصفوف بعد تسليمها، ذكرني ذلك بما كان من بسالة الجنود العثمانية والروسية في ذلك الحصار المشهور، وما جرى للغازي عثمان باشا من الإكرام بعد أن سلم للروس وصار أسيرا عندهم، فإن القيصر إسكندر الثاني وقواد جيشه رأوا أن هذا البطل العثماني أظهر بسالة خارقة في الحصار، فأحبوا إظهار إعجابهم بصفاته وأرسل القيصر وراءه، وهو أسير فجاء في طريق اصطف جنود الروس إلى جانبيه، ولما دخل مضرب القيصر وجده واقفا بين قواد جيشه الظافر، فحياه القيصر ولاطفه كثيرا وهنأه بإقدامه الغريب ثم رد إليه سيفه ، والأسير لا يرد إليه السيف إلا علامة الإكرام العظيم فقبله البطل العثماني شاكرا، وخرج من خيمة القيصر فصاح الجنود الواقفون في الطريق «برافو عثمان»، معجبين ببسالته وشكرهم هو على ذلك اللطف، فكانت حكاية بلفنا من أجمل حكايات الحروب الحديثة.
صفحة غير معروفة