ألا ترى إلى الذرة وضعفها، كيف عجزت الحواس عن وصفها؟! وقصرت عن إدراك مختلف أغراضها، في تصرف إقبالها وإعراضها، ودرك فهمها لمعايشها، ونفورها عن المهالك وخوفها، وشهواتها لجميع لذاتها، وقوام روحها وحياتها، وإصلاح خلقها وتعديلها، وتوصيل جوارحها وتفصيلها، قد جعلن لها أعماد تقلها عن السقوط، وفصلت للإصعاد والهبوط، ولولا تلك الأعماد لما ارتفعت، ولولا تفصيلها لما انتفعت، ولسكنت عن التحرك وانقطعت، ولكن الحكيم جاد عليها برحمته، وامتن عليها بإظهار حكمته، وأتمها بفواضل نعمته.
وأما ما ينال الآدميين من ضرر الهوام، فما هو إلا كسائر الآلام، وما السم إلا سقم من الأسقام، وعلة من علل الأجسام، ومحنة من محن ذي الجلال والإكرام، يعظم فيها الأجر للمسلمين، ويجل فيها ثواب المؤمنين، وتخويف من رب العالمين، وموعظة لعباده الموقنين، وحجة ونعمة للفاسقين، وعقوبة للفجرة الظالمين، لأن الألم يدعو إلى ذكر الموت والفناء، ويزهد ذوي الألباب في الدنيا، فيدعوهم الخوف إلى الإقصار عما يولج في عذاب النار، فهذه حكمة من حكم رب الأرباب، يستحق الشكر عليها من ذوي الألباب، مع أنه عز وجل يثيب المؤمنين على أمراضهم وأسقامهم، أكثر مما يثيبهم مع صحتهم، فالحمد لله الذي جاد علينا بموعظته، وجعل الرحمة في نعمته، فيا لها محنا حسنت؟!! ونعما جلت وحسمت؟!! وحكمة بانت وعظمت!!
صفحة ١٢٥