والأصوات الغريبة؟ أليس من الممكن مقارنتها بتلك القطعة الأخيرة من القسم الثاني من زرادشت التي نجدها تحت عنوان: «أشد الساعات سكونا»، حيث نسمع المجهول يتكلم مع زرادشت «بغير صوت»؟
أما تطهير النفس على الدوام من غبار السوق وضجيج الزمن فهو واضح الدلالة على ضرورة العلو والتجاوز بوجه عام، حتى ولو كان هذا العلو فوق ما حققته أو أثارته ظاهرة الفيلسوف نفسه وتأملاته التي جاءت في غير وقتها أو ضد وقتها من غبار النجاح وضجيجه، ولن يخفى ما في «تطهير النفس على الدوام» من تذكير بمبدأ التطهير القديم عند الفيثاغوريين والأفلاطونيين، وأما التغلب على كل ما هو مسيحي دون الاكتفاء بالتخلص منه، فأهم ما نلاحظه فيه أنه لا يذكر شيئا عن عداوة المسيحية أو مخالفتها، بل يتحدث عن روح تتجاوز المسيحية وتعلو عليها؛ فلم يكن من الممكن أن يوجه الفيلسوف همه إلى التخلص ببساطة من المسيحية، وهو الذي يصف نفسه بأنه سليل جيل كامل من «القسس المسيحيين»، ولم يكن من الممكن أيضا أن يدعو إلى نوع من الوثنية أو الإغريقية كما يزعم بعض خصومه، بل إن أقصى ما يريده أن يعلو ويتفوق بالإنسان إلى «نهار جديد» و«عالم جديد» يؤكد إرادة قوته وقدرته على العلو والتفوق فوق إنسانيته الحاضرة.
وتطالب السطور التالية بالعودة إلى اكتشاف الجنوب في النفس، والعودة إلى غزو الصحة الجنوبية فيها، فما هو هذا الجنوب الذي يريد الملاح أن يوجه إليه سفينته؟ إن الحكمة رقم 255 من كتابه «وراء الخير والشر» تصف الجنوب بإشراقه الباهر وشمسه الساطعة بأنه «المدرسة العظمى لاستعادة الصحة في أمور الروح والحس.» وليس الجنوب رمزا للإشراق الناصع فحسب، ولكنه كذلك رمز لكل ما هو عميق وقادر وغني بالأسرار؛ فلقد كان الشمال على الدوام أكثر سذاجة وسطحية من الجنوب، كما تقول الحكمة 35 من كتاب «العلم المرح»، وكان الجنوب هو وريث «الشرق العميق» ووريث آسيا العريقة الغنية بالأسرار، كما كان كذلك رمز ما يسميه نيتشه بالروح الإغريقية.
ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون تمهيدا للسطور التالية التي تريد للإنسان «أن يصبح بالتدريج أكثر شمولا واتساعا، وأن يصير عالميا وأوروبيا وأكثر من أوروبي وشرقيا إلى أن يصبح في النهاية إغريقيا.» والإغريقي هنا رمز لنهاية الرحلة، أو لعالمنا الجديد كما يمضي الكلام بعد ذلك. ولكن ما هي بلاد الإغريق التي يريد نيتشه أن يعيد اكتشافها من جديد؟ وما صلتها بذلك البلد الذي اكتشفته علوم الآثار واللغات القديمة؟
إن الحكمة رقم 419 من «إرادة القوة» تقول: «إن الفلسفة الألمانية في مجموعها هي أشد ألوان الرومانتيكية والحنين التي وجدت حتى الآن أصالة، وهي الشوق إلى أفضل ما عرفه الإنسان إلى اليوم، إن الإنسان لم يعد يشعر في أي مكان بأنه في وطنه، إنه يحن إلى موضع يمكنه أن يقول عنه بطريقة ما إنه وطنه ... وهذا الموضع هو العالم الإغريقي! غير أن جميع الجسور المؤدية إليه قد تحطمت، باستثناء أقواس قزح التصورات.»
إن نيتشه يعلم أنه لم تعد هناك جسور ترجع بنا إلى بلاد الإغريق غير جسور التصورات، وما بقي هذا الطريق الوحيد قائما فسوف نظل «كالأشباح الرقيقة»، صحيح أنه يعترف لهذه الأشباح ببعض الحقوق، ولكنها ستبقى شيئا مؤقتا، ممهدا لما يأتي بعده، وسنظل على جهلنا ببلاد الإغريق ما بقي الطريق إليها مخفيا تحت الأرض، فعيون العلماء المتطفلة لن تبصر الحقيقة في هذه الأمور، وإن كان من الواجب بالطبع أن يستمر العلم في خدمة الكشوف والحفريات.
بلاد الإغريق الجديدة الخالصة لا شأن لها إذن ببلاد الإغريق القديمة، ونصيحته لنا بأن نصبح إغريقيين لا صلة لها بالدراسات الكلاسيكية واللغوية، بل إن الطريق إليها يزداد شمولا باستمرار، حتى يصير عالميا وأوروبيا، وأكثر من أوروبي، وشرقيا إلى أن يمر أخيرا ببلاد الإغريق! ومن الواضح أن كلامه عن الشرق لا يعني أن يكون طرفا مقابلا لأوروبا والغرب، بل عن شيء يسبق الغرب ويتجاوزه، ومن ثم نجده يلاحظ الملاحظة التالية في أوراقه التي تحتوي على خططه ومشروعاته في الكتابة: «يجب علي أن أتعلم كيف أفكر في الفلسفة والمعرفة تفكيرا شرقيا، النظرة الشرقية إلى أوروبا.» وبذلك يتضح شوقه الغريب إلى أن يصبح الإنسان إغريقيا بعد أن يتم له بلوغ الروح الشرقية؛ ذلك لأن الروح الإغريقية كانت هي التأليف والمركب الأول العظيم لكل ما هو شرقي.
بلاد الإغريق التي يريدها نيتشه لا صلة لها إذن بذلك البلد الغربي القديم؛ فهو يريد بلاد الشرق الجديد مع الغرب الجديد، أي مع وطن إغريقي جديد، ومن هنا نفهم ذلك الشعار الهندي الذي يقدم به لكتابه «الفجر» الذي يشرق معه فجر تفكيره والذي يقول فيه: «هناك أشكال من الفجر لا حصر لها، لم يقدر لنورها أن يشرق بعد.» ومن هنا أيضا كانت تلك الحكمة التي يختتم بها هذا الكتاب تحت عنوان: «نحن ملاحو الروح» والتي تنتهي بكلمة غامضة عجيبة هي «أو»: «أيقول الناس عنا ذات يوم إننا نحن أيضا كنا نرجو - وقد اتجهنا بسفننا نحو الغرب - أن نصل إلى بلاد الهند؟ وإنه كان من نصيبنا أن نتحطم على «صخرة» اللانهاية؟ «أو» يا إخوتي؟ «أو»؟»
ما معنى هذه ال «أو»؟ وما هي بلاد الهند التي يريد نيتشه أن تصل سفينته إلى شاطئها؟ أهي بلاد الديانة البوذية؟ ولكننا نعرف مدى احتقاره للبوذية، ونعرف كذلك أنه وصفها هي والديانة المسيحية بأنهما الديانتان العدميتان الكبيرتان، أم تكون الهند رمزا للبلد الذي ستشرق منه ديانة جديدة وفلسفة جديدة؟
إن نيتشه يقارن نفسه هنا بكولومبوس، فالمعروف أن هذا قد اتجه بسفنه ناحية الغرب وهو يرجو أن يكتشف جزرا هندية، غير أنه اكتشف بلدا جديدا لم يكن الهند بل أمريكا، فماذا تعني «أو» في نهاية المقطوعة السابقة؟ أتعني أنه كان يرضيه أن يبلغ الهند لو لم تتكسر سفينته على صخرة اللانهاية؟ لو فعل ذلك لكان متناقضا مع نفسه؛ فقد سبق له أن أسقط الهند «بلد الديانة العدمية» من حسابه. لم يبق إذن إلا القول بأنه كان يريد مثل كولومبوس أن يكتشف أمريكا أخرى أو عالما جديدا يسميه «عالمنا» الجديد، وسواء بعد ذلك أن تكون سفينته قد تحطمت على صخور اللانهاية أو أن يكون قد اكتشف ذلك العالم الجديد، فلا يمكن القطع في ذلك بالنفي ولا بالإيجاب، ولن نستفيد في الحالتين شيئا، فأهم من ذلك بكثير أن نعلم أنه لم يكف عن البحث عن هذا العالم الجديد، ولم يبخل عليه بجهد ممكن أو مستحيل، بل وهب له حياته حتى جن واحترق؛ ولذلك نجده يقول بحق على لسان زرادشت: «كان طريقي كله محاولة وسؤالا.» ولعل هذه التجربة المتصلة وهذا الإلحاح المستمر على السؤال الحر هما خير ما في فلسفة نيتشه، بل خير ما يمكن أن يوصف به الفكر على وجه الإطلاق.
صفحة غير معروفة