قال صديقي وحدث أنه يوم اغتياله رجاه مدير البوليس السري ألا يخرج من قصره ذلك اليوم، فما سمع النصيحة وذهب لزيارة شقيقته فألقى الأعداء اللئام تلك القنبلة المفرقعة تحت عجلات عربته وتفرقعت فقتلت الخيل والسائق، وكان القيصر في داخل العربة فلم يصبه أذى، ولو ظل فيها لما وصله مكروه، كذلك حذروه الذين كانوا معه ورجوه أن يبقى مكانه داخل العربة، ولكن القيصر كان جسورا كثير الاتكال على ربه فخرج من العربة ليسأل عن رجال حرسه، فألقى أحد الأشرار بين قدميه قنبلة ثانية قضت على حياته الثمينة وحزن العالم المتمدن لموته حزنا شديدا، وكان الموسيو دي نوفل يورد لي هذه القصة والحزن ملء فؤاده حتى إذا انتهى منها خنقته العبرة لأن إسكندر الثاني كان ولي نعمته، رقاه وأحسن إليه برفيع الرتب والوسامات وقبل طلبه، فتنازل إلى أن يكون عرابا للموسيو إسكندر بسترس نجل المرحوم سليم بسترس، وكان القيصر إسكندر الثالث عرابا للموسيو فلاديمير وهو النجل الثاني للمرحوم سليم بسترس أصدر بذلك أمرا قيصريا حمله الموسيو دي نوفل إلى لندن، حيث كان الموسيو بسترس، واحتفل بذلك احتفالا عظيما حضره سفير دولة روسيا وكثيرون من أهل المقام العالي، وكان مع سعادته أيضا وسامات عالية من جلالة القيصر، واحد منها للمرحوم سليم بسترس وآخر لحضرة قرينته نظرا لما اشتهر عنها من الفضائل والمبرات.
وآخر ما أذكر هنا من مشاهد بطرسبرج الإسطبلات القيصرية، وما هي بالشيء الحقير كما يفهم من اسمها، بل إنها معرض لجياد الخيل من روسية ومجرية وإنكليزية وعربية وللعربات الفاخرة والسروج النفيسة المرصعة بالحجارة الكريمة والأدوات الأخرى كاللجم والمهاميز والأزمة وسواها، أكثرها من الذهب والفضة وبعضها هدايا من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء بخارى وخيوا وبقية الممالك التي علا فيها سؤدد روسيا في أواسط آسيا. وفي أول هذا المتحف جواد القيصر نقولا الأول محنطا، وهو الذي كان يركبه في حرب القرم، ثم رسوم أمراء الإسطبل القيصري بالزيت وبالقد الطبيعي من يوم أنشئت هذه الوظيفة إلى الآن، وهنالك عربات كثيرة للقيصر والقيصرة والأعوان والحشم وعربات أخرى كثيرة الزخرف فائقة الإتقان للقياصرة السابقين، أجملها عربة إسكندر الثالث وهي كلها مذهبة الجوانب تبرق وتلمع كأنما هي شعلة من نار، ومركبة لبطرس الكبير صنعها بيده، ومضرب لكاترينا الثانية كانت ترقد فيه وقت الحرب، ومركبة نقولا الأول سار بها يوم تتويجه، ومركبة إسكندر الثاني التي قتل بها وهي محطمة الجوانب بفعل الديناميت، وعلى مقربة من هذا المكان، البقعة التي قتل فيها القيصر إسكندر الثاني وقد غرزوا صليبا حيث تفرقعت القنبلة القتالة، وشرعوا ببناء كنيسة ستكون من أعظم ما في بلاد الروس من نوعها، وقد لا ينتهي العمال منها قبل أعوام كثيرة تجيء فوقفت في ذلك المكان أتأمل أحكام القدر، حيث سقط قيصر عظيم لم تغنه قواته الهائلة شيئا وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وجملة القول أن مشاهد بطرسبرج العظيمة لا تعد في مثل هذا المقام، وقد بنيت على جزر والنهر يشقها شطرين، فتكثر فيها وفي ضواحيها الغابات والحدائق، منها الحديقة الصيفية مساحتها 15 كيلومترا مربعا أنشئت على النسق الفرنسوي، وحديقة بطرس الكبير أنشئت على النسق الإنكليزي وتكثر فيها الروابي والهضاب، وحديقة الحيوانات وفيها من كل حيوان غريب ما في معارض الحيوان المعروفة في أوروبا. ومطاعم بطرسبرج كثيرة، بعضها صيفي وبعضها شتوي، وملاهيها ومراسحها كثيرة أيضا ينفقون عليها المال الطائل، وكثير منها تمثل فيه الروايات بالفرنسية ويحضرها سراة الروس وهم معروفون بالترف والبذخ في المعيشة، وقد رأيت في أحد هذه المراسح ما لم أره في غيرها مدة سياحاتي من أنواع الرقص الإفرنجي البديع، فإن الستار رفع عن نحو مائتي فتاة جعلت يتفتلن ويتمايلن ويترقصن على أشكال وحالات تسكر الأذهان وتختلب العقول وهن بتلك الملابس المزخرفة، ظللن في تفنن ولعب بديع والناظر إلى حركاتهن وأقدامهن يظنهن آلة تدار بقوة واحدة، فلا تخطئ السير في جهة من الجهات أو إذا تأمل هاتيك القدود تتثنى وتتهادى ببهي الحلل خيل له أنه يرى بحرا من الحسن تغرق فيه الأفكار.
هذا بعض من كل شهدته في عاصمة الروس العظيمة، ولو أني شئت التطويل لضاق المقام عن البيان، فأتقدم الآن إلى ذكر شيء عن ضواحي هذه المدينة.
ضواحي بطرسبرج
كنت مدة مكثي في عاصمة السلطنة الروسية أسمع ببهاء ضواحيها، وأول ما قصدت منها قصر تزارسكوي سيلو - أي قرية القيصر - أنشأها بطرس الكبير وبنى بها قصرا، ثم تبعه في البناء قياصرة الروس وسراتهم حتى أضحت هذه الجهة مجموع مشاهد باهرة ورياض زاهرة ومنازل عامرة، فيها القصور المنيفة حيث يقيم أهل الشرف الشامخ والحدائق الغناء يتراوح بين أزهارها وشجرها جماعة الترف الباذخ، وفي وسط هذا العز الساحر زينة القصور الشماء وصلة السعد ما بين عيشة الأرض وعيشة السماء، أريد به قصر تزارسكوي سيلو بنته كاترينا الثانية، وهو الذي طارت شهرته في الآفاق وملئت بوصف جماله الأوراق، والقصر بناء عظيم يحيط به سور شاهق في أعلاه حديد مذهب، وطول البناء لا يقل عن 245 مترا، وقد دهن من خارجه بلون أصفر بهي واللون الأصفر كثير الاعتبار في بلاد الروس خلافا للمواضع الأوروبية الأخرى حيث يقل وجوده، وقد زاد بهاء هذا اللون في قصر تزارسكوي سيلو أن العمد والقباب والقواعد والشرفات كلها مذهبة تسطع منها الأنوار، وتجعل لذلك القصر العظيم أبهة وجمالا يقل لهما النظير بين قصور روسيا، وهي التي اشتهر أنها امتازت عن جميع العواصم الأوروبية بقصورها وما فيها من القاعات الغريبة. ولا عجب إذا قلنا إن قصر القيصر في تزارسكوي سيلو هذه يعد أعظم القصور الحالية؛ فإنهم أنفقوا على تذهيب جوانبه المرة الأخيرة اثني عشر مليونا من الفرنكات، فما قولك في بقية ما فيه من غرائب البناء والنقش والتصوير والزخارف والرياش الذي يعجز عن مثله أقيال الزمان، ولا تكتفي لعشر معشاره أموال قارون؟!
وقاعات هذا القصر تبلغ الثلاثمائة عدا، منها 31 قاعة على خط واحد بعضها وراء بعض، إذا وقف المتأمل في أولها عسر عليه أن يرى آخرها، وكلها آيات معجزات في إتقان الصنع ونفيس الفرش وباهر التحف وبديع الجوانب المذهبة، إذا أسعدك الحظ برؤيتها حكمت لأول وهلة أنها زينة القاعات الملوكية، ما رأى الراءون أكثر منها حسنا وبهاء، ولا سمع السامعون بأوفر منها رونقا وزهاء، تغرس في نفس الرائي بهجة وحبورا وتنسيه بقية ما في الأرض من أمر شاغل أو شيء خطير، ولا قبل لنا بغير الاختصار فنذكر هنا من هذه البدائع الشهية قاعة الرقص والولائم يقيمون فيها الحفلات الراقصة أو الولائم الفاخرة، وهي قاعة حدث عن جمالها ما شئت، وقل في غرائبها ما استطعت، إنها مفروشة بالحرير الأصفر الفاقع وسقفها وجدرانها ملأى بالزخارف المذهبة، ومرائيها عظيمة المقدار والقيمة، فوقها الشعار القيصري، وهي تعكس هاتيك المناظر الباهرة من هنا ومن هنا فلا يرى المتأمل غير جمال وراء جمال، ولا سيما إذا تدلى من السقف والجدران هاتيك الثريات تحكي الجواهر في لمعانها، وهي متى أوقدت مصابيحها في الليل تألق نورها وكثر شعاعها إلى حد يبهر الأبصار، وكلها تنار بالشمع؛ لأن النور الكهربائي غير مستعمل في قصور الضواحي، وفي هذه القاعة وحدها 2650 شمعة، فتأمل بهاء تلك الأنوار ومن حولها المناظر الساحرة لا سيما إذا احتفلوا بالليلة الراقصة التي يقيمها جلالة القيصر في كل عام، ويدعو إليها أمراء البيت القيصري وأميراته وسفراء الدول ووزراء المملكة وقواد الجيوش والأساطيل ورؤساء المصالح الكبيرة وسراة الأمة وعظمائها، فيأتون كلهم بالملابس الرسمية والوسامات، ومعهم سيدات تنفق الواحدة منهن ألوفا على لباس تلك الليلة وتتحلى بنفيس الجواهر، فما ترى في كل جانب غير عز وبهاء ويسار كثير وترف ونعمة تزيد عما في بقية العواصم الكبرى، والكل من سادة وسيدات يؤدون واجب الإكرام للقيصر، وهو متى بدأ الرقص يخاصر قرينة أقدم السفراء الحاضرين ويرقص معها دورا ثم يتنحى، والقيصرة ترقص دورا مع أكبر السفراء الحاضرين سنا ثم تتنحى أيضا، ويظل الباقون في طرب ونعيم إلى آخر الليل.
ولكن بدائع هذه القاعة الغريبة تعد شيئا يسيرا عند قاعة الكهرباء الفاخرة، وقد أطلق عليها هذا الاسم؛ لأن الكهرباء الثمينة فيها تقوم مقام الخشب والحديد فكل مقاعدها ومناضدها وكراسيها صنعت من الكهرباء مع ما تعلم من غلاء قيمتها، والفرش من فوقها حرير أصفر يتلاءم ببقية ما في القاعة، وقد ذاعت شهرتها في أوروبا وتحدثت الركبان بعظيم قيمتها. ومن ذلك أيضا قاعة الفضة وكل ما فيها من هذا المعدن الناصع صنع على نسق يحلو للأنظار، وتليها قاعة اللازورد، وهي لا تقل في الغرابة عن قاعة الكهرباء؛ لأن حجر اللازورد من أثمن الحجارة المعروفة وهو أزرق سماوي في لونه، زينوه بعروق من ماء الذهب، فصار له منظر يشرح الصدور ولا تشبع العين من التأمل فيه، والقاعة الصينية وكلها من الأطلس الأسود المزركش بالقصب وخشبها كله من التيك الأسود الفاخر، وقاعة الصور وفيها صور بعض الحوادث التاريخية مثل تسليم الشيخ شامل وتتويج إسكندر الثاني وتنصير أولاده وغير هذا كثير، وقاعة الموائد وهي للولائم الرسمية العظيمة، فيها مواضع لمائتين وخمسين مدعوا، وكل آنيتها من الذهب والفضة تليق بعظمة ذلك القصر العظيم، وقاعات أخرى لا يعي الذهن ذكرها وكلها من غرائب الصناعة ودلائل اليسار والعز الكبير.
وفي هذا القصر كنيسة جميلة مدهونة جدرانها بلون أزرق تتخلله عروق ذهبية بديعة الإتقان، وللقيصر والقيصرة كرسيان أمام باب الهيكل من أجمل ما رأته العين، وللكنيسة قبة بديعة يراها القادم إلى القصر من خارجه، ويلي الكنيسة رواق عظيم طوله 82 مترا يطل على أشهى المناظر، ومنه يمكن الوصول إلى الحديقة المحيطة بقصر تزارسكوي سيلو، وهي يقصر في وصفها قلم الكاتب البليغ، تجولت في جوانبها حينا من الدهر ثم غادرتها ونفسي تحدث بما رأت من محاسن هذا القصر الغريب، وعدت إلى المدينة وأنا أفكر بما رأيت فيه من الغرائب، وقد خطر في بالي أن بانيته العظيمة القيصرة كاترينا الثانية لما انتهت من بنائه وإعداده دعت سفير فرنسا في ذلك العهد لرؤيته، فجاء السفير وجعل يحدق ببصره ويتأمل تلك البدائع، وهو يتطلع ذات اليمين وذات الشمال كأنما هو يبحث عن شيء، فسألته القيصرة أن: ما الذي تبحث عنه؟ قال: إني أبحث عن غطاء من البلور أغطي به هذا القصر الثمين .
وفي هذا اليوم قصدت مدفن القياصرة العظام فقمت من الفندق مارا بميدان فسيح اسمه شان ده مارس، سمي على اسم إله الحرب؛ لأن المناورات العسكرية تجري فيه، ومن ورائه الحديقة الصيفية ثم الجسر المبني فوق نهر النيفا، وفي آخره على الشمال كنيسة لها قبة علوها 128 مترا، وهي أعلى ما في روسيا من القبات. وفي هذه الكنيسة مدفن القياصرة وأصله قلعة قديمة دخلته ورأيت قبر بطرس الكبير وكاترينا الثانية وإسكندر الأول صاحب وقائع بونابارت، ونقولا الأول صاحب حرب القرم، وإسكندر الثاني أشرف القياصرة ومحرر الأمم، وإسكندر الثالث بطل السلام، وهو والد القيصر الحالي، وفي تلك المدافن مصابيح يوقد فيها الشمع ليلا ونهارا ولها منظر يؤثر في النفوس.
صفحة غير معروفة