الإهداء
تقديم
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
وحيدا مع الواحد
تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
لا
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
عن الشجاعة
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
العود الأبدي
والفكر عزاء
عزاء الفلسفة
وحوار ولقاء
لوحة رفائيل
مدرسة الحكمة
خلاف حول الإنسان
ومعرفة وحقيقة
ما هو الشيء؟
حذاء فان جوخ
إشارة إلى المراجع
الإهداء
تقديم
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
وحيدا مع الواحد
تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
لا
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
عن الشجاعة
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
العود الأبدي
والفكر عزاء
عزاء الفلسفة
وحوار ولقاء
لوحة رفائيل
مدرسة الحكمة
خلاف حول الإنسان
ومعرفة وحقيقة
ما هو الشيء؟
حذاء فان جوخ
إشارة إلى المراجع
مدرسة الحكمة
مدرسة الحكمة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى أستاذي الدكتور «ف. شتروفه» بجامعة فرايبورج (بألمانيا) أهدي بعض ما تعلمته منه.
تقديم
ليس هناك فلسفة بغير تفلسف، أعني بغير مشاركة في مسائلها، وتجربة حية لمشكلاتها، صحيح أن هناك عددا لا حصر له من الحقائق التي يستطيع الإنسان أن يتعلمها من تاريخ الفلسفة، وصحيح أيضا أن تاريخ الفلسفة لا غنى عنه لكل من يريد أن يتفلسف، غير أن الاقتصار على ترديد آراء الفلاسفة - كما يقول «كانط» في عبارته الجميلة في نهاية «نقد العقل الخالص» - يحيل الإنسان إلى «نسخة من الجبس» تكتفي بالترديد وتعجز عن الإضافة والإبداع. فتاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات، والفلاسفة أناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفزعة تصنع أفكارا مجردة وكلمات جافة مخيفة، لقد واجهوا مشكلات عذبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون أو في أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلا. ولا جدوى على الإطلاق من أن «نعرف» أن «أفلاطون» كان ينادي بنظرية المثل، أو أن «أرسطو» كان يقول بتركيب الأشياء من مادة وصورة، أو أن «كانط» قد وصف المكان والزمان بأنهما صورتان أوليتان للعيان أو المشاهدة، لا يتم للإنسان فهم أو إدراك إلا في إطارهما؛ لا جدوى من معرفة هذا كله إذا لم نعرف قبل هذا شيئا عن «الإشكال» الذي جعل أفلاطون وأرسطو و«كانط» ينظرون هذه النظرة إلى الواقع أو إلى المكان والزمان، وإذا لم نشعر باللغز الذي أرقهم ودفعهم إلى البحث عن الحل الذي ذهبوا إليه. وإذن ففهم المشكلات الفلسفية لا يكون بحفظ مذاهب الفلاسفة وآرائهم، بل بتجربتها ومكابدتها على أنها مشكلاتنا نحن، وطبيعي أننا لن نستطيع أن نفهمها الفهم الصحيح حتى نضعها في داخل تطورها التاريخي، ولكننا لن نستطيع كذلك أن ننظر إليها على أنها «مشكلاتنا نحن»؛ حتى نعود فنضعها في تاريخنا ونسأل أنفسنا: ماذا يمكن أن تقوله اليوم لنا؟ فالفلسفة مجموعة من المشكلات والأسئلة التي لا تكاد تختلف من عصر إلى عصر إلا في أسلوبها وطريقة صياغتها والإجابات التي يحاول أبناء كل جيل أن يقدموها لها، ويعكسوا على مرآتها أفكارهم وهمومهم وضعفهم وقوتهم وأحلامهم وأشواقهم وتخريفهم وسخفهم أيضا؛ ولذلك كان من أصعب الأمور على دارس الفلسفة أن يجد المرجع الذي يعطيه كل شيء عنها؛ لأنه سيكتشف بعد قراءة مئات الصفحات - بل آلافها - أنه لم يعرف بعد ما هي الفلسفة! وليس الأمر كذلك في سائر العلوم التي نصفها بالعلوم الوضعية، فيكفي أن نمد أيدينا إلى كتاب في تاريخ الفلك أو الطبيعة أو النبات أو الاجتماع؛ لنعرف موضوع هذا العلم وحدوده وغايته. ذلك هو سر الخطر والإغراء الذي تنصب الفلسفة شباكه لكل من يغامر بالسير على دربها الممتع الخطر، إنه لا يلبث أن يجد أن كل المصابيح التي أخذها من أيدي الفلاسفة لا تكفي لإنارة طريقه، وأن عليه أن يكتشف هذا الطريق بنفسه، ويفكر فيه بالاعتماد أولا وأخيرا على نفسه. صحيح أنه لن يستغني عن هذه المصابيح التي زوده بها تاريخ الفلسفة، ولكنها كذلك لن تعفيه من البحث عن مصباحه ووضع الزيت فيه وتنظيف زجاجه من حين إلى حين!
في هذا البحث الدائب المستمر تكمن حقيقة ما يسمى عادة بالفلسفة الخالدة
perennis ، فليست هذه الفلسفة الخالدة هي التي تبحث في علاقتنا بالوجود الكلي وفي علاقته بنا فحسب، وليست هي التي تكتفي بالإجابة على الأسئلة التقليدية، بل هي التي تحيي مشكلاتها الباقية وتخلق مشكلات جديدة كلما استطاعت، وتجعلنا نفكر فيها ونحياها اليوم، لا بل نفكر فيها ونحياها الآن، بذلك تصبح الفلسفة هي التفلسف، كما يصبح التفلسف ضرورة باطنة، ورسالة دائمة لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن حمل أمانتها ومسئوليتها إلا إذا أراد التخلي عن حقيقته كإنسان.
إن الفلسفة هي التي تفتح عيوننا على معنى وجود العالم ووجودنا، وتضع أيدينا على ما فيهما من إشكال في ذاته، إلى الحد الذي نكف معه إلى الأبد عن التماس الحلول «النهائية» أو وضعها في صيغة مريحة أو قالب ثابت من تلك الصيغ والقوالب التي يزخر بها تاريخ الفلسفة. إنها تريد أن تفهم، ولكي تفهم لا بد أن تبحث، ولكي تبحث لا بد أن تكون حرة، فليست الفلسفة ولن تكون في الكتب أو الحروف المكتوبة التي فقدت مع الزمن سحرها القديم، وجدير بنا أن نذكر أن سقراط إمام الفلاسفة ونموذج الفلسفة لم يكتب - لحسن الحظ - حرفا واحدا، وأن حياته وموته ما زالا يخجلان الجميع، سواء أكانوا من المثقفين العاديين أم من موظفي الفلسفة الأكاديميين. فلقد تفلسف سقراط بحق، والفلسفة عنده كان معناها البحث؛ معناها أن هناك أشياء يمكن أن ترى وأن تقال، وإلا كانت مجرد ثرثرة وهراء وسحب نعيش فيها، كما كان أرسطوفان يزعم عنه ظلما، ولا شك أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يحيا هذا الفيلسوف الحق إلى جانب البسطاء من الناس يناقشهم ويناقشونه في الشوارع والطرقات، فلعله قد وجد لديهم فهما للتهكم الفلسفي واستعدادا للدهشة لم يستطع أن يعثر عليه عند أدعياء المعرفة وكهنتها الرسميين، ولعله قد أحس بفطرته أن مكان الفيلسوف مع الناس، وأن جذوره ممتدة في نفس العالم الذي يضمهم وإياه. وهل يفعل شيئا آخر غير التعبير بالكلمات عما يحسونه جميعا من أسرار الروح والجسد والموت والحياة؟ ألا يعبر عن اللحظات التي تتجدد فيها حياته ويتسع أفقه محاولا أن يجعل تجربته الذاتية تجربة مشتركة، وأن يوقظ معاصريه ويفتح أعينهم على مفارقات الوجود التي يطوونها بين جوانحهم في صمت؟ ألا يقول لهم: إن الموت كامن في الحياة، وإن الفلاحين - بل شعوبا بأكملها كما يقول مونتني - تموت باستمرار كما يموت الفيلسوف؟ ألا يعلمهم أن الإنسان، لكي يكون إنسانا بحق؛ ينبغي عليه أن يكون شيئا أكبر قليلا من الإنسان وأقل قليلا منه؟
1
كل هذا يؤكد أنه إذا كان التفلسف هو محاولة الكشف عن معنى العالم أو الوجود الشامل، فإن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يتفلسف بالخروج عن الموقف الإنساني أو من خارجه، فهو لا يستطيع أن يفكر في الحقائق الأبدية حتى يبدأ من حقيقته الفانية، ولا يمكنه أن يعلو فوق العالم حتى يهبط إلى أعماقه، ولا يسعه التفكير في الأسئلة الخالدة: من أين؟ وإلى أين؟ حتى يعيش لحظته الحاضرة ويبدأ من يومه الراهن؛ فالفيلسوف ملتزم بالتاريخ الذي يعيش فيه، والناس الذين يحيا معهم، ولكنه كذلك غير ملتزم، بمعنى أنه لا بد له من الاحتفاظ لنفسه بحق التحرر من كل قيد ممكن، سواء جاء من الدين أو التقاليد أو أفكار العصر؛ ولذلك فهو مضطر أن يحيا في هذه الازدواجية، أعني أن يعيش على الدوام في حالة من الارتباك، والارتباك هو نقطة ضعف الفيلسوف، وهو كذلك فضيلته، إنه يعلم أن بحثه الدائم عن الوجود الشامل أو المعنى والحقيقة ... إلخ؛ لا يجيز له أن يبعده عن تيار التاريخ ولا عن عالم الظواهر من حوله، كما يعلم أن انشغاله الضروري بعالم الطبيعة والبشر لا يصح أن يشغله عن الكل والمطلق والمعنى، إنه لا يتعالى فوق تناقضات العالم والعصر، ولكن كذلك لا يريد أن يغرق نفسه فيها، ولعل هذا هو معنى العبارة التي ذكرها أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس
Theaitetos
عن تلك الفتاة الثراقية التي أغرقت في الضحك عندما رأت الفيلسوف طاليس يسقط في نبع الماء؛ لفرط استغراقه في تأمل النجوم.
2
بهذا يضمن الفيلسوف - إن كان في مغامرة التفلسف ضمان لشيء! - ألا يتلاشى فكره في التجريد أو يتحجر في الجمود، وأن يظل فعله الفلسفي حيا وخالدا، إنسانيا ومتعاليا فوق الإنسان، واضحا ومحاولا الكشف عن الغموض، وبهذا أيضا تكون «الفلسفة الخالدة» هي في نفس الوقت «الفلسفة الحية»، ولا تكون الفلسفة إلا هذه الحركة المعذبة المتصلة بين السؤال والجواب والغموض والوضوح والمطلق والنسبي والإنساني وما يتجاوز حدود الإنسان، ويصبح من واجب هذا «الكائن الوسط» - الذي نسميه الإنسان - أن يقبل هذا القدر القاسي النبيل في شجاعة وثقة، ويحمل مسئوليته في أمانة وكبرياء، حتى يمكنه أن يحيا مشكلات الفلسفة ويحييها، ولا يكتفي فحسب بتأملها والتفكير فيها، وبهذا يصبح أول حرف في الفلسفة هو الإنسان نفسه، الذي يحاول ويعاني ويصارع ويتقدم على الدوام ويحقق نفسه في كل فعل يقوم به كجهد خلاق، وثورة حية متجددة. وتسكن الفلسفة في قلب الحياة والتاريخ، في المكان الذي تولد فيه الأحداث، باحثة عن المعنى والغاية، مبتعدة بنفسها عن طموح العمليين وتجريد المذهبيين.
في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة «الفلسفة الخالدة» التي أشرت إليها من قبل؛ فهي أشبه ما تكون بنظام شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظام معاصر نستطيع نحن أيضا أن نجد مكاننا فيه، ونحس بالمشكلات التي عذبت من قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجابات مختلفة عن إجاباتهم. «فالشك» مثلا ليس مسألة أثارت بعض الفلاسفة ومرت من زينون الإيلي إلى السفسطائيين إلى ديكارت، بل هو مسألة تطرح نفسها علينا في زمننا الحاضر وفي موقفنا الراهن. وليس معنى هذا أننا لا ندخل «مدرسة الحكمة» أو «معبد الفلاسفة» إلا لنلتقي بأفكارهم الخالدة فحسب، بل لا بد لنا كذلك أن نعرف حكمتهم وحماقاتهم وهزائمهم وانتصاراتهم وحقائقهم وسخافاتهم. وليس ما يمنع أيضا من الاهتمام بالأمراض التي كانوا يشكون منها في المعدة أو الصدر؛ اهتمامنا بتفاصيل مذهبهم أو ظروف مجتمعهم وحياتهم؛ ذلك لأن الفلسفة - هذا الجنون المعقول! - حاضرة دائما في كل فيلسوف، وليست حقائق الفلاسفة أو خرافاتهم سوى ذكريات على طريق واحد، مهما تعرج أو امتلأ بالسدود والمطبات، فهو يتحرك على الدوام حركة تبدأ في كل لحظة ولا تنتهي؛ فليست الفلسفة في نهاية الأمر مجموعة من المذاهب والآراء التي تعبر عن نفسها بالأفكار المجردة، بل هي قبل ذلك ملحمة من تجارب الحكمة، تمتلئ فصولها بالسلب والإيجاب والنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ويتصل فيها الماضي بالحاضر، ويلتقي المفكرون من حيث لا يعلمون؛ ليضعونا أمام المسئولية التي تحتم علينا في كل لحظة حاسمة من لحظات حياتنا أن نجرب تلك الحكمة، ونسير على هذا الطريق؛ لنثري حياتنا ونوسع آفاق شعورنا، ونكون نظرتنا الشاملة في العالم والإنسان، ونتمسك بالقيم التي نادى بها الفلاسفة ودفع بعضهم حياته من أجلها.
لذلك كانت الخطوة الأولى على هذا الطريق هي إيقاظ السؤال الفلسفي في نفس القارئ من جديد، والرجوع به إلى الحالة الأولى للتفلسف، أي إلى الدهشة الأصيلة التي جعلت أقدم الفلاسفة يسأل هذا السؤال السهل العسير: ما هو الوجود؟ وكانت لحظات الاندهاش أو العلو أو الشجاعة والتواضع أو الاحتجاج ... إلخ، التي تتحدث عنها الصفحات القادمة لحظات من فعل التفلسف نفسه، ومحطات على هذا الطريق الطويل الشاق، وألوان من المواقف الحاسمة التي وقفها المفكرون، واستطاعت فيها الفلسفة أن تكون عونا لهم على مواجهة قدرهم أو أدت بهم على العكس من ذلك إلى مأساة هذا القدر؛ ولهذا كله فإن هذا الكتاب لا يهدف إلى التعرض لتاريخ الفلسفة أو مذاهبها، بقدر ما يهدف إلى تمهيد الأرض الصالحة لفعل التفلسف نفسه، وتطهيرها من كل ما يعوقه من عقبات تنجم عن التزمت أو الكسل أو الإغراق في التفاصيل والجزئيات. إنه يريد أن يشرك القارئ في ذلك البحث الخالد عن المعرفة ويأخذ بيده إلى «مدرسة الحكمة» التي لا يحدها مكان ولا زمان، لعله أن يدخل في حوار مع أصحابها، ويذوق طعم المشكلات التي تعذب عقولهم أو تملأ عليهم وجدانهم، حتى يفوز من ذلك بزاد يعينه على طريق الحياة، ويحيي فيه جذوة السؤال عن حقيقته وغايته ومعنى وجوده وحريته.
وإذا كان الكتاب لا يهدف - كما قلت - إلى عرض مذاهب فلسفية ولا الوقوف منها موقف المؤيد أو المعارض، فليس معنى هذا بالطبع أنه يسوي بين الفلسفات جميعا كما لو كانت - على حد تعبير هيجل - قططا سوداء في حجرة مظلمة، بل معناه أنه يعرض جوانب من فعل التفلسف الخالص نفسه؛ فهو الخيط الذي يمكنه أن يهدينا في متاهات الآراء المختلفة، ولا بد من البدء بتفهم حروفه لنفهم بعد ذلك لغات الفلاسفة المركبة الغامضة، ولا بد أيضا من تجربته والتمرس عليه قبل الخوض في الكلام عن المذاهب أو التصدي لها بالمعارضة أو التأييد، فإذا أفلح هذا الكتاب في أن يوقظ في القارئ محبة الحكمة أو يغريه بممارستها، وإذا استطاع - على الأقل - أن يقدم له بعض اللحظات الأولية التي تعبر عن الجهد الفلسفي وتضع قدم المتفلسف على الطريق، فقد حقق أقصى ما يطمح إليه كاتبه.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في يناير 1967
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
سماه بعض القدماء ب «المعتم»، وبعضهم الآخر ب «الفيلسوف الباكي»، وغلبت عليه هذه التسمية جيلا بعد جيل، منذ أن كانت كتاباته كاملة بين أيدي معاصريه. ويقال إنه أودعها في معبد الآلهة أرتيميس، وتعمد أن يدونها بخط غير واضح حتى لا يقربها إلا القادرون على فهم أسرارها، إلى أن ضاع معظمها ولم يبق منها سوى مائة وثلاثين شذرة متفرقة يتألف بعضها من عبارات صغيرة، وبعضها من جملة واحدة أو كلمة مفردة. أما الاسم الذي خلعه عليه أبوه فهو هيراقليطس بن بلوسون من مدينة أفيسوس في بلاد اليونان، وأما تاريخ ميلاده فيرجع إلى حوالي عام 500 قبل الميلاد.
وهيراقليطس هو آخر الفلاسفة المعروفين بالأيونيين وأكبرهم، أحاطت به هالة من العظمة والوحدة والكبرياء والتفرد، جذبت المفكرين إلى شخصيته العجيبة على مدى العصور، وتمثلت فيه غضبة المفكر الذي يدق ناقوس الخطر ليوقظ النيام ويرفع عصاه ليعيد موكب الجماهير إلى منبع الحكمة، نشأ في بيت ثري نبيل، وتخلى عن وظيفة الكاهن الموروثة في أسرته إلى شقيقه الأصغر، ورفض أن يشارك في حكم المدينة التي ولد فيها، أو يشرع لها القوانين؛ لا عن أنانية أو تكبر، بل لاعتقاده بأن دستور هذه المدينة ومواطنيها قد بلغوا من الفساد حدا يعجز معه عن إصلاحهم: «من الخير للأفيزيين أن يشنقوا أنفسهم واحدا واحدا، وأن يتركوا المدينة لغير الذكور؛ فهم الذين طردوا هرمودوروس (أحد أصدقاء هيراقليطس) أكرم رجالهم قائلين له: ليس منا من يفضلنا في الكرامة، وإن وجد فينبغي له أن يعيش في بلد آخر وعند قوم آخرين.»
1
وراح هيراقليطس يعبر عن احتقاره المر للجماهير الذين يسميهم بالكثيرين والذين يرقدون على حد قوله: «شباعا كالبهائم»،
2
ويسفه آراءهم ويزري بشعائرهم وطقوسهم، إيمانا منه بأن «الواحد حين يكون عظيما يفضل عنده عشرة آلاف»،
3
وأخذ يسلط نظرة القاضي القاسية على أسلافه، فهو يعترف أن هوميروس هو أحكم اليونانيين جميعا،
4
ولكنه ينصح هؤلاء اليونانيين مع ذلك بأن يطردوه من مدينتهم، وينهالوا عليه وعلى الشاعر أرخيلوخوس ضربا بالسياط!
5
ولم ينج الشاعر هزيود من هجومه المفزع، ولا نجا أعظم اليونانيين من لسانه السليط، إنه يتهمهم جميعا بأنهم علموا الناس أن يحشوا رءوسهم بالحفظ والمعرفة، مع أن «كثرة المعرفة لا تعلم العقل.»
6
وأنهم يتبعون منشدي الشعب، ويجعلون من الرعاع معلمين لهم؛ لأنهم لا يدرون أن الكثيرين أشرار، وأن القليلين طيبون. ويغالي في هجومه فيصف فيثاغورس وأصحابه بالنصابين والغشاشين، ولا يعترف لأحد من السابقين بفضل المعلم، بل يقول في كبرياء واعتزاز بالنفس: «أنا الذي قمت بالبحث في نفسي.»
7
وفي هذه الكلمة الأخيرة نغمة لم تسمع من قبل في فجر الفلسفة، ف «الأنا» تعلن لأول مرة عن نفسها وتطالب بحقها، ويتكشف أفق جديد لم يعرفه الإنسان من قبل: هو أفق الذات، فها هي ذي عميقة عمق الهاوية، لا يستطيع غواص أن يصل إلى قرارها، متسعة الأرجاء، لا يملك أحد أن يلمس حدودها: «لن تستطيع خطاك أن تعثر على حدود النفس، ولو سرت في كل طريق، عميق هو معناها «لوجوس» شديد العمق.»
8
وفي هذه العبارة يبدأ علم النفس ويصل أيضا إلى أبعد غاياته، فلا نكاد نعرف شيئا قيل عن النفس الإنسانية أشمل أو أصدق من هذه العبارة، إنها تحملنا على تصديق ما يروى عن رأي سقراط في هيراقليطس؛ فقد قيل: إن الشاعر المسرحي يوريبيدز قدم إليه مؤلف هيراقليطس وسأله عن رأيه فيه، فرد عليه سقراط قائلا: «إن ما فهمته منه شيء رائع، أما ما لم أفهمه فإنني أومن بصحته، غير أنه يحتاج إلى غواص من ديلوس!»
9
ولقد حاول الغواصون على مر العصور أن يخوضوا في بحره المظلم، ويصطادوا اللؤلؤ والنضار من لغته الزاخرة بالصور والرموز والأسرار، رأى فيه هيجل الأب الحقيقي لمذهبه في «الروح المطلق» الذي تتلاقى فيه الأضداد فتستريح، ويتعانق عنده الفكر والوجود بعد طول فراق، وترسو عليه سفينة المصير بعد رحلة الصراع والضياع، وأحبه نيتشه حتى كاد أن يكون هيراقليطس ثانيا يحيا في العصر الحديث حياته ويتعذب عذابه، ويواجه العالم كله بتحديه وتمرده وانفراده، وفتنت هيدجر منه دعوته الجريئة إلى الاستماع إلى صوت الوجود أو الحقيقة أو «اللوجوس»، فتحدث عنه حديث من يحاول الرجوع إلى المنبع الحقيقي الذي تدفقت منه الفلسفة في تاريخها الطويل، والتربة الأصيلة التي انقدحت فوقها شرارة التفكير الملهم في الوجود، قبل أن يتحول هذا التفكير الخالص على يد سقراط إلى بحث في الإنسان والأخلاق، ويصب على يد أفلاطون وأرسطو ومن تبعهما في قوالب العقل والمنطق والمذهب. فلنحاول اليوم معا أن نقف على شاطئ هذا البحر المعتم الزاخر ما دمنا عاجزين عن السباحة معهم فيه، ولنجرب القناعة بالصدف والمحار ما دمنا لا نملك الغوص فيه بحثا عن اللؤلؤ والنضار. •••
ها هو ذا هيراقليطس يبرز من بين الأمواج الأبدية وينادي: لست أرى إلا التحول والتغير، لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، بل لوموا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضا ثابتة في بحر الكون والفساد. أنتم تخلعون على الأشياء أسماء، وكأنما هي ستبقى إلى الأبد، ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفس النهر الذي نزلتم فيه أول مرة.
إنه ينظر إلى العالم بعين الفنان أو بعين الطفل،
10
وكما يلعب الفنان والطفل لعبهما البريء، فكذلك يلعب العالم مع نفسه، وكذلك تلعب النار الحية الخالدة، فهي تتحول تارة إلى ماء وتارة أخرى إلى أرض، وتبنى وتخرب كما يبني الطفل قصورا من الرمال على شاطئ البحر ثم يملها فيهدمها.
ولكن وراء هذا المهرجان البهيج الذي يتقلب عليه النور والظلام، واللعب والضرورة، والهدم والبناء، يكمن القانون والعدالة والنظام، أو ما يسميه في كلمة واحدة ب «اللوجوس»، «إن استمعتم إلى اللوجوس ولم تستمعوا إلي، فإن من الحكمة أن تتفقوا على القول بأن الواحد هو الكل.»
11
كلمة مشهورة من كلمات هيراقليطس، أو شذرة من الشذرات المأثورة عنه. الكلمة تتحدث عن الاستماع والإنصات إلى اللوجوس (المعنى أو العقل أو الكلمة أو المقال)، كما تتحدث عن المفكر الذي ينصت مع المنصتين ويدعوهم إلى الاستماع إلى صوت الحقيقة لا إلى أصوات الفانين، إنه يعبر لهم عما يقوله «اللوجوس»: الواحد هو الكل، ويكاد أيضا أن يقول: الكل هو الواحد، غير أنه لا يعطيهم حكمة مريحة توفر عليهم مشقة التفكير، ليستخدموها في شئونهم اليومية مثلما يلجئون إلى حكمهم البليدة المأثورة، بل الأولى أن يقال: إنه يسير بهم على طريق شاق عسير، لعل معاصريه لم يطيقوا السير عليه، ولعله يبدو لنا نحن بعد أكثر من عشرين قرنا وقد ازداد مشقة وعسرا.
الواحد هو الكل، والكل هو الواحد
ما أسهل أن ينطق اللسان بهذه الكلمات! وما أسرع ما يوهم نفسه بأنه قد فهم معناها وأدرك المراد منها! ولكن ما أكثر المعاني التي تعشش في هاتين الكلمتين: الواحد والكل! قد ترد الكلمتان على لساننا للتعبير عن فهم سطحي أو تصور من تصوراتنا اليومية العابرة، ألا نقول في حديثنا اليومي حين يفيض بنا الملل أو عدم الاكتراث: كله واحد؟! كأنما نحاول بالحكمة المتعبة الكسولة أن نتخلص من همومنا ومتاعبنا؟! ألا نلجأ إلى هاتين الكلمتين فنصنع منهما قالبا نضع العالم كله فيه، أو نؤلف منهما صياغة نفسر بها الكون كله؟ ومع ذلك فقد تطوي الكلمتان كل مشقة التفكير وكل كتمان المفكر، عندئذ نحاول أن نقتفي خطاه ونسير على طريقه، لا نكاد نملك إلا السؤال الذي يولد السؤال، والترجمة المألوفة لكلمة هيراقليطس المحيرة - وكل ما قاله هذا المفكر المظلم محير! - نقول: إن من الحكمة أن ننصت لما يقوله «اللوجوس»، وأن ننتبه إلى معنى ما يقول: إن الواحد هو الكل، فاللوجوس يقول شيئا، أو بالأحرى يريد أن يعلن عن شيء، هذا الذي يقوله ويريد أن يعلنه هو: الواحد هو الكل، أو الكل هو الواحد.
ولكن هل في وسعنا أن نزعم أننا نفهم ما يقوله اللوجوس؟ وكيف نتصور أن الكل هو الواحد، أو الواحد هو الكل؟ إن هذه الكلمة تحيرنا وقد كنا ننتظر منها أن تهدينا، وربما كان عزاؤنا الوحيد معها أن نعرف أن من الخير دائما للفكر أن يتجول بين أحراش المجهول بدلا من أن يسير على الطريق الهين اليسير، وأن يتعذب ويقلق بدلا من أن يخلد إلى الراحة والسكون، فقد عذب المفكر اليوناني المبكر سؤاله عن الموجود، فكان هذا السؤال هو نقطة انطلاقه، وكان «اللوجوس» هو الأحرف الأولى لقدره ومصيره. وإذا كان العالم كله اليوم يطبق نماذج العلم الغربي والتكنيك الغربي، فلم تكن هذه النماذج المعقدة إلا نهاية تطور طويل بدأ بسؤال الحكم اليوناني الأول عن طبيعة الموجود.
12
الواحد هو الكل، هو التعبير عن طبيعة اللوجوس، واللوجوس يقول لنا كيف يكون الواحد هو الكل، ذلك أنه يجمع الأضداد المتفرقة في ذاته، كما يجتمع الليل والنهار، والخريف والصيف، والحرب والسلام، واليقظة والمنام. واللوجوس هو وحده الذي يقدر لهذه الأضداد المتباعدة أن تجتمع فيه، وهو وحده الذي يحملها على التجلي والظهور، فإذا نحن استمعنا إلى ما يقوله «اللوجوس» استمعنا إلى حقيقة «الكل» التي اجتمعت في «الواحد»، الواحد الأبدي الخالد يتحدث إلى هيراقليطس وإليه وحده، ماذا يقول؟ يقول: إن الواحد هو الكل، وكل ما في الكون من موجودات - مهما قل شأنها وتضاءلت قيمتها - فهي عنده الحقيقة كلها، وما خرج عن الأصل والمنبع فلا بد أن يرتد إلى الأصل والمنبع من جديد.
الكل هو الواحد والواحد هو الكل
ونستطيع أيضا أن نقول: إن الكل يصدر عن الواحد، كما أن الواحد يصدر عن الكل، كلاهما مرتبط بالآخر في تجانس وانسجام متبادل، وكلاهما متفق ومختلف في آن واحد ... ولن نتبين العلاقة بينهما حتى نفهمها فهما «ديالكتيكيا»، أعني في إطار علاقة التوتر القائمة بينهما.
يقول هيراقليطس:
13 «على أن الكل يديره (يحكمه، يدبره، يوجهه) البرق، فالبرق يكشف الكل، ونوره الخاطف يظهره ويجليه.» والبرق هنا هو الاسم الذي كان اليونانيون يطلقونه على «زيوس» كبير الآلهة، ورب البرق والرعد والصواعق؛ ومن ثم كان زيوس كبير الآلهة هو اللوجوس، وكان اللوجوس أو «الواحد هو الكل» هو أكبر الآلهة، وهو القدر الذي يحكم الكل، ولكن هل يجيز لنا هذا أن نقول: إن زيوس واللوجوس والواحد والكل شيء واحد؟ هل نفهم منه أن هيراقليطس يقول بوحدة الوجود؟ إن هيراقليطس لا يعلم مذهبا ولا يقول بنظرية، إنه مفكر، والمفكر يدعوك إلى التفكير معه، ولا شيء غير هذا، ولقد حير معاصريه كما حير الأجيال التي جاءت بعده حين قال كلمته المشهورة:
14 «إن الواحد - المتصف وحده بالحكمة - يريد ولا يريد أن يسمى باسم «زيوس»، هو يريد أن يسمي نفسه زيوس، وهل هناك اسم يليق به أفضل من اسم كبير الآلهة؟! ولكنه يعود فينفي ما يريد؛ إذ أين لمنبع الحكمة كلها وكيف لقدرها الوحيد أن يحيط به اسم من الأسماء؟»
هيراقليطس هنا ينفي ويؤكد في آن واحد، وينسب للآلهة ما يسلبه من البشر، ويدفع بالتفكير لأول مرة على طريق «الديالكتيك» الذي يسمح بالتناقض والمفارقة، ويجمع بين الأضداد والمتقابلات على الطريق الطويل الذي وصل إلى قمته عند هيجل، وها نحن أولاء نلمس اليوم آثاره في الصراع السياسي والمذهبي الدائر بين الشرق والغرب، فكلمته السابقة تحتوي في ظاهرها على التناقض؛ حين تؤكد أن الواحد الحكيم يريد ولا يريد أن يتسمى باسم زيوس. غير أن هذا التناقض لا يعبر عن ضعف في الفهم أو خطأ في الحكم، بل ينبع من تفكير لا يطيق الجمود عند حالة واحدة ولا الوقوف عند طرف واحد، بل يتحرك دائما من حالة إلى حالة ، ومن طرف إلى طرف (وهو ما نسميه عادة بالتفكير الديالكتيكي).
ثم يعود هيراقليطس فيحيرنا معه حين يقول عبارته المشهورة: «إن الطبيعة (فيزيس) تحب التخفي»، فالطبيعة هنا (أو الجوهر أو الحقيقة) التي من شأنها أن تظهر وتنمو وتتجلى، تحب مع ذلك أن تكمن وتتخفى. عبارة تنطوي على المفارقة، ولكن المفارقة قائمة في جوهر الطبيعة نفسها، فمن دأبها أن تحجب نفسها، وأن تخفي عن الإنسان حقيقتها،
15
ولولا أنها تحب الاختفاء وتمنع نفسها عن طالبيها لما جذبت إليها الفلاسفة، ولما سمي هؤلاء محبي الحكمة والمشتاقين أبدا إلى القرب منها والتشبه بها. «الطبيعة (ونستطيع أيضا أن نقول: الحقيقة أو الجوهر) تحب الاختفاء.»
هذه الكلمة تلخص جوهر الفلسفة كلها.
فالفلسفة طريق صاعد إلى الحكمة، وشوق دائم إليها، وكلما ازددنا تفلسفا؛ ازددنا توغلا في هذا الطريق الموحش الوحيد، هذا الطريق الصاعد هو الذي نسميه عادة «بالديالكتيك»، وكلما ازداد نصيبنا من التفلسف ازداد حظنا أيضا من هذا الديالكتيك، عندئذ نجد كل شيء في الوجود في صراع وتغير دائمين، فما من شيء إلا وهو في صراع مع الضد المقابل له، وما من شيء إلا وهو في صيرورة متصلة وتحول مستمر، ونهر الحياة يسيل على الدوام؛ فنحن لا ننزل فيه مرتين. ومن العبث أن نتشبث بالموجة؛ إذ لا تلبث أمواج أخرى أن تجرفنا، ولا يلبث تيار الماء أن يتجدد تحت أقدامنا. أنت تنزل في النهر الواحد ولا تنزل فيه؛ ذلك أن النهر الواحد لا يبقى نفس النهر، وأنت أيضا لا تبقى على ما أنت عليه، فنحن ننزل في نفس الأنهار ولا ننزل فيها، ونحن نكون ولا نكون؛ ذلك أننا نتغير على الدوام، وإن احتفظنا أمس واليوم وغدا بأسمائنا. كل شيء يسيل على الدوام، كل شيء يخطو إلى الأمام ولا يبقى على حاله، كل شيء يتغير ويتبدل، وما لشيء على وجه الأرض من ثبات، وكل ما هو موجود فلا بد له أن يهوي إلى العدم، إن كان يريد أن يتشبث بالوجود، والدهر طفل يلعب، ويرتب الأحجار على لوح كبير، وما أروعه من لعب ملوكي يقوم به طفل صغير:
16
نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلام، شبع وجوع. وتعم الحرب وينشب الصراع بين جموع الأشياء، وينشأ كل ما في الوجود بمقتضى الصراع والتنازع؛ فالحرب هي أم الأشياء وملكتها جميعا، تجعل البعض آلهة وأبطالا، وتجعل البعض الآخر بشرا، وتحيل البعض عبيدا، كما تجعل غيرهم أحرارا.
17
غير أن الأضداد تلتقي في النهاية، والأعداء لا يلبث الصلح أن ينعقد بينهم، ويجتمع الكل وما ليس بكل، ويتألف المتجانس والمتنافر، وينسجم القوس مع الوتر. وليس معنى هذا أن الصراع سيتوقف إلى الأبد، أو أن تيار الحياة سيجف، وعجلتها ستكف عن الدوران، بل معناه أن التحول مستمر، وإن كنا سندرك الثبات من وراء التحول؛ ذلك أنه يتفرق ثم يتجمع، ويبتعد ثم يقترب، ولا يلبث المجتمع أن يتفرق من جديد، ولا يلبث القريب أن يبتعد. غير أن الواحد في تحوله باق، ونفس الشيء هو الحي والميت، والمستيقظ والنائم، والشاب والعجوز، والحلو والمر، والطريق الصاعد والهابط والمستقيم والملتوي واحد ونفس الشيء، والخير والشر واحد ونفس الشيء أيضا، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. والحياة جرة تمزج العسل والمر، والنصر والهزيمة، والليل والنهار بلا انقطاع. وإذا كان نهر الوجود يسيل على الدوام، فإن الأبدي يتدفق أيضا على الدوام في جميع الأشياء، وإنما يكشف الصراع بين الأضداد عن العدالة الكامنة وراءه، وتدل الكثرة المتغيرة على الوحدة الباقية.
ولكن ما هو هذا الذي يبقى وإن تحول، ويدوم على رغم التغير والتبدل؟ إن هيراقليطس يسميه تارة بالإله، وأخرى بالدهر، وثالثة بالطبيعة أو الحقيقة أو الجوهر، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. النهر الذي يسيل دائما وتتغير مياهه في كل لحظة، ويظل مع ذلك هو نفس النهر؛ فأنت تخوض فيه وتحس بتدافع الأمواج من حولك، وانسياب المياه على جسدك، وتعرف أن النهر واحد، ولكنك تعرف أيضا أن المياه تتغير فيه، والأمواج تذهب وتجيء، وأن حياتك موت لغيرك، كما أن موتك حياة للآخرين، وفي كل لحظة تسبح فيها في النهر يأتيك الدليل على أن النهر واحد ومتغير، وأن جسدك واحد ومتغير أيضا، وتعرف أن الزمن باق وإن أفنى كل ما فيه؛ ذلك أنك لا تنزل النهر الواحد مرتين.
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
يمهد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته، لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع. إن سقراط - الذي يجري أفلاطون على لسانه كل فلسفته - يتحدث إلى جلاوكون. الأول يصور الحكاية ويصف الكهف، والثاني يعلن عن دهشته التي تستيقظ في نفسه شيئا فشيئا، لنسمع الحديث معا قبل أن نبدأ في الكلام عنه:
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة نظر التربية ونقص التربية، بمثل هذه التجربة.
تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم، حيث يظلون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا أن ينظروا إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم - بسبب هذه القيود والسلاسل - عاجزون عن إدارة الرءوس فيما حولهم، في استطاعتهم مع ذلك أن يبصروا نورا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل [أعني في ظهورهم]
1
يمتد في الجهة العلوية طريق بني على طوله - تصور هذا - حائط منخفض شبيه بالأسوار التي يقيمها المهرجون [أصحاب الألعاب البهلوانية] أمام الناس، لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه.
تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الحائط الصغير حاملين مختلف الأشياء؛ من تماثيل وصور حجرية وخشبية، وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويصمت البعض الآخر. - صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، ماذا تحب أن يكون عليه الأمر؟ مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية - سواء كان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم - إلا على الظلال التي تلقيها النار على حائط الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم؟ - ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس [خلف ظهورهم]؟ ألا يرون هذه [الظلال] نفسها؟ - كذلك الأمر في الواقع. - لو أنه كان في مقدورهم أن يتحدثوا بعضهم مع البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟ - بالضرورة. - ماذا يكون الأمر إذا لو أن هذا السجن كان يتردد فيه صدى من الحائط المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون وراء المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟ - لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا سوى ظلال الأدوات [التي يحملها العابرون].
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك، كيف يفك هؤلاء المسجونون قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكر عندئذ، كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي: كلما فكت السلاسل عن أحدهم وأجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قدما والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألما [شديدا]، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل. [لو أن ذلك كله حدث له] فماذا تحسبه يقول لو أن أحدا قال له إن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدما، وأنه الآن أقرب إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودا؟ ولو أن أحدا عرض عليه الأشياء التي مرت عليه واحدا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعتبر أن ما رآه بعينه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟ - بالطبع. - وإذا أجبره أحد على النظر إلى النور [المنبعث من النار]، ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يعرض الآن عليه؟ - الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن أحدا جذبه بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر [إلى خارج الكهف]، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؟ ألن يحس - وقد وقف في نور الشمس - بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه الحق؟ - لن يقوى أبدا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل. - أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك [أي خارج الكهف في ضوء الشمس]، إنه سيستطيع في أول الأمر [نتيجة لهذا التعود] أن ينظر في يسر شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها [أي الموجودات الحقيقية بدلا عن انعكاساتها]، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما [يتجلى] منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى نور النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟ - لا شك في ذلك. - أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، [وسيتمكن من النظر] إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها؛ لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها. - من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك. - وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها [أي عن الشمس] فيعرف أنها هي التي تضمن [تعاقب] فصول السنة كما تضمن [مر] السنين، وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها [أي الشمس] هي علة كل ما يجده أولئك [المقيمون في الكهف] على نحو من الأنحاء حاضرا أمامهم. - واضح أنه سيصل إلى هذا [أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها] بعد أن تجاوز ذاك [أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب]. - ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر مسكنه الأول، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟ - أسفا شديدا! - فإذا حددت في المكان القديم [بين من كانوا يقيمون في الكهف] جوائز وألوانا معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة، ثم ما يتبعها أو ما يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه [أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة] سيحس بالشوق إليهم [أي إلى الذين لا يزالون في الكهف] لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة؟ أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير» [أي أنه سيفضل - مثل أخيل - أن يعمل كأجير حقير في عالم العقل العلوي، على أن يكون ملكا في عالم الأشباح] وسيحتمل كل ما يمكن احتماله بدلا من أن يعتنق تلك الآراء [التي يؤمنون بها في الكهف] ويعيش على هذا النحو. - أعتقد أنه سيؤثر أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة [التي يعيشونها في الكهف].
قلت: والآن تفكر في هذا، إذا حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط مرة أخرى إلى الكهف وجلس في نفس المكان [الذي كان يجلس فيه]، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك. - فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان [من الضوء] قبل أن تعودا سيرتهما الأولى - الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل حتى يتعود عليه - [ألا تعتقد] أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون أن يقنعوه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين ، وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، [ألا تعتقد] أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقا؟
قال: يقينا سيفعلون ذلك (الجمهورية: 7، 14، 514أ، 2 إلى 517أ، 7). •••
ما معنى هذا الرمز؟ ماذا تدل عليه هذه الحكاية؟
إن أفلاطون يتولى بنفسه الجواب؛ فبعد الحكاية يأتي دور التفسير (517أ، 8 إلى 518د، 7)، فالمسكن الشبيه بالكهف صورة لمكان الإقامة الذي تقع عليه أعين من ينظرون حولهم كل يوم، والنار التي تتوهج خلف ظهور ساكني الكهف - أعلى منهم بقليل - هي صورة الشمس التي تسطع في الخارج، وقبة الكهف أو سطحه الذي تتطلع إليه عيون المساجين، تصور قبة السماء المزدانة بالقمر والنجوم. تحت فلك القبة يحيا الناس مقيدين بالأرض، إنهم يحسون أن ما يحيط بهم هو الواقع، وأن ما يرونه هو الحق. لا وجود إلا الوجود الذي يرونه حولهم، ولا حقيقة إلا لما تلمس أيديهم، إن كانت أيديهم تستطيع أن تلمس شيئا! في هذا المسكن الشبيه بالكهف يشعرون أنهم يعيشون في بيوتهم، ويقيمون في العالم، مطمئنين أن لا بيت لهم سواه ولا عالم غيره.
ولكن ما شأن الأشياء في خارج الكهف لا تنعكس إلا ظلالها على حائطه؟ هي رمز لما لا يقوم للموجود وجود إلا به، وما يجعله يتبدى على هيئته التي تراه بها العين، هذه الهيئة أو هذا المظهر الذي تتبدى به الموجودات هو ما يسميه اليونان الإيدوس أو الإيديا [المظهر، المثال].
والأشياء الموجودة خارج الكهف التي يغمرها ضوء النهار، ويتفتح عليها نور العين، هي رمز للأفكار أو «المثل» كما يسميها الفلاسفة، لو لم تقع عين الإنسان على «مظهر أو مثال» الكائنات من أشياء وبشر وأعداد وأشجار ... إلخ؛ لما استطاع أن يعرف أن هذا الشيء أو ذاك بيت أو شجرة أو إنسان إلخ، لكن الإنسان يحسب عادة أن يرى هذه الشجرة وذلك البيت وما أشبه ذلك من موجودات دون أن يخطر بباله أنه لا يرى شيئا مما يرى إلا على ضوء «المثل»، ولا أن ما يسميه بالواقع مما يرى ويسمع ويلمس ويعد ليس إلا انعكاسا لهذه المثل وظلالها، إنه يحيا حياته بين الظلال، والظلال تتحكم في حياته وعاداته وأحكامه، وتقيم حوله سجنا يحجب عنه نور المثل الساطع وراء جدرانه، إنه لا يدرك أن هذا السجن سجن، ربما لأنه سجن واسع بلا جدران؛ لذلك يظن أن حياته اليومية تحت قبة السماء هي مسرح تجربته الذي لا مسرح سواه، وهي التي يستمد منها المقياس والقاعدة لكل ما يربطه بالكائنات من علاقات.
ولكن ماذا عسى أن يحدث لو أن إنسان الكهف هذا التفت وراءه فجأة فرأى النار التي تتوهج، وعرف أنها هي التي تلقي على الجدار المواجه له ظلال الأشياء؟ لا شك أن تغيير النظرة لن يعقبه كشف الغطاء. إنه في الكهف يملك «الواقع» ويعرف «الحقيقة»، ولن يخطر بباله أن هذا الواقع ظل، أو أن هذه الحقيقة خيال. إن أقصى ما يمكن أن تأتي به أن تخل قليلا بالسلوك المعتاد دون أن تغيره، أو تزعج الظن المألوف دون أن تهدمه من أساسه، وأنى له أن يعرف شيئا عن الظلال، وهو لا يريد أن يعرف أي شيء عن النار التي تشتعل في الكهف أو عن الضوء المنبعث منها، مع أن النار شيء «مصنوع» ولا بد أن يكون مألوفا لديه؟ أما ضوء الشمس في خارج الكهف فهو على العكس من ذلك؛ شيء لم تصنعه يد الإنسان، فعلى نوره تتجلى الأشياء والكائنات تجليا مباشرا بغير حاجة إلى ظل أو انعكاس، إنه هو صورة المثل، أما الشمس فهي صورة لما «يظهر» المثل كلها أو هي صورة لمثال المثل جميعا، الذي قد نسميه مثال الخير.
ذلك هو التقابل الذي نقيمه عادة بين الظلال في الكهف وبين الواقع الذي نجربه كل يوم، بين ضوء النار المشتعلة فيه وبين النور الذي يغمر الأشياء من حولنا، بين المساجين المقيدين بالسلاسل وبيننا نحن البشر، بين الموجودات خارج الكهف وبين المثل، بين الشمس وبين مثال المثل، غير أن هذا التقابل لا يستنفد مضمون الرمز الغني كله؛ ذلك لأنه لا يكتفي بأن يروي لنا أحداثا تجري داخله أو خارجه فحسب، ولا يقف عند تقرير وضع الإنسان فيه أو فيما وراءه؛ فالأحداث التي يرويها لنا تصف كيف ينتقل الإنسان من الكهف إلى ضوء النهار، وكيف يعود من ضوء النهار إلى الكهف، ماذا يحدث في هذا الانتقال؟ كيف يتم؟ وما الضرورة التي تعود إليه؟ وما نصيبه من الأهمية؟
الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار ومن ضوء النهار إلى الكهف يتطلب تحولا وتغييرا فيما تعودت عليه العين من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام، إن العين ترتبك مرتين - على حد قول أفلاطون - وارتباكها يكون لسببين: فإما أن يخرج الإنسان فجأة عن جهله الذي لا يكاد يحس به ليصل إلى حيث يتجلى له الوجود أكثر وجودا وأكثر حقيقة، دون أن يكون قد بلغ درجة من النضج تهيئه لذلك، وإما أن يسقط من سماء المعرفة الحقة إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، ويفقد القدرة على النظر إلى المألوف والمعتاد على أنه هو الواقع.
كما ينبغي للعين أن تتعلم كيف تتعود شيئا فشيئا على النور أو على الظلام، فلا بد للنفس كذلك أن تتعلم خطوة فخطوة كيف تتعود على الوجود الجديد. إن عليها أن تغير نزوعها واتجاهها من أساسه، كما أن على الجسد أن يغير من وضعه إذا أرادت العين أن تغير مجال الرؤية، ولكن لماذا يستغرق التغيير كل هذا الوقت الطويل؟ لماذا يحتاج التعود إلى هذا البطء الشديد؟ لأنه تغيير يتصل بوجود الإنسان كله ويشمل جوهره بأجمعه، ويحول سلوكه إلى اتجاه جديد، هذا التغيير الشامل في وجود الإنسان وحقيقته هو ما يسميه أفلاطون بالتربية «بايديا»، وهو ما يعبر عنه بقوله «تعديل النفس بأكملها»، وهو لذلك انتقال من حال إلى حال، وليس رمز الكهف كله سوى حكاية أو صورة تجسم لنا طبيعة التربية وتوضحها، فليست التربية أن نملأ النفس بالمعارف التي لم تتهيأ لها كما لو كنا نصبها في وعاء فارغ، بل التربية الأصيلة هي التي تغير النفس وتحولها، فتضع الإنسان في مكانه الحق وتعوده على الحياة فيه. وأفلاطون نفسه يؤكد أن رمز الكهف إنما هو صورة للتعبير عن جوهر التربية حين يقول في مطلع الكتاب السابع من الجمهورية: «اتخذ لنفسك إذن من مثل هذه التجربة [التي سيشرحها ويصورها فيما بعد] نظرة إلى [جوهر] التربية وعدم التربية الذي يتصل بوجودنا الإنساني في أساسه.»
صورة الكهف إذن تعبر لنا عن رأي أفلاطون في التربية، إنها تصور المراحل التي تنتقل فيها النفس من الظلام إلى النور، من حالة نسيان للوجود إلى لقائه وجها لوجه، من معرفة الحس والظن إلى معرفة العقل واليقين، ولكنها تصور لنا كذلك رأيه في الحقيقة [ولا أقول مذهبه، فهذه الكلمة البشعة لم تكن قد عرفت بعد!] التي تحدد بدورها شكل التربية وتجعلها ممكنة.
فالتربية تعني تغيير الإنسان كله حين تنقله من مجال تعود عليه إلى مجال آخر يظهر فيه الوجود على حقيقته. بهذا الانتقال يتغير كل ما كان مألوفا للإنسان ويتحول شيئا آخر؛ ما كان يحسبه حقيقة يصبح ظنا، والحقيقة التي لم يكن يعرف عنها شيئا تتجلى له بعد طول تعود ومراس. إنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ويترك مجالا ليدخل في مجال، كما يترك وراء ظهره حقيقة ليشاهد حقيقة أخرى جديدة عليه.
رمز الكهف يصور لنا هذه المراحل وكيف ينتقل الناس منها وإليها؛ فهم في المرحلة الأولى يعيشون في الكهف تغلهم السلاسل من أقدامهم ورقابهم، وتقيدهم الموجودات التي يفتحون عيونهم عليها ليل نهار، ليس هناك شيء يربطهم بالعالم الخارجي سوى الظلال الصامتة المضطربة التي تنعكس فوق جدار أمامهم، هذا إذا تنبهوا إلى أنها تأتي من عالم خارجي على الإطلاق. هم يستيقظون وينامون على الأشياء التي تحيط بهم، وهم يأخذونها معهم أيضا في أحلامهم، وهم يتحدثون - إن تحدثوا - عن الظلال التي تهيم أمامهم، ولا تكاد توقظ فيهم أثرا للدهشة أو السؤال: «أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا غير الظلال.»
وتأتي المرحلة الثانية، فها هي ذي السلاسل تفك عنهم ، وها هم أولاء يستطيعون أن يحركوا رءوسهم وأقدامهم كما يشاءون، صحيح أنهم ما زالوا أسارى الكهف، ولكن في وسعهم الآن أن يلتفتوا إلى ما لم يكونوا يلتفتون إليه، وصحيح أن عيونهم ما زالت ترى الظلال المنعكسة على الجدار، وأجسادهم ما تزال ترتعش من الرطوبة المنبعثة من الأرض، ولكن في مقدورهم الآن أن يشاهدوا النار التي تشتعل خلف ظهورهم وأن يقتربوا بذلك كثيرا من الوجود.
اتضحت الأشياء بعض الوضوح، واستراحت العين قليلا من الظلال، وعرف المساجين أن هناك مصدرا للضوء الشاحب الذي كان ينسكب على الأشياء، والظلال القاتمة التي كانت تتراقص على الجدار. تحررت العيون من الظلال، واستطاعت بذلك أن تقترب مما يزيد عليها في الحقيقة. ولكن هل أدركت حقا أن ما تراه الآن أكثر حقيقة مما كانت تراه؟ إن السجين الذي نال هذه الدرجة من الحرية ما زال في الواقع سجين عادته؛ إنه سيعتقد أن ما كان يراه من قبل [أي الظلام] أكثر حقيقة مما يتبين له الآن.
ولكن ما الذي يمنعه من اكتساب حريته على الفور؟ أي قناع هذا الذي لا يزال يغشي عينيه؟ إن النار المشتعلة - على ضعفها واضطرابها - تعشي عينيه، لقد تحرر حقا من سلاسل الحديد، ولكنه لم يتحرر بعد من قيود التعود والتقليد.
إن عشى العينين يمنعه من أن يرى النار نفسها، ويدرك أن ضوءها هو الذي يسقط على الأشياء ويجعلها تظهر على ما هي عليه، وهو لذلك لا يستطيع أن يدرك أن ما كان يراه من قبل إنما هو ظل الأشياء الذي كانت تعكسه هذه النار. حقا إنه يرى الآن شيئا يختلف عن الظلال، ولكن كل ما يراه يضطرب أمام عينيه اضطرابا عجيبا، وهو حين يقارنه بالظلال التي كان يراها منذ حين، تبدو له هذه الظلال ثابتة الأطراف محددة الأبعاد. ولن نستغرب عليه أن يظن في اضطرابه واختلاط الأمر عليه أن الظلال أكثر حقيقة من الأشياء التي يراها الآن على ضوء النار المتوهجة وراءه، إنه لم يستطع بعد أن يميز بين الحقيقة والوهم، ولا بين الموجود والظل؛ فالخلاص من القيود ما يزال بعيدا عن الحرية الحقيقية.
هنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة، فقد صعد «السجين الحر» على الطريق المؤدي إلى خارج الكهف، خرج - كما نقول اليوم - إلى الحرية؛ كل شيء الآن واضح أمامه وضوح النهار، والأشياء التي تقع عليها العين لم تعد تضطرب في الضوء الشاحب الذي كانت ترسله عليها نار الكهف. الآن فقط انتقل حقا إلى الحرية، لا لأن المكان اتسع فصار بلا حدود، بل لأن ضوء الشمس يغمر كل ما هو موجود، العين ترى كل شيء على ما هو عليه، وكل شيء يبدو للعين ويتجلى في مظهره [أيدوس] أكثر حقيقة وأشد صفاء مما كانت عليه تلك الأشياء التي تضيئها النار «الصناعية» في الكهف إذا قورنت هذه الأشياء نفسها بالظلال.
ولكن هل يعرف سجيننا الذي تحرر منذ لحظة أن الأشياء الآن أكثر حقيقة مما كانت عليه في أي وقت مضى؟ هل يكفي أن يغمض عينيه قليلا لتستريحا من قسوة الضوء الباهر ليعرف الحقيقة دفعة واحدة؟ إن كان تحويل البصر من الظلال إلى النار في داخل الكهف قد تطلب منه كثيرا من الجهد والمشقة، فما أشد ما يحتاج إليه الآن من صبر وعناء ليرى الشمس وما تغمره من موجودات!
إن عليه أن يتعلم أولا أن التحرر من القيود والأغلال هو أضعف درجات الحرية، وأن الحرية الحقيقية لن تبدأ قبل أن يعود عينيه على النظر والتفكير، وليست التربية إلا هذا «التوجه» ناحية الحقيقة، لا بل إلى ما هو أكثر حقيقة، ولن تكون التربية غير هذا «التعليم» والتعويد الصابر الشاق على رؤية الحقيقة، فجوهر التربية إذن يقوم على جوهر الحقيقة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما. وإذا كانت ماهية التربية في هذا التوجيه الشامل المتصل للنفس بكليتها، فإنها تظل كذلك محاولة متصلة للتغلب على نقص التربية. وما دام رمز الكهف هو الذي يصور ماهية التربية ويرسم الطريق الصاعد إليها، فهو يصور كذلك الوسيلة إلى التغلب على الجهل والغباء والبلادة وكل ما نسميه بنقص التربية؛ لذلك لم يكن الوصول إلى نور الشمس أو نور الحقيقة هو الغاية الأخيرة من حكاية الكهف، بل إنها [وتلك هي المرحلة الرابعة والأخيرة من رحلة الكهف] تعود بسجيننا الذي تحرر من أغلاله إلى الكهف مرة أخرى، إنه يعود إلى رفاقه السابقين إنسانا آخر، ورسولا للتحرر والخلاص، فالحياة بين جدران الكهف لن تقنعه بعد ذلك أو ترضيه، وهو لا شك يدرك مدى الخطر الذي سوف يتعرض له، فرفاقه المساجين لا يعرفون أنهم مساجين، والحرية كلمة لا يفهمون عنها شيئا، والحقيقة الوحيدة التي يعرفونها هي هذا الواقع الحسي الشاحب الذي يحيط بهم، ولو تجرأ رفيقهم على الحديث إليهم عن الحقيقة الأخرى أو عن الحرية أو النور فلا شك أنهم سيسخرون منه، بل إن السخرية ستكون أهون ما يتعرض له، فليس بعيدا أن يهجموا عليه؛ لا ليضعوا قدميه ورقبته في الأغلال مرة أخرى وإلا لهان الأمر أيضا! بل ليمسكوا به ويقتلوه، وهو مصير يعرف أفلاطون تمام المعرفة أنه غير مستبعد في العالم؛ فلقد راح أستاذه سقراط ضحية له. وحين يسأل أفلاطون في نهاية الحكاية على لسان سقراط: وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، ألا تعتقد أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه بالفعل؟ وحين يسأل هذا السؤال نجد محدثه لا يتردد لحظة في الجواب، بل يقول يقينا: سيفعلون؛ ذلك لأنه قد آمن مع أفلاطون بأن الصراع من أجل الحقيقة ليس مجرد نزاع حول المبادئ والقيم والأفكار، بل هو في صميمه مسألة حياة أو موت.
ماذا يقصد أفلاطون من وراء هذا الرمز؟
إنه - كما قدمنا - يفسره بنفسه حين يقول: إن الهدف منه هو إعطاء صورة محسوسة لماهية التربية، وماهية التربية هي تحرير النفس الإنسانية بكليتها، وتحرير البصر حتى يرى الجوهر والحقيقة، وتحرير النفس والبصر مرادف للأخذ بيد الإنسان على الطريق الصاعد إلى ما يسميه أفلاطون مثال المثل، أو الخير الأسمى، كما تقول الترجمة الشائعة. لكن ما السبب في كل هذه الأهمية التي يضفيها أفلاطون على مثال المثل؟ سيقول: «إن مثال الخير هو السيد الذي يضمن الحقيقة كما يضمن إدراكها.» (517ج)، إنه هو الوجود الأسمى الذي يتيح لكل موجود أن يتجلى على ما هو عليه، أو هو الذي يضفي عليه الوجود الحق، بل إن من الأمور الواضحة لدى الناس جميعا أنه علة كل صواب [في سلوكهم]، كما هو سبب كل جمال (517ج)، إنه هو الذي يضفي الحقيقة على ما يعرف، ويهب ملكة المعرفة لمن يعرف (الكتاب السادس، 508)، وكل إنسان يحرص على أن يكون على بصيرة في سلوكه الخاص أو العام، لا بد له أن يحرص كذلك على ألا يغيب المثال عن بصره (517ج، 4، 5).
إن الكهف المليء برموزه الغنية يجعل لمثال المثل أو مثال الخير مكانه الفريد بينها؛ فهو يقابل الشمس ذات البهاء والجلال، ومصدر الدفء والحقيقة والحياة، إنها تتوهج في سناها الأبدي خارج الكهف، وعلى من يريد أن يجتلي بنورها أن يتجشم عناء الطريق الصاعد الطويل من باطن الكهف الرطب، حيث تسود معرفة الظن والحس، وحيث ترتعش الظلال والأصداء، إلى حيث تشاهد العين فتسعد، وتتملى النفس فتستريح، وهل أدل على خطورة شأنه من أن النار الشاحبة المتواضعة التي تعصم المساجين من التصادم في الظلام هي نفسها قبس ضئيل منه؟ وأن السجين الذي واتاه الحظ فرآه لا يستطيع أن يستأثر لنفسه بهذا الجمال، بل يستجيب لصوت الواجب فيهبط إلى إخوانه المساكين ليدعوهم إلى الوجود الأسمى، ويبشرهم بالحقيقة الرائعة؟ ما أنبله من رسول منقذ! إنه يعرف أن خطر الموت يحدق به، ومع ذلك لا يتردد عن أداء رسالته، لقد تجاوز المحسوس إلى ما وراء المحسوس، وارتفع من معرفة زائلة إلى حكمة باقية، وصعد من الكهف المعتم إلى الشمس المضيئة، لا كما يصعد الساكن من البدروم إلى الدور الأعلى، بل كما يخرج السجين من كهف الظلام والنسيان ليعود المربي الذي يبني الإنسان. •••
رمز الكهف صورة تجمع بين صدق الشعر ووضوح المنطق، إنها التعبير الحي عن الخير الأسمى، ذروة فلسفة أفلاطون كلها وتاجها المضيء، وهل تهدف رحلة الخروج من الكهف - أو قل من هذا العالم - إلى نور الشمس الساطع - أو قل إلى مثال الخير الأكمل - إلى غاية أخرى غير هذه الغاية؟ إن فكرة الخير هي مصدر العدل والجمال كله (505أ) وكل معرفة نحصلها تظل بدونها عبثا لا طائل وراءه، لكن الخير ليس هذا الخير الجزئي أو ذاك، بل هو الخير الكلي، أو هو مثال الخير الذي يشارك كل ما ينطوي على شيء من جمال أو صدق أو انسجام أو بهجة بنصيب فيه، أو ليس الخير بعد هذا كله ما لا يمكن أن يتنازع حوله اثنان.
على أن أفلاطون لم يقدم في أي كتاب من كتبه تعريفا محددا للخير، وإن كان في إحدى محاوراته المتأخرة «فيليبوس» يضع ثلاثة من المثل هي الجمال والتجانس والصدق، ويجعل منها معايير للحكم على ما إذا كان التعقل أو اللذة أقرب إلى الخير.
ويبدو أن المفكر حين يقترب من ذروة تفكيره لا يجد المنطق الذي يسعفه بالتعريف والتجديد؛ فيلجأ - والعذر لبشريتنا المحدودة! - إلى الرمز والصورة، ويستعير من الشاعر خياله ومن الرسام فرشاته، وهذا هو ما فعله أفلاطون في جمهوريته حين لم يجد وسيلة يصور بها طريق التربية الشاق إلى الخير الأسمى خيرا من رمز الكهف، هذا الطريق الصاعد [أو ما يسميه الفلاسفة بالديالكتيك] يصل إلى غايته عندما يتأمل سجين الكهف القديم نور الشمس.
ولكن كيف له أن يعبر عن هذه الرؤية بالكلمات؟ لا بد إذن من اللجوء إلى الرمز والصورة؛ فالخير الأسمى - كما يقول في موضع سابق (507أ) - يكشف عن طبيعته في ولده هليوس [أي الشمس]، أسمى الآلهة وأكثرها تألقا في السماء. ولكن ما العلاقة بين قوة البصر وبين إله النور السماوي؟ قد نقول: إن العين هي أكثر الأعضاء شبها بالشمس
2
ولكنها لا تستمد قدرتها على الرؤية إلا من نور الشمس، بهذا النور الذي تستمده من الشمس يمكنها أن ترى الشمس نفسها، وإذا كانت الشمس هي مصدر النور، فهي بالمثل مصدر الرؤية.
والنفس في مجال المعرفة كالعين في مجال الرؤية، فإذا نحن وجهنا العين إلى عالم الليل والظلال بدلا من عالم النور والنهار؛ وهنت قدرتها على الإبصار، والنفس إن لم نوجهها إلى العالم الذي تضيئه أشعة الحقيقة والصدق؛ فقدت القدرة على الفهم والتفكير، وأصبحت معرفتها ظنا ورؤاها ظلالا وأشباحا، وكما تسكب الشمس نورها على المرئيات، كذلك يجود مثال الخير على كل ما تدركه النفس بالصدق والحقيقة، إنه الأصل في كل معرفة أو حقيقة من شأنها أن تجعل العالم المعقول قابلا للتعقل، وتهبه الواقعية والنبل والصفاء، كما أن الشمس هي مصدر النور الذي يجعل العالم المحسوس قابلا للرؤية، كما تمده بقوة الحياة والدفء والنماء، ومع أن أفلاطون لم يصف مثال الخير الأسمى صراحة بأنه إله، فهو في الحقيقة أولى المثل جميعا بصفات الإله. وإذا كانت كل ألوان الخير والفضيلة تشارك في الخير المطلق الأسمى، وكانت غاية حياة الفيلسوف الذي يهتدي بالخير والفضيلة هي التشبه بالإله؛
3
فهل هناك كمال أقصى من هذا الكمال الذي يسعى إليه سجين الكهف في رحلته المضنية إلى نور الشمس، مثال المثل وخير الخيرات أجمعين؟ وهل يكون التشبه بالإله شيئا غير هذا؟ •••
تعددت التأويلات التي ذهب إليها المفسرون لهذا الرمز الشاعري الجميل من العصور القديمة إلى اليوم، ومع ذلك فلعل التفسير الذي قال به أفلاطون نفسه في مبدأ الكلام عنه من أنه يدل على التربية أو نقص التربية؛ هو أقربها إلى الصواب، فصورة الشمس التي ترمز إلى مثال الخير الأسمى وصورة الكهف؛ كلتاهما تعبير عن طبيعة التربية، وعن موقف الإنسان من المعرفة أو الجهل، واليقين أو الظن، والتقدم أو التأخر؛ إنهما ترسمان الطريق الذي تصعد فيه الروح إلى الصدق والحقيقة والنور، حتى تصل إلى قمة المعرفة الفلسفية، ونعني بها مثال الخير.
4
ولم يكن هناك شيء يستطيع أن يعبر عما ستجربه النفس من تحول وما تكابده من مشقة وجهد حين تنتقل من الظلام إلى النور، ثم وهي تعود مرة أخرى من النور إلى الظلام لتدرك مقدار ما في وجود الإنسان بين الظلال والأشباح من هوان ومذلة؛ أقول: لم يكن هناك شيء يمكن أن يعبر عن هذا كله خيرا من صورة الكهف. كان من السهل على أفلاطون أن يلجأ إلى الطريقة المجردة المطلقة في شرح أفكاره، ولكن خطورة الموضوع - الذي هو بصدده - جعلته يعالجه على هذا النحو الإنساني الرائع؛ ليستطيع أن يبرز ما تعانيه النفس وهي تترك الشر إلى الخير وتنتقل من الظلام إلى النور، وتكابد كل ألوان العذاب التي توشك أن تنتهي بها إلى الهلاك. ولو أن الأمر كان يتعلق بالمعرفة فحسب لما كانت هناك حاجة إلى هذا الرمز الخصب، ومن ثم كان في حقيقته أكبر من ذلك وأخطر، إنه «تحرير» الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذا كان سقراط - بتواضعه المشهور - يصف صعود النفس إلى الخير الأسمى على أنه أمله الشخصي الذي يعلم الرب وحده مدى نصيبه من الحقيقة (الجمهورية 517 ب6)، ففي استطاعتنا اليوم أن نقول: إنه الواجب الأكبر على الإنسان، ومهما يكن فهمنا لهذا الكهف وللمساجين الذين يقيمون فيه وللعالم الخارجي الذي تضيئه الشمس، فلا شك في أننا نحمل على الدوام مسئولية التحرر منه إلى أرض العدل والحق والنور، ولا شك أن هذا سيظل واجبا على الإنسان، اليوم وغدا وإلى آخر الزمان، ويا ويلنا إن كانت حياتنا على الأرض وكان العالم الذي نعيش فيه هو هذا الكهف المظلم! ويا ويلنا إن لم نحاول كل يوم أن نخرج منه إلى نور العدل والحرية والحقيقة!
وحيدا مع الواحد
كلمات صغيرة عن مفكر كبير
يبدو أنه لم يكن يعير الكلمة المكتوبة ما نعيرها الآن من اهتمام، فلم يخطر بباله أن يمسك بالقلم إلا بعد أن تجاوز الخمسين، وعلم عشر سنوات في مدرسته الفلسفية في روما في النصف الثاني من القرن الثالث بعد المسيح. راح يكتب في عجلة كأنه ملهم أو ممسوس، في خط لا تكاد العين تتبين حروفه، ويظهر أنه شعر بما يشعر به كل من يكتب من خيبة الأمل حين يرى أفكاره الحية قد ذوت في رداء شاحب من الكلمات المكتوبة، ومن يدري؟ لعله ندم على ما فعل؛ فعاش بقية حياته - فيما يروي تلميذه وناشر أعماله فور فيريوس - لا يحتمل أن يسمع أحدا يقرأ عليه رسائله، ولا يحاول أن يعيد النظر فيها مرة واحدة.
وانتهت إلينا هذه الرسائل الساحرة كما نشرها تلميذه فور فيريوس الذي قسم منها أربعة وخمسين رسالة إلى ست مجموعات اشتهرت إلى اليوم باسم التاسوعات، غير أن أفلوطين لم يكتبها على هذه الصورة، بل أغلب الظن أنه كتبها في فيض من الإلهام، وتركها بلا فواصل أو عناوين. وليس مرجع ذلك - كما يرى تلميذه - أن بصره كان قد ضعف في أواخر حياته ضعفا شديدا، بل لا بد لنا أن نبحث عن سببه في طبيعة الموضوع نفسه، فما هو هذا الموضوع الذي سنحاول أن نقترب من حقيقته؟
على الرغم من أننا نلاحظ في السنوات الأخيرة ما يشبه حركة البعث لفلسفة أفلوطين كما تتجلى في نشر أعماله باليونانية نشرا دقيقا محققا وفي ترجمتها إلى معظم اللغات الأوروبية؛ إلا أن أفلوطين لم يقدر له أبدا أن يكون من الفلاسفة الذين يقبل الناس على قراءتهم ومناقشة آرائهم والتحمس لأفكارهم، ومع ذلك فيكاد كل مثقف أن يعرف شيئا عنه أو يردد بعض كلماته المعروفة: الواحد، الفيض أو الإشعاع الذي تصدر به الموجودات الكثيرة من الموجود الواحد الأول، التدرج الذي يهبط من العقل إلى النفس إلى المادة، المادة أصل الشر، الفناء والوجد ... إلخ. كما يكاد كل من له إلمام بالفلسفة أن يعرف أن أفلوطين قد علم أن مصير النفس التي سقطت عن الواحد هو أن تعود مرة أخرى إلى الأصل الأول الذي نبعت منه، وتتحد معه في لحظات نادرة من حياتها بما يشبه الوجد والانجذاب؛ الأمر الذي وفق إليه أفلوطين أربع مرات في حياته، على نحو ما يروي عنه تلميذه ومؤرخ حياته!
ولكن هذا التصوير لفلسفة أفلوطين لن يفرق كثيرا بينها وبين غيرها من المذاهب الفلسفية المأثورة في تاريخ الفكر الغربي، حقا إنها قد تبدو شيئا مشوقا عميقا غريبا، ولكنها ستبدو للقارئ المعاصر - الذي يفهم عن «الحقيقة» و«الواقع» - شيئا مختلفا أشد الاختلاف عما كان يفهمه القدماء منهما، وكأنها أثر تاريخي عفى عليه الزمان، وسكنت فيه نبضات الحياة. وربما كان للقارئ الذي يرى هذا الرأي عذره، فأفلوطين هو أعظم الناطقين باللسان اليوناني في المرحلة الأخيرة من مراحل الفلسفة اليونانية، اتحدت فيه عناصر هذا التراث الضخم وأينعت ثمرتها الناضجة المتأخرة، وتشكلت في صورة مذهب شامخ يطل كالفنارة الوحيدة على شاطئ بحرها الزاخر غير المحدود.
من المعلوم أن أفلوطين هو الجسر العظيم الذي انتقلت عليه الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المسيحية والإسلامية في العصور الوسطى، وكان اتجاهه إلى الباطن هو الخطوة الحاسمة الأولى على طريق التصوف الطويل، وكانت تأملاته في العلاقة بين العقل
1
وبين الفكرة
2
هي التي جعلته يضع المثل الأفلاطونية في العقل، ويمهد بذلك للفكرة السائدة في العصور الوسطى عن «العقل الإلهي
Intellectus divinus » التي أدت في العصور الحديثة - على يد ديكارت - إلى تصورها عن «العقل الإنساني
Intellectus humans » الذي ما يزال يحاول إلى اليوم - باسم شعارات التقدم المختلفة على مر الأجيال - أن يشكل العالم ويتحكم فيه ويسيطر عليه.
كل هذا معروف مشهور، يستطيع القارئ إذا شاء أن يجده في أي كتاب من كتب تاريخ الفلسفة الكثيرة، ولكن ما نريد أن نتحدث عنه اليوم شيء آخر غريب وجديد وفريد، ربما لم يكن له دور يذكر في تأثير أفلوطين على العصور التالية، وربما لم يكن من المستطاع أن يكتب له مثل هذا الدور، فما هو هذا «الشيء» الجديد؟
يقول عنه أفلوطين:
3 «أما ما هو الواحد الحقيقي الخالص الذي لا يتعلق بشيء آخر سواه، فهو ما نريد الآن أن نراه، إن كان ذلك ممكنا على أي نحو من الأنحاء.»
فما هو هذا الواحد؟
ربما كان السؤال على هذه الصورة ساذجا أو مجانبا للصواب؛ فهو يسأل عن «ما» هو الواحد، بينما يجوز أن يكون الواحد مما لا يقال عنه «ما»، ولكننا سنتركه كذلك إلى حين.
يصل أفلوطين من الناحية الفلسفية الديالكتيكية إلى فكرته عن الواحد في معرض سؤاله عن الأصل.
4
والسؤال عن الأصل أو المبدأ ليس سؤالا أفلوطينيا خالصا؛ ذلك أنه قديم قدم الفلسفة نفسها، بل إن في استطاعتنا أن نقول : إنه السؤال الأول لكل متفلسف، لقد حرك الفلسفة اليونانية منذ نشأتها الأولى، ويكفي أن نتذكر أن الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط (طاليس وأنكسمندر وأنكسمانس) قد فرقوا تفريقا حاسما بين الأصل وبين ما يصدر عنه من أشياء، أي أنهم رأوا أن الموجود أو الشيء يصدر عما لا يتصف بمحدودية الشيء والموجود، تشهد بذلك عبارة أنكسمندر المشهورة: «أصل الموجودات هو اللامحدود.»
5
وتتصل هذه التفرقة بين الأصل وبين ما يصدر عنه من موجودات في الفلسفة اليونانية من بعد وبخاصة عند أفلاطون، بينما نجد تلميذه العظيم أرسططاليس يحاول أن يغير من هذه التفرقة ويمهد لضياع ملامحها.
ليست قيمة أفلوطين في أنه رجع إلى هذا التراث الفلسفي الذي ميز بين الأصل وبين ما ينبع منه، بل في أنه أخذ هذا التمييز مأخذ الجد فحدده تحديدا حاسما، واهتم به اهتماما لم يصل إليه مفكر قبله ولا بعده. إنه يقول مثلا في إحدى رسائله المبكرة:
6
أما العلة فليست هي نفس المعلول، إن علة كل شيء ليست شيئا من الأشياء.
ثم يقول في إحدى رسائله المتأخرة:
7
إن ذلك الذي يصدر عنه كل موجود، ليس هو نفسه ككل موجود، بل هو مختلف عنها جميعا.
هذا المعنى نفسه يتكرر في مواضع لا حصر لها من كتاباته. والواقع أن أفلوطين لا يأتي في ذلك بجديد، فقد ذهبت الفلسفة اليونانية دائما في تاريخها الطويل إلى أن الكثرة والتعدد هما الصفتان الغالبتان على العالم والموجودات، وكان من الطبيعي أن يكون الأصل فيها مختلفا عنها، أعني أن يكون واحدا وبسيطا، ويتردد هذا المعنى نفسه في أقدم عبارة فلسفية أثرت عن أب الفلاسفة طاليس، فالمشهور عنه أنه قال: إن الأصل في جميع الموجودات هو الماء، وليس هذا الماء شيئا أسطوريا ولا هو الماء الذي يحدد الكيميائيون معادلته بأنها «يد2 أ» والذي ندير الصنبور لنغسل وجوهنا منه كل صباح، بل هو - على حد تعبير هيجل - «ماء تأملي»، أي يستطيع الفكر وحده أن يتخيله في وحدته وبساطته.
قلنا: إن ما يميز أفلوطين عن المفكرين من قبله ومن بعده هو نظرته الحاسمة إلى وحدة الأصل وعدم تعدده أو كثرته. وكلمة «الواحد» من الكلمات التي يمكن أن يساء فهمها بسهولة، ولعل ذلك ألا يكون من قبيل المصادفة، بل يرجع إلى طبيعة اللغة نفسها؛ ذلك أن أفلوطين حين يفكر في الواحد فإنما يتصوره على أنه ما ليس بمتعدد ولا بكثير، أي على أنه ذلك «الآخر» المخالف في طبيعته للعالم ولكل ما يحتويه هذا العالم، وهو حين يحاول أن يصفه يكشف عجزه فيقول: إنه لا يمكن أن يوصف لا بالكلام ولا بالكتابة،
8
ولكنه مضطر أن يفكر فيه عن طريق اللغة؛ فقد يكون هناك فكر بلا كلام، أو فكر لا يجد الكلمات التي تعبر عنه، ولكن لا يمكن أن يكون هناك فكر بلا لغة، وهذه اللغة التي يستخدمها للتعبير عما ليس في العالم ولا منه قد جعلت من أجل هذا العالم، وإذن فهو مضطر بالضرورة إلى التعبير عنه بالوسيلة القاصرة التي لا يملك وسيلة سواها، وتعجز الكلمة التي يلجأ إليها فلا تستطيع أن تسمي، بل تكتفي بالإشارة إلى ما يفلت من كل تسمية، وتصبح لها وظيفة أخرى غير وظيفتها الطبيعية. إنها لم تعد تقربنا مما نسميه بل أصبحت توضح عجزنا عن إيجاد اسم له. وليس عجيبا بعد ذلك أن يجد أفلوطين نفسه في موقف من لا يكاد ينطق بكلمة حتى يجد نفسه مضطرا إلى التراجع عنها وإيثار السكوت الخاشع عليها.
الوحدة تقابلنا في كل مكان، كل ما هو موجود فهو واحد، وليس في الوجود شيء واحد يمكن أن يقال عنه إنه متحد مع شيء آخر من جميع الوجوه «حتى الأوراق على الشجرة الواحدة ليس بينها ورقة واحدة يمكن أن يقال عنها إنها هي نفسها الورقة الأخرى، كما لاحظ ليبنتس بحق.» ونحن لا نستطيع أن نرى شيئا أو نفكر في شيء إلا إذا رأينا على وجه من الوجوه أنه واحد وأدركنا أنه وحدة بمعنى من المعاني، كل موجود فهو إذن واحد على الدوام، ولكن كل موجود في نفس الوقت هو أيضا كثير. فالنفس مثلا واحدة؛ لأنها تتلقى هذه الوحدة من الواحد وتشارك فيها، ولكنها في نفس الوقت كثيرة؛ إذ تنطوي على قوى متعددة كالفكر والنزوع والإدراك، تتحد بدورها ويؤلف بينها الواحد (6-9، 1-2، ص173) حتى أبسط مضمونات الفكر - كالوجود أو الوحدة مثلا - تحتوي دائما على الكثرة، وإذن فكل ما هو موجود فهو واحد وكثير في وقت واحد، أو هو كثرة ألفت بينها وحدة، وإذا كان هناك ما لا حصر له من الموجودات الكثيرة، فهناك أيضا ما لا حصر له من الموجودات الواحدة.
كل الوحدات إذن هي دائما واحدة على نحو نسبي، أي أنها ليست واحدة بشكل مطلق، بل هي واحدة من ناحية وكثيرة من ناحية أخرى.
ولكن أفلوطين يفكر في «الأصل»؛ فيرى أنه واحد مطلق، ولا بد أن تكون هذه الوحدة التي يعنيها شيئا مختلفا تمام الاختلاف عما كان يقصد بها من قبل، إنها لم تعد تفهم عن طريق الإيجاب، بل عن طريق السلب؛ فهي بهذا المعنى الجديد ما ليس بكثير، إنه يتحدث في هذا المقام عن «رفض» الكثير أو تجريده، ويشير إلى الرمز الفيثاغوري عن أبوللون
9
أو غير الكثير
10
كما يتحدث عن الهروب من الكثرة والتقسيم،
11
وليست الوحدة هنا مفهوما عدديا-كميا ولا مكانيا، ولا هي بالمعنى الذي نفهمه من الواحد حين نذكر العدد «1»، ولا بمعنى النقطة حين نقصد منها العنصر المكون للمكان؛ ذلك أن الواحد عند أفلوطين ليس عنصرا من العناصر المكونة للعالم، بل هو «الآخر» المختلف عن كل ما هو عالمي أو من العالم.
النقطة والعدد وكل ما هو موجود وكل وحدة يمكن أن تتعدد وتتكاثر، أما الواحد فهو ما يختلف عن كل كثرة ووحدة، وما لا يمكن أن يتعدد على أي نحو من الأنحاء؛ ذلك أنه الوحيد على وجه الإطلاق؛ فهو إذن ليس كثرة ولا وحدة على هذا المعنى، بل هو وراء هذه التفرقة كلها. والواحد باعتباره الأصل في كل موجود لا يمكن أن يكون هو نفسه موجودا، أي لا يمكن أن يكون «هذا»
12
ولا «ما»
13
ولا «ذلك»، وربما أوهمتنا أداة التعريف «ال» - التي تضاف إلى لفظة الواحد - أنه شيء محدد، ولكن الواحد ليس كأي شيء، فلا هو موضوع ولا هو ذات، ولا هو موجود نصفه فنقول عنه: إنه واحد؛ ذلك أن كل موجود فهو ذو شكل، وهو بهذه الصفة محدود معين. أما الواحد باعتباره «الآخر» المختلف عن كل ما هو موجود فهو حقيقة لا شكل لها ولا سبيل إلى تحديدها أو التعبير عنها.
لا بد إذن أن نقول: إن الواحد لا يسمى ولا يوصف؛ ذلك لأن كل اسم أو وصف إنما يطلق على شيء ما، ولو شئنا الدقة لما جاز أن نسميه «بالواحد»، ولو أن هذه التسمية هي أنسبها جميعا في رأي أفلوطين، إن كان لا بد لنا من الاختيار،
14
بل ولا أن نسميه بذلك
15
وهي أكثر أسماء الإشارة نصيبا من الاتساع وعدم التحديد، ولو سرنا في هذا الطريق الديالكتيكي إلى آخره؛ لتبين لنا أن الواحد لا هو كثير ولا هو غير كثير، وأن كل ما نصفه به فإنما يلغي نفسه بنفسه؛ إذ أين نجد الكلمة التي تستطيع أن تعبر عما لا سبيل إلى التعبير عنه، أو تسمى التجربة التي تحار أمامها الأسماء؟
هل نكون بهذا كله قد ضللنا في متاهة جدلية لا مخرج منها؟ ألا يمكن أن تؤدي بنا هذه التأملات أو الشطحات إلى العدم أو ما يشبه العدم؟ ومن أين لعقلنا الطبيعي المحدود بهذا العالم أن يجد الجناحين اللذين يرفرفان به إلى ما ليس من هذا العالم؟
الحق أن أفلوطين قد شعر بهذه المخاوف التي تصيب كل من يفكر تفكيرا طبيعيا؛ فهو يقول:
16 «كلما أوغلت النفس فيما لا شكل له، وهي عاجزة كل العجز عن الإحاطة به؛ لأنها لم تحدد به ... انزلقت وخافت من أن يكون نصيبها هو العدم.» إن ما لا شكل له - وهو مجال الواحد - ليس هو العنصر الطبيعي الذي تسبح فيه النفس والفكر؛ ذلك أن ما لا شكل له فلا سبيل إلى وصفه أو فهمه؛ لأن الخيال لا يستطيع أن يدركه أو يتشبث به، فإذا تجاوزت النفس كل ما هو ذو شكل - أي كل موجود؛ إذ لا يخلو موجود من أن يكون له شكل - فلا بد لها أن تنزلق عنه، ولا بد أن ترتجف ارتجافة الرهبة والخوف حين لا تجد أمامها سوى العدم والفراغ، ولا تهتدي إلى شيء يمكنها أن تتشبث به. إنها ما زالت غفلا لم تجرب ولم تتمرس؛ فلا عجب أن تظن أن ما لا شكل له فلا وجود له، ولكن ما لا وجود له لا يتساوى مع ما هو عدم، وأفلوطين نفسه يسأل في موضع هام من الرسالة الثالثة
17
في سياق حديثه عن القفزة الحاسمة إلى الواحد إن كانت قفزة إلى العدم،
18
وهنا يلجأ إلى التعبير المدهش حين يقول: «أجل، إنه هو العدم بالقياس إلى كل ما هو أصل له؛ إذ ما من شيء يمكن أن يقال عنه: لا إنه وجود، ولا إنه جوهر، ولا إنه حياة؛ إذ هو يرتفع فوقها جميعا.»
19
الواحد المطلق إذن عدم، لا بمعنى العدم المفتقر إلى الوجود، بل بمعنى ما يتفوق في القوة والجود والامتلاء على كل ما هو موجود، إنه ليس موجودا، بل هو فوق كل موجود، على حد تعبير أفلوطين في ختام الرسالة السادسة.
20
فما هو إذن هذا العدم أو هذا الواحد، أو ما نشاء له من أسماء لا تستطيع أن تسميه؟ ما هذا الذي يفوق كل موجود في الجود والقوة والامتلاء والوجود؟!
القارئ يعرف الآن أنه ما من جواب على هذا السؤال، ذلك أن كل جواب طال أو قصر سيكون بالضرورة على هذه الصورة: «إنه هو «يكون» هذا أو ذاك»، لكن الواحد ليس «هذا» ولا «ذاك»، ولا سبيل إلى التعبير عنه بفعل «يكون»؛ فالجواب إذن سيخطئ السؤال، بل إن كل سؤال سيؤدي بطبيعته إلى توجيه الجواب وجهة خاطئة؛ إذ ما من سؤال يسأل إلا كان عن موجود على نحو من الأنحاء.
هل نكون بذلك قد أوغلنا في المتاهة التي لا أمل في الخلاص منها؟ إن القارئ قد يغفر لنا عجزنا عن إيجاد الجواب، ولكن كيف نطلب منه أن يغفر لنا العجز حتى عن توجيه السؤال؟ ألا نكون بذلك قد خرجنا عن دائرة الفهم البشري وتهنا في فراغ يخرس فيه السؤال ويضيع الجواب؟!
ولكن كيف نقترب إذن مما يسميه أفلوطين «بالواحد»؟!
إن ما ينطبق على أية فلسفة ينطبق على أفلوطين؛ فنحن لا نستطيع أن نعزل فكرة الواحد عن السياق الشامل الذي وردت فيه، ولن يجدينا التأمل فيها شيئا ما لم نضعها في الكل الذي يحتويها. إن الحجر الواحد لا قيمة له بغير البيت الذي يكون فيه، وكذلك الفكرة المفردة لا أهمية لها إذا انسلخت عن البناء الشامخ الذي وضعت فيه.
لا فائدة إذن من التفكير في «الواحد» أو «العدم» أو «ما وراء» أو غيرها من الكلمات الأثيرة عند أفلوطين بمعزل عن حركة الفكر عنده، هذا الفكر يتحرك حركة صاعدة نحو الواحد، ويلتزم في سيره بمنهج أو طريق يتدرج خطوة فخطوة إلى غايته.
هو طريق صاعد متدرج كما قلنا،
21
كل درجة منه تمهد للدرجة التي تليها وتسبق الدرجة التي تركتها وراءها، هذه الدرجات المشهورة هي على الترتيب الجسد (سوما
soma ) والنفس (بسيخي
) والعقل (نوس
Nous )، وكلما بلغ الفكر درجة منها أحس بما يعتورها من نقص، وشعر بالحاجة تدفعه إلى تجاوزها إلى الدرجة التي تليها على السلم الصاعد، ولكن إلى أين؟ إلى الواحد الذي يكفي نفسه بنفسه.
22
ولا يحتاج إلى شيء عداه، وأي إنسان هذا الذي يستطيع أن يصعد إلى هناك؟ لعله أن يكون ذلك الذي رأى كل شيء، أو كما يقال: رأى معظم الأشياء.
23
ليس هذا الطريق الصاعد المتدرج شيئا جديدا عند أفلوطين؛ فالمعروف أن تفكير أفلاطون في جوهره تفكير صاعد أو كما يقول الفلاسفة تفكير ديالكتيكي، وقد حدد أفلاطون معالم هذا الطريق - بوجه خاص - على لسان «ديوتيما» (في محاورة المأدبة أو المشرب (سيمبوزيوم) - إن شئنا الدقة - في حديثها عن الطريق الصاعد إلى «الجميل نفسه»).
غير أن ما يميز أفلوطين عن أفلاطون، بل ويتفوق عليه فيه، هو أن «الصعود» عنده هو في نفس الوقت «رجوع» وعودة إلى الأصل أو هو ما سميناه من قبل «بالاتجاه إلى الباطن»، وهو سر أصالة أفلوطين وتفرده في تاريخ الفكر الغربي كله.
هذا الطريق يصعد إذن من درجته الدنيا - وهي الجسد - إلى درجته العليا - وهي العقل - ولكن الدرجتين ما زالتا في دائرة العالم، هنا نصل إلى القفزة الحقيقية في تفكير أفلوطين، فعندما يصل التفكير إلى الدرجة الأخيرة فإنه يثب إلى ما يخرج عن حدود العالم أو يعول عليه، أعني إلى الواحد المطلق، أو ما نسميه عادة بالعلو أو بالعالي (الترانسندنس). يقول أفلوطين في الرسالة السادسة:
24 «أما إذا وصلت بملكة المعرفة عندك إلى اللامحدود؛ لأنه ليس من هذه الأشياء، فاستند إلى هذه الأشياء نفسها، ومنها شاهد». ومعنى هذا أن الحركة الصاعدة لا تبدأ في الفراغ أو الخيال الغامض غير المحدود، بل ترتكز على أرض هذا العالم، وتنطلق من أشيائه وموجوداته.
لقد طالما أسيء فهم أفلوطين، واتهم بعداوته للجسد واحتقاره للعالم، وتلميذه فرفريوس هو المسئول عن هذه الخرافات التي رواها عنه؛ ألم يقل: إن معلمه كان يخجل من جسده، ويرفض أن يرسمه مصورا، ويضن بسر حياته؛ فلا يبوح لأحد عن وطنه وآبائه؟
25
غير أن الحقيقة تختلف عن ذلك تماما؛ فقد كان أفلوطين يعرف قدر هذا العالم الحسي، ويتذوق مباهج الجمال والحسن فيه، ويكفي أن نقرأ معا هذه القطعة من رسالته الثانية المتأخرة
26
التي يقف فيها موقفا حاسما من الغنوصيين محتقري الجسد والعالم:
وكذلك فإن احتقار العالم والآلهة الذين فيه
والأشياء الجميلة الأخرى ليس هو
الطريق إلى الخير ... فكيف لامرئ
أن يكون على هذا الكسل في التفكير وألا يؤثر فيه
شيء، حين يرى كل هذا الجمال في العالم المحسوس،
وكل هذا التجانس والتوافق المذهل
والمنظر المتألق الذي تتيحه الكواكب على
الرغم من بعدها؟! ألا يحس بشيء يختلج في فؤاده،
وبالرهبة تستولي عليه وهو يرى كيف ينشأ البديع
من البديع؟ إنه عندئذ لم يفهم هذا العالم ولا رأى
العالم الآخر. أما إذا زعموا أنهم لا يتأثرون ولا
يميزون بين الأجساد
القبيحة أو الأجساد الجميلة التي يرونها، فإنهم لا
يستطيعون كذلك أن يميزوا بين الأفعال القبيحة
والأفعال الجميلة، ولا أن يتبينوا العلوم
الجميلة، ولا أن يبلغوا الرؤية ولا الله.
فالطريق إذن إلى مشاهدة الواحد يبدأ من مشاهدة هذا العالم الجميل، ولا يتسنى للإنسان أن يرى الرؤية الحقة حتى يغوص بكليته في هذه الأرض، ويملأ عينيه من هذا الواقع المحسوس. العقل هو الدرجة الأخيرة على سلم الفكر الصاعد، ولا بد هنا من الإشارة إلى خطأ شائع يتهم فيه أفلوطين بمعاداة العقل، فالواقع أنه قد قدر العقل وأعلى من شأنه، ولكن تقدير العقل أو احتقاره ليسا في الحقيقة بالأمر الأساسي، فإن عظمة أفلوطين تكمن في أنه لم يقف عند هذا العقل على الرغم من تقديره لقوته، بل تجاوزه إلى ما وراءه، وحقق ما سميناه بالعلو عليه، ومضى في الطريق الصاعد نحو الواحد.
قلنا: إن النفس تعلو درجة درجة إلى الواحد، وأفلوطين يصور هذا العلو في حديثه عن المشاهدة، وذلك في رسالته الثالثة الهامة،
27
ولا يصح أن يفوتنا هنا الإشارة إلى أن المشاهدة (ثيوريا)
28
تلعب دورا هاما في تاريخ الفلسفة اليونانية، وبالأخص في عصرها الذهبي الرائع عند أفلاطون وأرسطو. والفعل من هذه الكلمة يعني التفرج في المسرح والمشاركة في طقوس العبادة؛ فأصبح بعد ذلك يستخدم للدلالة على علاقة الإنسان بالحقيقة، بحيث يكون أسمى ما يصل إليه هو مشاهدتها والتملي منها، وليس غريبا بعد ذلك أن يعود أفلوطين إلى هذه الكلمة ذات التاريخ الطويل؛ ليصور ارتفاع النفس إلى الواحد، ويبالغ في معناها إلى الحد الذي تخالف به مفهومها القديم.
فالمشاهدة تكتسب عند أفلوطين معنى أنطولوجيا (وجوديا) شاملا، يفوق بكثير ما كانت عليه عند أفلاطون وأرسططاليس، وتصبح شكلا أساسيا للموجود على وجه الإطلاق، إنه يؤكد شمول المشاهدة في بداية رسالته التي ذكرناها فيما تقدم، وذلك حين يتحدث في مطلع هذه الرسالة عن التقابل بين الهزل واللعب، ويذهب إلى أن كل سلوك الإنسان من لعب الصبي إلى جد الرجل، ومن الفعل الذي يشبع به حاجاته الضرورية إلى الفعل الذي يتجه في حرية إلى الباطن؛ إنما ينبع من مصدر واحد هو النزوع إلى المشاهدة. ويستطرد أفلوطين فيعمم هذه الفكرة على دائرة الوجود كلها، بين درجته الدنيا «وهي الطبيعة»
29
إلى الدرجة التي تليها «وهي النفس»
30
ثم إلى العقل
31
وكل منها تمثل درجة من المشاهدة، تظل ترتفع إلى السلم الصاعد حتى تبلغ درجة الاتحاد مع المشاهد، وتصل إلى ما يعبر عنه هذا التعبير المحير الغريب حين يقول: إنها هي المشاهدة التي لا تشاهد أو الرؤية التي لا ترى ...
يبدأ أفلوطين من أدنى الدرجات على السلم الصاعد إلى الواحد فيبين أن جوهر الطبيعة الخلاقة (فيزيس) هو المشاهدة، إن عملية الخلق المبدعة التي لا تفتأ الطبيعة تمارسها في كل لحظة لا يمكن تفسيرها على أساس آلي: «ولكن على الإنسان أن يستبعد العمل بالروافع من عملية الخلق في الطبيعة؛ إذ كيف يستطيع الدفع والضغط أن يبدع هذه الألوان والأشكال البهيجة المتعددة.»
32
ليست الطبيعة إذن كالعامل اليدوي الذي يصنع شيئا بآلاته وأدواته، وهي لا تخلق الأشياء بعد إمعان في التفكير لتؤلف بينها بعد ذلك في وحدة شاملة، بل الأولى أن يقال: إن الكل هو الذي يسبق الأجزاء في عملية الخلق الطبيعية: «الطبيعة تبدأ من الأصل وليست في حاجة إلى التفكير.»
33
مبدأ الفعل الخلاق في الطبيعة إذن قوة مبدعة، باقية قادرة على التكوين والتشكيل، تخرج الكليات والأشكال المشاهدة فيها إلى الوجود، هذه القوة الخلاقة هي التي يسميها أفلوطين في بعض الأحيان باللوجوس (كلمة - معنى - عقل)، ويرى أن جوهرها هو الرؤية والمشاهدة، «والآن فبقدر ما تخلق (أي القوى الطبيعية) على الدوام، وتظل متماسكة في نفسها، وبقدر ما هي لوجوس؛ فإن من الممكن أن تكون هي نفسها مشاهدة»،
34
هذه القوة المبدعة التي تفيض فيضا مستمرا هي في رأي أفلوطين مبدأ كل حياة، وسر كل وجود، وهذا السر هو الذي يسميه بالرؤية أو المشاهدة.
ومع أن الطبيعة تعمل في صمت، فإن أفلوطين يحاول أن يهدينا إلى سرها العظيم - لا أن يفسره - فيجعلها تتحدث عن نفسها فتقول:
وإذا سألها أحد: لماذا تخلق؟ وكان لديها
الميل إلى الاستماع إلى السائل والحديث إليه فإنها
ستجيبه قائلة: خير لك ألا تسأل، بل أن تفهم أنت
نفسك في صمت كيف أنني أنا أيضا أخلد إلى الصمت وليس
من عادتي الكلام. ولكن ماذا تفهم؟ أن المخلوق رؤياي،
أي رؤيا نتجت عن ماهيتي، وأنني، وقد نشأت أنا نفسي عن مثل هذه
الرؤيا، مفطورة على محبة الرؤية والمشاهدة، وأن الرؤيا من جانبي تخلق
المرئي، على نحو ما يرسم الرياضيون
أثناء رؤيتهم، والفرق أنني لا أرسم،
بل تخرج معالم الأجسام إلى الوجود في أثناء
رؤيتي، كما لو كانت تتساقط عني.
ولا بد لنا لكي نفهم هذا الجواب الغريب أن ننتبه إلى أن الرؤيا أو المشاهدة ليست مجرد تطلع سلبي، بل إنها قد تكون فعلا إيجابيا خلاقا؛ فالمثل الأفلاطونية لا ترى كما لو كانت أشياء ماثلة أمامنا؛ لأن وجودها يختلف عن وجود الأشياء في العالم الحسي، ولا تتصور كما لو كانت محض خيال أو وهم، بل هي ترى بفعل فريد من أفعال الرؤية والمشاهدة العقلية الخالصة،
35
ويأتي أفلوطين فيؤكد هذا العنصر الخلاق الكامن في كل رؤية، ويذهب إلى أن كل ما هو موجود - من أدنى درجات المادة إلى أسمى درجات العقل - إنما ينشأ عن الرؤية والمشاهدة.
الطبيعة تقول للسائل: خير لك ألا تسأل، بل أن تفهم أنت نفسك في صمت كيف أنني أيضا أخلد إلى الصمت وليس من عادتي الكلام. والطبيعة لا تقول هذا لأنها أدنى درجات الحياة وأقلها حظا من الوعي والشعور فحسب، بل لأن سر الطبيعة وسر الحياة لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، وبالتالي لا يمكن أن يكون موضوعا للتفكير، ونسأل أفلوطين: وما هو السبب؟ فيجيب: لأن السر يرى في صمت؛ لأنه رؤيا (وربما كان هذا هو الذي جعله يوضح صدور الموجودات عن الواحد عن طريق ما سماه بالفيض أو الإشعاع، أي عن طريق صورة حسية لا عن طريق فكرة عقلية).
وقد نعود فنسأل: وما الذي يجعل الأشكال والماهية التي تراها قوة الطبيعة تخرج إلى الوجود المادي؟ فيقول: إن ذلك نتيجة ضعف الرؤية لدى الطبيعة، ثم يفسر ذلك بمثال مستمد من السلوك البشري حين يقول:
لأن البشر أيضا، حين يفقدون القدرة على الرؤية، ينتجون
ظلا للرؤية وللعقل، هو الفعل والسلوك.
فالفعل عند أفلوطين لا يصدر عن القوة بقدر ما يصدر عن الضعف، وهو يوضح ذلك فيقول:
ذلك لأنهم نتيجة لضعف في نفوسهم لا يستطيعون أن يستسلموا للرؤية
بدرجة كافية، ولأنهم تبعا لذلك عاجزون عن إدراك الصورة المرئية
رؤية كافية، ومن ثم لا يصلون إلى حد الرضا
والإشباع، بل يسعون إلى مشاهدتها؛ لذلك يندفعون
إلى الفعل، لكي يروا بالحواس ما عجزوا عن رؤيته
بالعقل.
سوف نجد دائما أن العمل والفعل إما أن يكون ضعفا في الرؤية
أو يكون نتيجة مصاحبة لها. هو ضعف حين لا يجد المرء «شيئا يراه» أكثر من المعمول، وهو نتيجة مصاحبة لها، حين
يكون لديه شيء يراه أقوى من المعمول ويتقدم عليه.
إذ كيف يتجه إلى ظل الحقيقة من يملك
القدرة على رؤية الحقيقة؟ إن الدليل على هذا هو
الأطفال الخاملون من الناحية العقلية الذين
يعجزون عن التعلم والرؤية؛ فينتهون إلى الصنعة (التكنيك) والحرفة اليدوية.
ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن أفلوطين ينكر قيمة الفعل أو يقلل من شأنها؛ ذلك أنه لا يقصد إلا أن يبين أن الفعل وجه من وجوه الرؤية، أو هو رؤية ضعيفة ناقصة، فالفعل عنده إما أن يكون نتيجة ضعف في الرؤية، يحاول به المرء أن يشغل نفسه بشيء مصنوع ماثل الوجود، لكي يستعيض به عن نقص الرؤية الباطنية لديه، ويملأ الفراغ الذي يحس به في نفسه، وإما أن يكون ظاهرة مصاحبة لرؤية النفس، ناجمة عن فساد أو قصور فيها، ولعل هذا هو السبب فيما ذكرناه في أول هذا الحديث من أن أفلوطين لم يكن يكترث كثيرا بتدوين مؤلفاته، ولم يحتمل، بعد أن سطره فيما يشبه الإلهام المحموم، أن يعيد قراءتها مرة واحدة.
والدرجة التالية للطبيعة هي النفس، فكما أن الطبيعة الخارجية
36
تعد رؤية ضعيفة للقوة الطبيعية الباطنة أو الطبيعة الطابعة،
37
فإن هذه القوة الطبيعية تعد كذلك رؤية ضعيفة للنفس الكلية، كما أن هذه النفس الكلية بدورها رؤية ضعيفة للعقل الذي يمثل أكمل درجات الرؤية.
رؤية النفس أوفر حظا في «الباطنية» من الطبيعة، والتي تتبدد رؤيتها في المادة الخارجية، وكلما ازدادت النفس رؤية ازدادت ميلا إلى الهدوء والسكون، أي قل نصيبها من الفاعلية؛ لأنها لا تعود تبحث عن شيء خارجها، بل تستريح في ذاتها؛ حيث تجد هناك كل ما تتوق إليه.
ولكن لما كانت النفس لا تملك المرئي ملكا باطنيا كاملا؛ فإنها تسعى إلى درجة أعلى من الرؤية، وتلك هي درجة العقل المفكر في نفسه؛ فالنفس إذن تشغل من هذا السلم الصاعد مكان الوسط، بين اتجاه الطبيعة إلى الخارج اتجاها كاملا وبين الاتجاه إلى الباطن اتجاها تاما عند العقل، فإذا كانت قوة الطبيعة تتبدد عند الرؤية في عالم المادة الخارجية، فإن العقل يظل مع نفسه فحسب، خالصا للتفكير الخالص في نفسه، هنا يتحد الرائي والمرئي، ويتعانق الفكر والوجود. إن العقل الذي يفكر في نفسه، أو - إن شئنا الدقة - الذي يفكر نفسه هو الحياة الأولى، أو هو الحياة التي تهب نفسها الحياة، أو هو الرؤية الحية.
ولكن هل نصل مع العقل حقا إلى أعلى درجات الرؤية؟ وهل ينتهي السلم الصاعد فلا نجد درجة أخرى نصعد إليها؟ الظواهر كلها تدل على هذا؛ فالسلم قد انتهى بالفعل، ولكن الشوق إلى الصعود ما زال متقدا، واللهفة إلى الارتفاع لم تهدأ بعد.
لا بد إذن من أن نلقي بالسلم بعيدا، ماذا تفعل؟ لم يبق أمامنا إلا أن نقفز القفزة الأخيرة، لعلنا أن ندرك الواحد، غير أنها ليست قفزة الخيال الجامح، ولا طفرة العاطفة المتحمسة؛ فقد مهدت لها ودفعتنا إليها المراحل التي تركناها وراءنا.
كل رؤية تفترض وحدة الرائي والمرئي واختلافهما في آن واحد، غير أن الوحدة هي الأصل، فليس الأمر في عملية الرؤية - مهما يكن نوع وطريقة تفسيرها - أن تكون هناك ذات ترى من ناحية وأمامها الموضوع الذي تراه من ناحية أخرى، ثم تتصلان ببعضهما على وجه من الوجوه، بل الأصح أن يقال: إن فعل الرؤية يسبق كل تفرقة بين الرائي والمرئي ويمكن لهما من الالتقاء، وكلما توثقت الوحدة بين الرائي والمرئي في الوجدان الباطن؛ زاد نصيب الرؤية من «الباطنية»، وكلما نقص حظ الرؤية منها، كان ذلك دافعا إلى الارتفاع إلى رؤية أتم.
ولكن لم لا يكون العقل الذي يصفه أفلوطين بأنه هو الفكر الذي ينكر نفسه، والذي تتمثل فيه أكمل وحدة ممكنة بين الرائي والمرئي، لم لا يكون هذا العقل هو نفسه أعلى درجات الرؤية؟ الجواب ليس بعيدا؛ فالعقل وإن يكن في حالة نقية خالصة مع نفسه، ولا يفكر في شيء آخر سوى نفسه، فإنه مع ذلك لا يخلو من الثنائية الكامنة بالضرورة في كل تفكير، ونقصد بها ثنائية المفكر والموضوع الذي يفكر فيه.
ما هي إذن هذه الرؤية الكاملة التي ما زلنا في سعي دائب للوصول إليها؟ إنها كما قلنا من قبل الرؤية التي لا ترى، فإن سألنا ما هي طبيعتنا؟ أو كيف لنا أن ندركها؟ أعفانا أفلوطين نفسه من الجواب، وقال في عبارة قد لا تخلو من الغموض: «فإن أنت تركت الوجود «وراءك» لكي تستحوذ عليه (أي لكي تفهمه وتدركه) فسوف تقع في الدهشة، عندئذ عليك أن تلقي بنفسك عليه (تلقي بصرك أو تسدد سهمك إليه) وتصيبه، وأن تستريح في مملكته وتحيط به، وذلك بأن تفهمه عن طريق اللمس فهما أفضل، أما العظمة (أو العظيم) فيه فاعرفها عن طريق الموجود، الذي جبل على مثاله ومن خلاله.»
38
أفلوطين هنا يحاول - باللفظ القديم الشاحب الذي لا يستطيع أن يسعفه - أن يعبر عن الاتحاد مع الواحد، وأهم ما يلفت انتباهنا في هذه القطعة هو قوله: «ألق بنفسك عليه!»
39
على الإنسان إذن أن يترك الموجودات كلها وراءه ويلقي بنفسه على الوجود. وتركه للموجودات كلها سيشعره بالدهشة؛ هذه الدهشة هي التي ستدفعه إلى إلقاء نفسه على الوجود، على الواحد. إنه الآن لا يقف منه موقف الرائي من المرئي لكي يحاول بعد ذلك أن يتحد به، بل يهب نفسه له، يلقي بكيانه بين ذراعيه ، يلامسه من كل ناحية ويعانقه ويتحد به، لقد ترك وراء ظهره كل ما هو شيء وموجود، وتملكته رعشة الاندهاش فألقى بنفسه عليه حين أصابه وجد الراحة في الاتحاد معه اتحادا يختلف عن كل ما يمكن أن نتحد به من موجودات هذا العالم، ولكنه لا يطيل المكوث هناك، ولا يستمرئ النعيم المتاح، بل يعود ثانية إلى هذا العالم، ويرجع إلى الموجودات ليراها بعين جديدة، ويدرك سر عظمتها التي استغلقت عليه من قبل.
ونعود فنسأل كما سألنا من قبل: ولكن ما هو هذا الواحد الذي نلقي بأنفسنا عليه، ونسدد كل سهامنا إليه، ونصعد لعلنا نتملى منه؟
ونعود أيضا فنقول: إن السؤال بهذه الصورة مجانب للصواب؛ إذ كيف نسأل عما عسى أن يكون الواحد مع أنه يعلو على كل وجود ويرتفع فوق كل كينونة؟
ومع ذلك فلنترك الكلمة لأفلوطين، وسوف يعلمنا كيف نصمت حين يعجز كل كلام:
ولكن هذا الذي لا يأتي إلى الوجود، ما هو؟
أجل، على الإنسان أن ينصرف صامتا، وليس
له، بعد أن تاهت به حججه،
أن يبحث بعد عن شيء.
40
استطاع أفلوطين أن يعبر عن تجربته في هذه العبارة الكاملة: «وحيدا مع الواحد»،
41
وإذا كان الإنسان - وما أكثر التعريفات التي تقال عليه، لأنه ما أشد تعقده وغناه! - في تعريف أرسطو هو الكائن الوحيد الذي يعيش بطبعه في جماعة «المدينة»،
42
فهو كذلك - بل وقبل ذلك - الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكون وحيدا: هذه الوحدة أبعد ما تكون عن الانعزال والانطواء؛ لأنها في صميمها التفتح الخالص الذي هو شرط كل اجتماع أصيل. فالسجين في زنزانته ليس وحيدا بحق؛ لأن الوحدة انطلاق وتحرر، والحيوان وإن ثبت عن بعض أنواعه أنها تعيش في مجتمعات، لا يستطيع كذلك أن يكون وحيدا؛ لأنه حبيس في هذا العالم، عاجز عن العلو عليه أو الخروج منه.
وقد استطاع أفلوطين - ربما لأول مرة في تاريخ الفكر البشري - أن يخرج من هذا العالم، وتجربته التي توصف بالوجد أو الانجذاب هي بمعناها الحرفي الخروج من
EK-stasis ، ولكنه لم يخرج من هذا العالم إلا لأن الواحد كان يجذبه بكليته إليه، لم يخرج منه إلا ليعود إليه، بهذا - وبهذا وحده - استطاع أن يحب العالم ويقترب من سره، ويرى مواطن الجمال فيه بعين جديدة لا تغيب عنها الدهشة، إنه لم يرتفع فوق العالم إلا لكي يغوص فيه إلى الأعماق، فليس في استطاعة الإنسان أن يغادر حدود كرته الأرضية؛ فهي ضيقة، هذه الكرة مزدحمة بالسجون والأقفاص، برغم أبعادها غير المتناهية. إن باب الخروج من هذه الغرفة الأرضية الواسعة لا يقع على حدودها وأطرافها، وإنما هو في باطنها، في نقطة المركز منها. ولن يرتفع الإنسان فوق النجوم ما لم يهبط إلى الجذور الضاربة في الوحل.
إن أقدم شواهد الشعر الغنائي عند اليونان تنطق بهذه الوحدة؛ فشاعرة الحب والجمال «سافو»
43
تقول في أبياتها الأربعة الشهيرة:
الآن قد غاب القمر،
وكذلك الكواكب السبعة
انتصف الليل، وزمن الانتظار فات.
وأنا أنام وحدي.
وطريق المفكر والشاعر الغنائي طريق وحيد، وقد ارتفع أفلوطين فوق ذاته وفوق العالم، وأعتقد أنه سيجد في الواحد عزاءه الأخير، ولكنه ظل مع ذلك وحيدا، حتى مع الواحد، هنالك لم يبق أمامه إلا الصمت والسكون.
ومع ذلك فسوف يجد الإنسان دائما ما يعزيه عن وحدته أو ما يبعده عنها، في العمل أو الحب أو الطموح أو الكفاح اليومي من أجل لقمة العيش، أما من لا يجد العزاء في شيء، فماذا تكون حاله؟ وكم يا ترى تكون قسوته وحدته؟
تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان
في زمن يطغى عليه ضجيج الآلة، ويكسر جناحيه الخوف من المصير، لا تكاد كلمة باسكال هذه تجد أذنا صاغية: «تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان علوا غير متناه»،
1
تعلموا أنه يعلو على كل شيء كما يعلو على ذاته التي بين جنبيه، نقول: يعلو، وقد نستطيع أيضا أن نقول: يرتفع أو يصعد أو يتعالى، ولكن إلى أين يرتفع ويصعد ويتعالى؟ ما الذي يجنيه من هذا العلو؟ وأي سلم يرتقي ليصل إليه؟ وإذا كان الإنسان يعلو على الإنسان، أي على ذاته وعلى ذوات الآخرين، فهل يستعصي عليه كذلك أن يعلو على كل شيء؟
علو أو تعال، كلمتان حفظهما لنا تراث فكري بعيد، لن نستطيع في هذه السطور القليلة أن ننقل هذا التراث أو نوغل بالبحث فيه، فكل ما نريد هو أن ندخل معه في حوار، أن نسأله ونسأل أنفسنا معه: ماذا نريد بهذه الكلمة الشهيرة في تاريخ الفلسفة «الترانسندس»؟ هل يهمنا في عصر العلم أن نعلو أو نتعالى؟ أنشيد له برج بابل جديدا أم نطير إليه في صاروخ؟ هل في مقدورنا اليوم أن نعود إلى «المتعالي» أو نعيده إلينا؟ وكيف نستطيع؟ إذا أردنا أن نتحدث عنه فبأي لغة؟ وإذا حاولنا أن نفكر فيه فبأي تفكير؟ أترانا حين نصل إليه - إن كان ثمة وصول - أن تخرس لغتنا فلا نملك إلا الصمت ولا نجد إلا السكوت؟ ألا نوصف عندئذ - من جانب أهل الجدل والفطانة، وما أكثرهم في هذا الزمان! - بالتصوف أو حتى بالدروشة؟! «التعالي هو الارتفاع فوق كل شيء على الإطلاق»، تعريف نسوقه في بداية هذا الحديث، ولكن ما أشد ما يحتاج إلى تفسير!
الكلمة في اللغات الأوروبية
Transzendenz - Transcendence
تنحدر من الفعل اللاتيني
Trans-scendere
المؤلف من السابقة (عبر وراء)
Trans ، والفعل
scendere (يصعد، يرتفع، يتجاوز، يعلو)، ولكن إلى أين هذا العلو ولأية غاية؟ ألا يؤدي بنا العلو فوق كل شيء إلى اللاشيء؟ ألا يفضي بنا التصعيد فوق الوجود إلى الوقوع في العدم؟ ألسنا نخاطر بأن يكون علونا من قبيل التحليق الخيالي الذي نعزوه إلى الشعراء وقد نتهمهم به؟!
سنسارع قبل الإجابة على هذه الأسئلة فنقدم بين يدي القارئ مجموعة من القضايا التي سنحاول فيما بعد أن نحققها ونتثبت من صحتها:
أولا:
مشكلة المتعالي هي مشكلة المشكلات، ليست في الحقيقة مشكلة من مشكلات عديدة، بل هي «المشكلة» على الإطلاق، فإذا كنا نقول: إن التعالي هو الارتفاع فوق كل شيء، فلا بد أن تحوي مشكلته سائر المشكلات، كما يحوي الكل بقية الأجزاء.
ثانيا:
مشكلة المتعالي فريدة في بابها، متميزة عن سائر ما عداها، وكيف لا تكون كذلك وهي - كما تقدم - ليست مشكلة من بين مشكلات عديدة، بل هي التي تحويها جميعا؟
ثالثا:
هي أعظم المشكلات ، إذ ما عساه أن يكون أعظم من محاولة العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق؟ وأي فعل يمكن أن يقارن بالارتفاع فوق كل شيء حتى الارتفاع نفسه؟
رابعا:
المتعالي الذي يسمو فوق كل شيء هو في نفس الوقت أكثر الأشياء عمقا؛ فكما أن العلو يكون من أسفل إلى أعلى، فكذلك يكون من أعلى إلى أسفل، من القمة إلى الأعماق. حقا إن هذه مفارقة تأباها لغتنا وتفكيرنا اليومي، كما يرفضها ما نسميه عادة بالحس السليم، ولكن لا بد من قبولها في الفلسفة والفن والدين؛ إذ لا حياة لها جميعا بغير المفارقة التي تتجاوز منطق المعقول والمقبول.
خامسا:
مشكلة المتعالي هي آخر المشكلات، وهي كذلك أخطرها، وهل هناك أخطر من أن يطمح الإنسان إلى العلو فوق كل شيء، بينما يتهدده السقوط إلى أعمق الأعماق؟ أليس أقرب الناس إلى التردي في الحضيض أعلاهم فوق القمة؟
سادسا:
مشكلة المتعالي هي أقرب المشكلات إلينا وألصقها بوجودنا، ولما لم يكن هناك وجود ولا حياة بغير موت وفناء، كان ارتباط التعالي بالموت أوثق ما يكون الارتباط، وكانت مشكلته أكثر مشكلات الإنسان إنسانية، ألسنا نقول الآن ونريد أن نبين فيما بعد أننا لا نعلو على أنفسنا إلا لنعود إليها، وأن الإنسان لا يشعر بإنسانيته حتى يعلو عليها ويتجاوزها؟
قلنا: إن مشكلة التعالي هي المشكلة على وجه الحقيقة. ونذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أنه حيث لا وجود لمشكلة التعالي فلا وجود لمشكلة الموت ولا لمشكلتي الزمان والمكان، بيد أن التعالي موجود، وسيظل موجودا ما بقي الإنسان حريصا على إنسانيته، وإذا كنا نلاحظ اليوم أنه تراجع من وجدان هذا الزمان، بحيث لم يبق منه سوى بضعة حروف سوداء في معاجم الفلسفة، فليس معنى هذا أنه اختفى من هذا الوجدان (إذ ما من شيء يختفي الحقيقة كل الاختفاء، وإنما كل شيء يتغير)، بل معناه أنه راقد فيه يحتاج إلى من يوقظه من سباته، ولا مفر لكل من يفكر فيه من المخاطرة على الطريق الخطر. إنه مضطر إلى التفكير في عصره ، وربما اضطر أيضا إلى التفكير ضد عصره.
كذلك قلنا: إن مشكلة التعالي هي أولى المشكلات وآخرها، وإنها أعمقها وأخطرها وأشدها التصاقا بوجود الإنسان، ولا نعني بهذا القول أنها مشكلة كسائر المشكلات تقارن بها فتزيد عليها أو تنقص عنها في الأهمية، فالواقع أن هذه الصفات التي نطلقها عليها شبيهة بتلك السلالم التي تحدث عنها الفيلسوف المنطقي المتصوف فتجنشتين في نهاية «رسالته المنطقية الفلسفية» حيث يقول: إن على المرء أن يلقي بها بعيدا بعد أن يصعد عليها ويصل إلى حيث أراد الوصول، نقول إلى «حيث»، وكأننا نريد أن نصل بالعلو إلى مكان أو موضع، وفي هذا القول خطأ لا بد من الاعتذار عنه؛ فالتعالي فعل فريد، وكل تعال يكون «فوق» شيء و«إلى» شيء، أما التعالي الذي نتحدث عنه فهو كما عرفناه علو على كل شيء على وجه الإطلاق، علو تقف لغتنا حياله عاجزة لا تملك التعبير، إنها تغير عندئذ دلالتها كما تغير وظيفتها، فتكتفي بالتلميح إلى ما لا تستطيع أن تصرح به كلمة أو ينطق به لسان.
ولكن ما هو هذا التعالي الذي وصفناه بأنه مشكلة المشكلات، وبأنه عمل فريد في بابه يجب على الإنسان أن يحققه ليجد إنسانيته؟ وصفنا التعالي بأنه «الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق»، فماذا يفهم عادة من فعل التعالي أو من كلمة المتعالي حين نستخدمها في الفلسفة أو في غير الفلسفة؟
قد تفهم على أنها التعالي فوق التجربة، بوصفها التجربة الحسية قبل كل شيء، وذلك هو الرأي الميتافيزيقي (بالمعنى الحرفي للكلمة)، أي الذي يتصور المتعالي على كل ما تجاوز عالم الطبيعة وجاء بعده، وإن بقي لهذا السبب نفسه متعلقا به مضافا إليه، وقد يفهم التعالي على أنه الارتفاع فوق الذات، أو صعود الذات فوق نفسها متجهة نحو الموضوع، وهو ما نستطيع أن نسميه بالفهم الذاتي للتعالي، وسنجد في سياق حديثنا أننا لا نستطيع أن نأخذ به أو نوافق عليه؛ لأننا نفهم من التعالي ما يرتفع فوق كل شيء، وبالتالي فوق الموضوعات والذات جميعا.
ونعود فنسأل : «وما هو المتعالي؟» لا بد لنا قبل الإجابة على هذا السؤال أن نعرف أن المتعالي لا يمكن التفكير فيه من ناحية الإنسان أو العالم، بل يجب أن نفكر في الإنسان والعالم من ناحيته، وعلينا أن نذكر دائما أنه ليس مشكلة يضعها الإنسان، بل هو مشكلة يوضع فيها الإنسان فتستأثر به وتملك عليه كيانه، ولن يتم هذا قبل أن نعاني التحول الكبير الذي لا يمكن أن ننتظره من إنسان أو شيء سوانا، بل لا بد أن يكون ميدانه في الذات ومن أجل الذات، وأخيرا لا بد أن ننقي كلمة المتعالي «الترانسندنس» من كل ما يخالطها، وأن نفرق فيها بين فعل التعالي نفسه وبين القائم بهذا الفعل أو «الترانسندنت»، كما نميز عنها ما نسميه بالكمون أو «الأماننس»، فهذا الكمون ليس عكس التعالي؛ لأنه صلة انعكاسية به، وقد تكون هذه الصلة بين القائم بفعل التعالي وبين المتعالي نفسه، كما تكون على العكس من ذلك بين المتعالي وبين من يتعالى إليه، أما المتعالي فليس من ذلك في شيء، إنه يعبر عن علاقة لا يمكن عكسها؛ إذ إنها لا تبدأ من الذات التي تحاول أن تعلو إليه ولا يكون الإنسان هو أصلها، بل تبدأ من المتعالي الذي نحاول أن نرتفع إليه، والتعالي يختلف أيضا عن ذلك الذي نعلو إليه ونسميه بالمتعالي؛ ذلك أننا بفعل التعالي نرتفع درجة درجة فوق الأشياء حتى نصل إلى الارتفاع فوق كل شيء، ولو كان المتعالي نفسه شيئا لكان علينا أن نعلو عليه كذلك، فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول عنه: إنه مطلق - بالمعنى الحرفي الأصيل لهذه الكلمة - من قيد كل شيء، مستقل غير مشروط بغيره، كامل وتام في ذاته، ومكتف بذاته.
يبدو أن أفلاطون هو أول من اقترب من المتعالي في جمهوريته، فكلما ذكر الخير تبادر إلى الذهن ما نفهمه اليوم من العلو والتعالي؛ فالخير مثال، لا بل هو مثال المثل الذي يعلو عليها ويزيد عنها قوة وصفاء ، وقد يختلف في ماهية وجوده عن سائر المثل، كما تختلف هذه عن سائر المحسوسات، ونظرة عابرة إلى رمز الكهف المشهور (الجمهورية من 514 إلى 517) تدلنا على أن الخير هو أعظم الموجودات شأنا، وأشبهها بالشمس التي تغشي بنورها عيون الذين يحاولون أن يتطلعوا إليها بعد خروجهم من الكهف. غير أن أفلاطون لا يستقر في تعبيره عن الخير؛ فهو تارة كالمتعالي وتارة أخرى شيء آخر يختلف عنه، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذا القلق في التعبير عن المتعالي يسري في تاريخ الفلسفة كلها من أفلاطون إلى اليوم، فالفلسفة اليونانية القديمة لا تكاد تعرفه، وحين اقتربت منه واستطاعت أخيرا أن تسميه بالواحد كان يقع على أطراف حدودها ويتوج تطورها. والحق أن ما نفهمه اليوم - بوجه عام - من كلمة المتعالي إنما جاء عن أفلوطين والأفلاطونية المحدثة، بحيث نستطيع أن نقول: إنه كان أول من عانى من تجربة العلو على وجهها الأصيل، وجعل من المتعالي مشكلة تفكيره الوحيدة (راجع رسالته عن الخير).
وفكرة المتعالي تشغل مكان الصدارة من فلسفة الوجود الحديثة، حتى لتذهب في بعض الأحيان إلى حد القول بأنها اكتشفتها اكتشافا، وليس الارتفاع فوق الموجود إلى «الوجود» نفسه عند هيدجر، ولا ارتفاع الإنسان إلى «الشامل المحيط» عند ياسبرز - وإن تعذر عليه أن يدرك كنهه أو يدرك حقيقته - أقول: ليسا إلا تعبيرا آخر عن العلو والمتعالي، وليس الوجود - كما قد يبدو لأول وهلة من تسمية الفلسفة المعاصرة نفسها بهذا الاسم - مبحثا جديدا على الإنسان، لقد شغل بارمنيدز في فجر الفلسفة، فكان هو الموجود الذي ينبغي أن يتجه إليه القول والفكر؛ لأن العدم هو ما ليس له وجود، ولأن السؤال عن الوجود كان ولا يزال - كما يقول أرسطو - هو السؤال الرئيسي الأول الذي ينبغي على الإنسان أن يسأله الآن وعلى الدوام، والحق أن كلمة الوجود - كما أوضح هيدجر في بداية كتابه المشهور «الوجود والزمان» - ذات معان كثيرة متشابكة، فليس الوجود شيئا من جملة أشياء يوضع إلى جانبها ويعد واحدا من بينها، له جملة خواص: إحداها ما نسميه بالوجود. إنه يختلف عن الموجود اختلافا رئيسيا، سماه هيدجر «بالاختلاف الأنطولوجي»، وليس من همنا أن نفصل القول في هذه الناحية، فكل ما نريد أن نؤكده هو أننا بمجرد أن نتصور المتعالي على أنه الوجود أو الموجود فإنما نفقده إلى غير رجعة؛ فليس المتعالي شيئا يمكننني أن أتحدث إليه أو عنه أو حتى أن أفكر فيه، ليس شيئا لأنه علو فوق كل ما هو شيء وما له شكل الشيء، وليس مما يمكن الحديث إليه أو عنه؛ لأنني سأجد في نهاية المطاف أن لغتي عاجزة عن التعبير عنه، وأن علي إما أن أبحث عن لغة جديدة - وهو ما لا أقدر عليه - أو أن ألزم الصمت المطلق (وهو ما لا يقدر عليه إلا الأموات!) والقول بأن المتعالي لا يستطاع التفكير فيه، ليس معناه أن أتخلى عن الفكر؛ فبالفكر وحده أعرف أن هناك مشكلة هي مشكلة التعالي، وبالفكر وحده أستطيع أن أفكر فيما لا سبيل إلى التفكير فيه بوسائلنا المألوفة وأشكالنا المنطقية المتواضع عليها، وليس المقصود بالعبارة الأخيرة إلا أنني مطالب إزاء مشكلة المتعالي بتحمل أقصى ما يستطيع الفكر أن يتحمل من عناء، وبذل أقصى ما يمكن أن أبذل من جهد وحركة وتوتر.
علينا إذن أن نوسع آفاق نظرتنا إلى المتعالي، وأول ما نفعله في هذا السبيل هو أن نتغلب على العقبات التي تعترض سبيل هذه النظرة، ونكشف عن قصور تفكيرنا فيه حين نظن أننا نتحدث عنه، بينما نحن في الحقيقة نتحدث ضده ونتجاوز محدودية التصورات الميتافيزيقية والدينية والوجودية للعلو والتعالي، مهتدين في ذلك بالتعريف الذي وضعناه في صدر هذا الكلام من أنه الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق، علينا أيضا أن نكشف عن العقبات الباطنية التي تعترض سبيلنا إلى المتعالي، وأن نواجه نزعتنا الطبيعية الدفينة إلى الهروب منه أيا كانت أشكال هذا الهروب، فنحن نهرب منه، لا بل نتمرد عليه بما طبع فينا من ميل إلى التفكير العملي أو التفكير السليم كما نسميه عادة، مع أن هذا التفكير السليم يقف بطبعه موقف المعاند لكل تفكير فلسفي أو ميتافيزيقي على وجه العموم، ونحن ندير له ظهورنا حين نضعه في عالم «آخر»، ونحسب بذلك أننا نعلو بأنفسنا على هذا العالم بإعراضنا عنه وزهدنا فيه، كل هذا بغير أن يخطر ببالنا أننا في كل الأحوال نهرب من المتعالي ونوفر على أنفسنا مشقة التفكير الجاد فيه ونؤثر الطمأنينة على عذاب الصعود إليه.
إن أسباب الاعتراض على المتعالي كثيرة كثرة أسباب الهروب منه، فقد يسأل سائل فيقول: إلى أين نرتفع فوق كل شيء؟ أليس ذلك ارتفاعا إلى الفراغ والعدم؟ والجواب على هذا الاعتراض بسيط؛ فنحن حين نرتفع فوق كل شيء فإنما نرتفع أيضا فوق الفراغ والعدم، والارتفاع والعلو بمعناهما الأصيل ارتفاع وعلو على الشيء وضده، أي على الكل والعدم على السواء.
وقد يعترض آخر فيقول: ما لنا نحن وللمتعالي وهو غير معقول ولا سبيل إلى التفكير فيه أو التعبير عنه؟ وهذا الاعتراض قديم قدم أفلاطون، وحديث حداثة المذهب الوضعي، إنه يقوم في أساسه على نزعة كامنة فينا، تجعلنا ننكر المتعالي أو بالأحرى نتنكر له، وربما كان خير اسم نطلقه على هذه النزعة التي تشتد لدى إنسان العصر الحديث هو «زوال المتعالي» أو اختفاؤه من وجدانه.
لنحاول إذن أن نفهم فكرة المتعالي بمعناها الميتافيزيقي الأعم. التعالي فعل شخصي (بكل ما في كلمة الشخصية من وحدة وذاتية وتفرد) يفرد الإنسان ويزيد من فردانيته، هذه الفردانية (وهي بعيدة عن الانعزالية بعد السماء عن الأرض) شيء يكرهه الفهم السليم أو «الكمون سنس» وينفر منه. والتعالي في جوهره انفتاح للفكر واتساع لآفاقه وتجاوز لكل الحدود، والفهم السليم يحب الانحباس بطبيعته، ويستريح للتجمد والقيود. إن العناد من طبعه، وتوكيد الذات دأبه وغايته، فإذا انحبس بين جدران ذاته فلكيلا يعلو عليها، وإذا تجمد في عالمه فلكي يحمي نفسه من المتعالي ويؤكد شعوره بنفسه وسيطرته على الطبيعة. إن من طبيعته أن يقول: كل شيء هو كل شيء ولا شيء هو لا شيء، أو يقول: الكل كل والعدم عدم، وإذا كان كل ما هو عظيم يبهره، فليس ذلك لميله للعظمة، بل لأنه يحب الكثرة ولا يعرف إلا الكم.
هذا الموقف الميتافيزيقي (وهو يظل كذلك وإن أنكر الميتافيزيقا) من جانب الفكر السليم هو في صميمه موقف عدمي (لنذكر تعريف نيتشه للعدمية في كتابه الرئيسي الذي لم يتم «إرادة القوة» بأنها تجريد القيم العليا من قيمتها، أو بأنها موت الإله كما عبر عن ذلك زرادشت)، والعدمية بهذا المعنى هي ضد التعالي ونقيضه، وهي عدمية في تعبيرنا هذا؛ لأنها تنكر كل ما يعلو على الحس وتنفي كل ما يجاوز الطبيعة، وتنفر من كل ما لا تستطيع أن تلمسه وتقبض عليه بيديها.
والحقيقة إن ما نسميه بالفكر السليم لا بد أن ينفي وجود المتعالي ما دام لا يؤمن إلا بالتجربة، وما دام لا يفهم منها إلا أنها كل معرفة يتوصل إليها عن طريق الإدراك الحسي؛ فالمتعالي لا يقع بطبعه في مجال التجربة، وإذا أردنا بالتجربة تلك المعرفة التي نكتسبها عن طريق الاتصال بالعالم الخارجي أو العالم الداخلي، فلا يمكن أن تكون هناك معرفة بالمتعالي. وهذا هو الموقف الذي انساق إليه «كانط» بنقده للعقل الخالص؛ فلقد وجد نفسه مضطرا إلى إنكار تجربة المتعالي، واستحالة معرفته معرفة مباشرة، وكان أن جعله فرضا أو مثالا يرى العقل الخالص ضرورة وجوده، ويحاول بطبيعته أن يقترب منه وإن كان يعلم أنه لن يستطيع أن يدرك حقيقته أو يصل إلى كنهه. نقول: إن «كانط» كان مضطرا إلى اتخاذ هذا الموقف من المتعالي بعد أن حدد موقفه من التجربة؛ فالتجربة عنده هي معرفة الموضوعات عن طريق الإدراك الحسي، أما موضوعية الموضوعات - إن جاز التعبير - فلا يمكن معرفتها إلا بتطبيق أشكال الفهم ومقولاته عليها؛ فليست التجربة تلقيا سلبيا لمعطيات العالم الخارجي، ولا هي فعل تلقائي من أفعال العقل، بل هي مزيج منهما جميعا، ومن هنا عبارة كانط المشهورة: «الموضوعات بغير تصورات عمياء، والتصورات بغير موضوعات جوفاء». المهم أن كانط ينازع في وجود موضوع متعال أو في إمكان التجربة والمعرفة المتعالية، وهو في هذا منطقي مع نفسه ، فما من شيء عنده يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة حتى يستمد من التجربة، ويطبق عليه الفهم أشكاله ومقولاته، ولن يغير من موقفه هذا تسليمه بوجود ما يسميه بالشيء في ذاته (وهو تعبير كشف المثاليون من بعده عن تناقضه البين في الحدود، فما هو في ذاته لا يمكن أن يكون شيئا)؛ ذلك أنه يجعل هذا الشيء في ذاته فكرة أو مثالا للعقل الخالص، يفترض وجوده دون أن يستطيع بطبيعته معرفة حقيقته أو فهم كنهه.
ولسنا في حاجة إلى بيان ما في فكرة المتعالي عند كانط من قصور، فهو - في فهمه لها - ملتزم بالتراث الميتافيزيقي الذي تلقاه عن «فولف» وأتباعه، وهو في نقده لها ملتزم بالمهمة التي أخذها على عاتقه حين أقام بناءه النقدي العظيم، وأراد به فيما أراد أن يكفكف من غلواء هذا التراث الميتافيزيقي ويرسم له الحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها بحال، ولسنا كذلك في حاجة إلى أن نشير إلى القصور الذي نجده في تصور كانط للتجربة على أنها المعطى الحسي الذي ختم عليه الفهم بخاتمه ووضعه في قوالبه ومقولاته، فمعنى التجربة أوسع بكثير من أن تقتصر على المعطى المحسوس، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن التجربة بمعناها الحق لا تكون كذلك حتى تكون تجربة بما لا يعطى أو يحس. ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الفكر أن يفكر في نفسه - فجوهر الفكر في هذا الانعكاس على ذاته - ولا قامت تجربة فنان أو شاعر أو متصوف، ولا تجربة حب أو مخاطرة أو موت، ولو لم تكن هناك تجربة أخرى غير تجربة المحسوسات والعينيات لما استطاع ديكارت مثلا في التأمل الثاني من تأملاته العميقة الصافية أن يذهب إلى أن تجربة الذات لنفسها أكثر يقينا من الأدلة الرياضية، ولما أمكنه بالفكر وحده أن يصل إلى عبارته المشهورة التي ما تزال تحير الناس: أنا أفكر فأنا إذن موجود.
ولتجربة المتعالي درجات تختلف في عمقها وأصالتها، فمن علاماتها أنها تصيب الإنسان حين تصيبه بالدهشة الحقيقية والقلق الحقيقي، فمع الدهشة يصبح الموجود بما هو موجود شيئا غريبا ومفاجئا غير مألوف، شيئا تنظر العين إليه فكأنها تراه لأول مرة، ويدركه العقل فيسأله ما أنت؟ ومن أنت؟ وإلى أين تصير؟ هذا القلق الحقيقي الذي لا يكون قلقا من شيء بل إحساسا غامرا مفاجئا بالضياع تعبر عنه فكرة باسكال المشهورة (الفكرة 212) أجمل تعبير حين تقول: «إنه لشيء مفزع أن يحس الإنسان أن كل شيء يملكه ينزلق منه.»
لنقطع هذا الحديث لحظة لنسأل أنفسنا: هل هناك إذن تجربة بالمتعالي؟ والجواب على هذا السؤال بلا ونعم، الجواب بلا إذا فهمنا التجربة بمعناها الحسي المباشر الذي نفهمه منها كل يوم، والجواب بنعم إذا فهمنا التجربة بمعناها الأصيل، فهي عندئذ انفعال نعاني فيه ما نجربه ونشقى به، بمعنى الانفعال كما فهمه أفلاطون فأطلقه على الدهشة وجعلها جوهر التفلسف وأصله.
فتجربة المتعالي تختلف إذن عن كل تجربة حسية وغير حسية؛ ذلك أن كل ما نجربه مما يقع في العالم من موجودات إنما يقوم على علاقة الذات والموضوع، وما كذلك تجربة الدهشة الحقة ولا تجربة القلق الحق.
فنحن لا نندهش حين نندهش حقا؛ لأن هذا الموجود أو ذاك على هذه الصفة أو تلك، ونحن لا نقلق حين نشعر بالقلق الحق من شيء بعينه نتوقع منه خطرا أو نخشى منه أذى، إننا نشعر بأننا خارج العالم، بعيدين عن نطاق كل ما هو «عالمي» أو يمت إلى العالم بسبب، على نحو ما شعر المتصوفون دائما في الشرق والغرب في تجربتهم بالمتعالي، وفي مقدمتهم أفلوطين، هذا الخروج عن العالم
Ekstasis
هو ما يسميه أفلوطين بالوجد، وذلك في رسالته عن الواحد في نهاية التاسوعة السادسة. والوجد بهذا المعنى اندهاش ونشوة وسعادة قد تصل إلى حد الجنون، والوجد، بالمعنى اليوناني للكلمة، قد يكون من معانيه كذلك الوقوف والسكينة والسكون. وأفلوطين يشير بذلك إلى المعنى الأصلي لهذه الكلمة وهو مغادرة الموضع والتخلي عن المكان أو الخروج منه، أي خروج الإنسان عن ذاته وعلوه عليها وعلى كل علاقة تربطه بالكون وما فيه، هذا الخروج من الذات هو في الحقيقة دخول إليها ورجوع إليها. ولا بد لنا لكي نعيش هذه التجربة أن نجرد لفظتي الدخول والخروج من كل مدلول مكاني يعلق بهما كما لو كنا ندخل من باب ونخرج منه، ولا بد للتجربة من أن تتخلص من كل عنصر كوني أو عالمي، كما لا بد لها أن تتجرد من كل صبغة نفسية أو اجتماعية. إن تجارب الدهشة والقلق الحقيقيين تجارب وجد، أي خروج من العالم وعلو عليه. والدهشة والقلق هما الطريق إلى تجربة المتعالي، أو قل هما التجربة نفسها، وليس معنى ذلك أن كل من يعاني القلق أو يجرب الدهشة فقد جرب المتعالي أو اقترب منه، بل معناه أن كل من يعلو فوق ذاته وفوق العالم فلا بد أن تعصف به ريح القلق وتغلف عينيه سحابة الدهشة.
قلنا: إن المتعالي ليس مما يدخل في العالم، وبالتالي لا يمكن أن يكون موضوعا للفكر؛ لأن هذا يستمد موضوعه من العالم وما فيه، فإذا كان هذا هو شأن المتعالي، فهل يعفينا ذلك من محاولة التفكير فيه والبحث عن اللغة التي نتحدث بها عنه؟ إن المتعالي لا يمكن أن يظهر في اللغة ظهورا مباشرا؛ لأنه ليس ظاهرة من الظواهر على الإطلاق، ولكن هذا لا يعني أن اللغة لا شأن لها به؛ إذ إن المشكلة ستكون عندئذ كيف نعبر باللغة عما يتعذر التعبير عنه بوسائلنا اللغوية المألوفة؟ وكيف نتكلم عما يمتنع بطبعه أن يكون موضوعا للكلام؟
يقول فتجنشتين في رسالته المنطقية الفلسفية: «إن ما لا يستطيع الإنسان أن يعبر عنه، عليه أن يسكت عن الخوض فيه.» فإن صحت هذه العبارة ففيم إذن كان كل هذا الحديث إذا كنا سنلزم الصمت في نهاية المطاف؟ وهل يكون علينا أن نطبق كلمة فتجنشتين الصادقة القاسية على المتعالي وقد قلنا: إنه لا يستطاع التعبير عنه؟ نعم ولا، والمهم بعد كل شيء هو أن نتفق على ما نريد من الصمت، فالصمت لا يقدر عليه إلا من يستطيع الكلام، والحيوان الأبكم لا يقدر على الصمت؛ لأنه لا يستطيع الكلام أصلا .
ومن ثم نستطيع أن نصوغ عبارة جديدة على نحو عبارة فتجنشتين وإن كانت تختلف عنها كل الاختلاف، فنقول: «إن ما لا نستطيع أن نتكلم عنه، لا نستطيع أن نقول عنه: إننا لا نستطيع الكلام عنه»، عبارة محيرة ولا شك! ولكنها على عكس ما قد يبدو من ظاهرها، لا نعرف الخبث ولا نقصد التلاعب بالألفاظ، إنها تنقلنا إلى آخر حدود اللغة، حيث يكون العجز عن الكلام أصدق من كل كلام، ولكن لماذا تقف اللغة الموروثة ويقف الفهم العادي موقف العاجز أمام المتعالي؟
لقد اعتمدنا في نقدنا السابق لما سميناه بالفهم السليم (أو الحس المشترك
Common-sense ) على أن المتعالي ليس شيئا ولا يمكن الحديث عنه أو التفكير فيه كما نتحدث في العادة عن شيء أو نفكر في شيء، وكشفنا عن الموقف غير الميتافيزيقي الذي يقفه ما نسميه بالفكر السليم والذي أوجزناه في هذه العبارة التي لا يفتأ يرددها ويجعل منها شعارا لنفسه: «الكل كل والعدم عدم.»
والواقع أننا لا ننكر أن الفهم السليم قد يتجاوز العالم ويعلو عليه، ولكن هدفه الدائم من هذا العلو هو إثبات العالم. وإثبات العالم عنده هو وليد إثبات الذات التي تريد تحقيق السيطرة على العالم. وإذا حدث له مرة أن فكر في الموت فهو عنده النهاية الظاهرية للحياة، تلك النهاية التي تتبعها حياة لا تعرف الموت، والفهم السليم لا يريد بذلك أن يفهم أن الموت ليس حدثا يختم كل أحداث الحياة ويضع نهايتها، بل هو شيء يحيط بالحياة في كل لحظة، لا بل إن الحياة نفسها من لحظة الميلاد إلى لحظة الاحتضار ما هي إلا موت متصل؛ ولهذا وحده استحقت أن تعاش، فالفهم السليم لا يهمه في الحالين إلا أن يثبت قوته المطلقة ويؤكد سيطرته على العالم. ألا يعتقد أنه يفهم كل شيء أو يستطيع أن يفهم كل شيء؟ فكيف لا يذهب إلى التحكم في كل شيء وإثبات أنه هو كل شيء؟ ألا ينسى الفهم السليم بذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور «كل شيء» بدون أن يتصور العدم و«اللاشيء»، وأنه لا يستطيع أيضا أن يعلو فوق كل شيء حتى يتخلى عن كل شيء؟ وإذن فالعلو الذي يحاوله الفهم السليم - إن حاول على الإطلاق - إنما هو علو فاسد لا يرتفع بصاحبه فوق العالم إلا لكي يعود فيسقطه فيه؛ ذلك لأنه ليس علوا على الذات والعالم من أجل العلو في ذاته، بل من أجل إثبات هذه الذات وتأكيد سيطرتها على العالم.
فإذا لم يكن هذا هو العلو الحق، فأين نجده إذن؟
قلنا: إن العلو يكون فوق كل شيء على وجه الإطلاق، ولا بد لنا الآن من الوقوف عند هذا الشيء الذي نريد أن نعلو عليه.
كل ما هو موجود فهو معين ومحدود، وكل ما هو معين ومحدود فهو محتوى في محل، وكل ما يقال عنه: إنه «في غيره» فهو يقبل العلو عليه، لا بل يلزمنا بهذا العلو ويدعونا إليه، ولكن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن ينتهي بنا إلى شيء أخير، وإلا لزم العلو عليه أيضا، كما لا يمكن أن يفضي بنا إلى ما «في محل»؛ لأن كل «ما في محل» فهو قابل بالضرورة أن يعلى عليه، وعلى ذلك فإن العلو على كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يؤدي إلى شيء أو موضوع، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه شيئا أو موضوعا.
لقد عرفت فلسفة الوجود - وبالأخص عند هيدجر - وجود الإنسان بأنه موجود في العالم، وكلمة «العالم» في أصلها اليوناني واللاتيني تعني
cosmos ، كما تعني
Mundus
على الترتيب، ولكن معناها المكاني ليس هو معناها الوحيد، بل إن معناها الأصلي معنى حضاري اجتماعي يدل على الإنسانية جمعاء. وما زالت كلمة العالم في اللغة العربية تدل على مجموع الناس كما تدل على المكان الذي يعيشون فيه، وقد ظل الناس من عهد اليونان إلى العهد الحديث يتصورون العالم على أنه كرة أو دائرة، وليس المهم في هذا التعبير هو كروية العالم أو دورانه، بل تصور محتو قائم بذاته مكتف بنفسه. وما زلنا نتحدث في لغتنا اليومية عن دائرة الأسرة أو دائرة المجتمع أو محيط السياسة ... إلخ، فلا نقصد بذلك كله دوران الأسرة أو المجتمع بقدر ما نقصد كيانا مستقلا يحتوي على غيره ويتميز عما عداه بالتمام والاكتفاء؛ فالعالم إذن دائرة تامة وأفق محدود يدور فيه وجودنا وفكرنا. ولقد حاول ياسبرز في العصر الحديث (في كتابه عن العقل والوجود) أن يستخرج فكرته عن المتعالي بوصفه الشامل المحيط من فكرة الأفق، بيد أن كل أفق بما هو كذلك يحيلنا إلى ما هو أبعد منه، وكذلك العالم يشير إلى ما هو أبعد منه، لا إلى عالم آخر - لأن هذا العالم الآخر لا بد وأن يشير إلى عالم آخر سواه - بل إلى ما ليس بعالم ولا أفق على الإطلاق. ولكن ماذا عسى أن يكون هذا العالم الذي ليس بعالم ولا من العالم، لا بأفق ولا في أفق، وكيف نجد له اسما؟
سنحاول أن نعبر عما يدل عليه من تحرر وتفتح وانطلاق فنسميه «الانفتاح»، وسنسرع فنقول عنه: إنه لا يمكن أن يكون موضوعا ولا شيئا؛ فكل موضوع أو شيء يكون محتوى في غيره، والانفتاح ليس شيئا ولا في شيء، وهو كذلك يمكن أن يكون موجودا - لأن الموجود يسري عليه ما يسري على الشيء والموضوع - وإن كان من المستحيل كذلك أن يكون عدما؛ إذن فليس لكلمة الانفتاح من معنى إلا أن تكون رمزا أو شفرة نشير بها إلى ما يحتجب بطبيعته عن الإنسان، أعني إلى المتعالي.
هل هذه هي نهاية المطاف؟ أهذا هو الذي سنصل إليه بالعلو؟ لا بد للإجابة على هذين السؤالين من الإشارة إلى ما فيهما من قصور؛ فالمطاف ليس له نهاية، وبخاصة في الفلسفة! والعلو لا يمكن في الحقيقة أن يوصل إلى شيء، وكل ما قد نستفيده من الانفتاح هو أن نقفز منه إلى ما بعده؛ فهو يحيط بكل شيء ويتوغل في كل شيء (تكفي نظرة واحدة إلى السماء ذات النجوم أو الصحراء الشاسعة أو البحر غير المحدود؛ لنشعر بالقشعريرة التي شعر بها باسكال أمام اللانهاية! فما بالك لو أضفنا إلى ذلك معلومات ساعة واحدة نقضيها مع علم الفلك؟) فإذا عدنا إلى سؤالنا الرئيسي: إلى أين يؤدي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق؟
استطعنا أن نجيب بقولنا: إلى الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يؤدي بنا إلى شيء ولا إلى ما يحتوي شيئا، وهنا نعود مرة أخرى إلى فكرة المتعالي بوصفها خروجا - من - أو وجدا، وسنجد أننا لن نستطيع أن نتحدث عن الوجد حديثا شافيا حتى نتحدث عن القلق، ولقد تحدث كيركيكجور ومن بعده هيدجر عن العلاقة الوثيقة بين القلق والعدم فأفاضا في الحديث، ولسنا في حاجة إلى تكرار ما قالاه في هذا الصدد؛ فالقلق تجربة أساسية من تجارب الإنسان، وكلما أحس بالوجد أحس معه بالقلق الذي يصحبه ويلازمه.
ولا بد من التفرقة بين القلق والخوف؛ فالقلق يكمن في شعور الإنسان بخطر يتهدده دون أن يكون هذا الخطر صادرا من شيء أو موضوع بعينه، على عكس الخوف الذي يكون دائما خوفا من شيء أو موضوع، والمهم الآن أن كل تجربة بالوجد تنتزع الإنسان من العالم كما تنتزعه من ذاته لتغوص به فيما يشبه العدم أو الفراغ، وهذا الإحساس بأنه ينتزع من نفسه يحمل في طياته معنى الفزع والجزع والقلق.
وإذن فتجربة المتعالي لا بد وأن تنطوي على القلق، وفي القلق يشعر الإنسان بأن كل شيء يصبح عدما أو أشبه بالعدم، وأنه ينزلق منه، يتسرب من بين يديه، يغوص معه في لجة معتمة، نقول: يشعر الإنسان، ولا نقول: «كل» إنسان؛ ذلك لأن الإنسان «العملي» من أصحاب «الفهم السليم» - الذي تحدثنا عنه فيما تقدم - لا يمكن أن يعاني الإحساس بالقلق؛ لأنه لا يحس أصلا بمعنى العدم؛ فالعدم في نظره عدم، أعني أنه لا يستحق منه أن يفكر فيه أو يحفل بأمره، وفهمه له على هذا النحو وقوف عند أدنى مستويات الفكر، أعني عند مرحلة العدم = لا شيء، وما ليس بشيء فهو أقل من أن يستحق منه تعب التفكير فيه لحظة واحدة، والنتيجة المحتومة أن يصبح القلق عند أصحاب الفهم السليم هو الآخر عدما ، فيغلق أبوابه من دونه ليريح نفسه ويستريح.
بلغنا حتى الآن نقطتين هامتين نود أن نشير إليهما قبل الانتقال إلى غيرهما:
أولا:
كل ما هو موجود فهو موجود «في».
ثانيا:
كل ما هو «في» فهو قابل لأن يعلى عليه.
ورأينا كيف أن ضرورة العلو فوق كل ما هو «في» تتضح من المثال الذي سقناه عن العالم بوصفه دائرة أو كلا مغلقا على نفسه، يشير باستمرار إلى ما يعلو عليه ويتجاوزه، أعني إلى ما ليس بعالم ولا يمكن أن يكون في عالم، وهو ما سميناه بالانفتاح، وجعلناه رمزا أو شفرة للمتعالي. فكل تعال هو في نفس الوقت تعال فوق كل ما هو «في» سواء في ذلك أكان هو العالم أو الوجود أو المطلق أو الروح ... إلخ. ولكن علينا قبل أن نستطرد إلى نقطة أخرى وأن نحدد بقدر الطاقة ما نريده من حرف «في»؛ فهو يستخدم في الأصل ليدل على المكان، كما نقول: الماء في الزجاجة، والضيف في الحجرة، والميت في القبر، وقد يستعار للدلالة على علاقة زمنية وتبقى الدلالة المكانية على ما هي عليه، وإن أصابها شيء من الشحوب، فنحن نقول: «في» الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ونستخدمها في الكلام عن الباطن والنفس والروح، وبالجملة على ما ليس في مكان ولا يمكن أن يدخل في محل. ونحن نقول كذلك: إن الوجود بعامة إنما يلحق بالموجود ويكون «فيه»، ولا يستطيع فكرنا أن يتصور موجودا أيا كان حتى يتصوره على نحو من الأنحاء «في» ... ولن أستطيع - كما أوضح كانط - أن أتصور جسما بغير أن أتصوره في مكان. وكذلك الأمر بالنسبة للزمان؛ فأنا لا أستطيع أن أتصور حدثا من الأحداث حتى أتصوره واقعا «في» زمان. ولا أستطيع أن أتصور حدثا بغير زمن، يشترك في ذلك كله المحسوس والمعقول، المادة والفكر، والواقع والمتخيل، فكلها تحل على نحو من الأنحاء «في»، وإلا تعذر على فكري المحدود أن يتصورها أو يفكر فيها. بل إن في وسعنا أن نقول: إن هذا الحرف الضئيل «في»، الذي لا يكاد يحتمل غمضة عين ليصفه جامع الحروف في المطبعة وأقل من غمضة عين ليقرأه القارئ ؛ هذا الحرف من العظم والشمول بحيث يزيد على «الوجود» نفسه، وهو أكثر الصفات تعميما.
يمكننا الآن أن نقول: إن مشكلة المكان - التي عبرنا عنها بحرف «في» - تؤدي بنا إلى مشكلة التعالي، وقد تعيننا على إيجاد حل لها؛ فكل امرئ منا يذكر المكان حين يذكر الزمان، كما يذكر الزمان حين يفكر في المكان. إنه يضعهما إلى جانب بعضهما ولا يخطر له واحد بدون الآخر؛ فالمكان هو نظام التجاور أو وجود الأشياء إلى جانب بعضها، والزمان هو نظام التوالي أو تلاحق الأحداث إثر بعضها، كل هذا يعرضه كانط على وجه التفصيل في الجزء الأول من كتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص» تحت عنوان الإسطايطيقا الترنسندنتالية. وما يقوله كانط وتؤكده بعده فلسفة الوجود يتصل اتصالا وثيقا بمشكلة تناهي الإنسان (التي يدور حولها تفكير كانط النقدي كله) التي تتصل بدورها بطابع الزمانية والفناء الذي يميز الإنسان.
ولقد سبق باسكال فلسفة الوجود في هذه الناحية أيضا، حيث يقول على سبيل المثال في الأفكار: «أرى الغرفات المفزعة للكون وأجلس مقيدا في زاوية منه»، وباسكال بهذه العبارة وأمثالها (وكلها تجعل منه الأب الشرعي لفلسفة الوجود) يشير إلى مشكلة أساسية من مشكلات الإنسان، فهو لا يعرف لماذا كتب عليه أن يقبع في ركن من العالم دون غيره (الفكرة 205). ولقد سبق باسكال أيضا إلى هذا التعبير نفسه، وإن كان الوجوديون قد زادوا الكلمة تفصيلا وربطوها بتحليلات الوجود.
والمهم في هذا السياق هو أن الزمانية تعبر عن تناهي الإنسان بأكثر مما تستطيع المكانية؛ فالزمانية من عهد عازف القيثار الفرعوني وسليمان الحكيم ترادف في ذهن الإنسان معنى التناهي والفناء، والزمان ينقضي دائما من ماض إلى حاضر إلى مستقبل، أو لنقل على وجه التحديد: إن الحاضر وحده هو الذي يصبح ماضيا كما يولد منه المستقبل، ولكننا لا نستطيع في أية لحظة أن نقول: إن هذا هو الحاضر؛ لأنه سرعان ما يكون عندئذ قد أفلت وصار ماضيا، وإن كنا نربط الزمان بالتناهي ، فباستطاعتنا أن نربط المكان باللامتناهي. وتعريفنا للتعالي باعتباره علوا فوق كل شيء - على وجه الإطلاق - يقوم في أساسه على تصورنا للمكان؛ لأنه في حقيقته علو على المكان بكل ما يحل فيه من أشياء إلى ما ليس بمكان، ولا يمكن أن يحل في مكان.
وإذا سأل الآن سائل: إلى أين نعلو حين نعلو على المكان؟ فإنا سنحار عندئذ بماذا نجيب؛ ذلك أن المكان في الحقيقة أشمل من الزمان. ألسنا نطبق العلاقات والمقولات والأبعاد المكانية على الزمان، كما في قولنا مثلا في الحاضر، أو في الماضي والمستقبل، ولكن لا نفعل العكس؟ ليست هذه بالطبع هي الإجابة المنتظرة على سؤالنا عن طبيعة المكان، فما هو المكان إذن؟ وماذا نقصد بظاهرة المكان بما هي كذلك وبالإضافة إلى مشكلة المتعالي؟
للمكان دلالتان: فهو يدل مرة على رقعة بعينها تكون محلا لحركة من موضع إلى موضع، كما يدل مرة أخرى على المحل الذي يحده حد، والواقع أن المكان كما نفهمه اليوم، بمعنى الخلاء الذي يحيط بالعالم؛ لا يدل على المعنى الأصلي للكلمة؛ فليس في هذا المعنى الأخير أثر للفراغ أو الخلاء ولا للامتداد أو الاتساع؛ ذلك أن المكان الحر الخالص المفتوح أسبق من المكان الممتد الذي يحيط بالعالم أو تحيط به الحدود، هذا المكان الخالص - المكان الباطني العظيم الذي يحمله كل إنسان في ذاته - هو الذي يتحدث عنه شاعر مثل رلكه في «مراثي دوينس»، حيث يبدأ المرثية الثامنة بقوله: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح.
هذا المكان الذي يبصره الشاعر في وجوه الأطفال والحيوانات؛ مكان تحرر من الموت ومن كل القيود والأشكال، ينتقل فيه الإنسان كما ينتقل في رحاب الأبدية، وهو المكان الذي يتحسر عليه الشاعر أيضا حيث يقول:
نحن لا نجد المكان الخالص يوما واحدا أمامنا.
حيث تتفتح الورود بغير نهاية.
هنا يضع «رلكه» المكان الذي تتفتح فيه الورود في مقابل المكان الذي يحيط بالعالم، فهو مكان لا يعدم النور أبدا، تستقبل الورود فيه الشعاع؛ فتتفتح وتزدهر وتشرئب نحوه.
علينا أن نفهم المكان بمعناه الأوسع، ظاهرة أولية تظهر نفسها بنفسها، أو ظاهرة أصلية كما قد يقول شاعر آخر مثل جوته؛ فالمكان هنا تفتح وحرية، لا فراغ أو خلاء، وفهمنا له على هذا النحو ينبع من فهمنا للمتعالي كما يصب فيه.
ولكن ما هو هذا المكان الحر الخالص المنفتح المنير؟
سيقول الشاعر: إنه لا حدود له حيث لا يوجد النور، بعكس العالم أو المكان الكوني الذي قد يوجد حيث يسود الظلام وينعدم النور، وقد نزيد على ذلك فنقول: إنه المكان الذي لا تحده الحدود؛ لأنه يعلو على كل ما هو معدوم وموجود. إنه بعبارة أخرى: مكان بلا مكان، هو الانفتاح الخالص الذي تتحدث عنه المرثية الثامنة لتقول: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح، ونحن لا نستطيع أن نعطي هذا الانفتاح الذي يتحدث عنه الشاعر اسما وإلا حددناه بالقول ووضعناه هو نفسه في مكان. «فما نسميه تسمية عاجزة بالانفتاح لا يعرف النوافذ والجدران، إنه لا يوجد «في» وليس له عالم ولا صلة له بما يوجد في العالم»، بل الحقيقة أننا لا نستطيع أن نتحدث عنه على الإطلاق، وكل ما نملكه هو أن نترك الانفتاح ينفتح، إن صح هذا التعبير، أعني أن نجربه تجربة باطنية لا أن نطلق عليه اسما من الأسماء.
ليس من الصعب أن نخلص مما تقدم إلى هذه النتيجة: إن المكان هو راموز المتعالي أو شفرته، وقد كان علينا - لنصل إلى هذه العبارة - أن نبين أن ما نقصده من المكان لا يقتصر معناه على عالم الأجسام ولا على الخلاء المحيط به من كل جانب؛ فاستبعدنا المكان بمعنى صورة عالم المادة والأجسام أو صورة العيان الأولية كما سماه كانط، وبمعنى الوعاء الذي تتلامس فيه الأشياء وتتم فيه علاقات الحركة من موضع إلى موضع؛ ذلك أن تصورنا للمكان جاء من فعل «التمكين» نفسه - إن جازت هذه الكلمة - أي من إعطاء المكان لا من الإحاطة به وتطويقه.
وهنا يواجهنا سؤال بعد سؤال، وبخاصة إذا عرفنا أن المكان لا يذكر بمعزل عن الزمان، فما هو أصل المكان والزمان؟ هل هناك جذع شجرة مشتركة يتفرعان منها؟ وأين نجد هذه الشجرة؟ وفي أي أرض؟ ومن أين نفهم إحساس الإنسان بالتناهي؟ أمن شعوره بأن المكان غير محدود في حين أنه هو نفسه محدود؟ أم من شعوره بأن الزمن الذي يفنيه هو نفسه لا يفنى؟ وإذا كانت فكرة اللاتناهي لا تزال تشغله وتؤرقه ولن تزال كذلك ما بقي على الأرض إنسان، فهل يأتي تصوره للاتناهي من رهبته أمام المكان الأبدي الصامت كما يعبر باسكال؟ أم من خوفه من الزمان والدهر الذي يفني كل ما فيه؟
من الخير عند الإجابة على مثل هذه الأسئلة أو محاولة الجواب أن يعود المرء إلى أول من سألوها على الإطلاق؛ فقد سألت الفلسفة اليونانية وهي في مهدها الأول: ما هو الوجود «وهو السؤال المشهور: تي تو أون»، وعبرت الفلسفة الحديثة على لسان ليبنتز عن نفس السؤال في هذه العبارة: لم كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟ في كلا السؤالين استفسار عن الموجود، ينبعث عما سماه اليونان ال «لتاومازين» أو الدهشة، والدهشة التي دفعت إليهما كانت دهشة من وجود الموجود على الإطلاق، لا من كيفية وجوده أو علته، ولا من قصر عمره أو تناهيه، إنهما لا يسألان عن الزمان أو الأبدية، لا يقولان مثلا: لم كان زمان ولم تكن بالأولى أبدية؟ ولا يقولان: ما هو التناهي وما أصله على الإطلاق؟ وليس معنى هذا أن هذه الأسئلة هينة الجواب أو غير جديرة بالسؤال، وليس معناه أننا نجد الحل الحاسم لها حين نفر منها بوجه أو بآخر، حتى ولو كان هذا الفرار عبقريا «فما زال التعبير اليوناني القديم عن دائرة الزمن التي لا تبدأ ولا تنتهي، ولا تكون ولا تفسد، والذي أخذه نيتشه في العصر الحديث فزاده عمقا وزادنا حيرة في تفسيره، وأعني به تعبيره المشهور عن عودة الشبيه الأبدية، أقول: إن هذا التعبير ما زال يحيرنا ويبعدنا عن الجواب أكثر مما يقربنا منه»، بل معناه أننا نقدم المكان على الزمان، كما نعترف له بالأسبقية عند مناقشتنا لمشكلة المتعالي.
وهنا نعود للكلام عن «المكان الخالص».
فما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟ هل معناها المكان الخالي من كل شيء المجرد عن كل جسم؟ لا شيء من ذلك، وإلا فهمنا المكان بمعنى الخلاء، الأمر الذي نفيناه من قبل. إن كلمة «خالص» تفيد من دلالتها اللغوية معنى النقاء وعدم الامتزاج بعنصر غريب، والمكان الخالص ليس شيئا غير ما سميناه بالانفتاح.
وكلاهما يكون وحدة جوهرية بسيطة، إنه يختلف عن المكان الذي «تكمن» فيه الأشياء، ولكن مكان الأشياء أو العالم أو الكون لا يمكن تصوره بغير المكان الخالص، فما الفرق بينهما إذن؟ «المكان الخالص» هو الذي تجرد عن «أين»، ولم يعرف «هنا» أو «هناك»، بعكس المكان الذي يحوي الأشياء ولا يمكن تصوره بغير «أين»، أي بغير أن يكون هو نفسه محتوى في مكان سواه.
وقد رأينا أن كل ما هو موجود فهو شيء، وكل شيء فهو في «أين»، بل كل فكرة فهي «في» ...
ولكن ماذا عسى أن يبقى من مكان سقطت منه «أين»، وفي أي عالم نجده وفي أي كون، والعالم والكون لا يمكن تصورهما بغير «أين»؟ إنه إن كانت قد سقطت عنه «أين» فقد بقيت منه «في» خالصة وباطنة، ولا تعرف الموضع ولا المحل، فالمكان الخالص إذن باطن خالص لا ظاهر له؛ وبالتالي لا يمكن التعبير عنه، كما لا يمكن للباطن أن يتخذ شكلا أو يظهر في مظهر.
من المكان الخالص بهذا المعنى تصل إلى العلو، إنه بلوغ الباطن الذي لا ظاهر له. والباطن الذي نعنيه يعلو بدوره على كل باطن وظاهر قد تعبر عنه لغة أو يلفظ به لسان.
هل سينتهي بنا فعل التعالي إلى الباطن؟
الأمر كذلك بالفعل، وليغفر لنا القارئ ما في هذه العبارة من مفارقة: إن التعالي هو في الحقيقة تعال إلى الأعماق.
ونعود الآن فنسأل: ما هو هذا التعالي أو العلو؟ ومن الذي يقوم به؟
الحق أن طبيعة العلو تبدو من الوهلة الأولى بسيطة غاية في البساطة؛ فالذهن ينصرف عند التفكير فيه إلى أمور ثلاثة: ذلك الذي نحاول أن نعلو عليه، وذلك الذي نريد أن نعلو إليه، وأخيرا ذلك الذي يعلو ويعاني عملية العلو نفسها .
ولكن من هو الذي يعلو ويعاني تجربة التعالي؟
العلو فعل، وكل فعل يفترض من يقوم به، والقائم به هنا هو الفرد الذي يعلو بالفكر ويحقق بذلك الفعل الفلسفي، أي الإنساني الأصيل، وقد يتبادر إلى الذهن أن المراد به ذات متماسكة ترتفع من منطقة إلى منطقة تعلو عليها.
والاعتراض الشكلي البسيط على هذا نجده في تعريفنا السالف للتعالي، فالذي يعلو على كل شيء يعلو بالضرورة كذلك على ذاته، على أن العلو على الذات ليس فرارا منها ولا إلغاء لها، وسنلجأ إلى ضرب من المفارقة في التعبير حين نقول: إن الإنسان الذي يعلو على ذاته هو وحده الذي يعود إليها بحق، ومصداق هذا هو ما نجده في تجربتي: الدهشة والقلق؛ ففي الدهشة الحقة، عندما يفتح الإنسان عينيه فجأة على الوجود فيسأله: ما أنت ولم وجدت ولم تكن بالأولى عدما؟ يتجلى كل شيء كأنه يستحم في نور جديد، ويصبح كل ما اعتدناه شيئا غريبا غير مألوف.
وكذلك الأمر حين يفاجئنا الإحساس بالقلق فنشعر بأننا نعلو على كل شيء، بل بأننا نعلو على قلقنا نفسه، وأن كل شيء ينزلق منا كما يقول باسكال، وفي تجربة الوجد التي تحدثنا عنها شاهد على ذلك.
فقد رأينا - فيما تقدم - أن التعالي يحمل طابع الوجد أو الجذب، أي أنه حال يخرج فيها الإنسان عن نفسه وعن العالم كله، فهل يكون التعالي بذلك فعلا كبقية الأفعال التي تجري في الزمان؟ لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن الزمن نفسه يعلى عليه، أين إذن يحدث هذا العلو؟ في اللحظة، فجأة وعلى غير انتظار، وقولنا «يحدث» اضطرار يدفع إليه قصور اللغة، فليس هنا ثمة حادث يتم في زمان؛ لأن الزمان لا بد أن يعلى عليه، ما دمنا سنعلو على كل شيء، وبالتالي على الزمان.
كذلك فإن التعالي ليس فعلا من أفعال الذات.
ومعنى هذا أن التعالي لا يقوم به الإنسان بنفسه، بل يحققه ذلك «الآخر» الذي نحاول العلو إليه، وإذا شئنا الدقة وجب علينا - كما تقدم - أن نفكر في الإنسان من ناحية المتعالي لا العكس، وهنا لا نكون في حاجة إلى القول بأن الإنسان «يعلو»، بل ينبغي عندئذ أن نقول: إنه «يعلى به»، وليس معنى هذا أنه سلبي مستسلم ينتظر اليد التي ترفعه فوق السحاب، بل معناه أن التعالي ليس على الحقيقة فعلا من أفعاله، يقوم به متى شاء وكيف شاء «وإن يكن قد عانى كل ألوان المشقة وتخلى عن كل ما يشغله من هذا العالم؛ لكي يكون على استعداد لتلقي شعاع واحد من نوره»، وليس معناه أيضا أننا نلغي الذات الإنسانية أو نمحوها؛ لأن الذي يعلو فوق ذاته هو وحده الذي يستطيع أن يعود إليها بحق.
لا بد الآن أن القارئ يسأل: ولكن كيف يعود من يعلو على نفسه أول ما يعود إلى نفسه؟
إن الإنسان الذي يعاني تجربة المتعالي إنسان وحيد، وحدته هذه ليست اعتذارا عن تعاسته؛ لأنها وحدة مع الواحد، وليست وحدة فاسدة لمن يعيش بمفرده بعيدا عن الآخرين. ولا أحسبني في حاجة لبيان الفارق الكبير بين الوحدة والانفراد؛ فالوحدة معناها الذي نفهمه هنا لا تنفصل عن الجماعة؛ لأن الوحيد وحدة أصيلة هو في نفس الوقت من يعيش مع الآخرين، أما المنفرد فهو الذي يعيش حقا «وحيدا» بمفرده، ولكنه يتلفت بقلبه على الدوام صوب الآخرين.
فليس انفراده في الحقيقة تفردا أصيلا، ولو عاش بين جدران أربعة، إنه يفتقدهم دائما ولا يستطيع أن يستغني عنهم لينفرد بحق مع من لا يصح الانفراد بأحد سواه، وأعني به الواحد الآخر الهو، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى العودة إلى المفارقة لنقول: إن الوحيد بحق هو من لا يعيش وحيدا، ولقد كان أفلوطين - كما قدمنا - هو أول من عاش حياة الوحدة، ولكنه لم ينطو على نفسه أو ينعزل عن الناس، بل عاش - على حد تعبيره - «وحيدا مع الواحد»، فالوحيد حر لا تربطه صلة بأي شيء أو أي موجود، وقد نستطيع أن نصفه بصفة صوفية أصيلة، فنقول: إنه عريان عن كل شيء، فهو مستغن عن كل شيء؛ لأنه غني «بالكل» عن كل شيء، وهو متحرر من كل شيء؛ لأن باطنه متصل بأصل الأشياء جميعا، مكتف بالوجود نفسه عن سائر الموجودات.
بهذا المعنى الأصيل للوحدة نجد الصلة الوثيقة بما سميناه بالانفتاح، فنحصل على راموز أو شفرة جديدة للمتعالي، ألا وهي الحرية، وهنا أيضا يفاجئنا اعتراض خطير: إلى أين يفضي بنا العري عن كل شيء إن لم يكن إلى الفراغ؟
ونرد على هذا الاعتراض قائلين: إن خلاص الإنسان من كل صلة بالموجود، هو في الوقت نفسه ارتباط بالمطلق، أي أن وحدته بعيدا عن كل موجود، هي في حقيقة الأمر وحدته مع الواحد الموجود، والإنسان لن يستطيع أن يكون وحيدا وحدة حقيقية إلا في لحظة - وأقول في لحظة - علوه فوق كل شيء على وجه الإطلاق، هنالك يتفتح له سر هذا الشيء الغامض الذي كافحت الإنسانية على مر الأجيال لتؤكده، ألا وهو الشخصية، وليس معنى هذا أنه يكتشف في تجربة العلو أنه فرد فريد وحسب، بل معناه أن العلو أو التعالي فعل شخصي محض، لا بل هو الفعل الشخصي الذي لا يستطيع أحد أن يعاوننا على مكابدته أو ينوب عنا فيه. مثل تجربة العلو في هذا كمثل تجربة الموت، إن صح أن للموت تجربة؛ فليس لأحد أن يحتمل عنا عذابه أو ينوب عنا ساعة الاحتضار، كتب علينا أن نموت وحدنا، كما كتب علينا أن نحقق تجربة العلو وحدنا.
إذن فلا تعالي بغير وحدة، ولا وحدة بمعناها الأصيل بغير تعال، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك أن يكون وحيدا وحدة كاملة؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعلو على ذاته وعلى العالم، أي إلى معنى هذا العالم وقيمته العليا التي لا يمكن - حتى من الناحية المنطقية البحتة - أن تكون قائمة في داخله، كما يلاحظ فتجنشتين بحق في نهاية رسالته المنطقية الفلسفية، وهو على الرغم من كل ألوان التعاسة التي يلمسها كل يوم، يملك تلك الغريزة التي لا يستطيع - على حد قول باسكال (الفقرة 411) - أن يكبتها في نفسه ، والتي ترفعه - على الرغم من كل شيء - فوق كل شيء؛ سيعجز حين يصل إليه أو يظنه أنه وصل إليه عن التعبير، وسيجد أن المضمون الحق يمتنع أصلا على التفكير، وأن الواحد الفرد المفرد - أو ما نشاء له من أسماء - لا يمكن أن يكون موضوعا للتفكير المنطقي المستمد من العقل، ملكة الحساب والاستنتاج والترتيب (ليس معنى هذا أننا نغض من شأن العقل، فهو أساس كل تفكير علمي، ولولاه ما كان علم فزيائي ولا رياضي، ولا قامت حضارة ولا صناعة)؛ ذلك لأن الفكر الحق لا يفكر في موضوعه، ولا يجعل منه موضوعا يقابل الذات المفكرة لتقبل عليه بالتفسير والتحليل والتعليل، وتقع في شباك الصراع الأزلي بين الذات والموضوع، إنه يصطدم بالموجود الحق، أو قل: يشتعل به ويتقد. كذلك كان يفكر بارمنيدز وهيراقليطس وأفلاطون حتى يصل هذا الفكر إلى ذروته عند أفلوطين ومن بعده من متصوفي الشرق والغرب، فالفكر عندهم هو - قبل كل شيء - تجربة وجد وانفعال وحماس، وهو في صميمه تجربة اندهاش بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي جعلها أفلاطون أصل كل تفلسف، أمس واليوم وغدا إلى أبد الآبدين، هنالك يفقد الإنسان نفسه ويجدها، يحترق ويصفو، يتعذب ويصمت.
هل بقي في زمن أصبح يعادي المتعالي ويعانده بكل قوته - ربما لأنه يخافه ويهرب منه - من لا تزال لديه المقدرة أو الرغبة في العلو إليه؟ وهل نجد بيننا من يحتمل مشقة العلو على العالم والمجتمع والعصر، لا لأنه يتعالى عليه أو يفر منه، بل لأنه يريد أن يجرب الحياة كأنما ولد فيه من جديد، ويبذل جهده لكي يحبه ويفهمه ويغوص بحق في جذوره وأعماقه؟
من يدري؟
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
بالدهشة نخطو الخطوة الأولى على طريقها الطويل، نسأل الموجود: ما أنت؟ من أين أتيت؟ وإلى أين تصير؟ لم وجدت ولم تكن بالأولى عدما؟ نحن جميعا مطالبون بالسير على هذا الطريق الذي قد لا يكون له آخر وقد لا يبدو له هدف، إنه طريق يسير عليه الإنسان ولا يدري إن كان «سيصل»، فهو لا يعرف هنا معنى لكلمة «الوصول»، إنه يحمل على ظهره منتهى شجاعته ومنتهى حزنه ، يتخبط في ليل السؤال ولا يدري إن كانت ستشرق عليه شمس الجواب، كلمة «لماذا» هي عصا الوحيد على الطريق الوحيد، تلمس الحجر فتنبت له عينان تستفسران: من أنا؟ ما أصلي؟ وما نهايتي؟ وتمس الحيوان فيرتعش، يفيض السؤال البريء من النظرة البريئة: هل تعرف إلى أين؟ وتهز عقل الإنسان وقلبه فيفتح عينيه كما فتحهما آدم على الوجود أول مرة ويسأل: من هو الإنسان؟ ماذا أريد من العالم؟ وماذا يريد العالم مني؟
نقول: إن الدهشة أصل الفلسفة، ويوشك القارئ أن يسأل: وهل تحتاج الكلمتان إلى تفسير؟ أما الدهشة فأراها كل يوم، في العيون المفتوحة والحواجب المرفوعة والأفواه الفاغرة، وأما الفلسفة فأقرأ عنها في كل مكان، وأستطيع أن أتتبع تاريخها في كل مكتبة، وألم بماضيها وحاضرها في بضعة أيام، غير أن من الكلمات ما يعاني نفس المصير التعس الذي عانته الكلمات على يدي محدثي سقراط، فكلهم كان يدعي معرفتها، فإذا به ينتهي إلى اكتشاف جهله بها، كل لسان يلوكها وكل قلم يجري بها يسدل عليها ستارا جديدا من النسيان ويلفها في سحابة من الغموض.
لن نعرف الطريق إلى الكلمة حتى نبدأه من أوله، ولا طعم القطرة حتى نعود بها إلى منبعها، وأول فم نطق بكلمة الفلسفة كان فما يونانيا، فلنحاول أن نستمع إليه كما خرج منه أول مرة، ولنحاول أن نفتش عنه تحت أكوام المعارف التي تنهال عليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا.
حين نسمع الكلمة في أصلها اليوناني نجدها تقول: «فيلوسوفيا»، الكلمة الآن تتحدث بلسان يوناني، وتحدد بنفسها الطريق، الطريق يمتد أمامنا، فهناك دهر طويل يفصل بيننا وبين من نطق بها لأول مرة، والطريق يمتد من خلفنا، فقد طالما سمعناها وأجريناها على أفواهنا، وهو في الوقت نفسه طريق نسير عليه وما نزال نتابع المسير، ولكن ما أقل ما نعرف معالمه، برغم كل ما نعرفه عن الفلسفة اليونانية من حقائق وما نقرأ في تاريخها من بحوث.
1
الكلمة اليونانية تقول لنا أيضا: إن الفلسفة هي التي حددت وجود اليونان في فجر حضارتهم، وليس ذلك فحسب، بل إنها هي التي حددت ملامح التاريخ الغربي الأوروبي، والواقع أن عبارتنا «الفلسفة الغربية الأوروبية» هي من قبيل تحصيل الحاصل، لماذا؟ لأن الفلسفة في صميم جوهرها ونشأتها يونانية، فحين نقول إن الفلسفة يونانية فإنما نعني أنها مست قلب اليوناني وعقله، واليوناني وحده، وسيطرت أول ما سيطرت على روحه؛ لتطبعها وتطبع الروح الأوروبي من بعده حتى يومنا هذا؛ فعبارة «الفلسفة في صميم جوهرها يونانية» لا تريد إلا أن تقول: إن تاريخ الغرب وأوروبا - وتاريخهما وحدهما - في صميمه فلسفي، ونشأة العلم وسيادة الصنعة الفنية «التكنيك» في أيامنا هما دليلنا على هذا، إنهما الزهرتان الشائكتان اللتان تنحدران من جذور الشجرة اليونانية.
2
ما كان للعلم أن يقوم لو لم تسبقه الفلسفة، ولن نعرف ما الذرة والصاروخ حتى نعود إلى السؤال الذي ألقاه الحكيم اليوناني الأول: ما هذا «الوجود»؟ إن كلمة الفلسفة - كما يقول هيدجر - مكتوبة على شهادة ميلاد أوروبا والغرب، وفي استطاعتنا لا بل من واجبنا أن نقول: إنها مكتوبة على شهادة ميلاد عصرنا الذي نسميه في رهبة وإشفاق بعصر الذرة.
بالسؤال: «ما هذا؟» نحاول أن نحدد «ماهية» الشيء، فحين نسأل: ما هذا الذي يبدو على البعد؟ ونتلقى الجواب: إنه شجرة، ثم نعود فنسأل: وما هو هذا الذي ندعوه شجرة؟ فإننا نكون قد اقتربنا من طريقة اليونان في السؤال، أي اقتربنا من الفلسفة. هكذا كان يسأل سقراط وأفلاطون وأرسطو، إنهم يسألون: ما هذا الذي نسميه بالجمال؟ وما هذا الذي نسميه بالمعرفة والطبيعة والحركة؟ إن السؤال عن «ما هو الموجود؟» ليس سؤالا من أسئلة، ولكنه «السؤال» الذي طبع الروح الغربي من المهد حتى لحظتنا الراهنة، فسؤالنا «ما هو» سؤال عن ماهية شيء، عن جوهره وحقيقته، والسؤال عن الماهية يستيقظ في عقل الإنسان وقلبه حين يصيب الاضطراب والغموض ماهية ما يسأل عنه، وحين تهن صلته به أو تهدد بالضياع والانهيار، فسؤالنا إذن عن ماهية الفلسفة ينبع من إحساسنا بأن الفلسفة نفسها أصبحت موضع السؤال، إنه يصدر عن شعور بالمحنة، محنتنا نحن، السائلين والمسئولين جميعا ؛ ذلك لأن الفلسفة لا تصاب بالمحنة. والذين يحلو لهم أن يتحدثوا عن محنة الفلسفة إنما يتحدثون عن محنتهم هم، عن عجزهم عن الاتصال بروحها وانقطاع الأسباب التي تربطهم بما هو حق وباق وخالد، وكم مرت المحن المزعومة - من جانب الفلاسفة قبل كل شيء - كما تمر السحب على وجه الشمس.
دار بنا الحديث في دائرة، كنا نسأل عن أصل الفلسفة، فساقنا الحديث إلى ماهيتها، ثم إذا بنا نتهم أنفسهما ونتهم غيرنا بأننا نعيش من إهمال السؤال عنها في محنة. ولكي نعرف سر هذه المحنة لا بد لنا من معرفة ذلك الذي أدرنا ظهورنا له، وعصبنا أعيننا عن رؤيته حتى تعثرنا في المحنة، أعني لا بد لنا أن نعود فنسأل: ما هي الفلسفة؟
الكلمة اليونانية «فلسفة» تعود إلى كلمة «فيلسوف»، كان أول من استخدم هذه اللفظة الأخيرة وطبعها بطابعها هو هيراقليطس، ومعنى هذا أن كلمة الفلسفة لم توجد بعد عند هيراقليطس، وكل ما نجده لديه هو كلمة الفيلسوف، مستخدمة استخدام الصفات،
3
فالفيلسوف عنده هو الذي يحب «السوفون»، والحب عنده فعل يحاول به المحب أن يطابق بينه وبين المحبوب، فيتحدث كما يتحدث «اللوجوس»، ويعيش ويفكر في «هارمونية»، أي في انسجام وتجانس معه، ومن العسير أن نعرف، على وجه الدقة، ما يريده هيراقليطس بكلمة «السوفون»، إنه من أعقد الفلاسفة وأشدهم غموضا، حتى لقد سماه الأقدمون بالمظلم، ولكننا نستطيع أن نعتمد على هيراقليطس نفسه: «إن لم يسمعوني واستمعوا إلى اللوجوس (المعنى، الجوهر، الكلمة) فسيكون من صواب الرأي أن نقول بما يطابق الحكمة: إن الواحد هو الكل»، أما «الكل» فيعني هنا كل ما هو موجود، وأما «الواحد» فتعني الواحد الفريد المتوحد، كل الموجودات متحدة في الوجود، والسوفون تعني إذن كل موجود في الوجود، أو بعبارة أشد حدة: الوجود هو الموجود، ورابطة الكينونة المضمرة في الجملة الأخيرة متعدية، نستطيع أن نترجمها بقولنا: إن الوجود يجمع (يكون) الموجود، فيكون الوجود بهذا المعنى هو التجميع «اللوجوس»، قد تبدو لنا هذه العبارة تافهة، وقد نحسب أن كل ما يوجد فهو بطبيعته مشترك و«مجتمع» في الوجود، ومع ذلك فقد كان اجتماع الموجودات في الوجود وبقاؤها فيه هو الذي أثار الدهشة في عيني اليوناني القديم (أقول في عينيه ولا أقول في سمعه أو قلبه؛ ذلك أن فلسفة اليونان كلها فلسفة رؤيا وتأمل، وكلنا يعرف منزلة العين عند أفلاطون وأرسطو، من يدري في أي اتجاه كان يمكن أن تسير الفلسفة والفكر الغربي كله لو أن اليوناني أصغى سمعه وخشع بقلبه بدلا من أن يفتح عينيه ليسأل ما الوجود؟ فينتهي به السؤال إلى السيطرة عليه والتحكم فيه؛ هذه السيطرة وهذا التحكم اللذين وصلا إلى قمتهما فيما نسميه اليوم بالروح العلمية أو الروح الوضعية).
هذا الذي أدهش اليونان حاولوا أن يحموه وينقذوه ممن لا يحس بالدهشة، من حكماء السوق، من السفسطائي الذي يعرف لكل مشكلة حلا ويجد لكل سؤال جوابا، ولم يكن من سبيل إلى إنقاذ الدهشة إلا بالصعود في طريق المدهش، فأصبح الحكيم هو الذي يسعى إلى الحكمة، ويوقظ بسعيه الشوق إليها في نفوس الآخرين، فمحبة الحكمة - بالمعنى الذي ذكرناه من الانسجام مع الواحد أو الكل، والتجانس مع الجوهر أو المعنى - هي في السعي إليها سعيا يحدده الحب ويبين له الطريق إلى وجود الموجود، إلى الكل. ربما كان هذا السعي هو الفلسفة التي قصد إليها هيراقليطس، ومع ذلك فلم يكن هيراقليطس فيلسوفا بالمعنى الذي نتعارف عليه اليوم كما ورثناه عن أفلاطون وأرسطو، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه: إنه مفكر عظيم، محب للحكمة، دائب السعي إلى التشبه بها، والمجانسة بين لغته ولغة «اللوجوس»، والحياة والتفكير بما يطابق الواحد الكل. هذا السعي المفعم بالدهشة نحو مصدر كل دهشة هو الذي يعبر عنه فيما بعد في هذا السؤال الذي يتحول به الفكر بمعناه عند هيراقليطس والفلاسفة قبل سقراط بوجه عام إلى ما نسميه اليوم بالفلسفة: ما هو الوجود من حيث هو موجود؟ هذه الخطوة التي مهد لها السفسطائيون وقام بها سقراط وأفلاطون يعبر عنها أرسطو في جملة مشهورة يقولها بعد هيراقليطس بحوالي قرنين من الزمان : «وهكذا كان من قديم، ولم يزل الآن، وسيبقى أبدا؛ السؤال الذي تسأله الفلسفة وتحار في الوصول إلى الجواب عنه وهو: ما هو الموجود؟»
4
السؤال يشير إلى ما يسأل عنه، إنه وجود الموجود، هو التغير الدائم عند هيراقليطس، والمثال عند أفلاطون، والطاقة عند أرسطو، والأنا أفكر عند ديكارت، والأنا أتصور لنفسي عند كانط، و«الأنا» عند المثاليين الألمان من بعده، وإرادة القوة عند نيتشه ... إلخ. إجابات يطول بنا المقام لو حاولنا أن نتتبعها؛ لأن ما نريده أبسط من هذا بكثير، نريد أن نقف عند الباعث على هذا السؤال ونعرف الدافع إليه؛ فالتحولات المختلفة التي مرت بها الفلسفة في تاريخها الطويل لن تجدينا في الإجابة على سؤالنا، أجدى من ذلك أن نحاول الاقتراب من جوهر الفلسفة نفسها، ونعرف الباعث الخالد الذي دفع الإنسان في كل مرة إلى محاولة الإجابة على سؤالها الخالد.
يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس:
5 «هذا الانفعال أو العاطفة - يعني بذلك الدهشة - يميز الفيلسوف حقا، وليس للفلسفة أصل سواه.» انفعال الدهشة إذن هو أصل «أرخيه» الفلسفة، كلمة الأصل هنا - بمعناها اليوناني - تعني أمرين: أولهما ذلك الذي تصدر عنه الأشياء وتنبع منه، وثانيهما ذلك الذي يسود ويسيطر على ما يصدر ويتفرع منه، فالدهشة بهذا المعنى ليست هي البذرة التي تبدأ منها حياة الفلسفة فحسب، بل هي قوة الحياة نفسها التي تحملها وتسيطر على مراحل نموها وتوجه مصيرها. يقول أرسطو في هذا المعنى:
6 «من خلال الدهشة بدأ الناس الآن وفي أول الأمر يتفلسفون.» أي أنهم توصلوا من خلال الدهشة إلى المبدأ الذي تصدر عنه الفلسفة ويسري في تيارها الذي لا ينقطع.
من الخطأ الظن بأن أفلاطون وأرسطو يتحدثان عن الدهشة والاندهاش كما لو كانا علة الفلسفة والتفلسف، فلو صح هذا لما زادت الدهشة عن أن تكون مجرد دفعة ساقت الفلسفة في طريقها حتى إذا سارت في هذا الطريق استغنت عنها وتقطعت أسبابها بها، ولكن الدهشة هي الأصل - بالمعنى الذي أشرنا إليه - في كل فلسفة، إنها تلازم كل خطوة من خطواتها، وتسري سريان الدم في مشكلاتها ومسائلها، الدهشة انفعال وعاطفة، لا بالمعنى النفسي الحديث لهذه الكلمة، بل بالمعنى الذي يحتمل العذاب والتعذب والصبر والمعاناة، حيث ننفعل انفعال الدهشة، نجدنا نقف وقفة مع أنفسنا، نفزع إليها من الموجود الذي أدهشنا أن نجده أمامنا، وأن يكون على هذه الحال بعينها لا على حال أخرى، هذا التوقف عند الموجود وهذا الفزع منه هو في نفس الوقت فزع إليه ووقوع في أسره. الدهشة هي الحال التي يتفتح لنا فيها وجود الموجود ويكشف عن نفسه، هي الرجفة التي اقشعر بها كيان الحكيم اليوناني الأول ففتح فمه ليسأل: ما أنت أيها الموجود؟ لم كنت ولم يلفني وإياك ليل العدم؟ أيها القريب البعيد، لم لا تكشف عن وجهك إلا لتسدل عليه القناع؟ في هذه الحال سعى الحكيم اليوناني إلى أن يطابق بينه وبين الموجود، أي إلى أن يكون حكيما.
7
نعود فنقول: إنه ليس من همنا هنا أن نتابع السؤال الفلسفي الأول: ما هو الموجود؟ والتحولات التي طرأت عليه خلال الطريق الطويل الذي يمتد خلفنا وسيمتد أمامنا ما عاش الإنسان. إن محاولتنا هنا أكثر تواضعا: نريد أن نفتش عن الدهشة في قلوبنا وعقولنا؛ لنعرف إن كنا ما نزال قادرين على معاناتها، وإن كان في استطاعة الإنسان اليوم أن يسأل ويتساءل، بالمعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين.
يقول باسكال في كلمة مشهورة: «تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان بما لا نهاية له»،
8
ولقد كان التفلسف من قديم وسيبقى دائما هو الفعل الذي يتعدى به الإنسان عالم كل يوم ويتجاوز به حدود ذاته، ولا يتسنى له ذلك حتى يعلو فوق كل شيء، أعني فوق العالم بوصفه كل الموجودات، نقول: إن الفيلسوف يعلو على عالم كل يوم ولا نقول يتعالى عليه؛ ذلك لأنه بشر كسائر البشر، ملقى به في قلب الحياة اليومية التي لا يستطيع أن يتفلسف بعيدا عنها، مسئول عن إشباع حاجاته الجسدية التي لا يستطيع أن يعيش بغيرها، ولكنه يعلو على عالم كل يوم لا ليخرج منه بل ليعود إليه أوثق اتصالا بجذوره، لا عن أنفة أو كبرياء، بل ليتفرغ لتأمله والنظر فيه، فعمل الفيلسوف إذن مجرد عن الهدف والمنفعة، ولا سبيل إلى قياسه بالعمل اليومي (ليس الفيلسوف وحده هو الذي يعلو فوق العالم. إن كل من تصيبه هزة تدنيه من حدود الوجود يفعل مثل ذلك، العاشق والشاعر والثائر والمريض على فراش الموت والمؤمن في بيت الله، كل أولئك يعلون فوق العالم اليومي وينفذون من دائرته الضيقة المتناهية، لا مكان للفلسفة والتفلسف في عالم يطغى عليه العمل ويتحكم فيه، عالم لا تنمو فيه شجرة الدين، ولا يتنفس فيه إلهام الشعر، ولا تهزه رجفة الحب أو يعمقه إحساس الموت).
قلنا: إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق حدود العالم اليومي، وتسمو به على أسواره الضيقة، وكذلك زعمنا عن كل تجربة عميقة تقرب الإنسان من ذاته ومن الكل المحيط به، في الشعر والحب والدين والموت، ولكننا لم نقل: إن كل فلسفة أو كل شعر أو كل حب يفعل به ذلك، إن هناك ألوانا من التفلسف الظاهري التي تحكم أسر الإنسان في سجنه اليومي بدلا من أن تخلصه منه، وهناك ألوان زائفة من الشعر والعبادة والحب لا تحمل من أصل معناها الحق إلا الاسم والقناع، هناك لا نستطيع أن نعلو فوق العالم - هذا العلو الذي يستطيع وحده أن يدنينا منه - ولا فوق وجودنا المحدود، ومن أين لنا هذا العلو ونحن نضع كل ما من شأنه أن يتسامى بنا في سلة حياتنا اليومية؟ في العبادة الزائفة يصبح الإله نفسه حلقة في سلسلة الأهداف والوسائل اليومية، ووظيفة نبغي بها تحقيق غاية أو إدراك أمل. في الحب الزائف يصبح سر الحب وعاطفته وسيلة من وسائل الذات المحدودة الأنانية لا غاية في ذاته؛ فالمحب الحقيقي يجد نفسه ملقى في أحضان العالم العظيم العميق، والحب هو الذي يزيد من عظمته وعمقه. في الشعر الزائف والفن الظاهري لا ينفذ «الشاعر» من قبة العالم اليومي ولا يتصل بقلبه النابض (فلو فعل لكان ذلك علوا به) وإنما يرقش زخارف خداعة على جدران هذه القبة، ويضعها في خدمة الحياة اليومية، تارة باسم «الشعر الحالم» وأخرى باسم «الشعر السياسي»، وهناك أخيرا الفلسفة الزائفة التي لا تعجز فحسب عن العلو بالإنسان على الحياة اليومية، بل إنها تحكم إغلاقها عليه وتزيد من عذاب سجنه بين جدرانها، إنها تشبه عندئذ فلسفة السفسطائي بروتاجوراس الذي يسأله سقراط: أي شيء إذن تعلم الشباب الذين يتدافعون إليك؟ ويجيبه بروتاجوراس: عندي يتعلم الشباب الرشد سواء كان ذلك في أمورهم الخاصة، فيتعلمون على سبيل المثال كيف يؤثر الإنسان بالقول والفعل أفضل تأثير على الدولة. هذا هو برنامج الفلسفة الزائفة المتظاهرة التي ما زلنا نسمع المنادين به في كل مكان من العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، ارتفع به صوت هذا السفسطائي الذكي المتحمس الثرثار منذ أكثر من عشرين قرنا في أسواق أثينا وشوارعها، وأثر هذه الفلسفة الزائفة في محنة الإنسان المعاصرة، التي يمتحن فيها بقدرته أو عجزه عن توجيه السؤال الفلسفي من جديد، بكل حرارته وجديته وخطورته، يفوق بكثير كل ما قد يلصقه الفلاسفة برجل الشارع من احتقار لكل ما لا يتصل بالحياة العملية بسبب، وما أكثر ما يكون بريئا منه! ذلك أن رجل الشارع لا يخلو في لحظات نادرة من حياته المتعبة أن يهتز لبيت من الشعر أو يرتجف لسؤال عن معنى الحياة. أما الفيلسوف الزائف الذي يحشد قوى التفلسف في خدمة الحياة اليومية، فأين ما يمكن أن يهزه أو ينقل الرجفة إلى قلبه وعقله؟! إن ما يحمل هدفه في ذاته، كما تقول عبارة كانط المشهورة: لا يمكن بحال أن يصلح وسيلة لهدف من الأهداف أيا كان، ومع ذلك فنحن لا نحاول هنا أن ننقد عصرنا، بل نريد أن نفهم من جديد العلاقة الخالدة بين الإنسان والكون، ونعيد الدهشة إلى عيوننا وقلوبنا ونحن نسأل السؤال القديم الجديد: ما هو الوجود؟ ومن هو الإنسان؟
إن ضحكة الفتاة الثراكية التي جلجلت بها وهي ترى طاليس الميلي يتعثر فيقع في ماء النبع لأن عينيه كانتا مشغولتين بتأمل السماء؛ هذه الضحكة هي - في نظر أفلاطون - الجواب الذي يرد به «العاقلون» و«العمليون» في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.
إن قصة هذه الفتاة ذات الضحكة البريئة - التي لا شك أن لها ما يبررها! - قصة يبدأ بها تاريخ الفلسفة ولا تزال عالية الأصداء حتى يومنا هذا:
9 «ودائما وأبدا ما يكون الفيلسوف مدعاة للضحك، لا بالنسبة للفتيات الثراكيات فحسب، بل للكثير من الناس على وجه الإجمال؛ ذلك لأنه - وهو الغريب عن العالم - يسقط في نبع الماء وفي ألوان أخرى من الحيرة والارتباك.»
10
ولكن من يجرؤ على الادعاء بأن في إمكانه أن يغادر عالم هذه الفتاة الثراكية إلى غير رجعة؟ من منا يستطيع أن يعيش بغير سقف فوق رأسه، ولا دفء حول جسده، ولا هدف على طريقه؟ ثم من منا يستطيع أن يوفر لنفسه ترف التأمل في النجوم، إلا إذا كان مستعدا للوقوع تحت عجلات الترام أو الانخراط في عداد المشبوهين؟ أليس هذا مخاطرة بالخروج عن طبيعة الإنسان نفسه؟ ثم إلى أين يخرج الإنسان حين يخرج عن حدود العالم الذي نعيش فيه كل يوم إلى عالم آخر؟ وماذا عسى أن يكون هذا العالم؟ هل هو عالم «آخر» يكون عالمنا هذا ظله وشبحه - كما زعم البعض خطأ عن أفلاطون - ويقابله كما تتقابل المادة والروح والليل والنهار والنسخة والنموذج؟ الإجابة على هذا السؤال إجابة على سؤالنا القديم: ما هي الفلسفة؟
إن الإنسان حين يتفلسف يعاني تجربة يهتز فيها العالم اليومي تحت قدميه، تقف فيها دوامة العادات التي تجرفه صباح مساء: يقظة من النوم، ساعات يقضيها في العمل، ثم ساعات يقضيها في فراغ ليستعد للعمل من جديد، ثم نوم فيقظة فساعات عمل ... إلخ «حتى يتفجر ينبوع الدهشة ذات يوم في قلبه فيسأل: ما معنى هذا كله؟ ... ويقف أمامه شبح المحال المعتم، كما وقف في السنين الأخيرة أمام المفكر العظيم ألبير كامي.» إنها التجربة التي تقول له: إن العالم المحيط به، الذي تحدده أهداف الحياة القريبة المباشرة؛ يمكن أن يهتز يوما، وينبغي أن يهتز لدعاء «العالم»، أن يرتجف من صوت «الكل» الذي يعكس الصور الأبدية للأشياء ، التفلسف معناه: أن يعلو الإنسان على عالم كل يوم ليواجه «العالم»، أن يترك الأمان إلى الخطر، أن يغادر بيته إلى حيث لا سقف يظله، أن يهجر الطرق التي تعرف هدفها ليسير على «الطريق» التي قد لا يكون لها هدف. هل معنى هذا أن يهيم الفيلسوف على وجهه، أشعث الشعر معلق البصر بالنجوم، عرضة في أيامنا هذه لأن يطرح عليه «القميص الأبيض» أو يضع جندي الداورية في يديه الحديد؟ نحن إن فعلنا هذا نكون قد صورناه في صورة خيالية سخيفة بقدر ما هي باطلة؛ إذ كيف نستطيع أن نقول مثل هذا الكلام عن أناس عقلهم حاد كالسيف ولغتهم ساطعة لا تعرف ظلا من خيال أو عاطفة؟ إن الإنسان يستطيع أن يتفلسف، أعني أن يتأمل تأملا نظريا، ويرى الوجود رؤية نقية (كلمة «ثيورين» اليونانية ليس لها معنى غير هذا) مجردة عن كل هدف من الأهداف المتصلة بحياته اليومية، قلنا: يستطيع، ومن حقنا أيضا أن نقول: ينبغي عليه أنه في تأمله النظري الخالص هذا الذي سميناه بالتفلسف، يعلو على ذاته وعلى العالم، وهو بفعله هذا لا يحقق إنسانيته فحسب، بل يعلو عليها أيضا (لنتذكر كلمة باسكال السابقة)، ولكن كيف وبأي شيء؟ بالدهشة التي هي أصل التفلسف، بالاندهاش الذي هو أصل الحرية، وأين يجد الإنسان حريته إن لم يجدها في النظرة الخالصة إلى الموجود وإلى العالم باعتباره كل الموجودات، نظرة مجردة عن كل هدف، نقية من كل تغيير ومن كل محاولة في التغيير، لا لكي نعرف الموجود فنسيطر عليه كما يقول بيكون، ولا لكي نجعل من أنفسنا سادة على الطبيعة وملاكا لها، كما يقول ديكارت في مقاله عن المنهج، ولا لكي نغير العالم كما يقول ماركس، ولكن لأي غاية إذن؟ وأي منفعة تعود عليك من وراء هذا العلو بالدهشة التي هي أصل كل تفلسف وبالتالي كل حرية؟ ولكن هذا السؤال نفسه - ألا نسأل فيه عن «غاية» و«منفعة» - سؤال غير فلسفي. إن عين الفيلسوف تتأمل العالم كله حين تتأمل، ولسانه يسأل عن مجموع ما هو كائن حين يسأل، إنه عندئذ يكون «مع كل موجود» كما يقول القديس توماس الأكويني، ولا يسأل الفيلسوف حتى يكون في فكره الوجود كله.
قلنا: إن الإنسان حين يتفلسف يعلو على «العالم اليومي» ليواجه «العالم»، ومن البديهي أننا حين نتحدث عن العالم اليومي الذي نعلو عليه بالتفلسف إلى العالم ككل لا نتحدث عن عالمين منفصلين، كما لو كانا مكانين يغادر الإنسان أحدهما ليدخل الآخر، فيترك هنا وراءه أشياء ليجد هناك أشياء أخرى، أو لا يجد شيئا على الإطلاق، إنه لا ينفض يديه من غبار أحدهما ليغسلهما بنور الآخر، وحين يعلو بالتفلسف على العالم المحيط به لا يدير له ظهره، ولا يحول عينيه عنه، ولا يسبح ببصره بعيدا عن شقاء كل يوم، ولا يترك عالم العرق والدموع ولقمة العيش ليتجه بفكره إلى عالم الماهيات أو الكليات أو المثل أو ما شئت لها من أسماء، إن العالم الذي يمتد أمام أبصارنا ونتحسسه بأيدينا ونشقى به ويشقى بنا هو نفس العالم الذي نتأمله بالتفلسف، ولكن هذا العالم، هذه الأشياء، هذه الحقائق والموضوعات؛ تصبح موضع سؤال من نوع آخر، إنها تسأل عن جوهرها الأخير، عن حقيقتها الكلية، عن طبيعتها الشاملة، وإذا بالأفق الذي يصدر عنه السؤال يصبح هو الأفق الذي يضم الواقع كله.
السؤال الفلسفي يتجه إلى هذا الشيء أو ذاك مما نراه كل يوم، إنه لا يتجه إلى شيء «خارج العالم» ولا إلى شيء موجود في عالم آخر بعيد عن تجربتنا اليومية،
11
لكنه سؤال يقول: ما هو هذا على الإطلاق وفي حقيقته الأخيرة؟ يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس: «لا ما إذا كنت أظلمك ها هنا أو كنت تظلمني - ليس هذا هو الذي يشتهي الفيلسوف أن يعرفه - بل ما هي العدالة على الإطلاق وما هو الظلم، لا ما إذا كان الملك الذي يملك الكثير من الذهب سعيدا أو غير سعيد، بل ما هو الملك على وجه الإطلاق؟ وما السعادة وما التعاسة على الإجمال وفي حقيقتها الأخيرة.»
12
سؤال الفيلسوف يتجه إذن إلى ما نراه وما نألفه كل يوم، وإذا بهذا الشيء يشف أمام أعيننا، وكأننا نفتحها عليه لأول مرة، ويفقد ألفته ليكشف عن وجه غريب وعميق معا. إن سقراط الذي يعرف كيف يسأل فيسلب الأشياء وضوحها الموهوم كما يسلب المسئول يقينه المزعوم يشبه نفسه بالسمكة الرعاشة، تصيب ضربته بالذهول والاندهاش كل من يستمع إليه، في كل يوم نقول هذا «صديقي»، هذا «بيتي» أو هذا «مالي»، ولكن ما من أحد يسأل نفسه ما هو «الملك»؟ وما معنى أن «أملك» شيئا؟ وهل يمكن لإنسان أن يملك هذه الأشياء؟ أو هل يمكن أن يمتلك شيئا على الإطلاق؟ هل من الأمور الواضحة بذاتها أن أوجد وأرى وأولد وأموت؟ هل بلغت معرفتي بهذا كله من اليقين مبلغا لا أملك معه الشك فيها؟ وهل يمكن أن يوجد شيء لا يحتمل الشك والسؤال؟ أليس في هذا كله ما يحمل على الدهشة؟!
الفلسفة ابتعاد وغربة، لا عما نراه ونحس به كل يوم من ناس أو أشياء، بل عن تفسيراتنا السائدة لها، عن قيمها التي نسلم بها كل يوم، لا لأننا نهوى الشك والهدم أو نريد أن نشذ فنفكر غير ما يفكر سائر الناس، بل لأن الأشياء نفسها تكشف لنا فجأة عن وجه جديد لم نألفه من قبل، ولأن ما اعتدناه كل يوم يصبح في لحظة واحدة غير عادي ولا يومي ولا واضح بذاته. إن الوجه العادي يختفي فجأة ليظهر مكانه وجه الواقع على حقيقته، ولا يحدث شيء من هذا حتى يجري في أنفسنا شيء آخر ارتبط بمبدأ التفلسف من قديم، ذلك هو الدهشة: «نعم، بحق الآلهة يا سقراط العزيز، إنني لا أستطيع أن أنتزع نفسي من الدهشة من معنى هذه الأشياء، وفي بعض الأحيان يكاد يصيبني الإغماء من مجرد النظر إليها.» بهذه الكلمات يهتف الرياضي الشاب ثيايتيتوس في وجه سقراط، بعد أن يستدرجه هذا الذكي الساخر الرحيم بالكلام حتى يعترف بجهله ويسلم بحيرته، ويجيب سقراط: «أجل، إن هذه الحال نفسها هي التي تميز الفيلسوف، هذا ولا شيء غيره هو أصل الفلسفة.»
13
بهذا المرح المشرق الوديع يعبر سقراط عن الحقيقة التي دخلت الفلسفة من قديم كما دخلت ضمير كل إنسان يفكر، ولن تخرج منهما أبدا، ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ الفكر الفلسفي بهذه العبارة: «الدهشة أصل الفلسفة»، وأن يكتب ديكارت عبارة قريبة منها على باب الفلسفة الحديثة تقول: «الشك أصل الفلسفة»، ولم يكن لشيء من ذلك أن يحدث لو لم يكن بين الدهشة والشك ما بينهما من قرابة وجوار، كانت طريقة سقراط أن يثير في صاحبه الدهشة بالنسبة لكل ما يعتقد في وضوحه وما يسلم به تسليما أعمى، وكانت طريقة ديكارت أن يحملنا على الشك في كل ما آمنا به في الفلسفة وما ورثناه بالتسليم والتصديق، تمهيدا للبحث عن أساس سليم أو عن «صخرة لا تتزعزع» تقيم عليها بناء الفلسفة من جديد، الشيء الرئيسي إذن في الحالين هو الإرباك، على نحو ما يقول هيجل: «إنه الإرباك الذي ينبغي لكل فلسفة أن تبدأ به. إن على الإنسان أن يشك في كل شيء، ويتخلى عن كل ما افترضه من قبل؛ لكي يحافظ عليه من بعد شيئا ناتجا من خلال التصور.»
14
في الدهشة كما في الشك يحار الفكر مع نفسه، هذه الحيرة هي الدفعة التي لا بد منها لكي يكون فكر على الإطلاق، وهي الدفعة التي لا بد منها لكي يستيقظ هذا الفكر ويجرب أن «العالم» أعظم وأعمق وأغنى بالأسرار مما توحي به حياته اليومية، وأن الوجود بما هو وجود غني بالأسرار، لا بل هو السر نفسه؛ لأنه غني بالتناقض والمشقة والغموض بالنسبة للإنسان، بل لأن معين أسراره لا ينفد، ومنبع نوره لا يغيض.
في الدهشة تصمت الحياة اليومية - ولو للحظة واحدة - لنرى «الحياة». ترفع الموجودات قناعها اليومي لتكشف عن وجه «الوجود»، ولكن ما الذي يدهشنا حين نندهش، فيصيبنا الذهول ونتجمد كما لو كنا نجلس مع سقراط؟ ليس للمدهش صلة بالغريب المثير غير المعتاد، فمن كان في حاجة إلى شيء يثيره ليبعث الدهشة في نفسه، شيء لم تره عين ولا سمعت به أذن كما يقال، فقد كل حاسة للاندهاش، أعني ذلك الاندهاش الحق من معجزة الوجود؛ فالدهشة التي تستثيرها عجيبة لا تحدث كل يوم ما زالت هي نفسها في حاجة إلى دهشة حقيقية تخلصها من قيد كل يوم، دهشة تجعل الإنسان يرى المدهش فيما يألف، والغريب فيما اعتاد، والمعجزة فيما تقع عليه عيناه كل يوم؛ هنالك يعرف وهو في الحقيقة لا يعرف شيئا، هنالك يبدأ فعل التفلسف، ومعه يبدأ القلق والخطر؛ الجزيرة الآمنة لا تعود آمنة، الواحة السعيدة تصبح مسكنا للشقاء، هنا يقترب الفعل الفلسفي من الفعل الشعري؛ فالفيلسوف والشاعر كلاهما يرى العالم وكأنه يراه لأول مرة، وكلاهما يتصل موضوعه بما يبعث الإنسان على الدهشة وما يطالبه بها، ولعل هذا هو الذي جعل توماس الأكويني في تعليقه على ميتافيزيقا أرسطو يقول: «أما السبب الذي من أجله يقارن الفيلسوف نفسه بالشاعر فهو أن المدهش هو موضوع كليهما.»
15
أما الفيلسوف فقد عرفنا ما قاله على لسان أفلاطون، وأما الشاعر فيقول جوته في نهاية قصيدة صغيرة بعنوان «بارابازة»
16
وهو في السبعين من عمره:
وجدت لكي أندهش:
كان الروح دائم المرح من قديم الزمان،
كان دائب السعي،
إلى أن يبحث ويجرب،
كيف أن الطبيعة تحيا بالخلق.
إنه هو الواحد أبدا،
يكشف عن ذاته في صور متعددة،
الكبير يبدو صغيرا، والصغير كبيرا،
وكل بما يوافق طبيعته،
دائما يتغير، ثابت على الدوام،
قريب وبعيد، بعيد وقريب،
يصوغ الأشياء، ثم يعود فيعدل صياغتها.
وأنا جئت إلى هذا العالم
لأحيا في اندهاش.
ثم يقول في حديث له مع أكرمان
17
بعد أن بلغ الثمانين:
إن الدهشة هي أسمى ما يستطيع أن يصل إليه الإنسان.
قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على الاحتفاظ ببراءته وحريته، إنها قدرته على البقاء إنسانا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل من هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من علمه بتناهيه، من إحساسه بوجوده المحدود، الإله لا يندهش؛ لأنه يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء، والحيوان لا يندهش، فليس في حاجة إلى الدهشة؛ لأن الشوق إلى المعرفة الحقة لا يقلقه. تقول ديوتيما في محاورة «المأدبة» موجهة حديثها إلى سقراط: «ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون؛ ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغن بنفسه.» ويمضي سقراط قائلا: «سألتها من هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟» عندئذ أجابت قائلة: «إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط»، هذا الوسط هو الذي يميز الإنسان، إنه الكائن الوحيد الذي يملك أن يندهش، فلا هو يستطيع أن يعرف كل شيء، ولا هو بقادر على ألا يعرف أي شيء، إنه الموجود الذي يقف بين هوتين، والمتناهي الذي يجد نفسه بين لا متناهيين، بين العدم من ناحية والمطلق من ناحية أخرى (كما تقول عبارة باسكال المشهورة)، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تنطبق عليه «ليس بعد»، إنه لا يستطيع أن يمتلك الحكمة ولا يستطيع أن يكف عن السعي في طلبها: «نحن لسنا شيئا، نحن نأمل أن نكون» (باسكال). الإنسان وحده هو الذي كتب عليه أن يحس بفنائه وفناء من حوله، فيعجب لكل ما يراه، ويكون أول ما يبدأ به هو العجب من نفسه، هذا العجب الدائم سيحتم عليه أن يعيش في خطر دائم، ويبحر من جزيرة الاطمئنان إلى غير رجعة، فمع كل سؤال يولد خطر جديد، وليست الفلسفة إلا سؤالا متصلا. وقدرة الإنسان على السؤال - بمعناه التأملي النظري المجرد من كل هدف كما قدمنا - هي قدرته على الدهشة، هذه الدهشة هي ضمان إنسانيته، وهي ضمان حريته (إن العبد لا يندهش ولا يسأل؛ لأنه إن فعل لم يعد عبدا؛ ذلك أن كل شيء بالنسبة إليه واضح وطبيعي، كل شيء كما كان وكل شيء كما ينبغي أن يكون).
فلنتعلم كيف نندهش (من علامات الزمن التعيس أن يضطر الإنسان إلى تعلم ما لا سبيل إلى تعلمه)، لنحاول أن نعيش لحظة واحدة ما يعيشه الفيلسوف والشاعر طول حياته، أن ننظر إلى الموجود - وليكن زهرة أو حجرا أو وجه إنسان - كما لو كنا نراه لأول مرة، وإلى الوجود كما وقعت عليه عينا آدم حين فتحهما أول مرة، لنذكر دائما أن أدهش المدهشات ألا يندهش الإنسان، وإذا كنا لا نستطيع أن نقضي حياتنا في دهشة دائمة (من ذا الذي بلغ به الظلم والجنون أن يطلب ذلك من إنسان العصر الحديث؟) أعني في هزة دائمة، تزلزل كياننا كله، فإن كل إنسان في حاجة إلى أن يهتز، ولو مرة واحدة في حياته، من أعمق أعماقه، في حاجة إلى أن يسأل السؤال الخالد الأليم: لم كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟
لا
عن صعوبة الاحتجاج وضرورته في القرن العشرين
هل هناك أسهل من قول «لا»؟
كلمة صغيرة، نقولها حين نصبح وحين نمسي، وقد نوفر على أنفسنا مشقة النطق بها، فنكتفي بهز الرءوس.
حرفان صغيران، نسرع إليهما حين ننفي أو نرفض أو نحتج أو نرد على سؤال من يسأل فنؤكد له أننا لا نعرف، أو نقطع بعدم معرفته فنمهد للجواب الصحيح. «لا» و«نعم»، حرفان يقتسمان وجودنا وتدور حولهما حياتنا وتفكيرنا، في كل ما نقول ونفعل؛ لا بد لنا أن ننجذب لأحد هذين القطبين، أو ندور في إحدى هاتين الدائرتين.
حرفان لا يبدو أن هناك ما هو أيسر منهما، ننطق بهما مع كل سؤال وجواب، ومع ذلك فما أكثر ما يرتبط بهما من صعوبات!
لنقصر حديثنا على الحرف الذي وضعناه عنوانا لهذه السطور. «اللا» هي صيغة الاحتجاج، ففي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج، يصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه الكلمة.
قد يبدو لأول وهلة أنه ليس هناك ما هو أيسر ولا أعم من قول «لا»، إنها تكاد تتردد على اللسان في كل ما نقول وما لا نقول، حتى يخيل إلينا أنها فارغة من كل مضمون. إنها تستطيع أن تخالف كل شيء وتوافق على كل شيء، وتستطيع بنفس القوة أن تنفي وتثبت، وتعارض وتؤكد.
وقد يبدو أنها أكثر كلمات اللغة بعدا عن الاستقلال بنفسها؛ فهي تفترض سؤالا يسبقها، بل هي جواب النفي على هذا السؤال، فالذي يسأل يريد أن يعرف، وحين نجيب على سؤاله «بلا» فإننا نخنق معرفته الباطنة في مهدها، ونمهد بالنفي لمعرفة صحيحة أو نعتقد أنها صحيحة، وقد يبدو أنه ليس هناك ما هو أخطر من قول «لا»، فإذا كانت اللا هي صيغة الاحتجاج، فقد تكون كذلك هي صيغة الانهزام؛ فمن يصر عليها في كل ما يقول أو يفعل، يصر على رفض كل شيء، ومن يرفض كل شيء يهرب من كل شيء، ويكون الموقف المنطقي الوحيد الذي بقي له هو الهروب من الحياة كلها؛ ذلك لأنه لا يرفض حينئذ نظاما بعينه، بل يرفض كل نظام، ولا ينفي موقفا بذاته، بل ينفي كل موقف، وهذا الرفض العنيد، هذا النفي المتصل الذي لا يؤدي إلى تأييد شيء أو الموافقة على شيء، هو الفوضى بعينها، وما أسهل أن يقول الإنسان: لا، ولكن ما أضيعها إن لم تحاول أن تثبت وراءها حقيقة، أو تؤكد قيمة، أو تدافع عن «نعم».
وما أخطر أن يقول الإنسان: «لا»، خاصة إذا وجد المجتمع الذي يحرم هذه «اللا»، لا بل يقمعها ويوقف عليها العقاب الشديد، ولكن ما أشبهها بالصدى الضائع في الصحراء، إذا كانت تعبر عن تمرد يكتفي بالنفي دون أن يحاول الإثبات، ويقنع بالاعتراض على الباطل دون أن ينادي بتأكيد الحق.
لكن هل يقف المفكر في «اللا» عند الصعوبات الخارجية التي تصادفه، وهي صعوبات تدخل في مجال السياسة والاجتماع والقانون؟ إن المفكر الحقيقي يهتم - قبل كل شيء - بالماهية والطبيعة والجوهر، فهل يقربه من حقيقة «اللا» أن نصفها بأنها صيغة الاحتجاج؟ أم تراها تبعده عنها؟ أليس في لفظ «لا» نفسه تحديد لجانب واحد من الوجود، بينما المفكر - أو لنقل الفيلسوف - يتجه بفكره إلى كل الوجود؟
إن كلمة «لا» تحد وتحدد، أليس في هذا شيء من العزاء لمن يريد أن يصل إلى قلب الوجود، ويطأ خاشعا قدس أقداسه؟ ألا تستطيع أن تسد الطريق على كل جواب سهل في مسألة المسائل هذه، وأن تسكت كل «نعم» يسيرة وسطحية ومؤقتة تزعم أنها تنبئنا بشيء عن الوجود؟ ألا يستطيع قائل «لا» أن يكون حارسا أمينا على الوجود، فيبدأ بحراسة نفسه من عواقب «لا» تحتج وحسب، ولا تجلب على نفسها غير الخراب؟
مهما يكن من شيء، فإن قول «لا» تعبير عن احتجاج، وفي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج؛ يصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه «اللا»، والبحث هنا ضروري لنعرف كيف نقولها ومتى ولمن، ولنضمن ألا تكون مجرد صرخة نبيلة في الهواء، أو كتابة بالدم على سطح الماء!
لنفكر معا في أمر هذه «اللا». ولكننا قبل أن نبدأ التفكير فيها، سنجد أنفسنا مضطرين إلى التفكير في الفكر نفسه! والفكر عادة يسير خطوة فخطوة، على حسب منهج مرسوم، وهو يصطدم بأول عقبة على هذا الطريق، حين يسأل نفسه في أي شيء يفكر، فهو يجرب هذا وذاك، ينظر هنا وهناك، ويسير على طريق قد يعدل عنه بعد قليل ليسير على طريق سواه. حقا إن فيلسوفا يونانيا قديما، هو «بارمنينيدز»، قد عرف طريقين لا ثالث لهما: طريق الحقيقة الذي يسير فيه العارف ولا يسير على طريق غيره حتى يصل إلى الوجود الواحد، وطريق الباطل الذي يسير فيه الجاهل أو تسير فيه العامة «المزدوجة الرءوس»؛ ليؤدي بها إلى اللاوجود؛ فالطريق الأول هو الطريق الذي لا طريق سواه، وفي آخره سنجد الوجود الواحد الذي لا يتبدل، الوجود الكروي الشكل، المحدود بحدود ثابتة. إن العارف يسير عليه، يعرف كلمة السر التي توصل إليه، أما العامة «الأغبياء» كما يسميهم، فهم يجهلون هذه الكلمة، ويترنحون حائرين بين الطريقين؛ ذلك لأنهم يجهلون هذه الكلمة القاطعة التي قالها فيلسوفنا احتجاجا على اللاوجود وتأكيدا للوجود الحي، «اللاوجود غير كائن، والوجود كائن»، ولكن كيف أعرف هذا الطريق؟ كيف أقترب من الوجود الحي لا الوجود الميت المتحجر؟ كيف أصل إلى الوجود الشامل الذي أراده الفيلسوف، فأميزه عن الوحدة الميتة التي تجمع الحق والباطل، والوجود واللاوجود؟ هل أجعل منه موضوعا لذاتي المفكرة؟ ولكن هذا الفعل نفسه يثبته ويحدده كما يحددني، إنه يجعل الذات تصطدم بالموضوع فأتحرك في مجال لا أستطيع أن أفرق فيه بينهما، ولكنني مضطر إلى هذه التفرقة، وإلا اختفى الموضوع الذي أبحث عنه، فهل ألجأ أمام هذا الموضوع الشامل - موضوع الوجود - إلى إصدار حكم عليه يوحد بيني وبينه؟ ولكن من أين لي - وأنا البشر المحدود - بهذه القدرة؟ أليس من طبيعة الأشياء ومن طبيعتي البشرية أن يظل الموضوع على الدوام «موضوعا» أمامي، مقابلا لي في كل كلمة أو إشارة أو فعل أقترب به منه؟ ها أنذا أجرب طريقا بعد طريق، وأصدر حكما بعد حكم، ولكن الحقيقة مختلطة بالباطل، والوجود ممتزج باللاوجود، وأنا لا أستطيع أن أميز أحدهما عن الآخر، أريد أن أقول للطريق الخاطئ: «لا»، فلا أستطيع أن أستعين بطريق بارمنيدز الوحيد؛ لأنه لا يؤدي إلا إلى نعم مؤكدة، إنه لا يقول: «لا» فحسب، بل يبقى اللاوجود نفسه، ومعه كل نعم كامنة فيه. قائل «لا» يقول للاوجود «لا»، وهو مضطر أن يقولها لتسمعها العامة ذات الرءوس المزدوجة؛ لأنها تتعلق باللاوجود، وتظل في ليل الظن والجهل، لا تملك شجاعة العارفين، ولا ترفعها «بنات الشمس» إلى أعلى (قارن الشذرة الأولى من شذراته الباقية). غير أنه في الحقيقة ليس في حاجة إلى أن يقول «لا» للاوجود؛ ذلك لأن هذا اللاوجود لا وجود له عند بارمنيدز، إنه يعيش على الدوام في نعم متألقة، في مملكة النهار والضوء الساطع، ومع ذلك فإن نهاره لا يكشف الليل، وعلمه لا يفسر لنا وجود الجهل، وإذا سألناه لم كان الجهلاء جهلاء؟ ولماذا لا يعرفون الوجود كما يعرفه سواهم؟ وهل نسيهم هذا الوجود أم نسوه؟ أجابنا بأنهم يتعلقون باللاوجود، ولأنهم يتعلقون باللاوجود فهم دائما ما يقولون: «لا»، وهم يقولون «لا»؛ لأنهم خاضعون لسلطان الحواس، يرون الظاهر حيث يكون الباطن، والكثرة حيث تكون الوحدة، إنهم خائفون على الدوام؛ لأن «اللاوجود» يهددهم، وتهديدهم يحملهم على قول «لا»، ويعجزهم عن قول «نعم» للوجود الواحد الحق.
إذا كان هذا هو حال من يقول «لا»، فإن قائل «نعم» عند بارمنيدز ليس أفضل منه حالا؛ ذلك لأن الإنسان لا يصل إلى النعم الحقيقية إلا بعد أن يقول «لا» مرات ومرات، ولا يسير على الطريق الحق حتى يعدل عن طرق الخطأ التي لا حصر لها. إن قائل نعم عنده أشبه بمن اكتشف الطريق، ولكن ما كان أحوجنا إلى أن يشرح لنا المشقة التي عاناها حتى وصل إلى هذا الكشف! وليس أحب إلى الإنسان من قول نعم، خصوصا إذا كان يقولها للحقيقة المضيئة كالنور، على أن تأتي هذه النعم في نهاية الطريق لا في بدايته، لا بل أن تكون على الدوام كامنة في كل «لا» يقولها وكل احتجاج يصرخ به.
كان إذن على الفيلسوف الوقور بارمنيدز أن يميز بين نعم كامنة في لا، بفضلها تستطيع هذه أن تصمد لتهديد اللاوجود، وبين نعم أخرى «لا تبلغها رغبة» و«لا تلطخها لا» كما يقول نيتشه؛ ذلك لأنني لا أستطيع أن أستمع إلى «النعم» الأولى إلا من خلال لا، ولا أن أجرب الوجود حتى أقول لا لكل ما ليس بوجود، ولا أن أوافق حتى أحتج هذا الاحتجاج الأنطولوجي «الوجودي»، ولا أستطيع كذلك أن أصل إلى النعم الأخرى حتى أتخلى عن كل شيء، وأشيح ببصري عن كل ما يتهدد اللاوجود - ومنه نفسي - بالخراب، لا بل أتخلى عن اللغة التي تحتمل الخطأ حتى أصل إلى الوجود الذي لا تعبر عنه لغة البشر، هناك أصل إلى تلك النعم، أو تلك النعمة الغريبة اليائسة التي سماها نيتشه بالكوكب الأعلى، والوصية الفريدة والنعم الأبدية للوجود، وهناك لا يملك الإنسان إلا أن يقول تلك النعم المقدسة، «ويحيي ظهر الأرض والبشر العظيم.»
لولا هذه «النعم» الكامنة كمون البذرة في «اللا»؛ لكان شك الشكاك ويأس اليائسين في معنى الحياة عامل تدمير لا يرحم، وإلا فمن أين جاء ديكارت اليقين، وقد راح يشك في كل شيء؟! ألم تكن هناك «نعم» وراء اللا المجتاحة جعلته يطمئن إلى أنه مهما شك في كل شيء حتى في شكه، فسوف تبقى حقيقة التفكير التي تسلمه إلى طمأنينة الوجود؟ ومن أين جاءت «كامي» شجاعته، وقد راح يحتج ويتمرد ويصرخ بأن الوجود لا معنى له، لو لم تكن هناك «نعم» وراء هذه اللا المعذبة، تؤكد له أن هناك معنى في احتجاجه على اللامعنى، وأن الحياة تستحق أن نحياها، لا بل يجب أن نحيا كل لحظة فيها ولو كانت مجردة عن المعنى، بل ربما لهذا السبب نفسه، وهل كان بارمنيدز ليحتج على اللاوجود ويرفضه لو لم يكن يريد تأكيد الوجود الثابت والجوهر الخالد الباقي؟! هناك إذن قوة تتجلى في قول «لا»، وتتكشف في كل احتجاج على الخطأ والباطل واللاوجود، قوة تحمي الشاك من الهلاك تحت سنابك الشك، وتقي اليائس من الغرور كما تقيه من الاستسلام وتدمير النفس. لنسم هذه القوة الوجود أو العقل أو حكمة الحياة ونعمة السماء؛ فوراء اختلاف الأسماء اتفاق على «النعم» الكامنة كمون البذرة الحية في «اللا». •••
وليس أمر «اللا» مقصورا على الفلاسفة والمفكرين؛ فالأنبياء أيضا قد يحملون أمانتها، فيهربون من عبثها، ويفرون من وجه الرب الغاضب، ناسين أنه لا ينذر إلا ليبشر، ولا يتوعد إلا ليعد، «صار قول الرب، كما يقول الإصحاح الأول من سفر يونان «يونس» إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها؛ لأنه قد صعد شرهم أمامي.»
كان على يونس النبي أن يذهب إلى أهل نينوى «الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم» ليبلغهم بأمر اللا الإلهية، وليحمل إليهم مع نذير السماء البشير بكلمة الله، ولكنه على ما تصف القصة المشهورة هرب من وجه الرب، ونزل إلى يافا ليركب سفينة ذاهبة إلى ترشيش، ويرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر تهز السفينة حتى تكاد تنكسر، ويفزع الملاحون كل إلى إلهه يستصرخه، بينما يغط يونس في نومه في جوف السفينة، ويسأله الرجال عن أمره فيقول: إنه خائف من الرب إله السماء الذي صنع البر والبحر، ويسألهم أن يطرحوه في البحر فيسكن البحر عنهم؛ لأنه بسببه كان هذا النوء العظيم عليهم، وأعد الرب حوتا عظيما ليبتلع يونس ، فكان في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليال. وظل يونس يدعو ربه ويعترف بذنبه ويتوب إليه حتى أمر الحوت فقذف به إلى البر، وذهب يونس إلى نينوى مرة ثانية؛ لينادي لها المناداة التي كلمه الرب بها، وهناك أنذر يونس وتوعد، قال لأهل نينوى: إن المدينة العظيمة ستنقلب بهم بعد أربعين يوما، أنذر ولم يبشر، توعد ولم يعد، صرخ «باللا» ولم يفطن إلى النعم التي يمكن أن تتفتح عنها، وآمن أهل نينوى بما قاله؛ صاموا وصلوا ولبسوا من الملك إلى الراعي مسوح الرهبان، ندموا إلى الرب، ورجع كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، ندم الرب أيضا عن الشر الذي تكلم على لسان يونس أن يصنعه بهم فلم يصنعه.
لكن يونس الذي توقع أن ينفذ الرب وعيده؛ فيحول المدينة إلى أنقاض والأحياء إلى جثث، قد «اغتاظ بالصواب»، ولم يعرف أن الإله الغاضب هو نفسه الإله الرحيم، وأن كلمته التي تقول «لا» تقول معها «نعم» في نفس واحد، واستولى عليه اليأس فدعا ربه أن يأخذ نفسه منه؛ «لأن موتي خير من حياتي.» ويخرج من المدينة ويجلس في الظل ليرى ماذا يحدث للمدينة، ويعد الرب الإله يقطينة تظلله وتخلصه من غمه، ويفرح يونس فرحا عظيما، ولكن لا يلبث الفجر أن يطلع حتى تيبس اليقطينة وتهب ريح شرقية حارة فتضرب الشمس على رأسه فتذبل، ويحزن يونس على الشجرة، هو الذي بخل بحزنه على المدينة العظيمة، ويعرف أنه شك في رحمة الله، وجلس بعيدا عن المدينة ينتظر أن يراها تنهار أمام عينيه، ويعود يطلب الموت لنفسه ويقول موتي خير من حياتي.
انتهى يونس إلى اليأس؛ لأنه كلف بأمانة قول «لا»، ففر من تبعتها «بلا» الهروب، صحيح أنه يتلقى الدروس من الرب، ويتعلم حكمته في جوف الحوت، فيخرج منه ليبلغها لأهل المدينة العظيمة، ولكن مأساته أنه وقف موقف من يقول إما اللا أو النعم، ولم يعرف أنهما يمكن أن يجتمعا في وحدة واحدة، وراح ينتظر انهيار المدينة التي أبلغها غضب الرب، دون أن يعرف أن الرب نفسه رءوف رحيم، لقد وقف عند منطق أهل نينوى الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم، ولم يستطع أن يسمو إلى رأي الأنبياء الذين يعرفون أن هناك طريقا ثالثا غير طريق النعم أو اللا، طريقا يجمع بينهما في وحدة الوجود ونعمته وقوته، وهكذا ظل يونس حائرا بين إخلاصه لكلمة الرب وخيانته لها، فقول «لا» أمر عسير دائما، وقائل «لا» ينبغي أن يدخل في حسبانه الأهوال التي يمكن أن يتعرض لها، والشجاعة التي تلزمه بها، وقد كان عسيرا على يونس أن يسمع أهل المدينة هذه اللا الإلهية بغير أن يفسد علاقته بالله ويخون نفسه ويخون المدينة العظيمة، وترنح يونس بين لا الهروب ولا الدمار، حتى علمه الرب درسا يمكننا أن نتعلم منه! •••
من الصعب أن يقول الإنسان «لا».
ولكن من أين عرفنا هذا، ومن الذي عرفنا به؟
نحن نعلم أن هناك نوعا من الناس يعجزه أن يقول «لا.» فهو يخشى إن قالها أن ينعزل عن الناس أو يعزله الناس عنهم، وهو يخاف أن يؤذي أحدا كما يخاف أن يؤذيه أحد، وهو يظن إذا سكت عن قول لا، أنه سيرضى عن كل شيء وعن كل إنسان، ولكنه لا يستطيع أن يرضى عن كل شيء ولا عن كل إنسان، فالقوى التي يخشى إن هو عارضها أن تطرده وتتعقبه، تتصارع فيما بينها، وهو إن سكت أو احتج محكوم عليه بالوقوع تحت رحمتها والتمزق بسببها. هل يستطيع أن يخلص نفسه منها إذا واجهها بقول لا؟ هل يضمن أن ينجو من شرها جميعا فلا تناله إحداها؟ إنه يحاول بالصمت أن ينجو من هذه القوى جميعا، يحاول ألا يبدي مقاومة، أن يصبح «لا أحد»، ولكنه لا يستطيع أن يكون «لا أحد»، ومحاولته أن يكونه تفضحه، إنه في كل لحظة معرض لألوان من الجزاء، وهو لا يستطيع أن يكتفي بموقف المعذب والضحية، بل لا بد له أن يقوم بدور المنفذ والجلاد، مهما حاول أن يغسل يديه ويعلن براءته، ومن ثم يحاول أن يسلم نفسه لإحدى هذه القوى ، غير أنها لا تحميه، بل تهدد بابتلاعه، وفي طريقه إلى الهروب من إحداها يقع في أسر الأخرى، ويبدأ في القفز من إحداها إلى الأخرى، لكنه لا يحتاج إلا لقوة واحدة تعطيه القدرة على القفز، ويحاول أن يتعالى عليها جميعا، أن يقول للكل لا، غير أن التعالي لا ينجح إلا في الظاهر، فهو ما يزال في حاجة إلى قوة تؤكد له أنه متعال ومرتفع. وتتنافس القوى عليه، ويضطر أن يدافع عن ذاتيته التي يتهددها الضياع؛ فيقول لهذه القوى لا، ويقول لنفسه لا، ولكنه يجد أنه لا يستطيع أن يقول لها جميعا «لا»؛ فيوافق على إحداها أو بعضها، ويوحد بين ذاته وبينها، ويكتشف في التوحيد تهديدا جديدا بفقدان الذات، ويرى نفسه وحيدا لا يجد شيئا يتمسك به، فيبدأ في البحث عما هرب منه، ويفزع إلى المحدود هربا من غير المحدود، ويتلمس الشكل نجاة مما لا شكل له، ويدخل مختارا في أسر الجبر والإلزام؛ ليخلص من حرية الفراغ، ويسأل نفسه: هل أستطيع أن أحتفظ بذاتيتي إذا قبلت كل القوى والأنظمة ووحدت نفسي بها؟ وإذا رفضتها جميعا فهل أحافظ عليها؟ وبعد أن كانت المسألة في أول الأمر مسألة تكيف مع القوى الخارجية والداخلية، تصبح المشكلة عنده هي فقدان الذات أو الاحتفاظ بها، ويعرف الآن أن من الصعب على الإنسان أن يقول «لا»، وأصعب عليه ألا يقولها، فهو يقولها ليحتج على إضاعة ذاته (وماذا يكون بدونها؟) فإذا قالها عادت فهددت هذه الذات بالضياع، وهو إن امتنع عن قولها، وحاول أن يعزي نفسه بالارتفاع فوق القوى والأنظمة والأشكال جميعا، عاجله الخوف والقلق من أن ذاته لم تتحد مع شيء ولا ارتبطت بشيء، وهذا من أبشع ألوان الخوف والقلق في عصرنا الذي نعيش فيه.
كيف ينجو من هذا القلق من يبحث عن النجاة؟ بالكلام؟ ولكن الكلام يبدو سخفا وعجزا، حيث يصبح الكلام الحقيقي والحوار الحقيقي مستحيلا، بالصمت؟ ولكن هل يخلص الصمت من الخوف، وقد تسبب الخوف فيه؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى بغير لغة، فحتى الصمت نفسه نوع من الكلام مع الذات، حين تتكسر جسور الكلام مع الآخرين ، لا بد إذن أن يبحث الإنسان عن لغة، هنا يختلف الناس بعضهم عن بعض، فالبعض يسكت، وهم ملايين في عالمنا الحديث، وفي صمتهم - أو لنقل في عجزهم عن الكلام - نوع من الاحتجاج الأخرس، نوع من قول لا، والبعض الآخر يهرب إلى الشعارات والحكم والكلمات المحفوظة؛ لعجزه عن الكلام الحق، فلا يلبث أن يفزع من هذه الشعارات والحكم والكلمات المحفوظة، وفريق ثالث يبحث في الفن والعلم عن لغة جديدة، لا بل يحاول أن يوجدها في كل عمل جديد، ولغته هنا نوع من قول لا، أو من الاحتجاج على لغة لم تعد تقول شيئا.
قول «لا» أمر عسير؛ لأن القول نفسه أصبح عسيرا، واللغة أصبحت حملا ثقيلا مفروضا من أعلى، وقول لا أمر صعب؛ لأنه احتجاج على ضياع اللغة الحق، لغة الحوار بين البشر، لغة السؤال والجواب، والرأي والاعتراض عليه. قول «لا» في وسط الصمت السائد كإحداث ثقب في سفينة، إنه نوع من الاحتجاج يهدد صاحبه بالخرس والصمت، والخوف من الصمت - حتى ولو هرب الإنسان إليه - من أبشع أنواع الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه.
خوف من ضياع الذات، وخوف من فقدان اللغة، وقلق من أن يصبح الإنسان شيئا بين الأشياء، أو يصبح أخرس يخدع نفسه بالحياة في جنة الصمت أو يتحايل على الحياة في جحيمه، كلاهما نوع من تدمير الذات، وكلاهما من أبشع ألوان الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه.
قد يظهر هذا التدمير ملفتا للأنظار في الانتحار أو الجنون أو الفزع إلى حياة اللذة المسعورة أو حياة العزلة والرهبنة المفروضة، ولكنها جميعا ألوان من تدمير الذات، تحاول كلها أن تهرب من خيبة الأمل في نفسها وفي العالم لتقع من جديد في خيبة الأمل.
كيف نقاوم هذا التدمير الذي يتفشى كالوباء في كل مكان؟ كيف نستطيع أن نقول «لا» دون أن نفقد ذاتنا أو نضطر إلى الصمت الأخرس؟ كيف نحافظ على هذه القوة الأصيلة في الإنسان؛ قوة الاحتجاج وقول لا؟ كيف نصر على المقاومة وسط أمواج الدمار التي تلتف علينا، بغير أن نخاف من الخوف، وبغير أن نخدع أنفسنا ببطولة زائفة أو نعزيها بالانعزال التعيس؟ في أمواج الدمار نفسها ينبغي علينا أن نبحث عن قارب النجاة. وسط القوى المتصارعة يجب أن نقاوم. بين أصوات الزيف وصيحات الخادعين لا بد أن نصرخ قائلين: لا. هنا أيضا يجب أن نبحث عن كل من يصرخ مثلنا ويقول «لا»، سنجد بينهم كثيرين من المزيفين والدجالين ومن لا يعلنون السخط إلا لكي يتعرفوا على الساخطين، وليست الصعوبة في أن نجد المحتجين الحقيقيين بدلا من المحتجين المزيفين، بل هي في اكتشاف الحقيقيين بين صفوف المزيفين. وإن لم نفعل كذلك فنحن نخون أنفسنا، ونخون الوجود الحق الذي نقول باسمه «لا».
قول لا أمر صعب؛ لأنه احتجاج على تدمير ذات الإنسان، ولأنه يهدد قائله بالدمار. والخوف من الدمار - حتى ولو هرب الإنسان منه بتدمير نفسه بالموت أو الجنون أو الصمت - من أبشع ألوان الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه. •••
لنضرب مثلين على الوقوف في وجه الموت، وعلى مقاومة العنف والوحشية.
أما أحدهما فنتعلمه من أب الشعراء هوميروس، وأما الآخر فمن شاعر حديث هو برتولت بريشت، فالقارئ يذكر من قراءته للأوذيسة كيف مكر أوديسيوس بالوحش الخرافي الرهيب «الكيكلوب»، وكيف استطاع أن يفقأ عينه الواحدة بعد أن ابتلع رفاقه الملاحين واحدا بعد الآخر أمام عينيه.
في الأنشودة التاسعة من الأوديسة يحدثنا البطل المغامر أوديسيوس كيف اتجه مع رفاقه الاثنى عشر إلى بلد الكيكلوب، هؤلاء العمالقة الجبارين، الذين لا يعرفون شريعة أو قانونا، ولا يزرعون بأيديهم ولا يحرثون، بل ينمو كل شيء في أرضهم، اعتمادا على الآلهة الخالدين. اقترب هو ورفاقه من الجزيرة التي يسكنها العمالقة، ورأوا من بعيد كهفا يشرف على البحر، تظله أشجار الغار، «هناك اعتاد هذا العملاق الوحشي أن يقضي الليل ويرعى الحيوانات بعيدا لا يختلط بغيره، بل يعيش في عزلته ويتفكر فيما يخالف القانون، فلقد خلق كما تخلق الأعجوبة الخارقة، لا يشبه رجلا يأكل الخبز، بل قمة صخرية كثيفة الشجر على جبل مرتفع، تبدو واضحة للعين، بعيدة عن غيرها من القمم.»
حمل أوديسيوس معه قربة نبيذ أحمر، وسلة مملوءة بالطعام، استعدادا لمواجهة رجل شديد البأس، لا يعرف شريعة ولا يخضع لقانون. ودخل هو ورفاقه إلى الكهف، فأكلوا وأشعلوا نارا وقدموا ضحية، وجلسوا ينتظرونه، ودخل العملاق أخيرا، يحمل حملا ثقيلا من الخشب ليسوي عشاءه، ودفع ماشيته في الكهف، ثم رفع صخرة هائلة سد بها الباب، وبعد أن حلب الماشية وفرغ من شئونه؛ أشعل نارا ولمح الغرباء على ضوئها فسألهم في صوت «تكسر له القلب الحبيب»: «أيها الغرباء، من أنتم؟ ومن أين أتيتم سيرا على الدروب الرطبة؟ هل جئتم في مهمة؟ أم تجوبون البحار المالحة كالقراصنة الذين يتجولون هنا وهناك ويخاطرون بحياتهم حين يجلبون الأذى على غيرهم؟» ويجيبه أوديسيوس فيروي عليه أنباء رحلته من طروادة وكيف ضل الطريق إلى الوطن، ويطلب منه أن يحميه ورفاقه وأن يخشى الآلهة فيكرمهم. لكن العملاق يسخر من سذاجته؛ إذ كيف يدعوه إلى خشية الآلهة والعمالقة لا يكترثون بزيوس ولا بغيره؟ وقفز العملاق ومد يده إلى الرفاق فتناول اثنين منهم قذف بهما على الأرض كالكلاب الصغيرة، ثم أعدهما لوجبة العشاء وأكلهما - كالأسد الذي يتغذى في الجبال - فلم يبق منهما لحما ولا عظما، وبعد أن فرغ من الطعام وشرب اللبن تمدد على الأرض ونام.
خطر لأوديسيوس أن يطعنه في صدره، ولكنه تذكر أنه لن يستطيع هو ورفاقه وحدهم أن يزحزحوا الصخرة الهائلة التي سد بها الكيكلوب باب الكهف، ولم يبق أمامهم إلا أن ينتظروا الفجر الإلهي وهم يتنهدون.
ولم تكد تشرق أيوس ذات الأصابع الوردية، حتى أشعل نارا وبدأ يحلب ماشيته، ثم أمسك باثنين من الرفاق وفعل بهما ما فعله بصاحبيهما! وراح أوديسيوس يفكر في وسيلة تكتب المجد لراعيته أثينا وتجعل الكيكلوب يكفر عن ذنوبه، ورأى عصا خشنة تركها العملاق وراءه، خضراء من خشب الزيتون، قدرها هو ورفاقه في ارتفاع سارية سفينة سوداء ذات عشرين مجدافا، عريضة تحمل البضائع وتعبر الأعماق العظيمة، وأمر أوديسيوس رفاقه أن يشذبوها، ثم سن طرفها الأعلى ووضعها في النار حتى حميت ، ثم أخفاها تحت أكوام التبن، وحين عاد العملاق في المساء وفعل ما فعله من قبل، تقدم منه أوديسيوس وفي يده وعاء مملوء بالنبيذ الأسود وطلب منه أن يشربه، وأفرغ الوحش الشراب العذب في جوفه، وطلب أن يسقيه مرة أخرى وأن يقول له اسمه على الفور، حتى يقدم له هدية تفرح بها نفسه، وبعد أن شرب ثلاث مرات، وبدأت الخمر تعبث برأسه، قال له أوديسيوس: أيها الكيكلوب! تسألني عن اسمي المشهور، حسنا! سأقوله لك! أما أنت فأعطني هدية الضيافة كما وعدتني! اسمي هو «لا أحد»، وأبي وأمي وكل رفاقي يدعونني «لا أحد!» ووعده الكيكلوب أن يقدم له الهدية، أما هذه الهدية فهي أن يكون آخر من يأكلهم من الرفاق!
وقهر النوم ذلك القهار فتمدد على الأرض فاقد الوعي، وراح يلفظ النبيذ ولحم البشر من فمه، وأخرج أوديسيوس الساري الجبار من تحت الرماد فحماه في النار حتى أصبح شواظا ملتهبا، وأخذ يشجع رفاقه حتى حملوه، وأوديسيوس متعلق بطرفه، وراحوا يغرزونه في عين الكيكلوب التي اندفع منها الدم الساخن، وأزت كما تئز فأس ملتهبة يضعها الحداد في الماء البارد؛ زعق الوحش وزأر، واهتز الصخر لصوته، وراح ينادي على زملائه الساكنين في الكهوف المجاورة، فتجمعوا على باب الكهف وأخذوا يسألونه إن كان أحد من الفانين قد اغتصب خرافه؛ إذ لا يصدق أن يكون أحد منهم قد اعتدى عليه بالقوة أو بالخديعة. ورد عليهم ذو الأسماء المشهورة: «يا أصدقائي! «لا أحد» هو الذي اعتدى علي بالحيلة لا بالقوة! فأجابوه: إن كان لا أحد قد اعتدى عليك وكنت وحدك، فإن مرضا أصابك به زيوس ولا سبيل إلى الشفاء منه، صل إذن لإلهك بوزيدون (إله البحار).»
هكذا تكلموا ثم انصرفوا إلى حالهم، أما أدويسيوس فقد ضحك «قلبه الحبيب من اسمه الذي خدعهم، ومن الخاطر الذي لا يلام.» جلس الكيكلوب على باب الكهف، وفكر أوديسيوس في حيلة أخرى تنجيه ورفاقه من الموت، فربط كل ثلاثة من الخراف السمينة بأكياس تعود الوحش أن ينام عليها، كما ربط رجلا تحت كل واحد يتوسطها، ودفن نفسه في صوف جدي وثير، وهكذا أخرج الكيكلوب الأغنام لترعى فأفلت المغامر الماكر من بطش ذلك الجبار! واستطاع الضعيف العاجز أن يصيب العملاق «ذا الأسماء المشهورة» بالعمى بعد أن قهره بالخمر والمكر!
هناك أبطال كثيرون علموا الإنسان كيف يقتل وكيف يموت، أما أوديسيوس فهو يعلمه كيف يواجه خطر الموت، فيفلت منه في كل مرة ويبقى حيا!
لقد رأينا كيف مكر بالوحش ذي الأسماء المشهورة، فهو ينكر اسمه فينجو من بطش الوحوش الأخرى: «إن لا أحد هو الذي اعتدى علي بالحيلة لا بالقوة.» وهو يتعلق ببطن الجدي السمين فلا تصل إليه يد العملاق، ويفعل كل ما يستطيع لكي يكون «لا أحد»، غير أنه لا يظل كذلك، ولا يحتمل أن يبقى مجهول الاسم، فحيلته الكبرى هي إنكار نفسه للإبقاء على نفسه، وليس من قبيل الصدفة أن يظهر أوديسيوس مجهول الاسم أمام الوحش ذي الأسماء المشهورة، فلعله رأى أن إنكار النفس هو أقصر طريق إلى الشهرة، وأن التخلي عن الذات هو أضمن وسيلة للمحافظة عليها.
عرف أوديسيوس إذن كيف يحافظ على ذاته أمام الموت، لم يقض على الوحوش الهائلة، بل فوت عليها فرصة القضاء عليه، ولم يبطل تأثيرها وسحرها، بل عرف كيف ينجو بنفسه منها، ولم يدخل معها في صراع ولا صدام حقيقي، كما فعل هرقل مع قوى الشر في مغامراته المشهورة، بل اكتشف نقط الضعف في قوتها الهائلة، وجانب القوة في ضعفه الإنساني. إنه لا يستسلم أبدا لقوة تريد أن تمحوه أو تبتلعه، فالجزر المسحورة التي تعده بالسعادة عن طريق النسيان، لا تستطيع أن تغريه بالبقاء، والساحرتان القديرتان «كاليبسو وكريكه» تفعلان كل ما في قدرتهما لإقناعه بالزواج منهما فلا تستطيعان أن «تحركا الشجاعة في صدره» على الارتباط بهما؛ ذلك أن الزمن الذي لا يتوقف ينجيه من العمالقة والوحوش، فهو المسافر الذي لا يستقر في مكان (سلف السندباد!) يملأ الشوق صدره إلى وطنه إيثاكا (خشنة هي إيثاكا ، ولكنها طيبة، وصالحة لإطعام الرجال). وتمر عليه التجارب المرة والعذبة، فلا تنسيه أنه ليس هناك ما هو أعذب من الوطن والأبوين، إنه المسافر الباقي، المحافظ على ذاتيته دائما، في بعض الأحيان يضطره الأمر إلى تقديم الدليل، حين تنكسر به السفينة على الشواطئ الغريبة أو يتخفى في ملابس الشحاذين، أو يعود إلى بيته، ولكن كيف يتم له ذلك؟ بالتذكر؛ فالتذكر هو الخيط الذي يمسك به على محطات رحلته، والتذكر هو الذي يحفظه من أن ينسى نفسه أو ينسى، وحين تتغلب عليه آلام التذكر تظهر حقيقته، فهدفه واحد لا يتغير، وهو الرجوع إلى وجوده القديم، والعودة إلى بيته ووطنه، وحين يعود إلى هذا الوطن، ويدخل بيته كما غادره شابا لم تغيره السنون، يبدو كأن الزمن الذي لم يكف عن الجريان قد توقف، وأن شخصيته التي تهددتها أهوال الرحلة لم تتغير ولم تصب بسوء، لقد كانت كالقدر المعلق فوق رأسه على طول الطريق، وإذا كانت النبوءة قد أخبرته من قبل أنه سيتعذب وسيعود إلى وطنه، فقد ظلت هذه النبوءة كالمستقبل الذي يتذكره قبل أن يحدث، لا الماضي الذي يستحضره بعد أن يفوت، وظل هو أوديسيوس الماكر الذي ينتصر على الخطر قبل أن يقع له، كأنه لا يتعلم ولا ينسى، ومع ذلك فالمكر له حدود، فهو مهما بالغ فيه لا يستطيع أن ينسى ولده، ولا أن يضحي باسمه، وهو مهما ادعى الجنون أو أنكر الاسم فلا يلبث أن يفضحه حرصه على المجد، كما يفضحه حرصه على الابن، وكلاهما ضمان لتخليد الذات عبر الزمن الدوار.
ونهاية أوديسيوس نفسها - على اختلاف رواياتها - تؤكد ذاتيته ولا تمحوها، فسواء كان موته على يد ولده تليجونوس من الساحرة كيركه، أم على يد ولده تليماخوس من زوجته بنيلوبه اللذين قتلاه دون أن يعرفاه، فإن موته لا يعني القضاء على شخصيته، على الرغم من محاولته أن ينكر نفسه ويبدو كأنه «لا أحد»؛ ذلك أن الولدين - وإن كتب على يديهما هلاك الأب - يحلان محله ويبقيان على اسمه من بعده، وذلك بأن يتزوج تليماخوس من كيركه وتليجونوس من بنيلوبه، وهكذا يمتد ذكر أوديسيوس امتداده الطبيعي على طريق الابن، وامتداده المعنوي عن طريق المجد والشهرة؛ لكي يبقى في ذاكرة الزمن رمزا للبطل الذي حاول أن ينكر نفسه فلم يستطع أن يكون «لا أحد»! •••
وتقابلنا شخصية أوديسيوس في العصر الحديث عند الشاعر برتولت بريشت في أقاصيصه «حكايات السيد كوينر» هنا نجد السيد «ك» (وهو اختصار لاسمه كوينر) الذي يصر على تسمية نفسه «لا أحد»، إنه يحاول أن يجعل عدم الاكتراث مبدأ حياته، فتكشف حياته وأقواله عن اكتراثه بكل شيء! إنه يأخذ على سقراط أن منهجه هو عدم الاكتراث (لو أنه درس شيئا لعرف شيئا)، وهو يقف في صف العدالة (فمسكنه يجب أن يحتوي على أبواب كثيرة للخروج)، وهو يؤثر الفيل على كل الحيوانات؛ فالفيل يجمع بين المكر والقوة، ويستطيع أن يكون حزينا وغضوبا، وهو لا يؤكل ويتقن العمل، ولا يلفت الأنظار بلونه ولكن بضخامته، وهو إذا أحس باقتراب نهايته ذهب إلى الغابة فمات وحيدا وفي صمت.
إن أوصاف السيد كوينر للحيوان الأثير لديه تنطبق على نموذج الإنسان عنده، فهو لا يحب أن يلفت الأنظار إليه، ويبالغ في ذلك إلى حد أن يسمي نفسه «لا أحد»، غير أن هذه التسمية لا تخدعنا؛ فالسيد كوينر ليس «لا أحد»، وهو لا يحب لنفسه ولا يمكنه أن يكون كذلك، فما الذي يدفعه إلى هذه التسمية؟ إن حكاية صغيرة من حكاياته توضح ذلك، «فقد التقى ذات يوم برجل لم يره منذ زمن طويل، وحياه هذا بقوله: إنك لم تتغير أبدا، فرد عليه السيد ك. قائلا: آه! وشحب وجهه.»
لا بد أن السيد ك. قد أحس بأن أمره افتضح، وإلا فلماذا شحب وجهه؟ هل شعر من تحية صديقه أنه يتهمه بأنه وقف في مكانه فلم يتطور ولم ينضج ولم يتقدم خطوة إلى الأمام؟ قد يكون هذا تفسيرا للشهقة التي انطلقت عنه، ولكن لو صح ذلك لتوقعنا أن يحمر وجهه خجلا لا أن يشحب اصفرارا، أم لعله شعر أن الرجل قد كشفه وتبين أنه لا يزال كما هو واحدا من الملايين بلا صفة تميزه ، و«سيدا» كآلاف غيره كلهم «كافات»؟ لو كان الأمر كذلك لما حق له أن يشحب وجهه، بل لرضي بذلك وفرح؛ لأنه لم يتناقض مع نفسه، لا يبقى إذن سوى أن نقول: إن وجهه قد شحب؛ لأنه غير راض عن الدور الذي يمثله دون أن يعبر عن حقيقته، ولأن صديقه قد عرف أنه ليس ذلك «اللاأحد» الذي يحاول جاهدا أن يدعيه، فهو قد أنكر ذاتيته، وراح يحملها كأنها عبء لا يستطيع أن يتخلص منه، ومع ذلك فقد أكدها بإنكاره لها، وهذا هو الذي فضحه فشهق وشحب وجهه.
هل يكون «السيد ك.» صورة جديدة من أوديسيوس في كهف الوحش الكثير الأسماء؟ إن أوديسيوس خائف من أن يكون لا أحد، إنه لا يمثل دور المنكر لنفسه كما يفعل شبيهه الحديث، بل يدعيه دفاعا عن اسمه الحقيقي وتخليدا له، ذلك هو مصدر خوفه، أما السيد ك. فقد تخلى عامدا عن اسمه، ولسنا ندري من حكاياته إن كان يحمل اسما سريا مما تحمله الشخصيات الخرافية التي تعيش تحت الأرض. فتخليه عن اسمه لا يعني أنه تخلى عن ذاته، بل العكس هو الصحيح؛ لأن اسمه الجديد نوع من الإفلات من الاسم، يتيح له في نفس الوقت أن يعرف وأن يتجاهل ما عرف، أو يتظاهر بتجاهله. ولقد افتضح أمره؛ لأنه تعمد أن يستبعد التسمية؛ فلم يفلح في أن يظل بغير اسم، ورغم أنه لا أحد فلم ينجح في أن يكون لا أحد، أراد أن يبعد عن نفسه شبهة المعرفة، فتبين أنه عرف إلى حد السخط والثورة، وأصبح رمزا لكل من يقف موقف الأعزل في وجه القسوة والظلم والوحشية، فيقاومها بعجزه عن المقاومة!
أضف إلى هذا كله أن السيد «ك» ليس أي واحد من الناس، إنه يلقي المحاضرات، ويثبت أنه نافع (الفيل كذلك حيوان نافع: فهو يؤدي شيئا في سبيل الفن إذ يقدم سن الفيل!) إنه يستطيع في بعض الأحيان أن يحتج، فيعلن في إحدى خطبه العامة أنه يستنكر العنف والإرهاب، هنالك يلاحظ أن الحاضرين انسحبوا من محاضرته ، ويلتفت السيد «ك» ليرى الإرهاب نفسه واقفا وراءه! فإذا سأله ماذا كان يفعل؟ أجاب بأنه عبر عن سخطه عليه، يسأله تلاميذه: لم لم يكن له ظهر يحميه؟ أو لماذا خلق بغير عمود فقري؟ فيروي لهم حكاية عن «السيد إجه
Herr Egge »، ففي زمن النازية الذي تعطلت فيه القوانين وسادت شريعة الفوضى جاء أحد عملاء هذا «النظام» إلى السيد «إجه» عارضا عليه المسكن والمأكل، وسأله: هل تقبل أن تخدمني؟ ومضى السيد «إجه» يخدمه سبع سنوات بدون أن يقول كلمة واحدة، وسمن العميل من كثرة النوم والأكل وإصدار الأوامر حتى مات، وحمل السيد «إجه» جثته إلى الخارج ونظف البيت وتنفس الصعداء، وقال: «لا.» ثم يعقب السيد «ك» قائلا: أنا بالذات لا يصح أن يكون لي عمود فقري؛ إذ يتعين علي أن أعيش أطول مما يعيش الإرهاب.
وهنا نسأل: هل كان في استطاعة السيد «إجه» أن يصلح العميل ويرده عن خدمة العنف والإرهاب؟ لا شك أنه لم يكن يستطيع. هل كانت مصادفة أنه بقي حيا؟ نعم كانت مصادفة، هل أثمر الاحتجاج الصامت أية ثمرة؟ وهل فهم أحد أنه احتجاج؟ نعم، فقد فهمه السيد كوينر على أي شيء يحتج هذان السيدان إذن؟ من الواضح أن احتجاجهما البعيد المدى موجه ضد الإرهاب، أما الاحتجاج الظاهر فهو على التورط في الكلام، هنا يختلفان عن أوديسيوس، فلولا أناشيد هوميروس في ملحمته المشهورة لبقي أوديسيوس «لا أحد» مجهولا، أما السيد كوينر فلا يمكنه في زمن البطش أن يغني أو يتكلم أو يعلن شيئا، حتى ولو كان هذا الشيء هو اسمه؛ ولذلك فقد أنكر هذا الاسم، ولولا هذا الإنكار لظل «لا أحد». وأما السيد «إجه» فلولا الصمت الذي لجأ إليه لبقي هو أيضا لا أحد، كلاهما هرب من العدم إلى العدم، من ضياع طبيعي للاسم (أو قل للشخصية والذات في ظل الإرهاب) إلى ضياع مفروض للاسم، غير أن حيلتهما العاجزة تثبت قوتها، واستسلامهما الصامت يثبت أنه هو السلاح الوحيد للمقاومة. لقد بين كلاهما أننا نعيش في عالم يهدد ذاتية الإنسان بالتلاشي ؛ ولذلك فليس عجيبا أن نجد بريشت يوصي طوال حياته «بالتنكر»، ويصف نفسه - لكثرة الأقنعة التي لبسها - في نوع من الاعتزاز بمكره فيقول: أيا كان الذي تبحثون عنه، فأنا لست «هو»، وينصحنا في قصيدة مشهورة فيكرر القول: «أقول لك: أخف الآثار.» ويصف المدن التي نعيش فيها اليوم بأنها كالأدغال التي تموت فيها الفيلة؛ لهذا كله وجدنا الذات المهددة بالضياع في مركز أعماله الشعرية والمسرحية، فشخصية جالي جاي في مسرحية «رجل برجل» عنوان الإنسان الذي يمكن في العصر الحديث أن يتشكل بالشكل الذي يراد له، وسائقو الطائرة المحطمة في مسرحية «بادن» التعليمية عن التفاهم والقبول، ويتحتم عليهم التضحية بشخصياتهم في سبيل المجموع التاريخي الرهيب، وشن-تي، إنسانة ستشوان الطيبة والشريرة معا، تتصارع فيها شخصية المحسنة الفقيرة والمستغلة الجشعة، وتظل على هذا الصراع بين الفردية والمجموع حتى تصرخ في النهاية: لا بد من إيجاد حل. والسيد شميت في مشهد المهرج المفزع في المسرحية التعليمية السابقة يتخلى عن أعضائه شيئا فشيئا ليحس بالسعادة حتى ينتهي به الأمر إلى التخلي عن رأسه. كل هذه الشخصيات لا تحتج بالمعنى المألوف عن الاحتجاج، إنها تخفي هذا الاحتجاج فتكون النتيجة أن تظهره، وتخنق صوته فيرتفع أعلى مما كان، وتحاول بكل قوتها أن تنكر ذاتها فتؤكدها، وسواء كان بريشت صادقا فيما دعا إليه صراحة في بعض مسرحياته التعليمية من سحق الفرد ليحيا المجموع، والتضحية بالثائر لتبقى الثورة «لنلاحظ بهذه المناسبة أنه عدل عن هذا الموقف البشع في مسرحياته المتأخرة، وراح يبحث عن حل آخر كما فعل مثلا على لسان تشن-تي في مسرحية إنسان ستشوان الطيب.» فإنه يشير إلى نوع من الاحتجاج الأخرس الذي يخشى أن يكون هو الاحتجاج الوحيد الذي بقي للإنسان في عصر التجمعات والمحاكمات ومعسكرات الاعتقال، والملايين الصامتة المستسلمة في ظل نظم الفوضى التي نسميها بالفاشية والنازية، وإذا كان السيد «ك» والسيد «إجه» لا يقولان «لا» واضحة عالية، بل يبعدان عن نفسيهما شبهة الاحتجاج بكل وسيلة حتى ولو استدعى الأمر أن يتخليا عن أسمائهما، فإن سكوتهما يظل عالي الصوت، واستسلامهما يصبح هو السبيل الوحيد للمقاومة، وامتناعهما عن قول «لا» يظل أقوى أثرا من كل صيحات المتمردين والغاضبين، ولا شك أن هذا الاحتجاج الصامت الساخر من كل احتجاج هو في حقيقته أقوى من كل احتجاج. صحيح أن السيد «ك» والسيد «إجه» لم يحلا مشكلة «اللا آحاد» الكثيرين في هذا العصر، ولكنهما قد أشارا إليها على أقل تقدير. •••
إذا كان في احتجاج أوديسيوس و«السيد ك» جانب من السخرية الخفية بالبطش والادعاء والظلم والزيف الذي يرتدي رداء البطولة، فإن هناك أنواعا أخرى من السخرية والساخرين تستطيع أن تملأ قلوبنا بالبهجة وتضيء عقولنا بالمعرفة، ولسنا في حاجة إلى البحث في الملاحم القديمة، ولا لتنقيب في آداب الأمم الغربية لنجد آثار هذه السخرية المرحة؛ فهناك حكاياتهم التي تدور على ألسنة الشعب في الأسواق والطرقات، وهناك مغامراتهم التي نتذكرها في كل مناسبة تدعو إليها، هناك جحا في حياتنا، وهناك الأويلنشبيجل أو جحا الألمان. ويكاد يكون لكل شعب جحاه الطيب الضاحك الزاهد في كل ادعاء أو إصلاح، القادر مع ذلك على تصحيح كل وضع مقلوب أو شاذ.
1
ولا يسمح المجال بالإضافة في الحديث عن هذين الأحمقين العاقلين، ولا يصلح للكلام في فلسفة الضحك والمضحكين؛ فذلك شيء يمكن أن يرجع فيه القارئ إلى كتب كثيرة تعالج هذا الموضوع، ولكننا نلاحظ فحسب أن أسلوبهما هو أسلوب الإغراب الذي جعل منه بريشت وسيلة المعرفة التي تكشف عن مجتمع كل ما فيه غريب ومحتاج إلى التغيير، فالمعرفة التي يعلمنا إياها جحا أو الأويلنشبيجل هي بدورها معرفة كاشفة، وشخصيتهما تشترك مع شخصية الأحمق أو المغفل في العصر القديم والوسيط إلى يومنا هذا في كشف «العالم المقلوب» الذي نعيش فيه، وهم جميعا يسلطون لسانهم السليط أو نكتتهم اللاذعة عليه؛ لأنهم يرونه دائما عالما يقف على رأسه.
ولعل في شخصية سقراط الفيلسوف المبتسم المتواضع من ملامح شخصية الأحمقين المشهورين أكثر مما توحي به كتابات أفلاطون أو أكسينوفون التي بقيت لنا عنه، ولعل هذا أيضا هو الذي دفع الكاتب الساخر أرسطوفان إلى هجومه اللاذع عليه، فهو في مسرحية «السحب» يصوره حالما خياليا، ويعلقه في سلة بين السماء والأرض، ويمثله صاحب مذهب صوفي وخرافي، ويجعله في النهاية يحرق مدرسته الفكرية، ومع ذلك فقد فشل هجوم أرسطوفان؛ ذلك لأن سقراط لم يكن يحمل مذهبا بقدر ما كان يجسده، وهذا وحده هو الذي جعل أكثر الفلاسفة المتأخرين والعصور التالية ترفعه إلى درجة التقديس. لقد كان - كما قال عنه كير كجارد بحق - سخرية خالصة، ولكن هذه السخرية لم تكن تشبه في شيء تلك النزعة التهكمية المرة التي يطلق عليها اسم «الكلبية»
cynicism ، فهي - كما يقول عنها كير كجارد أيضا - «نفي مطلق لا متناه»، يعبر به صاحبه عن سخط أبدي، ولكن هذا السخط يختلف عن خيبة الأمل، فهو لا يصدر عن مرارة الفشل، بل عن حرية العلو فوق الأوضاع القائمة، بغية نقدها وتغييرها والكشف عن تناقضاتها.
ومع ذلك قد يكون من المبالغة أن نقول عن الأويلينشبيجل أو عن جحا أنهما ساخران بهذا المعنى، فكلاهما لا يزعم أنه يلتزم بدعوى أو مذهب أو إصلاح، بل يدخل نفسه في مآزق لا يستطيع أن يخرج منها؛ لكي يكشف بذلك عن حرجها أو تناقضها؛ ولذلك كانت حريته حرية الكشف والتعريف وتسليط الأضواء.
وقد عرفت الفلسفة اليونانية القديمة شخصية جذابة هي شخصية الفيلسوف ديوجينيس، أو ديوجينيس الكلبي كما اشتهر اسمه، ذلك المغفل الحكيم الذي راح في ضوء النهار يتجول في الأسواق حاملا مصباحا في يده، باحثا عن إنسان. لم يكن ديوجينيس بالطبع يجهل أن المصباح لا ضرورة له في وضح النهار، ولا كان غبيا إلى الحد الذي يجعله يبحث عن «إنسان» لا وجود له، ولكنه اتبع أسلوبا في الإغراب يجعله أقرب إلى «الأويلنشبيجل» أو إلى جحا، وإن اختلف عنهما في ملامح كثيرة؛ فهو لم يكن يدعو إلى حكمة «اللوجوس» التي كانت تلزم الجميع، ولا كان يخضع للقوانين اليونانية التي آمن بها سقراط إلى آخر لحظة من حياته كما ضحى من أجلها بهذه الحياة، ولكنه كان ساخطا على طريقته، فهو يريد أن يقول للمدينة اليونانية «البوليس» إنه يكشف لها حقيقتها، ويقدم لها المرآة التي لا تحب أن ترى وجهها فيها. إنه يعيش عيشة الكلب، ويسير في الشوارع والأسواق حاملا مصباحه المشتعل في يده، وكأنه يريد أن يقول لأهل المدينة: لست أنا الكلب، بل أنتم الكلاب! لا بل إنني لا أزعم أني إنسان، وإنما أبحث بينكم عن إنسان، أعرف سلفا أنني لن أجده؛ لذلك لم يكن هو الساخر الحر الذي نعنيه، بل الباحث الذي خاب أمله في عالمه؛ فراح يبحث عن شيء يعرف مقدما أنه لن يعثر عليه. إن بحثه عن الإنسان ليس بالبحث الحقيقي، وإنما هو أقرب إلى محاولة يائسة يقوم بها رجل لم يجد ما يبحث عنه ولم يجده، ومن ثم قيل عنه بحق: إنه الفيلسوف الكلبي، أو المتهكم الهازئ الذي لا يشارك مشاركة حقيقية في الفعل الذي يقوم به، ولا يتوقع أن يصل من ورائه إلى نتيجة، بل يؤمن إيمانا مسبقا بأنه جهد عقيم لا جدوى منه.
في أي شيء يختلف هذا الكلبي الحكيم عن الأحمق والمغفل؟
قلنا: إن الأول يتهكم من أجل التهكم، ويصدر في سلوكه أو قوله عن مرارة وخيبة أمل في نفسه وفي العالم، أما الثاني فيسخر سخرية الساخط الحر، وإن لم يزعم لنفسه أنه يقوم بدور المصلح أو الداعية؛ ذلك أنه يحشر نفسه في مآزق محرجة؛ ليبين لنا أننا نحن أيضا نعيش في مثل هذه المآزق، وهو لا يقسم العالم إلى مخدوعين وخادعين وضحايا ومذنبين، بل يسلم الضحايا إلى قدرهم، ويبين للمذنبين أيضا أنهم ضحايا ومخدوعون، ففي كل مغامرة يقوم بها، وفي كل حكاية من حكايات غفلته وعبطه يثبت لنا أنه قد دخل في مأزق لن ينجو منه إلا بصعوبة، حتى ليخيل إلينا أنه يريد في كل حركة من حركاته أن يدمر نفسه. إنه يتعذب، ولكنه العذاب الذي يسبق كل معرفة حق؛ ولذلك فهو إذا ضحك على ذقون الناس وأضحكنا لم يتشف فيهم ولم يحاول أن يثبت أنه يعرف خيرا منهم، وإنما يتجاهل أو يعترف بجهله لكي يفضح من يدعون المعرفة الحقة، كما كان يفعل سقراط سواء بسواء، ولكنه لا يهتم بأن يثبت لنا جهل الغير، ولا بأن يعلمنا شيئا لا نعلمه، بل يكتفي بأن يظهر لنا كيف يتعذب من تعالم الآخرين، ويعبر بكلماته المقلوبة عن ألمه لأحوال «العالم المقلوب» الذي يعيش فيه، إنه يكشف لنا عن هذا العالم، ويرينا أنه عالم يقف على رأسه، ويدعونا - بغير أن يقول حرفا - إلى إعادته لوضعه الصحيح.
إن لغة جحا أو أويلنشبيجل غالبا ما تكون لغة بسيطة تأخذ الكلمات مأخذا حرفيا ساذجا سليم النية، إنه لا يلعب بالكلمات ولا يقلبها على وجوهها كما يفعل أصحاب النكتة والقفشة، بل يقصد معناها الطبيعي القريب؛ فيكشف بذلك عن إساءة استخدامها على ألسنة الناس، ويبين كيف تسهم بدور أساسي في «قلب العالم» ومسخ كيانه، إنها لغة لا تخدع نفسها بأوهام الخيال ولا تتباهى بحيل الفصاحة، بل تبين ببساطة كيف تتعرض - وهي لغة الطبيعة والإنسانية الأصلية - للخطر والدمار وسط لغة جديدة يستخدمها الناس فيسيئون استخدامها ويبعدونها عن وظيفة اللغة الحقيقية. إن لغة هذا المغفل المسكين مثل شخصه يعكسان نموذجا للإنسان الذي يبدو لنا سجينا مجبورا وسط عالم «حر»، بينما النظرة الدقيقة تكشف عن أنه هو الحر حقا وسط عالم يعيش سجين لغته وحيله وشطارته. هذا العالم المقلوب على رأسه لا يدعي الأحمق الحكيم أنه يعيده إلى الوضح الصحيح، بل يكتفي بإظهار ألمه لحاله وعجزه عن إصلاحه، ومع ذلك فلم يكن جحا ولا أويلنشبيجل بالعجز الذي يصورانه لنا، بل إن كليهما ساخر مكار، ترسم حكاياته وخرافاته عالما أصيلا عريق القدم، نحس بالحنين إليه، كما نحس بالألم لأننا انفصلنا عنه. إن كل واحد منهما يبحث عن الحقيقة بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، أو هو صديق للإنسان بكل ما في هذه اللفظة من دفء ونبل وإخلاص.
في كل يوم نسأل أنفسنا كما نسأل غيرنا: ماذا؟ لماذا؟ أين؟ وإلى متى؟ وكل سؤال من هذه الأسئلة يعبر على نحو من الأنحاء من عدم الوجود. فنحن نقف أمام شيء غريب علينا ، مختلف عنا، لا ندري شيئا عن أصله وسببه، وقد لا نعرف شيئا عن مكانه وموضعه، ولكننا حين نسأل هذا السؤال معبرين عن غربته عنا نحس بأن هذه الغربة تعود فتشملنا؛ فنحن أيضا غرباء وضائعون، مكاننا في العالم ليس مكاننا، والنور الذي يحيط بنا لا يضيء في عتمة المصير، إننا سنموت حتما، وسؤالنا عن الشيء الغريب يجعلنا نتعاطف معه، فهو الشيء الآخر بالنسبة لنا، كما أننا الآخر بالنسبة له. وفي كل سؤال نسأله عنه نوع من التضامن معه؛ لأننا نفتقده ونأسى لما يصيبه، وكل سؤال يعبر عن نوع من الانفصال في الوجود، ولكنه يعبر كذلك عن شوق إلى الاتحاد بما نسأل عنه؛ ذلك لأننا لا ننفصل عنه تمام الانفصال - وإلا ما أمكننا أن نسأل عنه - وإن كنا لا نستطيع مع ذلك أن نتحد به تمام الاتحاد. وحين نصوغ سؤالنا في شكل كلام فإنما نقول للانفصال «لا»، بل إن كل كلمة نقولها تعبر بنفسها عن نوع من الاتحاد بالوجود ونوع من الاحتجاج عن الانفصال عنه، أي على عدم الوجود؛ ذلك لأننا لا نتحد أبدا مع أنفسنا، ولا مع الآخرين، ولا مع جانب من جوانب الوجود أو الوجود كله؛ فنحن «في» الوجود كما أننا كذلك في مواجهته، وحين نتحدث عن طريق الكلمة أو الحركة فإننا نقيم جسرا إلى الوجود لنصل إليه ونتحد به. ومن هنا كانت كل صورة من صور الكلام في نفس الوقت صورة من صور الوجود؛ لأنها لا تصوغ قطعة من الواقع، بل تجسم الوجود كله، فلغتنا إذن لا تنفصل أبدا عن الوجود، ولكنها تعبر على الدوام عن انفصال عنه، والذي يستطيع أن يتكلم، والذي يستطيع أن يصمت، كلاهما يعبر عن نوع من الانفصال عن الوجود، وجهد للتغلب عليه؛ ذلك لأن اللغة في جوهرها هي قول «لا» لعدم الوجود.
وصعوبة قول لا هي صعوبة أن نقول لعدم الوجود لا، ذلك هو التعريف الأول لها، ولكن ما هو عدم الوجود ؟ هل يجوز لنا أن نتحدث عنه؟ وما دمنا نتحدث عنه، أليس معنى هذا أنه موجود؟ سيقول بارمنيدز: «لا» لأنه لا وجود له، ولكن إذا صح أنه لا وجود له فلم يقول «لا»؟ أو بمعنى آخر كيف يستطيع أن يقول «لا»؟ أليس في كل قول «لا» عدم وجود؟ ألا تشهد قول «لا» بقوة عدم الوجود؟
هناك موقف واحد لا نستطيع فيه أن نشك في عدم الوجود، ذلك هو موقف الموت، وهو غير البحث عن الموت أو السعي إليه، فذلك هو «اليأس». ولكن عن أي شيء يبحث الباحث عن الموت؟ عن النهاية؟ وما هي النهاية؟ أهي الحد الأخير؟ أم نهاية كل الحدود؟ أهي التحرر من الجبر؟ ولكن من أي جبر؟ أهي عدم الحرية؟ أم الحرية التي لا حد لها؟
كل كلمة نقولها تجسم عالما، فحيث لا تكون هناك أجسام، أو حيث تكون الأجسام قد استقرت معانيها مرة واحدة وإلى الأبد، فهي لا تجسم شيئا، وكلمة الوجود أو كلمة عدم الوجود تجسم كل منهما عالما؛ ولذلك فهما مزدوجتا المعنى؛ ولذلك أيضا نحاول أن نحدد معناهما في كل ما نقوله وننطق به من الكلام، ولكننا لا ننجح في هذا، وما السبب؟ ألأن العالم مزيج من الوجود وعدم الوجود؟ أم لأن كل تجسيم - حتى ولو كان لكلمتي الوجود وعدم الوجود - فهو غير حقيقي؟ لنقل: إن «اللا» التي ننطق بها موجهة إلى عدم الوجود، ولكن ماذا نقصد بهذا؟ هل نوجهها له لأنه الشيء الآخر المخالف للوجود؟ ليس هذا هو السبب، بل لأن عدم الوجود هو التجسيم غير الحقيقي ولا المقنع ولا الكافي للوجود، وذلك هو معنى احتجاجنا حين نقول لا، فنعكس الصراع الذي نحس به في أنفسنا بين الحقيقة والخطأ، والكمال والنقص، والأمل والياس؛ لأن في كل «لا» نقولها احتجاجا على الجانب السلبي من الوجود، وتمردا على الانتقاص منه أو الجور عليه أو التفريط فيه.
لقد قلنا من قبل: إن الصمت من أبشع الأخطار التي نتعرض لها في العصر الذي نعيش فيه، وصمت الصامت يكون في بدايته نوعا من الاحتجاج على لغو عقيم لا ينقطع من أفواه الآخرين . إنه في هذه الحالة قد يكون صمتا مثمرا، وتعبيرا عن كبرياء تأبى مسايرة الانحطاط، وترفع عن الخضوع للضعف، ورفض الواحد الذي يفكر لنفسه وبنفسه للضياع بين الملايين التي تريد أن تفكر له أو تصنع به ما تشاء، ويتطور الأمر فتوشك اللغة التي يتكلم بها «الناس» أن تصبح شيئا مرفوضا. ومع الزمن يرفض الصامت هذا العالم الذي خلقته اللغة وخلقت له، ويتجه بكيانه إلى عالم آخر مسحور يتصور أنه في غير حاجة إلى لغة، ويبعد في غربته فلا يكتفي بأن يرفض الكلام؛ لأنه خطر عليه، بل يرفض كذلك الصمت الذي يعده الوجه الآخر للكلام، حتى يصل أو يخيل إليه أنه وصل إلى حال من الرضا والسعادة التي قد نسميها حالا صوفية، وإن كان من المنطقي ألا نسميها بشيء؛ لأنها ليست مما تسميه الأسماء، وقد نختلف فنسمي ذلك زهدا أو تصوفا أو وجدا، ولكننا لا نختلف في أنه حال أشبه بالحياة في النعيم أو الفردوس، وأنه بجميع درجاته مصحوب بنوع من عدم الاكتراث، وأن أقصى قممه هي حال التلاشي والفناء التي يتحدث عنها البوذيون بوجه خاص.
مهما يكن الأمر - وبلا خوض في الحلول التي يقدمها الزهد والتصوف لعبثية العالم وذلك بالفناء فيما ليس بعالم ولا في جدوى هذه الحلول - فلا يخفى على القارئ أن الهروب من العجز عن الكلام بمعناه الحق حين تبتذل اللغة إلى الامتناع الكامل عن الكلام (سواء كان عن رفض أو يأس أو بحث عن طريق آخر للخلاص) لا يمكن أن يكون بديلا عن اللغة، ولا يمكن أن يحل مشكلة الموقف الإنساني المعين بتجاوزه إلى ما وراء اللا والنعم جميعا؛ ذلك أن في الصمت الحقيقي - أي البشرى - نصيبا دائما من الاحتجاج، وفي السكوت المهيب يرن دائما صدى اللا. وهذا الصمت مهما طال لا بد أن يكون قادرا في لحظة معينة وموقف معين على أن يخرج عن صمته ويتحول إلى كلام يرفض أو يؤكد، وإلا أصبح هذا الصمت - الذي كان في بدايته احتجاجا على امتهان اللغة أو اتقاء لضياع الذات - نوعا من التمزق والتدمير والانتحار، يستر الضعف والفرار، كما يحاول أن يخفي النرجسية والإعجاب الزائد بالذات. فكما انتهت رغبة نارسيس - بطل الأسطورة اليونانية الذي راح يتأمل بإعجاب وجهه الجميل في صفحة النهر حتى غرق فيه! - في الاتحاد مع نفسه إلى الموت، فإن المنتحر يرجو كذلك بالموت أن يتحد مع نفسه؛ فالنفس الفارغة الضائعة تحاول عن طريق الموت أن تعود إلى نفسها التي لم تجدها، وتتحد بالكل الذي عذبها الانفصال عنه. ومن العجب حقا أن المدمر لنفسه - أو المنتحر - الذي كان احتجاجه على «عدم الوجود» في صورة من صوره دافعا له على الإقدام على الانتحار، هو نفسه الذي يندفع إلى العدم ويقول له «نعم»، وبدلا من أن يصمد للحياة ويقاوم ويقول «لا» لكل ما يدمر نفسه، نجده يقاوم هذا النفس لآخر مرة لكي يلقي بها بين أحضان «اللا» المطلقة أو العدم المطلق. ومن الواضح أن المدمر لنفسه يتحرك بغير أن يتحرك، أعني أنه يبحث عن المنبع والأصل على الدرب الخاطئ، في حين أن المنبع الحقيقي تقود إليه نعم كبيرة، سواء تصورنا أن هذا المنبع هو الإله في السماء أو الحق أو الجمال أو كرامة الإنسان، المنتحر يبحث عن شيء فيندفع إلى لجة اللاشيء، وكذلك تفعل الإنسانية كلها حين تلقي بنفسها في لجة حرب عالمية يدفعها إليها في الحقيقة - كما تبين تحليلات فرويد - دافع الموت وتدمير الذات. ولعل هذا الشوق الفاشل إلى المنبع الحق هو علة القلق واليأس الذي نقول اليوم إنه طابع العصر، ونتعرف على آثاره فيما نقرأ من أدب أو فن أو فلسفة، بل فيما نعانيه من تجارب الحياة كل يوم، ومن ثم تصبح مشكلة العصر هي كيف نوازن بين كفتي القلق والشجاعة؟ كيف نجد القوة على تأكيد وجودنا المتناهي على الرغم من تهديد الموت والفناء؟ وبعبارة واحدة: كيف نقول لا «لعدم الوجود» على اختلاف صوره الواقعية والأنطولوجية (الوجودية)؟
هنا تصبح مسألة التغلب على القلق بالشجاعة، وعلى التطرف بالاعتدال وعلى اللامعنى بالمعنى؛ مسألة المسائل في الزمن الحديث. ولن يجدينا هنا أن نطيل الوقوف عند تحليلات القلق واليأس التي تزخر بها الكتابات المعاصرة؛ فالمشكلة التي تشغل الجميع - من مفكرين وعمليين - هي البحث عن قيمة في الأشكال العقلية والحضارية التي فقدت قيمتها، أو الاهتداء إلى أشكال جديدة تتجسد فيها قيم جديدة. ولن يكون الحل في تجاهل القلق من العدم أو تناسي العبث واللامعنى أو إنكار اليأس في كل القلوب - فكلها حقائق رهيبة في عصرنا - بل يكون الحل في تقبلها ومحاولة البحث عن قيمة توازنها. وليس أخطر على الإنسان الحديث من أن يستسلم لها ويقول نعم؛ لأن ذلك معناه أن يفقد ذاته ويدمر نفسه، ويهرب إلى نعيم الصمت الشقي. هذا البحث عن التوازن هو الواجب الأكبر لإنسان اليوم؛ ذلك لأن القيمة التي تجسد له هذا التوازن ليست قيمة أبدية صالحة لكل مكان وزمان، وإنما هي مثل أعلى عليه أن يبحث عنه بحثا متجددا على الدوام، ويخلقه في كل تجربة أو موقف جديد، إنه تجسيد لعقيدته وسعادته وراحة قلبه، وهدف أشواقه وآماله وأحلامه، ولن تنقطع مغامرته في البحث عنه والسعي إليه، ما دامت تحدوه الرغبة في التحرر من خيبة الأمل واليأس والفراغ. •••
لا هي صيغة الاحتجاج.
وقول لا أصبح اليوم مهمة الفيلسوف الأولى.
أما قول لا، فقد تبينا بما فيه الكفاية أن وظيفته الأساسية هي الاحتجاج، وأما الفيلسوف فلسنا في حاجة إلى تعريفات قديمة أو حديثة تبالغ في شأنه حتى يصبح أسطورة حية، أو تضع منه حتى يوشك أن يكون واحدا من البلهاء الذين قد يتسع صدرنا لسماعه، ولكننا لا نتردد في طرده والتخلص منه! إنما الفيلسوف هنا اسم للإنسان الذي «ينصرف إلى الكل» ويدخل كل مجالات الواقع ليبدي رأيه الحر فيها، دون أن يغلق الباب وراءه أو يتقيد بواحدة منها. وإذا كان من حقه أن يتكلم عن كل شيء، فهو حق من يسأل على الدوام، أعني من يملك في نفس الوقت حرية قول «لا»، حرية الاحتجاج، وهو في عصرنا إذا احتج على مشكلة العصر كله، وأعني بها تشييء الإنسان وإهدار ذاتيته وجعله موضوعا يمكن أن يصنع به ما يراد له، وتمزيق العالم بما يبعده ويبعد أعظم وأتعس سكانه (الإنسان) عن الوحدة السعيدة وعن منبع الوجود الأول؛ إذا احتج على هذا كله فهو لا يحتج باسمه فحسب، ولكنه يحتج على الخيانة التي ترتكب باسم الإنسان، كما يحتج كذلك باسم الظالمين والمظلومين والجلادين والضحايا؛ لأنه احتجاج ينصرف - كما قلت - إلى «الكل»، ولا يتقيد بدائرة أو طبقة أو مجال محدود، ولأنه احتجاج يحاول أن ينفذ إلى قلب الجميع؛ لأنه يقصد النموذج الإنساني الأسمى في الجميع. ولكن على أي شيء يحتج؟ ولمن يوجه هذا الاحتجاج؟ وأين هي حدوده التي تجعله تمردا مثمرا لا صراخا أجوف؟ ليس من العسير الآن أن نتبين احتجاج من يقول «لا» لكي يؤكد النعم، وسخط من يؤذيه «عدم الوجود» الذي يوشك أن ينفذ إلى كل مجال ظاهر أو باطن في الحياة من أجل وجود سعيد كامل متحد مع نفسه. إنه صرخة اللا التي لا تضيع في صحراء، بل تحاول أن تلفت الآذان إلى صوت المثل الأعلى، وتوجه الأنظار إلى قيمة تتجسد فيها كرامة الإنسان وحقه العادل المشروع في السعادة والأمان. هو إذن احتجاج على الأخطار الثلاثة التي قلنا إنها من أبشع الأخطار التي تواجهنا في العصر الذي نعيش فيه، وهي ضياع الذات وتدمير النفس والصمت المفروض على الملايين. احتجاج يواجه هذه الأخطار بالأمل والشجاعة؛ فيقول «لا»، ويعمل على تأكيد الذات وتكريم النفس وتحويل الكلام إلى حوار حقيقي بين البشر فيقول: «نعم.»
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
كلمات عن التواضع والاعتدال
لأنه لا يجوز لإنسان
أن يقيس نفسه بالآلهة.
إنه إن ارتفع بنفسه،
ولمس النجوم بهامته،
لا يثبت كعباه المرتعشان
في أي مكان.
بل تعبث به
السحب والرياح.
جوته: عن قصيدة «حدود الإنسانية»
موقف الإنسان في هذه الأيام موقف عجيب.
لا أحب في بداية هذا المقال أن أتسرع بالحديث عن انحلال الإنسان المعاصر وتفسخه ومحنته وما شابه ذلك من الكلمات اليسيرة ، ولكن القارئ قد يتفق معي إذا قلت إنه يشعر بنوع من الإحساس بالغربة، وبأن العالم المحيط به قد أصبح يهدده ويعاديه على نحو من الأنحاء. إنه يشعر - كما يقول الشاعر رلكه - بأنه «لم يعد مطمئنا في بيته.» ويحس وسط العالم الذي فسر كل شيء فيه «بأنه غريب لا وطن له.» في خضم هذا الضياع والاضطراب يصبح البحث عن الملاح الرائد أو عن النجم الهادي أمرا طبيعيا. وإذا كان كثير من الكتاب والمؤرخين قد وصفوا القرن الثامن عشر بأنه القرن الذي يتميز بانتصار العلوم الطبيعية، والتاسع عشر بالعلوم البيولوجية، فقد نادى عدد غير قليل منهم بأن القرن العشرين هو قرن القلق. ولعل الوجودية لم تكن وحدها هي السبب في إطلاق هذه الكلمة، بل كانت هي علة رواجها حتى أصبحت «موضة» على كل لسان. مهما يكن من شيء فإن المحنة قائمة لا شك فيها، نحس بها في حياتنا اليومية كما نحس بها في صراع المذاهب والنظم والأفكار، وطبيعي ألا يبلغ الغرور بكاتب هذه السطور إلى الحد الذي يزعم معه أنه يشخص داء العصر أو يصف البلسم الشافي منه، ولكنه سيحاول - بغير أن يتعرض للتطور التاريخي الطويل الذي أدى إلى هذا القلق - أن يضع يده على أحد أسباب أزمته، فيقول - وقد لا يخلو حكمه من الخطأ أو التعجل: إنها قد ترجع في بعض جوانبها إلى فقدان التواضع، والبعد عن الحد والاعتدال.
والكلام عن الاعتدال يؤدي بنا بالضرورة إلى الكلام عن طبيعة الإنسان، فمن صفاته الأساسية، لا بل من أولى واجباته، أن يعرف لنفسه حدا يقف عنده، وأن يعين هذا الحد بمحض اختياره؛ فالإنسان - دون غيره من الكائنات التي تعلو عليه، أو تدنو عن مستواه - قد وهب هذه الملكة التي تدل عليه والتي نسميها ملكة الحد. فهذه الكائنات، بقدر ما تسمح معرفتنا الراهنة بالحديث عنها، تلتزم بطبيعتها بحد لا تستطيع أن تتجاوزه، أو لا تحتاج إلى تجاوزه. فالطبيعة مثلا قد تكفلت بألا تصل الأشجار إلى السماء، وهي كذلك قد أعطت الحيوان إحساسا غريزيا بالحد الذي يقف عنده ولا يتعداه، والوحوش نفسها لا تقتل إلا بالقدر الذي يساعدها على الحياة، فإذا شبعت لم تجد ما يحركها إلى مزيد من القتل. إن الغريزة وحدها هي التي تدفعها إلى القتل، والغريزة وحدها هي التي توقفها عن الإسراف فيه؛ ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن الوحش المفترس يظل بريئا حتى وهو يلتهم ضحيته؛ لأنه لا يعرف شيئا عما نسميه بالجشع أو الحقد أو الانتقام، بل إن القوى المادية نفسها في اندفاعها وبطشها الأعمى، تصل دائما إلى النقطة التي تلتزم فيها بحد تقف عنده، أما الإنسان وحده فهو الذي يمكنه أن يفلت من الحدود والمقاييس، ويتوه في ضلال التطرف والشطط، وينساق وراء العناد أو الغرور فيحاول القفز وراء حدوده البشرية؛ ذلك أنه يستطيع أن يتحرر من قيود الغريزة ويسلم أمره إلى العقل والبصيرة، وهما دائما موضع السؤال والإشكال. غير أن تعريفنا له بأنه حيوان عاقل لم يستطع أن يلزمه بالتعقل؛ فهو يميل بطبعه إلى السخط على نفسه وعدم الاقتناع ولا القناعة بشيء يرضي طموحه أو يشبع تطلعه، والذين يكررون عليه من أجيال طويلة أن «القناعة كنز لا يفنى» لم يستطيعوا أن يقنعوه بذلك لحظة واحدة! •••
عرف اليونان الأقدمون هذه النزعة الخطرة الكامنة في طبيعة الإنسان، وتحدثوا عنها في حكاياتهم وأمثالهم، وحذروا منها على لسان حكمائهم وشعرائهم، فما من قدر عندهم أفدح من أن ينساق الإنسان وراء التهور الأعمى ليحطم نفسه بنفسه. كذلك كان قدر «إيكاروس» الذي أراد أن يطير فوق الأرض فسقط محطما عندما اقترب من الشمس، وكذلك نجد في أقوال الحكماء السبعة الذين عاشوا حول عام 600 قبل الميلاد وتحدثت عنهم العصور التالية بما يشبه حديث الأساطير؛ ما يحض الإنسان على التزام الحد والاعتدال، ويذكره على الدوام بأنه بشر وليس إلها.
ولست أحب أن أثقل على القارئ بالكلام عن هؤلاء الحكماء،
1
فقد تتسع لذلك فرصة أخرى، ولكن ما يهمنا الآن منهم هو أنهم يكادون يتفقون في التنبيه إلى ضرورة التزام الحد والبعد عن المبالغة والتهور والإسراف. وأشهر حكمة في هذا الصدد هي الحكمة المشهورة: «لا تبالغ في شيء» (ميدين أجان) أو لا تزد عن الحد، وهي قريبة من حكمة أخرى تنسب - كسابقتها - إلى هذا الحكيم أو ذاك: «الحد أفضل شيء» (ميترون أريستون). والحكمة الأولى تنسب في معظم الأحيان إلى المشرع الآثيني المشهور صولون، وقد تنسب كذلك إلى خيلون اللاكيديموني، بل إن هناك من يذهب إلى القول بأنها كانت محفورة على أحد أعمدة معبد دلفي إلى جانب الحكمة المشهورة: «اعرف نفسك» التي تنسب كذلك إلى أحد هؤلاء الحكماء (ولعله طاليس). والاختلاف بين الحكمتين ليس بعيدا؛ فمعرفة النفس تنطوي بالضرورة على معرفة الحد الذي ينبغي على هذه النفس أن تلتزم به حتى تكون معرفتها بنفسها أتم، وعدم المبالغة في شيء لا يتأتى إلا عن معرفة أتم بالنفس، وإدراك لقدراتها وحدودها بحيث تستطيع التمييز بين ما تستطيع وما لا تستطيع. وليس عجيبا بعد ذلك أن يروي الرواة أنها كانت محفورة على معبد دلفي المقام لأبولون إله النور والشعر والموسيقى، الذي كان يفزع إليه الإغريق كلما ألمت بهم كارثة أو أظلم في وجههم طريق؛ ليسمعوا من كهنته فصل الخطاب. مثل هذه الكلمة التي تكتب على المعبد المقدس لا بد أن تكون نبراسا وشعارا (إن جاز هنا أن نستخدم هذه الكلمة التي مسخها العصر الحديث) للروح اليونانية، وأن تخلع القداسة على قائلها أيا كان اسمه، وكذلك كانت بالفعل عند اليونانيين في عصرهم الذهبي. ولن يستطيع أحد أن يحصي الصور التي وردت بها في أشعارهم ومسرحياتهم وأساطيرهم وعلى لسان الحكماء والأدباء والمؤرخين منهم.
ولعل رسالة اليونان - إن لم تكن رسالة الإنسانية نفسها - في تحقيق هذا الحد الذي يفتقر إليه البشر بطبيعتهم، وترويض نزعات التهور والتطرف التي تجر عليهم الخراب، والعثور على «حكمة الوسط» التي يجدون فيها حقيقتهم؛ إنها في نفس الوقت رسالة الواجب التي تدعو الإنسان إلى إنسانيته، بل إننا لنستطيع القول بأن تاريخ الإنسانية هو تاريخ الصراع المستمر بين الاعتدال والتطرف. وإذا تأملنا هذا التاريخ وجدنا أن العصور تختلف عن بعضها البعض بقدر ما تعترف بالحد أو تتنكر له؛ فمن هذه العصور ما شكل حياته على أساس الوعي به، ومنها ما نظر إليه نظرة الازدراء وتردى في مهاوي الشطط والإسراف. من تلك على سبيل المثال نذكر اليونان القديمة، والعصر الوسيط في ذروته، وعصر النهضة الإيطالية، وازدهار الفن في فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر. والأدب الألماني في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وكلمة «الكلاسيكية» في هذه العصور تكاد تكون مرادفة للالتزام بالقيود والأشكال التي تفرضها معرفة الحد، سواء في الأدب أو الفن والعلم، أما العصور التي نسيت الحد أو تنكرت له، فمن الصعب تحديدها؛ لأنها تتوقف على الزاوية التي تنظر منها، كما أنها يمكن أن تكون موزعة بين العصور جميعا بقدر ما أصاب الأفراد أو الجماعات فيها من كوارث نتجت عن التطرف في الأنانية أو استغلال السلطة أو شهوة البحث.
2
لن نستطيع هنا أن نتتبع هذا الصراع بين الاعتدال والتطرف، ولكننا نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لم يبلغ في أي وقت ما بلغه في العصر الحديث، لم يبلغ التطرف في عصر من العصور ما بلغه اليوم، ولم يحدث في تاريخ الإنسانية أن أفلتت قوى الشر والطيش واللامعقول من زمام العقل كما تفعل اليوم. ولو أن الأمر اقتصر على بعض الحركات الأدبية أو الصرخات الفنية لقلنا أوهام شعراء، ولابتسمنا ونمنا هادئين، ولكنه أصبح حقيقة واقعة نحس بها في حياتنا اليومية، وخطرا نشفق منه على نظام العقل والمجتمع والوجود، ونذيرا بدمار الحضارة كلها في لحظات. كل ما في العالم من جمال، كل ما في التاريخ من تراث، وفي القلب من راحة أصبح معلقا بغضبة جنرال مشهور، أو صرخة سياسي كبير، أو اكتشاف علمي رهيب، لا بل بغلطة جندي أو موظف بسيط في إحدى محطات التحكم في الصواريخ أو الطائرات المحملة بالقنابل الذرية أو سفن الفضاء المتجسسة على مساكن البشر. نعم، ليس ماكبث وحده هو الذي قتل النوم؛ فقد قتله كل هؤلاء.
هل يجرنا هذا إلى التشاؤم؟ ولكن كلمة التشاؤم تصبح كلمة ساذجة إذا أدركنا هول ما يحيط بنا اليوم، فكل أحلام الرومانتيكيين أو شطحات اللامعقوليين أو الصرخات المثيرة على لسان فيلسوف القوة والإرادة «نيتشه»؛ تصبح كألعاب الأطفال على شاطئ البحر المعتم العاصف الذي نقف اليوم أمامه. أهناك ضرورة عمياء وراء ما نشهده اليوم من مظاهر الجنون في السرعة والتسلح والتعصب الأعمى للمذاهب، والتحلل الخلقي في كل مكان، وتمجيد العمل بأي ثمن، والحماس للبطولة أيا كانت، وتخزين قنابل الذرة والميكروبات؟ أم أن هذه الضرورة القاتلة ليست في التاريخ نفسه، بل لا بد من البحث عنها في مكان آخر؟ أنجدها في تلك الهوة المظلمة العميقة، في ذلك العالم السفلي المخيف الذي كشفت عنه أعمال فرويد والرومانتيكيين واللامعقوليين والرمزيين ... إلى آخر القائمة؟! أم نجدها في خطب من يعدوننا بفردوس قريب على الأرض وبغير مقابل، اللهم إلا دم بعض الأجيال وشبابهم وسعادتهم؟! أم نجدها أخيرا في كارثة لا بد أنها حدثت للعقل البشري نفسه، فهدمت الأعمدة التي كان يرتكز عليها هيكله النبيل، وأحدثت فيه صدعا لن يلتئم إلا إذا أعاد العقل نفسه النظر في نفسه، وأدرك وظيفته الحقيقية التي ترتبط بالإنسانية منذ قال اليونان على لسان أرسطو: إن الإنسان حيوان ناطق؟
إن العقل هو الشيء الإنساني حقا في الإنسان، والمطالبة اليوم بسيادة العقل والتعقل تصبح هي المطالبة بجعل الحياة إنسانية عن طريق الحد من القوى اللامعقولة وترويضها وكبح جماحها. وإذا كان هناك واجب يلقي عبئه على الناس اليوم فهو واجب الإيمان بجوهر الإنسان بوصفه كائنا عاقلا، وإدراك مسئولية هذا العقل في توجيه مصيره تجاه الفوضى والظلام المحيطين به؛ إن عليه أن يتعلم كيف يطيع صوت العقل. طبيعي أننا لا نطلب منه أن يعود إلى التفاؤل العقلي الذي اتسم به عصر التنوير في القرن الثامن عشر وأدى بأحد أقطابه «ليبنتس» إلى رؤية النظام والانسجام في كل ما تقع عليه العين، والقول بأن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة؛ ذلك أن الرجوع بالزمن إلى الوراء شيء مستحيل، وأشد منه استحالة أن نطالب الإنسان بأن ينظر بعين أجداده أو يفكر تفكيرهم أو يحس إحساسهم، هذا إلى جانب أن الإيمان المطلق بالعقل في ذلك العصر لا يخلو اليوم من شيء من السذاجة والتفاؤل اليسير وحسن النية في طبيعة الإنسان الخيرة، وقد أثبتت الكوارث التي مرت بالعالم في حربين عالميتين أنها كانت نوعا من العبط أو التمني، ومع ذلك يظل الإيمان بالعقل والثقة في قدرته على تأكيد قيمة الإنسان وإبراز مسئوليته هو الواجب الأول اليوم، الواجب الذي لا يحتاج إلى الكلمات الكبيرة أو طبول الوعظ المدوية، بل يحتاج إلى أن يحمله الناس في صمت وجد وبساطة وهم يباشرون حياتهم اليومية، ولا بد من التفكير لحظة في هذا السؤال الخالد: ما هو الإنسان؟ سيعلمهم أن يتوقفوا قليلا وسط التيار الذي يجرفهم كل يوم ليتذكروا أن الإنسان هو الكائن العاقل، أي الكائن الجدير بالاحترام والتكريم. •••
نقول: إن العقل هو مبدأ الاعتدال، ونصف الرجل في لغتنا اليومية بأنه «عاقل» إذا وجدنا لديه الاستعداد للتفاهم، والالتقاء في وجهات النظر، والتسامح في قبول الرأي المعارض، والبعد عن التعصب بوجهة نظره. إنه رجل نأخذ ونعطي معه في الكلام، ونشترك معه في البحث عن الحل المعقول للمشكلات. ولكن ما هو الحل المعقول؟ ليس حلا لمسألة حسابية أو رياضية، ولكنه العمل بروح من التسامح والمشاركة للتغلب على الخلاف والتناقض، والوصول إلى حالة من التوازن والتلاقي تسمح بأن يحيا الناس بعضهم مع البعض في سلام، هذا الصوت العاقل لا يمكن أن يسمع بالطبع حيث تثور الانفعالات وتنطلق النزعات، وتقذف بالإنسان كأنه كرة من اللحم والأعصاب المتوترة إلى أقصى حدود التوتر؛ ذلك أنه حيث يكون العقل يكون الاعتدال ويكون التزام الحد. ولكن هل يكون في حديثنا عن العقل إلغاء لكل ما توصل إليه اللاعقل من إمكانيات وما كشف عنه في طوايا النفس من كنوز وأسرار على يد أصحاب حركة «العاصفة والاندفاع» أو الرومانتيكيين أو الوجوديين واللامعقوليين من أبناء اليوم، لا بل على يد الشعراء والمتصوفين والملهمين في كل العصور؟ لا يمكننا بالطبع أن نطلب ذلك؛ فنحن لا ننكر ولا نستطيع أن ننكر ما في كل هذه الحركات الفنية والأدبية والنفسية من جوانب إيجابية، ولا نستطيع أن نغمض أعيننا عن هذا العالم السحري المزدحم بالقوى الخفية، الذي ظل مغلقا على أبناء العصور القديمة والعصر الوسيط وبداية العصر الحديث. كما أننا لا نستطيع أيضا أن نغفل عما في إبراز الحياة اللامعقولة من فائدة للعقل نفسه، ولا ما في تحليلات المعاصرين لألوان القلق والهم والضياع والاغتراب والتأزم من خصوبة حقة في فهم الإنسان. ولكن ما يهمنا هنا هو النتائج «العملية» التي يؤدي إليها هذا الاهتمام الزائد بجوانب اللامعقول، ومزالق التطرف والتهور التي يمكن أن تؤدي إليها؛ فقد يكون الوقت قد حان لتوجيه النظر إلى الجانب المعقول من الحياة بمثل ما وجهناه إلى الجانب غير المعقول، وقد يكون الوقت قد حان للقول بأن الجانب المضيء من الوجود لا يقل أهمية ولا روعة عن الجانب المظلم، وأن الأمل والشجاعة والتعاطف والفرح والحياة تستحق أيضا - بعيدا عن كل تفاؤل رخيص - أن نتكلم عنها كما نتكلم عن اليأس والقلق والهم والغربة والموت.
إن من الصعب أن نتتبع الحركات اللامعقولة في التاريخ الحديث لندرك إلى أي مدى انحرفت إلى التطرف ونسيت الحدود، ولكن يحسن أن نقف عند بعضها وقفة قصيرة قد تعيننا على تبين ما نسميه بالحد والاعتدال.
وأول ما يخطر على البال هو «نيتشه» فيلسوف الإرادة والقوة والإنسان الأعلى، والعبقري الذي دفع ثمن عبقريته بالدم والألم والجنون. إنه يقول على سبيل المثال في كتابه «وراء الخير والشر»: «لقد أصبح الحد (أو المقياس) شيئا غريبا علينا، ولنعترف بهذا: إن ما يدغدغنا الآن هو اللامتناهي اللامحدود، إننا نحن أبناء العصر الحديث نحن أنصاف البرابرة أشبه بالفارس الذي يمتطي صهوة جواد راكض إلى الأمام، نترك زمام اللجام يسقط أمام اللامتناهي، ولا نشعر أننا في قمة السعادة إلا حيث نكون في قمة الخطر.»
ولسنا في حاجة إلى اقتباس نصوص أخرى من نيتشه سيضيق عنها المقام؛ فهذا النص يصلح لإلقاء الضوء على «عدم الاعتدال» الذي قلنا إنه يميز الطابع الأساسي للعصر الذي نعيش فيه ، وقد يصلح كذلك ليبين لنا جانبا من خيانة الإنسان الحديث لإنسانيته، فقد استطاع نيتشه في كلمته الموجزة أن يشخص الداء ويعبر عنه في أتم صيغة: إنه احتقار الحد والتنكر للمقياس، و«دغدغة» اللامتناهي واللامحدود التي تدفع بالإنسان إلى تحطيم نفسه بنفسه، وهدم معبده فوق رأسه، وهو أخيرا تمجيد الخطر والإعلاء من شأن البطل الذي يتجاوز بالمغامرة والبطولة حدود الإنسان الحالي بمثل ما تجاوز الإنسان حدود القرد. ولن تخفى على القارئ هذه الكبرياء التي يصف نيتشه بها أبناء العصر الحديث - كما يصف نفسه - حين يقول عنهم: إنهم «أنصاف برابرة»، فمما لا شك فيه أن نيتشه لم يكن يقصد بالبطل أو الإنسان الأعلى أو نصف البربري ذلك «الوحش الأشقر» الذي راح ينشر الدمار في الحرب الأخيرة، كما أنه لم يكن يفهم من ورائه أي معنى من معاني التفوق الحربي ولا العسف أو الظلم من جانب «السادة» على «العبيد»، فالذي فهم هذا فأساء الفهم هم أنصاف المتعلمين أو أنصاف الآدميين من العسكريين ورجال السياسة الألمان الذين حسبوا أن البطولة هي العسف، والقوة هي العنف، والخطر هو الخطل والجنون. لقد ظنوا أنه يكفي أن يضع الإنسان الخوذة على رأسه والنياشين على صدره ويمشي مشية الإوزة لكي يكون بطلا أو إنسانا أعلى! ولكن ألا يقع جزء من التبعة على هذا التمجيد المطلق للحياة الخطرة والطاقة المنطلقة من كل قيد والنزوع إلى المستحيل واللامتناهي؟ ألم يكن في هذا الشوق الفاوستي إلى المطلق غير المحدود إغراء لمن لا يملكون براءة نيتشه وشهامته بالسقوط في هاوية الظلم والطغيان؟ ألم يحمل ذلك البعض إلى تصوير الالتزام بالحد كأنه شيء جدير باحتقار الأقوياء، والجهد الصامت المتواضع للحصول على الأمان والاطمئنان كأنه شيء لا يليق بمن يسعون وراء البطولة والمطلق، والعمل في سبيل السلام والنظام كأنه تعبير عن الانحلال والضعف؟ وهل من العجيب بعد ذلك أن تفهم الحياة الخطرة على أنها إشعال الحرب، والعظمة الخلاقة على أنها الظلم والاستعباد؟ إن الإنسان هنا تأخذه النشوة بما يخيل إليه أنه هو العظمة الأخيرة للإنسان، وبدلا من أن يرتفع إلى سماء «السوبرمان» نجده يسقط إلى هاوية الوحش، وبدلا من أن يقوده الشعور المتكبر إلى أخلاق البطولة؛ نراه ينحدر إلى حضيض العبودية.
كلمة نيتشه إذن مثال واضح على ما يميز الإنسان الحديث من بعده، أعني فقدان الإحساس السليم بالحد، والتنكر للمقياس والاعتدال، والاندفاع وراء التهور المخرب تحت ستار السعي إلى المطلق واللامتناهي. إن هذا التهور والانفلات من الحدود قد تخلل حياتنا الحاضرة من أخص خلجاتنا وهمومنا إلى أعم قضايانا في السياسة والاجتماع، وأصبحنا في غمرة التهور الجارف نعيش في خطر الدمار الشامل بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة الرهيبة.
كذلك فإن جرينا وراء المتعة لم يعد يعرف حدا يقف عنده، وبحثنا عن اللذة المتجددة لا يسلمنا إلا إلى الألم المتجدد. نريد أن نقتني التليفزيون، ولا نكاد نحصل عليه حتى نلهث وراء الثلاجة والعربة الخاصة والمركز المرموق، ولا نكاد نصل إلى هدف حتى تلهب السياط ظهورنا إلى هدف جديد، ولا نكاد نحقق حاجة حتى نشتهي حاجات وحاجات. وطبيعي أن الدعوة إلى حكمة الحكماء أو نسك النساك تكون هنا سخفا يبعث على الضحك والرثاء، ولكن ألا يحق لنا مع ذلك أن نسأل: إلى أين يؤدي بنا هذا القلق المستمر؟ إلى أين يسوقنا التعجل الدائم واللهاث الذي لا ينقطع؟ وهل يعرف الراحة من يجري على الدوام؟ وهل يشعر بالمتعة الحاضرة بين يديه من لا يكف عن السعي إلى متع جديدة لا تنتهي؟ ألا يكون السؤال هنا على الحد والاعتدال ضرورة لازمة؟
ولا يختلف الأمر في عالم الصناعة والتقدم التكنولوجي؛ فالاكتشاف يلحق الاكتشاف، والرقم القياسي يضرب الرقم القياسي، والتقدم التكنولوجي يسير بسرعة مذهلة تنسيه السؤال عن معناه أو غايته، وكأنه عربة تنحدر من قمة الجبل إلى قاع الوادي، بعد أن غاب سائقها وفسدت فراملها. لقد أصبح الاهتمام بالكم على حساب القيمة، والكيف هو شعار العصر، وأصبحت الإحصائية التي تترجم الزيادة والتفوق إلى أرقام قياسية هي مطلب الساعة. ومن الطبيعي أن يكون الوقوف في وجه التطور أمرا مستحيلا، بل غير مرغوب فيه ، والحنين إلى فردوس الرعاة أو طبيعة «روسو» عاطفية وسذاجة. ولكن ألا يحق لسائل أن يسأل: نحن نتطور، جميل، ولكن إلى أين؟ ما المعنى ولأية غاية؟ أهو التطور من أجل الإنسان؟ أم الإنسان من أجل التطور؟ أليس من واجبنا في زحمة هذا العمل والتطور أن نفهم كيف نحافظ على هدوئنا الباطني؟ أليس على العالم ورجل الاقتصاد أن يراعيا العدل والاعتدال؟ إن عليهما ألا يتركا التطور و«التكنيك» يسيطر على الإنسان؛ لأنهما قد خلقا من أجله ولم يخلق ليكون عبدا أو ضحية لهما، ذلك عبء يلقيه على الكتفين واجب المحافظة على الحد، وهو عبء يزداد ثقلا كلما ازداد العلم والتكنيك تطورا، فلا شك أن أي إنسان محب للمعرفة والتقدم يعجب من كل قلبه بالنجاح العلمي الذي يتحقق كل يوم والجهد العقلي الذي يكمن وراءه، بل ويفتخر بأنه ينتمي إلى نفس الجنس الذي أخرج كل هذه المعجزات إلى الوجود، ولكنه كذلك لا بد أن يأسف للقلق والعذاب الذي سببه لأبناء هذا الجيل، والخوف المستمر من مصير هذا كله إن لم يتحكم العقل المتزن في زمامه. أما التطرف في مجال السياسة فلأترك كوارث حربين عالميتين وحروب جانبيه لم تهدأ نارها يوما واحدا أن تتحدث بنفسها عنه!
قلت: إن من الصعب أن أتتبع في هذا المجال الضيق تطور فكرة الحد والاعتدال، وبخاصة في تلك العصور «الكلاسيكية» التي قد يرجع السبب في تسميتها كذلك إلى أنها عرفت كيف تحافظ على المقياس الصحيح في كل شيء، وأن تزن قدرات الإنسان بالميزان العدل، وتضع له في مجالات المعرفة والشعور والطموح تلك الحدود التي لا ينبغي للإنسان أن يتخطاها ما بقي إنسانا. إنه كلما تطاول به التبجح والغرور إلى عرش الآلهة، أو هوت به الشهوة العمياء إلى حضيض الوحوش؛ فقد إنسانيته ولف حبل المأساة حول رقبته. وقد رأى القارئ كيف كتب اليونان الأقدمون شعارهم الرائع المضيء على بوابة تاريخهم، وكيف ظلت عبارتهم «لا تبالغ في شيء» هي اللحن الأساسي في حضارتهم وأدبهم. والقارئ يعرف بالطبع مقدار العذاب الذي قاساه بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، مع أنه لم يكن بشرا خالصا بل كان نصف إله. وطبيعي كذلك ألا يغفل من يتعرض للاعتدال عن رأي الفيلسوفين العظيمين: أفلاطون وأرسطو، الأول بفكرته المشهورة عن «السوفروزيني» (التعقل أو التدبر)، وهي فضيلة العلاقة والمقياس الصحيح الذي يحافظ به الإنسان على حريته تجاه النزعات والانفعالات، دون أن يضطر إلى كبت هذه النزعات والانفعالات، أو فكرته المشهورة عن العدالة كما شرحها في جمهوريته بوجه خاص، بحيث لا تقتصر على ما نفهمه منها الآن من فضيلة العدل والإنصاف عن طريق القانون، بل تتسع فتشمل التوازن الذي يحققه الإنسان بين ملكاته وقواه المختلفة، وتدل على المثل الأعلى للتجانس والانسجام. ولا نستطيع أن نغفل الثاني بفكرته المشهورة عن الفضيلة بوصفها «الوسط العسير» بين زيادة مفرطة في جانب ونقصان مخل في جانب آخر، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والبخل، ولا أن ننسى فضائل الفروسية في العصور الوسطى. وما نعرفه في التراث العربي من فضائل الشهامة والعفة والكرم والإباء أشهر من أن نتعرض له. المهم في هذا كله هو المقياس الحي الصحيح بين طرفين معيبين، والحد المعتدل بين الانفعال الطائش الأعمى من ناحية والعقلانية الجافة الذليلة في ناحية أخرى، وليس هناك مقياس واحد يصلح لكل زمان ومكان، وإلا ألغينا صفة أساسية من صفات الإنسان، وهي أنه كائن تاريخي، من حقه أن يحدد نفسه تحديدا متجددا إزاء الظروف والمواقف الجديدة عليه. والمثل الذي قدمناه عن «إيكاروس» أو عن «ابن فرناس» اللذين تجاوز كل منهما حدود الإنسانية في زمانه، وأراد أن يستعير جناح الطير ويرفرف فوق أرض البشر؛ لم يعد من الممكن اليوم أن نذكره كمثال على التطرف أو التهور، وإلا كنا كمن ينصح الطيارين بأن يعودوا إلى العقل ويسيروا على الأرض فهي أسلم! المهم بعد هذا كله أن نؤكد نسبية الحد وانبثاقه عن حرية الإنسان وتقديره للموقف الذي يجد نفسه فيه، وأن نعرف أن كرامته وواجبه في أن يخلق لنفسه هذا الوسط المعتدل.
حين نذكر كلمة «الاعتدال» نذكر معها إحدى فضائل الرجولة التي كادت تفقدها ذاكرة العصر . وليس من قبيل الصدفة أن الكلمة في لغتنا تقترب من كلمة العدل، على الأقل من ناحية الحروف والظلال التي تلقيها؛ فبالاعتدال نشير إلى مسلك عملي نلتزم فيه بالتوسط، ونتجنب التطرف والشطط. فإذا قلنا على سبيل المثال: إن فلانا من الناس معتدل في طعامه وشرابه، فإنما نقصد بذلك أنه يلتزم بمقدار أو كم معين في تناوله لهما، وأنه يزيد في هذا المقدار أو الكم إذا مال إلى التخمة أو الشراهة. ولكن الاعتدال الذي نريده هنا أبعد في معناه وأعلى في درجته، إنه فضيلة أساسية لا تني مذاهب الأخلاق والأديان عن تأكيدها، هو هذه الكلمة التي تعرفها اللغة اللاتينية حين تقول
Temperantia
حقيقة: إن معنى هذه الكلمة الأخيرة مرتبط بضبط النفس عند الغضب، كما أننا لا نخلو في حياتنا اليومية من مقارنة الاعتدال الذي نعنيه بشيء غير قليل من الخوف من كل غرور أو اغترار، والتوصية بنوع من الحذر والتواضع. والكلمات المأثورة في هذا الصدد لا يكاد يحصيها العد، وسواء كانت حكما متداولة، أو أبياتا قديمة من الشعر، أو آيات من القرآن أو مأثورات من الحديث، فهي جميعا لا تخرج عن معنى التقيد بحد لا يصح أن يتجاوزه الإنسان في الفكر والعمل، بل إن معظم الفضائل كالصدق والعفة والكرم تشارك في هذا المعنى بنصيب، وإذا كانت تشترك في هذا المعنى الإيجابي، فهي تشترك أيضا في معنى سلبي؛ فهي تفيد التجدد، وعدم التطرف أو المبالغة والغلواء، ومرادف الكلمة اليونانية لا يخرج عن هذا المعنى المألوف، فكلمة «سوفروزين
sophrosyne » تفيد الفهم المنظم المدبر، بمعنى أنه يجمع الأجزاء والأشتات المتفرقة ليضمها في نسق واحد منتظم، وليس من المصادفة أن تأتي كلمة «العقل» في اللغة العربية من «عقل البعير» أي ربطها إلى الوتد، أي ألزمها المسلك الذي لا ينبغي أن تخرج عليه، أي ضبطها وأدخلها في نظام، وكذلك الأمر مع الاعتدال، فهو لا يضبط الأعضاء الخارجية وحدها، بل يحقق النظام في باطن الإنسان، ويخلق لديه ما نسميه راحة الضمير، لا بل إنه من دون الفضائل جميعا ينصرف على الإنسان نفسه، فإذا كانت العدالة تتصل بإنصاف الغير، والشجاعة بإنكار الذات والتضحية بالمتاع والحياة، والصدق بإيثار الحقيقة مهما كان الكذب مقترنا بالكسب والنجاح، فإن الاعتدال دائما ما يتعلق بالإنسان نفسه؛ إنه يجعله يوجه نظرته وإرادته إليها وحدها، مهذبا ومعلما ومربيا، وجاعلا من الأثرة إيثارا، ومن الشح كرما، والغضب اتزانا، والشره عفة وقناعة، وبذلك تحافظ على النفس من حيث تعلم إنكار النفس، وتجعل من القوى التي يمكن أن تدمرها عاملا على بقائها وبنائها. وبذلك تصبح العفة والقناعة والتواضع والرأفة والصبر إلخ أسبابا لتحقيق ما سميناه بالاعتدال، كما يصبح الفجور والجشع والغرور والغضب أشكالا للتطرف والغلواء. ولكن لماذا نكره بالفطرة كل ما يخرج عن الاعتدال ويجنح إلى التطرف والمبالغة؟ نجيب باختصار: لأنه خروج على نظام العقل. ونسأل مرة أخرى: وما هو نظام العقل؟ أهو ناموس مثالي من السنن والقوانين قد وجد قبل أن توجد الأشياء؟ أم هو شيء كامن فيها؟ نجيب كذلك باختصار، وبغير أن ندخل في تفاصيل لا حاجة إليها: إن نظام العقل هنا يفترض صلة الارتباط بالواقع، فما يتفق مع العقل يتفق كذلك مع حقيقة الأشياء الواقعية، ويكون صوابا وحقا في ذاته، والعقل هنا هو الملكة التي يدرك الإنسان بها الواقع، فإذا خرج الإنسان عن حقيقة هذا الواقع ونظامه خرج كذلك عن حقيقة العقل ونظامه، فالعفة التي تتحكم في طاقات الجنس وتعصمها من الفحش أو الشذوذ، والشجاعة التي تضبط قوى النفس وتقيها من التهور أو الجبن، والتواضع الذي يحدد الطريق بين الغرور والضعة، كلها فضائل تحقق نظام العقل وترضي قوانينه الخالدة، وكل ما يحقق نظام العقل فهو يحقق نظام العدالة.
لقد عرفت الإنسانية من قديم الزمان - في تجارب الزهاد والقديسين والصالحين - أن العفة والقناعة هي الأصول الأولى للاعتدال وضبط النفس، كما عرفت أن فضيلة الاعتدال أوثق اتصالا بالحياة الأخلاقية والعقلية للإنسان.
وينقلنا هذا إلى الكلام عن التواضع، فنحن لا نستطيع أن نتكلم عن الاعتدال بغير أن نذكر التواضع ، فمن المعروف أن من طبيعة الإنسان أن يطمح إلى تحقيق الصورة الكاملة لوجوده، وأن يسعى جهده إلى التفوق والامتياز. وحين تنجح فضيلة الاعتدال في ربط هذه النزعة الطبيعية بنظام العقل نطلق عليها اسم التواضع. ولكن ما هو التواضع؟ هو أن يقدر الإنسان نفسه بما يطابق الحقيقة، دون أن يغالي في الزيادة أو النقصان، وما من شيء يوضح حقيقة التواضع أفضل من القول بأنه لا يتنافى مع الإباء، بل إنهما متجاوران متقاربان، فإذا أردنا أن نبحث عن ضدهما وجدناه في الغرور والضعة على التوالي.
فالأبي هو الذي يتجه بالفكر والعقل إلى عظائم الأمور، إنه يسعى إلى العظمة ويحقق ما يجعله جديرا بها «وإذا كانت النفوس كبارا ...» وينظر فيما حوله فيختار ما يليق به، ويعد نفسه لما يجلب له الشرف الرفيع، كل ما يخل بالشرف فهو غير خليق به، وكل صغار فهو محتقر في همته على نحو ما يقول المتنبي، إنه صادق غير هياب، وما من شيء تستبشعه نفسه كالخوف من إعلان كلمة الحق، والنفاق والخسة والخديعة وكل ما يصدر عن النفوس الصغيرة أشياء يحتقرها، بل إنه لا يعرف الشكوى من شيء ولا الشكوى لأحد؛ لأن قلبه لا يسمح لأي شر من الخارج أن ينتصر عليه، إنه كبير الأمل دائما، واثق على الدوام، مرتاح القلب راحة من لا يعرف الخوف أو اليأس أو الارتياب، إنه لا يحني رأسه لإنسان، ولا يخضع لقدر، ولا يستسلم لاضطراب العاطفة، وليس غريبا بعد هذا أن يكون الإباء مقترنا بالتواضع، وألا يتنافى التواضع مع شيء بقدر ما يتنافى مع الضعة والمهانة.
والتواضع بمعناه الحق لا يتصل بعلاقة الناس بعضهم ببعض، إنه خضوع المخلوق لقوة تعلو عليه، وإقراره بالفناء والعجز أمام الوجود الأكبر، وهو في صميمه موقف باطني، تختاره الإرادة وتصر عليه، وليس مجرد مظهر خارجي في السلوك والعادات، إنه قبل كل شيء اعتراف من الإنسان بأنه «ليس إلها» ولا هو كالإله، ولعلنا نستطيع أن نقول: إن في هذا الاعتراف نوعا من الذكاء الفطري، أو من المرح والصفاء ، وأن في الغرور شيئا من الكآبة والجهامة جعلت البعض يقول: إن الذنوب جميعا تفر أمام وجه الله، إلا الغرور فهو يعانده ويتحداه! ونصل إلى الاعتدال في مجال المعرفة.
هناك من يقرءون الكتب وكأنهم يبتلعونها، إنها لا تجر عليهم إلا المغص والتخمة العقلية، وهناك من يتناولونها تناول الغذاء والشراب؛ لتصبح دما من دمهم ولحما من لحمهم، أولئك تنطبق عليهم كلمة حب الاستطلاع
curiositas ، والآخرون كلمة الاجتهاد وحب المعرفة
studiositas ، ولا بد من التفرقة بين هاتين الكلمتين اللتين تمثلان الاعتدال والتطرف في النزوع إلى المعرفة والتجربة وإدراك التنوع في ظواهر الكون، والطموح الطبيعي إلى التعرف عليه.
3
إن إرادة المعرفة - هذه الملكة العالية من ملكات الإنسان - في حاجة دائمة إلى الحكمة التي تضع لها الحدود التي ينبغي أن نقف عندها، فعلى الإنسان أن يعرف لنفسه حدا لا يتجاوزه في معرفته للأشياء، حتى لا يقع في التناقض والوهم، ولا يسبح في التأمل الأجوف بعيدا عن أرض الواقع المتاح. كذلك كان هم واحد مثل «كانط» أو مثل «نيتشه» في حربهما على الميتافيزيقا، ولفتهما الأنظار إلى عالم التجربة والواقع.
ولكن كيف يكون هذا التطرف والخروج على الحد؟ نحن لا نستطيع بالطبع أن نصف جهود العقل في الكشف عن أسرار الطبيعة بالتطرف، أو طموح العلم إلى حل ألغاز الكون بالخروج عن الحد؛ فروح الفلسفة والعلم في السؤال، ولا يمكن أن يكون هناك حد لهذا السؤال، ومع ذلك فكثيرا ما يفلت منا «الكل» حين نقصر البحث على «الأجزاء»، وكثيرا ما يكون سوء استغلال النظرة العلمية المدققة إلى الظواهر سببا في ضياع «روحها» و«معناها» وفقدان الصلة الحميمة التي كانت تربط الإنسان القديم بها، وما زالت تقرب الطفل والشاعر منها، وربما كان هذا «النهم» العلمي الذي لا يقنع بحد يقف عنده سببا في كثير مما يعانيه عصرنا من القلق والضيق اللذين لا يكف اليوم أهل المدن عن الحديث عنهما. ولعل كلمة من كلمات جوته في شيخوخته تعبر عن ذلك حين تقول: «إن في إمكاننا أن نعرف كثيرا من الأشياء معرفة أفضل ، لو أننا لم نحاول أن نعرفها بالدقة المتناهية»، وعندما أطلق الروس قمرهم الصناعي الأول هلل المتحمسون والمتعجلون بهذا النصر العلمي الذي كان وما يزال مفخرة للبشر في كل مكان، ولكن بعضهم ذهب في غمرة حماسه إلى حد القول بأن الإنسان قد أصبح قادرا على الكشف عن كل الأسرار، وكأن جيوش البشر قد ضربت الحصار حول مملكة الله! مع أن كل سر نكشف عنه اللثام يفضي بنا إلى سر جديد، وكل انتصار حقيقي ينبغي أن يزيد من تواضعنا بقدر ما يضيف إلى ثقتنا بأنفسنا، ومعارفنا مهما زادت ليست إلا مصباحا صغيرا نرفعه وسط بحر مظلم من أسرار المجهول.
طبيعي أن الإنسان لم تخلق له عينان إلا ليرى بهما، وينظر الأعماق وراء السطوح، ولكن هناك نوعا من لذة الرؤية يفسد عليه معنى الرؤية الأصيل، ويجلب عليه التشتت والاضطراب؛ فالمعنى الأصيل للرؤية هو إدراك الواقع والحقيقة، غير أن نهم العينين لا يحاول إدراك الواقع، بل ينصب على حب الاستطلاع. وإذا كان النهم في الطعام والشراب لا يقصد الشبع بقدر ما يقصد التلذذ بالمأكل والمذاق، فإن نهم العيون المحبة للاستطلاع لا يتجه إلى إدراك الحقيقة والتلبث فيها عن معرفة ويقين، بل يريد أن يسلم نفسه للعالم (على نحو ما يقول هيدجر في كتابه «الوجود والزمان» ص172). إن حب الاستطلاع بهذا المعنى المبتذل لا يزيد عن كونه نوعا من الهروب العقلي، كما يقول القديس توماس الأكويني، يتجلى في لذة الثرثرة والكلام، والظمأ الدائم إلى الاستطلاع، وجمع المعلومات، والقلق الذي لا يستقر على فكرة أو رأي. إن الإنسان يقتلع من جذوره، يعجز عن السكن في ذاته، يظل يتقلب من موضوع إلى موضوع ومن مكان إلى مكان، يهرب يائسا من فراغ نفسه ليبحث عن الوجود الخصب حيث يتعذر العثور عليه، وتظل شهوة الاستطلاع تلهث وراء الانطباعات والإحساسات، وتتهالك على الإثارة والضجة والإغراب، فتفقد البصيرة حين تسيء استخدام البصر، وتفتح نوافذ الحواس على مصراعيها فتضيع الإحساس، وتبني لنفسها عالما من الفراغ واليأس لا تسكنه إلا أشباح التسلية والزينة والأضواء والألوان، عالم خداع هو العدم بعينه، يخنق قدرة الإنسان على إدراك الواقع ، ويفقده هدوء العقل وتركيزه وكرامته، ويبعده عن نفسه بقدر ما يبعده عن الحقيقة، فإذا طالبنا العين بالاعتدال فإننا نطالبها بأن تحمي نفسها من بريق المظهر لتعود إلى الرؤية الأصيلة، وتأخذ نفسها بنوع من الصوم عن حب الاستطلاع حبا في المعرفة، بذلك وحده تستطيع أن ترى نفسها وترى العالم، وتحافظ على هدوء النفس وانسجام الوجدان بعيدا عن بريق المظهر وصراخ الألوان، ولن يخفى على القارئ - خصوصا في زمان الكم والدعاية والإعلام - ما في هذا النوع من الاعتدال من شجاعة ورجولة وجمال!
بالتطرف في اللذة أو التسلط أو مختلف أمراض الأنانية؛ يفقد الإنسان نفسه من حيث يريد أن يثبت وجودها، فكل خطوة على طريق التطرف هي في الواقع خطوة على طريق اليأس. إن المتطرف يخلق لنفسه جنة كاذبة من المتع الموهومة، كلما حاول إثبات نفسه عن طريق اللذة ازداد نسيانا لها وهروبا منها؛ ذلك أنه سرعان ما يكتشف أن الخروج عن الحد هو اليأس بعينه، وحيث يكون التهالك على اللذة عبئا وسخرة، يكون الاعتدال حرية ونقاء، وما الاعتدال في نهاية الأمر إلى نقاء القلب. ولست في حاجة إلى أن أدعو القارئ إلى الصوم أو التهجد أو الوحدة أو الصمت حتى يصل إلى هذا النقاء، فرجال الدين والتصوف أقدر مني على ذلك، كما أن النقاء لا يصطنع وليست هناك وصفة مجربة لتحضيره. إن الإنسان يكون في القلب أو لا يكون، قد تساعد على تطهيره تجارب الحياة من فرح عظيم أو ألم عظيم (فليست المآسي التي تمثل على المسرح هي وحدها التي تطهر كما تقول عبارة أرسطو المشهورة!) وقد ينقيه إحساس بالخطر الهائل، أو بالقرب من الموت، المهم أن نقي الروح سيحس بأن كيانه كله قد تفتح للوجود، وأنه يقف موقف الشجاع الواثق من حقيقة الكون والإنسان، وأن طريق العدل والاعتدال هو سبيله الوحيد إلى هذا الموقف الشجاع. •••
مما يعزي النفس حقا أن يرتفع صوت واحد من أنبل المفكرين من أبناء هذا الجيل دفاعا عن الحد ودعوة إلى المحافظة عليه، وأعني به الكاتب المفكر «ألبير كامي». إنه في كتابه الرئيسي «المتمرد» الذي يستعرض فيه قدر الثورات الغربية - من ثورة سبارتاكوس محرر العبيد إلى الثورة الفرنسية والثورة الماركسية - يشرح كيف انحرفت هذه الثورات عن التمرد المعتدل وانفلتت من الحد الذي ترسمه الطبيعة الإنسانية، فبدأت بتحرير الإنسان من العبودية وانتهت بفرضها عليه. وإذا كان التمرد بوجه عام هو ذلك الإنسان الذي يقول «لا» في وجه الموت والظلم والعذاب، فهو كذلك الذي يقول «نعم» ليؤكد وجود حد ينبغي لمضطهده أن يقف عنده، إنه يقول له: «إلى هنا ولا تزد»، كما يقول له: «هناك حد لا يجوز لامرئ أن يتخطاه»، ولكنه بهذا النفي والاحتجاج يؤكد في الوقت نفسه وجود قيمة يريد لها أن تحترم، كما يؤكد وجود طبيعة إنسانية مشتركة لا يجوز لأحد أن يمتهنها أو يجور عليها، فالتمرد الحق لا بد أن يكون تمردا معتدلا يعرف حدوده أو لا يكون على الإطلاق، وفكرة الحد هي الثمرة الخالدة التي أهدتها إلينا شجرة الفكر اليوناني أو فكر الظهيرة والبحر المتوسط كما يسميه كامي، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره، وهي وحدها التي تستطيع أن تحمي التمرد عبر التاريخ الطويل المزدحم بالتهور والتطرف والجنون، فتبين له النظام والمعيار، وتخلقه في كل لحظة من جديد، وتحرص على ألا ينزلق في الانحرافات التي وقعت فيها الثورات على اختلاف العصور. أما فكر منتصف الليل، أو فكر أبناء الشمال، فهو في نزوعه إلى المطلق وشوقه المستمر إلى اللامتناهي، وانفلاته من كل القيود والحدود التي تفرضها طبيعة البشر المحدودة، قد انتهى - على يد هيجل وأتباعه - إما إلى تأليه الإنسان أو تشييئه، لقد أراد أن يحقق المستحيل في الممكن، والمجرد في الواقع، والمطلق في النسبي، وكان هدفه هو تحقيق الحرية المطلقة عن طريق تأليه الإنسان، أو تحقيق العدالة المطلقة في دولة مثالية بعيدة يجعله شيئا من الأشياء، إنه يندفع بأقصى سرعته في غزو الشمول، ويفلت على الدوام من الحدود ليتوه في مغامرة اللا محدود، وما أبعده بذلك عن فكر «الظهيرة» الذي وجد مثله الأعلى في الروح اليوناني الذي التزم دائما بفكرة الحد، واستطاع أن يحافظ على التوازن بين الطبيعة والعقل، وبين الظل والنور، بعيدا عن النزعة الشمولية التي تهدد اليوم بدمار العالم!
وإذا كان كل تفكير أو سلوك ينفي نفسه بنفسه كلما تجاوز نقطة معينة فلا بد أن يكون هناك حد يلتزم به الناس كما تلتزم به الأشياء. ومن واجب الإنسان أن يبحث عن هذا الحد ويوجده؛ لأن من واجبه على الدوام أن يبحث عن التوازن بينه وبين العالم الذي يعيش فيه، ويعيش في توتر وصراع دائمين ليعثر على الوسط الملائم بين طرفين متباعدين، ولا بد أن يكون سبيله إلى ذلك هو الفكر «التقريبي» الذي ينصف الواقع ويقدر إمكاناته، ويحترم الممكن والنسبي فلا يحشره في قالب غريب عليه، ولا يفرض عليه مبدأ عدوا له.
إن كامي من القلائل الذين استطاعوا أن يقدروا خطورة الموقف الذي تمر به الإنسانية اليوم؛ لقد عرف مدى التطرف الذي وقع فيه الزمن الحديث في الفكر والسلوك، ووجد أن الوسيلة الوحيدة لمواجهة هذا الموقف الخطير هي إيجاد حد جديد يلتزم به الناس، ويتعلمون منه احترام الإنسانية في الإنسان، وهو لذلك جاد كل الجد حين يقول: «إما أن توجد قيمة الحد هذه بأية وسيلة، أو يجد التطرف الذي يتصف به زماننا قانونه وسلامه في الدمار الشامل الأخير.»
4 •••
التزام الحد والاعتدال ليس إذن رأيا ولا فكرة يقبلان الجدل والمناقشة، بل واجب ملح يلقي ثقله كله على أبناء هذا الجيل. وإذا كانت العصور السالفة قد عرفت أن في فضيلة التوسط أو احترام الحدود تكريما للإنسان وضمانا لسعادته وسلامه، فإن العصر الحاضر لا بد أن يدرك أن بقاءه أو زواله مرتبطان بمقاومة التهور والتطرف، والعودة إلى الحد والوسط. إن حقيقته وسط هذا العالم المضطرب مرهونة بقدرته على التزام التواضع والاعتدال، ولم يحدث في تاريخ الإنسان الطويل أن كان عليه أن يتعلم الرقص على حبل مشدود بين هاويتين يتربص به الخراب فيهما كما يحدث له اليوم: بين الطموح المغرور الذي يهيئ له أنه يمكن أن يتشبه بالآلهة ، والهوان المطلق الذي يجعل من البشر قطعانا صامتة تسير معصوبة العيون إلى المصير المجهول، عليه أن يتعلم من جديد أن الاعتدال هو ذروة الطبيعة الإنسانية، والجذر العظيم للعالم كما كان يقول أهل الصين القدماء، أعني أن يتعلم التواضع بمعناه الشامل الأصيل فيقول لنفسه اليوم قبل الغد: «أيها الإنسان لست إلها!»
عن الشجاعة
ماذا نقصد بقولنا: إن فلانا من الناس شجاع؟
قد نقصد بذلك أنه لا يهاب الخطر، ولا يتردد في قول الحق، ولا يحجم عن التضحية بحياته في سبيل قضية يعتقد أنها عادلة، ولكننا لا نلبث أن نجد أن هذه الكلمة تلتقي فيها مشكلات عديدة: أخلاقية واجتماعية ودينية وفلسفية، بحيث يندر أن نجد فكرة مثلها تكشف عن طبيعة الوجود الإنساني، بل تضرب بجذورها في أعماق الوجود نفسه.
ولو قلبنا في تاريخ المناقشات الفلسفية للشجاعة؛ لوجدنا ذلك واضحا في محاورة أفلاطون المبكرة «لاخيس»، فقد عاد المتحاورون لتوهم من حلبة الصراع، حيث شاهدوا عرضا لألعاب السلاح لبطل يكنون له الإعجاب، ويبدأ ليزيماخوس، الذي حضر مع صديقه ميليزوس ومعهما والداهما، في الكلام راجيا أن يسترشد برأي قائدين شهيرين هما: نكياس ولاخيس في أمر تربية الأبناء، وفي أفضل الوسائل التي تعلمهم الفضيلة وحسن السمعة، وهو يسألهما إن كان تعليم المبارزة والنزال من بين هذه الوسائل، ويتوجه الجميع بالسؤال إلى سقراط، الذي يتخلص كعادته من إبداء رأيه قبل سماع بقية الآراء. ويتحدث نيكياس عن فوائد تعلم السلاح في تربية الأبناء على الاستقامة والشجاعة في الحرب والسلام، ولكن لاخيس يعارض كلامه، ويقرر أن الممتازين في المبارزة بالسلاح ليسوا بالضرورة شجعانا في الحروب، وأن الجبان إذا تفوق في المبارزة اغتر بنفسه، وإذا أخطأ الشجاع فيها جلب على نفسه سخرية الناس. ويتطرق الحوار إلى الوسيلة التي يمكن أن تصل بها نفوس الشبان إلى الفضيلة، ثم إلى تعريف الفضيلة نفسها، غير أن هذه مهمة شاقة كما يقول سقراط؛ ولذلك فهو يقترح أن يكتفوا بالكلام عن جزء منها، وهو الشجاعة التي تهدف إليها ألعاب المبارزة والنزال.
وتبدأ سلسلة من التعريفات الأولية للشجاعة، تستبعد واحدا بعد الآخر؛ لقصورها عن الإحاطة بمضمونها في مختلف المواقف والميادين؛ فهناك الشجاعة في الحرب وفي السلم، وفي المرض والصحة، وفي مقاومة الألم والانتصار على الشهوة، بحيث لا يستطيع التعريف الواحد أن يدل عليها جميعا. ويتجه سقراط أخيرا إلى القائد الحربي نيكياس، الذي ينبغي أن يعلم ماهية الشجاعة خيرا من غيره، ويقول نيكياس، في ثقة تليق بأهل الحرب: إن الشجاعة هي العلم بما ينبغي أن يخشاه الإنسان وما يستطيع أن يتجاسر على الإقدام عليه، سواء في الحرب أو في غيرها من الأحوال، ولكن التعريف يلقى الاعتراض؛ فالشجاعة ليست علما ولا حكمة، وإلا كان الأطباء الذين يعرفون موضع الخطر شجعانا، وكذلك الشأن مع الزراع والصناع وسائر المتخصصين في فرع من فروع المعرفة أو العمل، ولا يقلل من هذا الاعتراض أن يقول نيكياس: إنه يقصد الشجاعة العاقلة الذكية، أما الإقدام عن جهل - كما نرى لدى الأطفال والحيوانات - فهو أقرب إلى الجسارة أو التهور أو الغباء، ويعود المتحاورون فيضيقون الخناق على القائد، حتى يرى بنفسه أن تعريفه غير جامع ولا مانع، وأن الموضوع أشمل وأوسع مما يزعم، فإذا كانت الشجاعة هي العلم بما يخشاه الإنسان وما يقدم عليه، وكان الخوف والإقدام مرتبطين بما يحدث في المستقبل من خير أو شر، فإن العلم ينبغي أن يشمل الحاضر والماضي والمستقبل؛ لأن العلم ينبغي أن يكون واحدا في جميع الأحوال، وأن يتسع لكل ألوان الخير والشر على السواء؛ وإذن فالشجاعة ليست جزءا من الفضيلة كما زعم نيكياس، بل لا بد أن تكون الفضيلة كل الفضيلة. ويختتم سقراط المحاورة بهذه العبارة اليائسة: «وإذن فقد فشلنا في أن نكتشف ماهية الشجاعة»، وبوعد منه أن يبحث عن الرأي السديد عند أصحاب الرأي، وأن يتعلم الفضيلة ممن يستطيع أن يعلمها له ولغيره.
هذا الفشل أو هذا الحيرة في تعريف الشجاعة أمر بالغ الأهمية في إطار التفكير عند سقراط؛ فسقراط - كما نعلم - يرى أن الفضيلة معرفة؛ ولذلك فمن الضروري أن يكون الجهل بحقيقة الشجاعة هو السبب في استحالة كل فعل يطابق هذه الحقيقة، وتعذر الوصول إلى تعريف كاف لها.
غير أن هذا الفشل يعد مع ذلك أهم بكثير جدا من كل تعريف قد يبدو في ظاهر الأمر أنه تعريف ناجح للشجاعة، حتى ولو قابلناه عند أفلاطون وأرسطو نفسيهما؛ ذلك لأنه يكشف عن مشكلة أساسية من مشكلات الوجود الإنساني، ويبين أن فهم الشجاعة يشترط فهم الإنسان وعالمه، كما يفترض معرفة ببناء هذا العالم وقيمه، ومن عرف ذلك عرف أيضا ما ينفي وما يثبت، وما يأخذ وما يدع، فالسؤال عن طبيعة الشجاعة من الناحية الأخلاقية يؤدي بالضرورة إلى السؤال عن طبيعة الوجود والعكس صحيح؛ لأن الشجاعة يمكنها أن تبين لنا ما هو الوجود، كما أن الوجود يستطيع أن يكشف لنا عن حقيقة الشجاعة. ومع أننا لا نضمن أن ننجح حيث فشل سقراط، فإن هذا لا يمنعنا من إثارة المشكلة من جديد، على ضوء تاريخها في الفلسفة وموقف الإنسان في العالم المضطرب الحديث، فلعل هذه هي الطريقة الوحيدة التي تحيي المشكلة وتحثنا على النظر فيها من جديد؛ ذلك لأن المشكلات الفلسفية واحدة بطبيعتها في كل زمان ومكان، وإحياؤها في كل عصر أو موقف جديد يواجهه الإنسان - لا الرد عليها ولا محاولة إيجاد حل نهائي لها - هو أقصى ما يمكن أن يطمع فيه المفكرون. •••
الشجاعة فكرة أخلاقية، من حيث هي فعل بشري قابل للتقييم، والشجاعة فكرة وجودية، من حيث هي تأكيد كلي وجوهري للذات، وشجاعة الوجود هي ذلك الفعل الأخلاقي الذي يؤكد به الإنسان وجوده على الرغم من كل العناصر التي يقابلها في حياته وتتعارض مع تأكيده لذاته. فلنحاول الآن إلقاء نظرة سريعة على الشجاعة في تاريخ الفكر الغربي، مهتدين بالمعنيين السابقين اللذين سنجدهما صراحة أو ضمنا في كل مرحلة من مراحل هذا الفكر.
ذكرنا أن أفلاطون كان أول من تعرض لمناقشة المشكلة وحاول إيجاد تعريف للشجاعة، وعرفنا نتيجة هذه المحاولة في محاورة «لاخيس»، وقد عاد إليها مرة أخرى في جمهوريته، فجعل الشجاعة متعلقة بذلك العنصر الشجاع من عناصر النفس الذي يسميه بالثيموس
thymos ، كما ربط بينها وبين ذلك المستوى الاجتماعي أو تلك الطبقة التي يسميها طبقة الحراس «الفيلاكيس
phylakes »، وتقع الثيموس بين العنصر العقلي والعنصر الحسي في الإنسان، إنها ذلك الجهد الذي يجعل المرء يسعى سعيا غير إرادي إلى كل ما هو عظيم ونبيل، وهي بهذا تحتل مكانة المركز أو الوسط من النفس، وتملأ الهوة الفاصلة بين العقل والحس، أو تستطيع على الأقل أن تملأها، ولكن الثنائية الحاسمة في تفكير أفلاطون ومدرسته، والازدواجية التي أكدت الصراع بين المعقول والمحسوس تأكيدا استحال معه إقامة جسر حقيقي يربط بينهما، كان لهما أثرهما البعيد على مدى التاريخ حتى عهد ديكارت وكانط، ولعلهما هما المسئولان عن تشدد القانون الأخلاقي المطلق عند كانط، وعن تقسيم الوجود إلى الفكر والامتداد عند ديكارت. ومن المعروف أن تقسيم أفلاطون لملكات النفس يقابله تقسيم مواز لطبقات المجتمع كما تصوره في جمهوريته، فالحراس عندهم هم الأرستقراطية المسلحة التي تمثل النبل والشجاعة، ومن طبقة الحراس تخرج صفوة الحكماء والفلاسفة الذين يضيفون الحكمة إلى الشجاعة. ولكن هذه الأرستقراطية انهارت وضاعت قيمها على أواخر العالم القديم كما ضاعت على يد البورجوازية الحديثة؛ لقد حل المستنيرون والمتحررون محل الحكماء، كما شغلت الجماهير الموجهة بأساليب العلم في الدعاية والمذهبية محل الحراس، ومع ذلك فمما يحسب لأفلاطون أنه اعتبر مركز النفس ووسطها (التيموايديس
thumoeides ) وظيفة أساسية في كيان الإنسان، وجعل منه قيمة أخلاقية وصفة اجتماعية.
وجاء أرسطو فاحتفظ بهذا المعنى الأرستقراطي للشجاعة وحدد مفهومه، فعنده أن الدافع إلى احتمال الألم والموت في شجاعة هو أن من النبل أن يفعل الإنسان ذلك، ومن الوضاعة ألا يفعله (الأخلاق إلى نيقوماخوس، 3، 7، 9)، فالشجاع يقدم على الفعل من أجل ما هو نبيل؛ لأن هذا هو هدف الشجاعة، والنبيل والوضيع هنا ترجمة لكلمتي: كالوس
Kalos
وأيسخروس
Aischros
اللتين اصطلح على ترجمتهما بالجميل والقبيح، فالفعل الجميل أو النبيل هو الذي يستحق الثناء، والشجاعة هي التي تقدم على ما يستحق الثناء وتتجنب ما يستحق الاحتقار، أو هي - بلغة أرسطو - التي تثبت جوهر الإنسان وهدفه الباطن، وتحقق في الفعل كماله وإمكانياته ، على الرغم مما قد يواجهه من مصاعب وعقبات. إنها تحتوي على الممكن، كما تنطوي في بعض الأحوال على التضحية الضرورية لبعض العناصر المتعلقة بوجود الإنسان من أجل تحقيق كماله الأخير، وقد تنطوي هذه التضحية على اللذة والسعادة، بل قد تصل إلى التضحية بالحياة نفسها، ولكنها خليقة بالثناء في كل الأحوال؛ لأن الجانب الجوهري من وجودنا يتفوق في فعل الشجاعة على الجانب الذي يقل عنه في الجوهر، وجمال الشجاعة وخيريتها تأتي من تحقق الجمال والخير فيها، ومن أجل ذلك كانت نبيلة.
ويتحقق الكمال عند أرسطو وأفلاطون على مستويات طبيعية وشخصية واجتماعية، كما يختلف مدى تحقق الشجاعة - كتأكيد للجانب الجوهري من وجود الإنسان - باختلاف هذه المستويات، ولما كان المحك الأكبر للشجاعة هو الاستعداد للإقدام على أكبر تضحية ممكنة، وهي التضحية بالحياة نفسها، وكان المفروض في الجندي بطبيعة مهنته أن يكون دائما على استعداد لهذه التضحية، فقد اعتبرت شجاعة الجندي مثلا أعلى للشجاعة،
1
وظل هذا المعنى الأرستقراطي والعسكري للشجاعة مرتبطا ببقاء الطبقة الأرستقراطية التي كان يحق لها وحدها أن تحمل السلاح، فلما انهارت التقاليد الأرستقراطية وفهمت الشجاعة على أنها المعرفة الكلية بما هو خير وشر، تداخلت الحكمة والشجاعة، وأصبحت الشجاعة الحقيقية شيئا متميزا عن شجاعة الجندي، هكذا كانت شجاعة سقراط في مواجهة الموت شجاعة عقلية ديموقراطية لا بطولية أرستقراطية.
وعادت الصفة الأرستقراطية للشجاعة إلى الحياة مع بداية العصور الوسطى، وأصبح الشجاع هو النبيل، والفارس هو الجندي الذي تتمثل فيه الشجاعة على الحرب والقتال. ولكن هذا الفهم لم يستمر طويلا؛ فسرعان ما دخلت الشجاعة بمعناها العسكري المرتبط بأخلاق الأرستقراطية والبطولة في بداية العصور الوسطى مع الشجاعة بمعناها المسيحي والإنساني المرتبط بأخلاق الديموقراطية والنزعة العقلية في أواخر ذلك العصر الوسيط، ولعل أوضح تعبير عن هذا الاتجاه هو مذهب القديس توماس الأكويني في الشجاعة، فهي عنده قوة العقل القادرة على الانتصار على كل ما يهدد تحقيق الخير الأسمى، إنها تتحد بالفطنة أو الحكمة ، وهي عنده الفضيلة التي تتحد فيها الفضائل الأربع الأساسية، وهي الذكاء والشجاعة والاعتدال والعدل. ويحلل توماس الأكويني هذه الفضائل ليخرج من هذا التحليل بأنها ليست جميعا في مستوى واحد من الأهمية، فالشجاعة حين تتحد بالحكمة تنطوي على فضيلة الاعتدال بالنسبة للإنسان نفسه كما تنطوي على فضيلة العدل بالنسبة للآخرين، فأي الفضيلتين إذن أشمل من الأخرى، الشجاعة أو الحكمة؟ الجواب على هذا يرتبط بنتيجة المناقشة المشهورة حول العقل والإرادة وأيهما له الصدارة في ماهية الوجود، كما يرتبط نتيجة لذلك بالشخصية الإنسانية نفسها، والمعروف أن المفكر اللاهوتي الكبير يقف إلى جانب العقل؛ ولذلك فهو يرتب الشجاعة بعد الحكمة في سلم الفضائل المسيحية الأربع، وبذلك تصبح لديه «قوة العقل» التي تجعل الخضوع لأوامر العقل الكلي أو لتعاليم الوحي أمرا ممكنا؛ ومن ثم كانت الشجاعة - التي يفضل دائما أن يسميها بالصلابة أو الصمود «فورتيتيدو» - فضيلة من بين فضائل أخرى، وكانت إشارته المستمرة إلى شجاعة الجندي مثلا واضحا على هذا المعنى المحدد للشجاعة، وهو في هذا متفق مع اتجاهه العام في الجمع بين البناء الأرستقراطي للمجتمع الوسيط وبين العناصر الكلية الشاملة في التفكير المسيحي والإنساني. مهما يكن من شيء، فإن الشجاعة الكاملة في رأي القديس توماس هدية يهبها الروح الإلهي؛ فالقوة الطبيعية للعقل ترتفع عن طريق الروح القدس إلى الكمال الذي يتجاوز الطبيعة، وهذا يعني أن الشجاعة تتصل بالإيمان والأمل والمحبة، وهي فضائل أساسية في المسيحية. بهذا نلاحظ شيئا من التطور في مفهوم الشجاعة، بحيث يدخل جانبها الوجودي (الأنطولوجي) في الإيمان والأمل، بينما يدخل جانبها الأخلاقي في المحبة، وهي مبدأ كل أخلاق دينية. ولم يكن القديس توماس في الحقيقة هو أول من أدخل الشجاعة في حظيرة الإيمان؛ فقد سبقه القديس «أمبروز» إلى هذا حين قال عن الصمود إنه «أسمى من سائر الفضائل»؛ فالشجاعة عندهما تنصت إلى صوت العقل، وتنفذ ما تقول به الحكمة والذكاء. ولولا قوة الروح وصمودها في مواجهة الخطر وإصرارها على تحقيق النصر لما كانت شهادة ولا شهداء، ومن هنا كانت الشجاعة هي سبيل المؤمن إلى العزاء والصبر، ولا سبيل إلى تمييزها عن الأمل والإيمان. •••
من هذا العرض السريع يتبين لنا أن كل محاولة لتعريف الشجاعة لا بد أن تسير في طريق من اثنين: فإما أن نعتبرها فضيلة من بين فضائل عديدة، وندخلها في فضائل أخرى أشمل منها كالأمل أو الإيمان، أو تحتفظ بمعناها الأوسع وتفسر الفضائل الأخرى عن طريقها، وفي الحالتين يتداخل المعنى الأخلاقي مع المعنى الوجودي بحيث يصبح من العسير الفصل بينهما، ولعل الشجاعة بمعناها الأخلاقي والوجودي الشامل لم تصل إلى ذروتها في يوم من الأيام كما وصلت إليها في أواخر العالم القديم وأوائل العصر الحديث على يد نفر من الحكماء الذين لا نملك إلا الإعجاب المتجدد بهم على الرغم من اختلاف رأينا فيهم، وأقصد بهم الرواقيين والرواقيين المحدثين، فكلاهما يمثل مدرسة من المدارس الفلسفية الكثيرة التي حفل بها العالم القديم، وكلاهما يزيد على هذا المعنى المدرسي المحدود بكثير؛ فيندر أن نجد مدرسة فلسفية اجتمع فيها كل هذا العدد من الشخصيات النبيلة التي وحدت بين الفكر والسلوك، واستطاعت أن تجد الجواب العملي على كثير من مسائل الوجود التي كان غيرهم لا يسأم من الجدل العقلي فيها، وأن تقهر الخوف من القدر وتتغلب على الفزع من الموت؛ ولذلك فهي تعد فرقة دينية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، سواء ظهرت في صورة مؤمنة أو ملحدة، وسواء تحدث باسمها إمبراطور عظيم أو فيلسوف مسكين.
كانت الصفة الأساسية للمفكر الرواقي الواسع الثقافة البالغ الفردية، هي الشجاعة في مواجهة القدر واحتمال الموت، ولكن هذه الشجاعة الزاهدة المتكبرة لم تكن من اختراع الفلاسفة الرواقيين، لقد عبروا عنها تعبيرا عقليا. أما جذورها فترجع إلى الأساطير القديمة وحكايات الأبطال وكلمات الحكماء والشعراء وكتاب المسرح القدامى، وقرون من التفلسف سبقت ظهور المدرسة الرواقية، ولعل حادثة واحدة هي التي أضفت على الشجاعة الرواقية قوتها الباقية، وهذه الحادثة هي موت سقراط؛ فقد كان موته بالنسبة للعالم القديم كله حقيقة ورمزا، كشف عن أصالة الموقف الإنساني في مواجهة القدر والموت، وعبر عن شجاعة استطاعت أن تؤكد الحياة؛ لأنها استطاعت أن تواجه الموت. لقد تغير معنى الشجاعة القديم بموت سقراط؛ فلم تعد شجاعة البطولة كما كانت في الماضي، بل أصبحت شجاعة العقل والحكمة، واكتسبت معنى ديموقراطيا يختلف عن معناها الأرستقراطي المرتبط بالفروسية والجندية؛ ولذلك استطاع الناس على اختلاف طبقاتهم أن يستمدوا منها العزاء الفلسفي الذي أعانهم على مواجهة كثير من الكوارث والتقلبات في العالم القديم.
عبر سنيكا الفيلسوف الروماني المشهور عن هذه الشجاعة في كتاباته خير تعبير، وبين كيف يرتبط الخوف من الموت بالخوف من الحياة، كما ترتبط الشجاعة على احتمال الموت بالشجاعة على تقبل الحياة، إنه يتحدث عن «أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا ولا يعرفون كيف يموتون»، كما يتحدث عن غريزة الموت
Libidp moriendo
حديثا يشبه ما يقوله عنها فرويد في الزمن الحديث، بل إنه يقترب من كثير مما يتكرر اليوم على ألسنتنا ويملأ صفحات جرائدنا وكتبنا حين يتكلم عن أناس يشعرون بأن الحياة سطحية وخالية من كل معنى، ويرى ذلك نتيجة للاعتقاد في مبدأ اللذة، والسخط الدائم على النفس التي لا تستطيع تحقيق دوافعها؛ مما يؤدي بالضرورة إلى السأم واليأس والاشمئزاز، ولكن سنيكا قد عرف - كما عرف فرويد - أن العجز عن إثبات الحياة لا يعني القدرة على إثبات الموت، وأن الخوف من القدر والفزع من الموت قد يتسلطان أيضا على الذين فقدوا إرادة الحياة، وإذا كنا نجد الرواقيين يثنون على الانتحار، بل ويوصون به في بعض الأحيان، فهم لا يتجهون بهذا الرأي لمن قهرتهم الحياة، بل لمن انتصروا عليها، بحيث أصبحت لديهم القدرة على الاختيار الحر بين الموت والحياة؛ ولذلك فإن الانتحار الذي يمليه الخوف والهروب لا شأن له بالشجاعة التي يؤكدونها؛ لأنها في معناها الوجودي هي شجاعة الوجود، إنها الشجاعة التي تقوم على التحكم في العقل، ولكنهم لا يريدون بالعقل تلك القوة القادرة على التفكير والجدل، بل يريدون به «اللوجوس»، أو البناء المعقول للواقع بوجه عام، وللعقل البشري بوجه خاص، فإذا لم تكن هناك صفة أخرى تتعلق بالإنسان بما هو إنسان غير العقل ، فإن العقل - كما يقول سنيكا - سيكون هو الخير الوحيد الذي يملكه، وسيساوي كل أنواع الخير الأخرى مجتمعة. معنى هذا أن العقل هو طبيعة الإنسان الحقة، وهو جوهره الذي يعد كل شيء عداه عرضا، ومعناه أيضا أن شجاعة الوجود هي شجاعة إثبات الطبيعة العاقلة لدى الإنسان تجاه كل ما هو عرضي فيه، ومن الواضح أن العقل هنا قريب مما نسميه اليوم بالشخصية، وأنه مركز كل القوى والملكات الذهنية والنفسية، وجزء من العقل الكلي الذي يشارك فيه الحكيم الرواقي بنصيب واف، يمكنه من تحمل الألم والارتفاع فوق الشهوات، ومواجهة القدر والموت؛ وإذن فشجاعة الوجود هي الشجاعة في إثبات طبيعتنا العاقلة، على الرغم من كل ما يتعارض معها أو يعوق اتحادها بالطبيعة العاقلة للوجود الكلي العام؛ ولذلك فهي تقهر الخوف من الموت بالصمود، وترتفع بالعقل والحكمة فوق الشهوة والرغبة، وتنتصر على الألم بالزهد والكبرياء.
هذا الصمود والانتصار، هذا التأكيد لوجود الإنسان الحق برغم كل المخاوف والشهوات، لا بد أن يخلق الفرح. إن سنيكا يحث تلميذه لوسيللوس في رسائله الجميلة إليه «أن يتعلم كيف يفرح»، ولكن هذا الفرح الذي يريده له لا يمكن أن يأتي نتيجة تحقيق الرغبات (فالفرح الحقيقي شيء قاس وعسير!) بل هو السعادة التي تحسها نفس «ارتفعت فوق جميع الظروف»، إنه التعبير العاطفي عن «نعم» شجاعة نتقبل بها وجودنا الحق ونثبته ونؤكده. وفي هذا الإثبات للوجود الذاتي الأصيل تتجمع الشجاعة والفرح، ويتحد الموت بالحياة، هناك يصل الإنسان إلى قمة وحيدة ومخيفة؛ فلا تزعجه المخاوف ولا تتلفه اللذات، ولا يخشى من الموت ولا من الآلهة كما يقول سنيكا في تعبيره القاسي الجميل. ولكن هل يستطيع الإنسان حقا أن يرتفع إلى هذه القمة أو يبلغ هذه الحكمة؟ وهل تستحق أن يبذل في سبيلها ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه معظم الرواقيين؟ أليست هذه الشجاعة التي تعلو فوق الألم والعذاب - أو تكابدهما بغير أن تسمح لهما بالتأثير على ملكة العقل والتفكير - شيئا يقتصر بطبيعته على صفوة الناس دون غالبيتهم العظمى من البلهاء كما يحلو للرواقيين أن يسموهم؟ أليست شجاعة نابعة من الوحدة، لا بل من اليأس المطلق كما يقول سنيكا نفسه؟ وأي يأس هذا الذي يعلو بصاحبه فوق كل إحساس باليأس نفسه؟! أليس الصمود هنا اسما آخر للصدود، والعلو تعبيرا خاطئا عن الاستعلاء؟ وهل وصل الحكيم الرواقي نفسه إلى هذه «الحالة» التي تتجاوز كل حالة بشرية ممكنة؟! أسئلة كثيرة بغير شك، لا تحاول أن تشكك في صدق الرواقيين، بقدر ما تحاول الكشف عن استحالة طريقهم، وبيان ما فيه من تطرف في العزلة والتكبر والانفراد، وهو طريق يجد الحكيم فيه خلاصه، ولكن أين فيه الشجاعة التي تخلص الغير؟ وهل هناك أبعد من الفرق بين طريق الصدود والكبرياء وطريق الخلاص والنجاة؟ •••
تراجعت الرواقية عندما حل الإيمان بالخلاص الكوني محل شجاعة الزهد والصدود، ولكنها عادت في صورتها الحديثة عندما بدأ نظام العصر الوسيط الذي سادته مشكلة الخلاص في التحلل والانهيار، وأصبح ممثلوها صفوة من المفكرين الإنسانيين الذين رفضوا طريق الخلاص المسيحي، ولم يسيروا مع ذلك على طريق الرواقيين في التخلي والصدود. على أن المسيحية قد تركت أثرها على كل المذاهب الإنسانية الجديدة التي حاولت أن تحيي المذاهب القديمة، وإن أنكرت أفكار المسيحية في الخلق والتجسد أو تجاهلتها. يصدق هذا على محاولات إحياء الأفلاطونية والرواقية ومذهب الشك، كما يصدق على التجديد في الفن والأدب والسياسة وفلسفة الأديان، فقد تراجعت النظرة السلبية المتشائمة التي غلبت على أواخر العصر القديم أمام النزعة الإنسانية التي أصبحت تنظر إلى الحياة والتاريخ والإنسان نظرة متفائلة بالمستقبل والتقدم والأمل، ولم يعد الفرد كفرد رمزا لقيمة كلية فحسب كما كان الحال في العصر القديم، بل أصبح تعبيرا فريدا عن الكون كله، كما أصبح شيئا بالغ الخطر لا يمكن أن يتكرر أو يقارن بشيء سواه.
كان لهذا كله أثره الحتمي على مفهوم الشجاعة، فالنزعة الإنسانية في مطلع العصر الحديث ترفض فكرة الخلاص المسيحية، ولكنها ترفض كذلك فكرة الزهد الرواقية وتضع مكانها نوعا من تأكيد الذات يعلو على ذلك الذي عرفه الرواقيون؛ لأنه يتضمن الوجود المادي والتاريخي والفردي ، ومع هذا فقط نستطيع أن نسمي هذا الاتجاه الجديد بالرواقية المحدثة؛ لما فيه من عوامل مشتركة بينه وبين الرواقية القديمة، ولعل الفيلسوف الهولندي «إسبينوزا» (الذي يعرفه القارئ بمذهبه في وحدة الوجود أو بعبارته المشهورة الطبيعة أو الله)
2
هو خير ممثل لهذه المدرسة، وأهم من حاول وضع الأساس الوجودي الذي يقوم عليه الكيان الأخلاقي للإنسان، وذلك في كتابه الرئيسي «الأخلاق»، لا بل في عنوان هذا الكتاب نفسه. ولقد ركز إسبينوزا مذهبه الأخلاقي فيما يمكن أن نسميه اليوم «بشجاعة الوجود»، وهذه الشجاعة هي التعبير عن «تأكيد الذات»، وهو الفعل الأساسي الذي يشارك به كل شيء في الوجود، وتتضح أهمية تأكيدات الذات في مذهب إسبينوزا في قضية كهذه: «إن الجهد الذي يبذله كل شيء ليصمد في وجوده الخاص به، ليس إلا الماهية الفعلية لهذا الشيء نفسه (الأخلاق 3، القضية 7). هذا الجهد أو هذا السعي هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه، بحيث إذا اختفى فإن الشيء نفسه يختفي باختفائه، والسعي إلى المحافظة على الذات أو تأكيد الذات هو قوة وجود هذا الشيء أو حقيقته الفعلية، وقوة وجود الشيء هي فضيلته، وفضيلته هي جوهر طبيعته، والفضيلة هي القوة التي تجعل الإنسان يسلك وفقا لطبيعته الحقة، وتقاس درجة فضيلته بقدرته على تأكيد وجوده، وتأكيد هذا الوجود أو تأكيد الذات هو جماع الفضيلة، ولكن تأكيد الذات هو تأكيد الوجود الحقيقي، ولا تتأتى معرفة الوجود الحقيقي إلا عن طريق العقل، وهو قدرة النفس على امتلاك الأفكار الكافية؛ ولذلك كان السلوك النابع من الفضيلة مساويا للسلوك على هدي العقل من أجل تأكيد الوجود أو الطبيعة الحقة» (الأخلاق 4، القضية 24).
هكذا تتضح العلاقة بين الشجاعة وتأكيد الذات، ويستخدم إسبينوزا في الأصل اللاتيني لكتابه كلمتي:
Fortitudo
و
Animositas ، أما الكلمة الأولى فهي قوة النفس أو قدرتها على أن توجد وجودها الحق، وأما الكلمة الثانية فهي مشتقة من كلمة
Anima
أو النفس، ويريد بها الشجاعة بمعنى الفعل الصادر عن الشخص ككل، إنه يعرفها بقوله: «أريد بالشجاعة تلك الرغبة التي تجعل كل إنسان يسعى إلى المحافظة على وجوده وفقا لتعاليم العقل وحده» (3، القضية 59).
ولكن هل يقف الأمر بتأكيد الذات عند هذا الحد؟
إنه - كما يقول إسبينوزا - هو المشاركة في تأكيد الذات الإلهية، فالقوة التي يحافظ بها كل موجود جزئي - وبالتالي الإنسان - على وجوده هي قوة الله (4، القضية 4). ومشاركة النفس في القوة الإلهية تفسر من خلال المعرفة والحب، فإذا عرفت النفس أنها جزء من الروح الأبدي، فستعرف وجودها في الله، وهذه المعرفة بالله وبوجودها في الله هي علة السعادة الكاملة، وهي تبعا لذلك أيضا علة الحب الكامل لسبب هذه السعادة، هذا الحب روحاني أو عقلي
intellectualis ؛ لأنه حب خالد؛ ولذلك فهو عاطفة لا تخضع للانفعالات المرتبطة بالجسد، وعن طريق المشاركة في الحب الروحي غير المتناهي يتأمل الله نفسه ويحب نفسه، وحبه لنفسه يجعله يحب ما يتعلق به من مخلوقات، أي يجعله يحب البشر.
هذه العلاقات تكشف لنا عن طبيعة الشجاعة، فهي من ناحية تفسر لنا لماذا كان تأكيد الذات هو الطبيعة الحقة لكل موجود، ومن ثم خيره الأسمى، فالتأكيد الكامل للذات ليس في الواقع فعلا منعزلا ينشأ في نفس الفرد، بل مشاركة في الفعل الإلهي الشامل لتأكيد الذات، وهو منشأ كل فعل فردي وقوته الدافعة، وفي هذا كله تعبير أساسي عن الشجاعة كفكرة وجودية «أنطولوجية»، وهي من ناحية أخرى تكشف لنا عن القوة التي تجعل الانتصار على الشهوة والقلق أمرا ممكنا، إن الرواقيين لم يستطيعوا أن يجدوا تفسيرا لذلك، حتى جاء إسبينوزا بفكرته عن المشاركة، فلقد عرف أن العاطفة لا تقهرها إلا عاطفة مثلها، وأن «عاطفة» العقل هي وحدها التي يمكنها أن تنتصر على عواطف الجسد وانفعالاته؛ لأنها هي عاطفة الحب الروحي أو العقلي التي تحس بها الروح نحو أصلها الخالد، وتعبر بها عن مشاركته في حب الله لنفسه؛ ولهذا كانت شجاعة الوجود ممكنة من حيث هي مشاركة في التأكيد الذاتي للوجود نفسه.
غير أن هناك سؤالا أخيرا يظل بغير جواب، سواء عند إسبينوزا أو عند الرواقيين، إن إسبينوزا نفسه يعبر عنه على هذا النحو في ختام كتابه العظيم «الأخلاق»: لماذا يهمل معظم الناس طريق الخلاص الذي أوضحه؟ ويجيب الفيلسوف إجابة لا تخلو من كآبة؛ لأنه عسير ومن ثم فهو نادر، ككل ما هو سام ونبيل ... •••
الشجاعة إذن هي تأكيد الذات الإنسانية بالرغم من ... ونسأل الآن: بالرغم من أي شيء؟ لا بد أن يكون الجواب: بالرغم من شيء يهدد تأكيد الذات أو يحاول أن يلغيه، أي أن الشجاعة التي وصفناها بشجاعة الوجود لا بد أن تواجه كل «عدم وجود» يحاول تهديدها، سواء على الصعيد الأنطولوجي أو الأخلاقي أو الاجتماعي ... إلخ. وإذا كانت هناك فلسفة اهتمت بألوان «عدم الوجود» التي تواجهها الشجاعة فتؤكد ذاتها «على الرغم منه» فهي فلسفة الحياة على اختلاف مذاهبها وأصحابها، فهي قد فسرت الوجود من ناحية الحياة أو التغير أو الصيرورة، وبذلك جعلت لعدم الوجود أهمية لا تقل عن أهمية الوجود نفسه، وكان لا بد لفلسفة الحياة أن تحاول تفسير هذا الشيء السلبي الذي يحاول - كما قلت - إلغاء الذات أو تهديد كيانها، والذي تثبت الشجاعة في وجهه على الرغم من ذلك، ولم تستطع الرواقية ولا الرواقية المحدثة أن تقدما تفسيرا لهذا الشيء أو هذه القوة السالبة، فإذا نظرنا إلى فلسفة إسبينوزا وجدنا من الصعب أن يكون لهذا الشيء أو القوة أو العنصر السلبي مكان في مذهبه ... فما دام كل شيء عنده ينبع ضرورة من طبيعة الجوهر الأزلي، فلن يكون لأي موجود من القوة ما يهدد به وجود شيء آخر أو تأكيده لذاته، سيكون كل شيء في مكانه وعلى حاله المرسوم، ولن تزيد كلمة تأكيد الذات عن كونها مبالغة في ذاتية شيء مع نفسه، صحيح أن إسبينوزا يتحدث عن تهديد حقيقي للذات، وعن تجربته التي علمته كيف أن معظم الناس يخضعون لهذا التهديد، وهو يتحدث عن الجهد أو السعي
Conatus
كما يتحدث عن قوة
تأكيد الذات، ولكن هذه الكلمات جميعا يجب ألا تؤخذ بحروفها بل من جهة التشبيه، فكلمة مثل كلمة القوة (سواء كانت قوة الإمكان
أو قوة الطاقة والحركة
Dynamis ) أو كلمة الإرادة قد لعبت دورا كبيرا في تاريخ الفكر الفلسفي منذ أيام أفلاطون وأرسطو، مارة بالقديس «أوغسطين» و«دونيس سكوتس» و«بوهمه» و«شلنج» و«شوبنهور»؛ لتمهد الطريق لتعبير نيتشه الذي هز العصر الحديث كالإعصار، ونقصد به «إرادة القوة»، وهو تعبير يجمع بين الكلمتين السابقتين، ولا بد من تفسيره على ضوء معناه الأنطولوجي. ونستطيع أن نقول: إنه لا يريد به الإرادة ولا القوة، أعني أنه لا يريد به الإرادة بمعناها النفسي ولا القوة بمعناها الاجتماعي أو البيولوجي، فهي تدل في الحقيقة على تأكيد الحياة لنفسها بما هي حياة، أعني بما هي بقاء أو نمو وتجاوز للحياة نفسها؛ ولذلك فالإرادة تريد نفسها ولا تريد شيئا خارجا عنها، تلك هي قوتها التي تؤكد بها نفسها وتتجاوز بها نفسها في وقت واحد، وإرادة القوة هي إرادة تأكيد الإرادة باعتبارها الحقيقة الأولى والأخيرة في الحياة.
والحياة بهذا المعنى هي العملية التي تحقق بها إرادة الحياة والوجود نفسها، ولكنها حين تحقق نفسها تتغلب على كل ما يلغي الوجود والحياة في داخل الوجود والحياة، بحيث نستطيع أن نسميها الإرادة التي تناقض إرادة القوة. ويشير نيتشه في أحد فصول كتابه: «هكذا تكلم زرادشت» - وهو الفصل الذي سماه «وعاظ الموت» - إلى الأشكال المختلفة التي تغري الحياة بقبول ما ينفي الحياة حيث يقول: «إنهم يقابلون مريضا أو شيخا أو جثة فيسارعون قائلين: «لقد دحضت الحياة!» ولكنهم هم الذين يدحضون، وعينهم التي لا ترى إلا جانبا واحدا من الوجود»، فالحياة ذات جوانب متعددة، وهي غامضة أو مزدوجة المعنى، (وقد وصف نيتشه غموضها في الشذرة الأخيرة من مجموعة الشذرات التي جمعت بعد موته تحت عنوان «إرادة القوة») والشجاعة هي قوة الحياة التي تجعلها تؤكد نفسها على الرغم من هذا الغموض والازدواج، بينما الجبن هو سلب الحياة بسبب سلبيتها، أو إنكارها ونفيها لما فيها من أوجه النفي والإنكار. والشجاعة التي يريدها نيتشه ويتنبأ بها هي شجاعة الإنسان الذي تجاوز نفسه فأصبحت لديه إرادة القوة التي يؤكد بها الحياة - أو شجاعة الإنسان الأعلى - في وجه عصر تتحلل فيه الحياة وتمرض وتنهار، عصر عدمي كان نيتشه قد رأى أشباحه الزاحفة وحاول أن يحذر منه ويثير عاصفة القوة التي تقاومه.
كان المثل الأعلى للشجاعة عند نيتشه - كما كان عند الفلاسفة السابقين عليه - هو المحارب، الذي يميزه عن الجندي العادي، إنه يقول في زرادشت: «تسألون ما هو الخير؟ الخير أن تكون شجاعا» (1، 10)، والخير ألا تهتم بالحياة الطويلة، ولا بالنجاة من الأخطار، وألا تحب الحياة حبا يجعلك تتعلق بها مهما نفت إرادة القوة والحياة فيك، فتأكيد النفس تأكيد للحياة وللموت الذي يعد جزءا من الحياة، وموت المحارب والرجل الناضج لن يكون ذنبا تلام الأرض عليه (1، 21)، والفضيلة هي كذلك تأكيد الذات، إنه يقول في فصل «الفاضل»: «إنها نفسك العزيزة، إنها فضيلتك، إن عطش الخاتم (رمز العود الأبدي للشبيه) فيك، كل خاتم يكافح من أجل الوصول إلى ذاته من جديد، ويدير نفسه» (2، 27). وليس هناك تعبير عن تأكيد الذات أفضل من هذا التعبير؛ فالذات تملك نفسها، ولكنها تحاول في عين الوقت أن تصل إلى نفسها؛ ذلك لأن حقيقة الفضيلة تكمن في أن الذات موجودة فيها بكليتها، وليست شيئا خارجيا عنها، تشهد بذلك هذه العبارة الجميلة المؤثرة في زرادشت: «أن تكون نفسك الحقة في فعلك، كما تكون الأم في طفلها، هذا هو مبدأ فضيلتك!» (2، 27).
ما دامت الشجاعة هي تأكيد الذات أو تأكيد الحياة فهي الفضيلة الحقة، أو هي فضيلة الفضائل، والذات التي يكون تأكيدها لذاتها هو الشجاعة أو الفضيلة هي الذات التي تتجاوز نفسها: «وهذا السر باحت به الحياة نفسها إلي، انظر! أنا ذلك الشيء الذي لا بد له أن يتجاوز نفسه على الدوام» (2، 34)، ولكن ما معنى هذا التجاوز؟ أهو التجاوز أو العلو الذي يقول به المتصوفون وفلاسفة «الترانسندنس»؟ أم هو شيء آخر يضرب في جذور الحياة ويكشف عن جوهرها الحق؟ إن نيتشه يكمل الكلام قائلا: «... هناك تضحي الحياة بنفسها من أجل القوة!» وبذلك يبين كيف أن تأكيد الذات ينطوي على نفيها، وأن «النعم المقدسة» للحياة تحتوي على «اللا» الرهيبة التي تسلبها وتلغيها، لا من أجل السلب والإلغاء، بل من أجل التأكيد الأعظم، من أجل القوة: قوة الحياة، فالحياة تخلق ، والحياة تحب ما خلقته، ولكنها سرعان ما تنقلب على نفسها: «فهكذا تريد إرادة حياتي»؛ ولذلك يصبح من الخطأ أن نتحدث عن إرادة الوجود أو إرادة الحياة؛ إذ لا بد أن نتحدث عن «إرادة القوة» وأن نقصد بالقوة المزيد من الحياة، الحياة التي تريد أن تتجاوز نفسها هي الحياة الخيرة، والحياة الخيرة هي الحياة الشجاعة، إنها حياة «النفس القوية» و«الجسد المنتصر» الذي تكون فضيلته في التمتع بذاته. مثل هذه النفس تنبذ كل ما يتصف بالجبن، إنها تقول لنفسها: الشر هو الجبن، ولكن هذا النبل بعيد عن الفوضى والعصيان، فالنفس لا تصل إليه إلا بالطاعة والأمر أو بالأحرى بالطاعة للأمر والخضوع للضرورة، وهو كذلك بعيد عن الذل والإذعان؛ لأنهما صورة الجبن الذي لا يجرؤ أن يخاطر أو يغامر، والنفس الذليلة الخاضعة هي عند نيتشه نقيض النفس التي تؤكد ذاتها، حتى ولو كان ذلها وخضوعها لإله، إنها تريد أن تهرب من ألم إيذاء الغير أو إيذاء النفس، أما النفس المطيعة الخاضعة حقا فهي التي تصدر الأوامر لنفسها وبذلك تغامر بنفسها (2، 34)، وهي - إذ تصدر الأوامر لنفسها ولا تخضع إلا لذاتها - تجعل من نفسها القاضي والضحية في آن واحد؛ ذلك لأنها تأمر نفسها بما يقضي به قانون الحياة، قانون تجاوز الذات، وهي حين تفعل ذلك تتحد بالحياة نفسها وبسرها الخالد. إن إرادتها خلاقة؛ لأنها منبعثة من إرادة الحياة، وهي لا تنظر إلى الوراء، بل تتجاوز الضمير المذنب، وترفض روح الانتقام التي هي أصل كل إحساس بالذنب؛ لأنها هي إرادة القوة وإرادة الحياة. إن هذه النفس الشجاعة تتجلى في أبهى صورة في هذه القطعة من زرادشت: «ألديكم الشجاعة يا إخوتي؟ ... لا الشجاعة أمام الشهود، بل شجاعة النساك والنسور التي لم تعد تملكها الآلهة نفسها؟ ... شجاع من يعرف الخوف ولكن يهزمه، يرى الهاوية ولكن بافتخار، إن من يرى الهاوية ولكن بعيني نسر، ومن يقبض على الهاوية بمخلبي نسر هو الذي يملك الشجاعة» (4-73).
كلمات تكشف عن الجانب الوجودي في تفكير نيتشه، وتعبر عن الشجاعة التي تمكن صاحبها من النظر في هاوية العدم، والوحدة المطلقة التي يحس بها ذلك الذي آمن برسالة زرادشت، وسلم بأن الإله القديم قد مات ليبزغ فجر الإنسان الأعلى، الإنسان الذي تتجسد فيه إرادة القوة والحياة؛ لأنه هو الذي استطاع أن يتجاوز نفسه، أو لأنه باختصار هو الإنسان الشجاع. •••
الشجاعة إذن هي تأكيد الذات على الرغم من ... أعني على الرغم مما يحول بينها وبين تأكيد نفسها. هذا الذي يحول بينها وبين تأكيد نفسها يصل إلى ذروته فيما يلغي وجودها، أعني في العدم.
والعدم فكرة من أصعب الأفكار الفلسفية التي أخذتها فلسفات الحياة - مختلفة في ذلك مع الفلسفات الرواقية قديمها وحديثها - مأخذ الجد الخالص، فهي حين فسرت الوجود من ناحية الحياة أو التطور أو الصيرورة، اضطرت أن تفسح للعدم مجالا لا يقل عن مجال الوجود، أو قل: إنها اكتشفت العدم الكامن في قلب الوجود، لقد جعلت من الشجاعة مفتاحا لتفسير الوجود نفسه، ولكنها حين أرادت هذا المفتاح وجدت أمامها الوجود وعدم الوجود، والوحدة التي تجمع بينهما في صراع أبدي لا يهدأ.
والعدم - كما تقدم - من أصعب الأفكار الفلسفية، وأحفلها بالخطر والخصوبة والإغراء. لقد شغل التفكير من عهد بارمنيدز إلى عهد سارتر وهيدجر، فالقارئ يعلم أن بارمنيدز قد حاول أن يستبعده ويؤكد استحالة التفكير فيه، وذلك حين قال عبارته البسيطة «المعقولة» في ظاهرها، غير الفلسفية في صميمها، من أن الوجود موجود والعدم عدم، وقد ضحى بالحياة نفسها ليقولها، ثم جاء ديموقريطس فحاول أن يعيد للعدم مكانته، فجعله هو والفراغ شيئا واحدا، وذلك لكي يجعل الحركة ممكنة، واستخدم أفلاطون فكرة عدم الوجود حين وجد أنه بدونه لا يمكن فهم التعارض بين الوجود العيني وبين الماهيات الخالصة، وتضمنه تفكير أرسطو عندما ميز بين المادة والصورة، وكان عند أفلوطين وسيلة يصف بها فقدان النفس الإنسانية لذاتها، كما استعان به القديس أوغسطين لتفسير خطيئة الإنسان، ثم جاء المتصوف البروتستنتي وفيلسوف الحياة يعقوب بوهمه، فقال عبارته المشهورة من أن كل الأشياء تضرب بجذورها في نعم ولا، وانطوى مذهب «ليبنتس» في التناهي والشر على فكرة الوجود، كما تضمنتها تحليلات «كانط» لمحدودية المقولات ومحدودية الوجود الإنساني بوجه عام، وإيمانه بأن من واجب الإنسان إذا أراد أن يعرف شيئا أن يقصر نفسه على علم التجربة وعالم الذهن الذي يضع قوانينه، بغير أن يتطلع إلى عالم المثل والأفكار والأشياء في ذاتها، فيقع فيما لا آخر له من ضلالات وأوهام، وجاء «هيجل» بمنهجه الديالكتيكي فجعل العدم هو القوة المحركة للطبيعة والتاريخ، وتبعه فلاسفة الحياة في أيام شيلنج وشوبنهور، فجعلوا الإرادة هي المقولة الأساسية من مقولات الوجود؛ لأنها تملك القدرة على سلب نفسها بغير أن تفقد نفسها، وكذلك فعل فلاسفة مثل برجسون وهويتهيد فجعلوا للعدم مكانا لا يقل عن مكان الوجود في فلسفتهم عن التطور، وجاء فلاسفة الوجود المعاصرون - وفي مقدمتهم هيدجر وسارتر - فوضعوا العدم في مركز تفكيرهم الأنطولوجي، بحيث قال هيدجر: إن العدم «يعدم» فيفتح عيني الإنسان، فيما يشبه ضباب الغسق، على نور الوجود الذي يتجاوز كل ما هو موجود، كما جعله سارتر أساس الأسس في مذهبه في الحرية والالتزام، وكل هذه الفلسفات والآراء حول العدم ترتكز في الواقع على خلفية التجربة الدينية بزوال الحياة وفناء كل ما هو مخلوق، وعلى قوة العنصر «الشيطاني» في النفس والتاريخ، فهذا المبدأ السالب أو العدمي - وأقصد به الشيطان - يشارك في القوة الإلهية الخالقة على الرغم من معارضته الأزلية لها؛ وهو لذلك مبدأ أساسي لا يمكن أن نتصور الخلق والوجود بدونه.
ولا يتسع المقام هنا بالطبع لتحليل فكرة العدم التي تحتاج في الحقيقة إلى مجلدات ومجلدات، ولكننا إذا سئلنا عن العلاقة بين عدم الوجود والوجود، استطعنا أن نقول على سبيل المجاز: إن الوجود يضم نفسه كما يضم عدم الوجود، أي أن الوجود يحتوي في ذاته على عدم الوجود، باعتبار أن الأخير حاضر في عملية الحياة نفسها منذ الأزل وإلى الأبد، وأنه هو العنصر الذي تصارعه وتهزمه الحياة كذلك من الأزل إلى الأبد؛ فالحياة تؤكد نفسها بالخلق تأكيدا مستمرا، وتغزو ضدها أو عدمها غزوا مستمرا، ومن ثم كانت الحياة أو كان الوجود هو أصل التأكيد الذاتي لكل حي أو موجود متناه، وكانت كذلك هي أصل الشجاعة التي تحفظ عليه الوجود، وكان العدم أو عدم الوجود هو ذروة الخطر الذي تواجهه الشجاعة ويواجهه الإنسان الحديث في سعيه إلى تأكيد ذاته والمحافظة على حضارته وحياته. وإذا كانت الشجاعة توصف عادة بأنها قدرة العقل على مقاومة الخوف، فلم يسبق للإنسان أن طولب بما يطالب به اليوم من شجاعة على تحدي الخوف من الفناء الشامل، ومواجهة الخطر من الإلغاء المطلق لذاته، نقول: الخوف، ولعل الأصح أن نقول: القلق، فقد ميز المحدثون بين الخوف الذي ينصب على موضوع بعينه (كالمرض أو الفقر أو الموت أو العار أو العدو) وبين القلق الذي ينصب على إحساس الموجود بإمكان عدم وجوده، إنه الإحساس «الوجودي» بالفناء، وبفنائه هو نفسه قبل كل شيء، لم يسبق للإنسان - كما قلت - أن أصبح القلق من الموت أو الفناء تجربة عامة وذاتية في آن واحد، حتى سمي عصرنا بحق عصر القلق؛ فقد أحس الإنسان دائما إحساسا خفيا أو واضحا بالموت، حين يرى غيره من الناس يموتون، أو حين تداهمه الأوبئة أو الحروب أو كوارث الطبيعة، كان الموت دائما يتربص به سواء جاءه على يد زلزال أو وباء أو طوفان، أو جاءه على يد عدو أو جلاد أو حاكم ظالم، وكان يحس دائما أن هناك شيئا سيبقى بعد فنائه، وأن موته لا يمكن أن يكون مبررا لليأس المطلق. وشكوى العازف الفرعوني الأعمى على القيثار، أو شكوى زميله «المتعب من الحياة»، أو صرخات أيوب المبتلى من ربه، لم تكن في الحقيقة تعبيرا عن يأس شامل من كل شيء وكل أمل، بل كانت تبكي قدر صاحبها الشخصي أو قدر قومه وشعبه، أما إنسان اليوم الذي يواجه أخبار التهديد بالفناء الشامل صباح مساء، ويسمع بأنباء الحرب الذرية أو حرب الأوبئة مع كل جريدة يفتحها على الإفطار، ويقرأ أنباء التعذيب بالجملة أو استعباد الإنسان في بلاد الشرق والغرب، فهو يواجه ما لم يواجهه آباؤه وأجداده من خطر الموت الأكبر، ويجد في كل يوم ما يدعوه إلى القلق الحقيقي على الحياة نفسها، لا على حضارته أو تاريخه أو تراثه فحسب؛ ذلك لأن القلق هنا لا يتعلق بموضوع بعينه، بل هو القلق من انعدام كل موضوع، أو هو القلق من مصدر كل قلق، ألا وهو العدم نفسه! قد يحس القارئ في هذا الكلام نوعا من المبالغة أو التهويل، وقد يسأل مستنكرا: ألا تحمل الحياة دائما بذرة الأمل؟ ألا تكفي الحياة بنفسها - حتى ولو لم يبق لها أثر إلا في البذرة أو الخلية الواحدة - لنفي كل تفكير في اليأس المطلق؟ وكل هذا صحيح بالفعل، ولا يمكن أن يتحول الكاتب إلى بومة الخراب، ولا يجوز أيضا مهما اشتد الخطر أو أطبق البلاء أن يدعو إلى العجز المطلق أو ينذر بالفناء الأخير، وليست مهمته في الحقيقة أن يتنبأ أو يبكي، وليس كذلك أن يعظ أو يدعو إلى التفاؤل، إن مهمته الحقة هي أن يفهم وأن يكون شاهدا على عصره، فإذا كان هذا العصر - على اختلاف كل عصر سواه - قد جعل المستحيل ممكنا في كل لحظة، لا بل جعله على أطراف أصابع بعض الجنرالات والأزرار، فليس من التهويل عندئذ أن يتوقع الخطر، ويطالب معاصريه بأقصى قدر ممكن الشجاعة، وإذا فعل ذلك فلا يصح أن نصفه بالتشاؤم أو بالتفاؤل، ولا أن نلبسه مسوح الواعظ ولا قناع الشيطان، إن عليه أن ينطق بما يشهده ويراه، أما ما سيكون في المستقبل فشيء لا يدخل في مجال علمه ولا عمله، والذي يشهده اليوم ولا يستطيع أن ينكره عليه أحد هو أن إمكانية «العدم» (على اختلاف صوره) قد أصبحت أقرب من أي وقت مضى، وأن ضرورة الشجاعة قد صارت أشد الضرورات إلحاحا على عقل الإنسان الحديث وضميره، وأن سؤال هاملت في وحدته: «هل أكون أو لا أكون»، لم يعد هو السؤال الذي يؤرق هاملت وحده ... •••
لا نريد أن نخوض الآن في أشكال القلق المختلفة كما حللها علماء النفس والاجتماع وفلاسفة الوجود، ولا نريد أن نفيض في الحديث عن القلق الوجودي من العدم أو العبث، ولا عن شجاعة اليأس التي تعبر عنها اليوم أعمال الكثيرين من الفنانين والأدباء المفكرين، فإن الحديث في ذلك يسوقنا إلى أبعد مما نريد أو نستطيع، كما أن القارئ يستطيع أن يلتمسه في غير هذا المكان،
3
وعلينا الآن أن نعود إلى سؤالنا الحقيقي الذي نقصده من وراء هذا الكلام: من هو الشجاع؟
ليس شجاعا من لا يجرح، فالشجاع هو الذي يقدر أنه قد يجرح أو يموت في معركة، فلا يمنعه ذلك من أن يظل شجاعا. والشجاعة لا يمكن تصورها بغير إمكانية الجرح أو الألم أو الخوف أو الضرر أو الموت، وهو أقصى وأعمق الجراح.
لا الملاك ولا الحيوان يمكنهما أن يكونا شجاعين، فالملاك لا يمكن أن يجرح أو يموت، والحيوان لا يعرف شيئا عن معنى الجرح أو الموت؛ ولذلك فهو لا يعرف شيئا عن معنى الشجاعة. ما نصف به رجلا من أنه شجاع كالأسد، هو نوع من التشبيه الإنساني الذي يجعلنا ننزع إلى تصوير عالم الأشياء والأحياء في رداء إنساني، فالأسد لا يمكنه أن يكون شجاعا؛ لأنه لا يحسب حساب الموت في أية معركة يخوضها، ولو أدرك الأسد بإحدى المعجزات أنه يمكن أن يموت لاستحال عليه أن يكون أسدا.
الشجاعة إذن متعلقة دائما بالموت، والشجاع هو الذي يواجه الموت في كل حين، بل إن الشجاعة في حقيقتها ليست إلا الاستعداد للموت، أو هي بمعنى أدق استعداد الإنسان لأن يسقط ميتا في معركة، وكل فعل نصفه بالشجاعة إنما يعيش على فكرة الموت، مهما بدا لنا من الظاهر أنه بعيد عنه، وكل فعل لا يضرب بجذوره في أرض الموت، ولا يقدر احتمال السقوط، فهو فعل فاسد بعيد عن الشجاعة، مجرد من قوة الوجود؛ ولذلك فإن الشجاعة تقاس عادة بمدى الاستعداد للتحمل، والتحمل بمدى القدرة على ملاقاة الموت؛ ولذلك أيضا كان الاستشهاد هو غاية الشجاعة، وكانت شهادة الدم هي تاج الشجاعة، يستوي بعد ذلك أن تكون هذه الشهادة في سبيل العقيدة أو المبدأ أو الوطن أو تحقيق رسالة الحياة. وما أتعس الزمن الذي تختفي فيه القدرة على الاستشهاد والاستعداد له، ويصبح المثل الأعلى للناس هو المحافظة على الحياة وتقديس الراحة والأمن والاستقرار! وما أصدق كلمة «جوته» في القسم الثاني من قصيدته الكبرى «فاوست»: «لا يستحق الحياة ولا الحرية إلا من يغزوهما كل يوم!»
نقول: إن الشجاع هو الذي يرضى بالجراح.
ولكنه لا يسلم بالجراح من أجل الجراح، ولا يرحب بالموت من أجل الموت، إنه يقبل أن يجرح أو يضار في جسده أو نفسه؛ لكي يبقى شيء آخر أكثر حقيقة من الجسد والنفس، وأعمق من الجرح والموت جميعا، لنسم هذا الشيء مبدأ أو عقيدة أو فكرة أو ما شئنا من أسماء، فهو عند الشجاع حقيقة تستحق منه أن يفنى لكي تبقى بعده، ويقين يقربه من قلب الوجود وإن أبعده عنه في واقع الحياة؛ لذلك كان سقوط الشجاع ارتفاعا وهزيمته انتصارا وموته حياة، وليس عجيبا - كما يقال - أن يموت الشجعان دائما وعلى شفاههم ظل ابتسامة! ولا أن يقول أحدهم: إننا ننتصر حين نسحق، ونفلت من القضاة حين نساق أمامهم.
4
ومع ذلك فليس حتما أن يجرح الشجاع أو يموت، ولكن لا مفر من أن يعيش ويعمل دائما وفي فكره أنه يمكن أن يجرح أو يموت؛ ذلك لأن من صميم الشجاعة أن تدخل دائما في معركة، إما أن تنتهي هذه المعركة في أغلب الأحيان بموت الشجاع أو بإصابته، فذلك قدر تفرضه طبيعة العالم الذي نعيش فيه، وهو عالم يغلب عليه الشر كما نعلم جميعا!
قد يقول القارئ: ولكن الشر قوة هائلة وطاغية، وهو لا يمكن أن يختفي من الوجود؛ لأنه كامن في طبيعة الوجود، والحق أن الشر قوة لا يمكن إنكارها، فنحن نلتقي ببشاعتها كل يوم، غير أن الصراع مع هذه القوة البشعة - بالمقاومة حينا وبالهجوم حينا آخر - هو - على التحديد - وظيفة الشجاعة، بل إن وجود الشجاعة نفسها - كما يقول القديس أوغسطين - هو الدليل الصريح على وجود الشر،
5
وإقدام الشجاع على محاربة الشر على اختلاف ألوانه وباختلاف البلاد والعصور، هو كذلك دليل على أنه قوة يمكن أن تهزم، وقد يكون صحيحا أن هذه الهزيمة لن تكون مطلقة، ولكن الشجاعة لا بد أن تحاول الانتصار عليها في كل مرة؛ لأن هذا الانتصار لن يكون بدوره انتصارا مطلقا.
هل نكون بهذا قد أفسحنا المجال لنوع جديد من الشجاعة، لعله لم يكن معروفا في غير هذا الزمان؟ إن الشجاع الذي يستشهد من أجل مبدأ أو عقيدة يحس يقينا أن موته لن ينصر هذه العقيدة أو ذلك المبدأ نصرا مطلقا، ومع ذلك فإن لديه من التفاؤل والثقة ما يدفعه على الإيمان بأن موته سيساهم في هذا النصر المؤكد الذي لا يشك في أنه آت حتما في زمان قريب أو بعيد.
ولكن ما حال ذلك الذي يدخل في معركة مع عدو يعرف سلفا أنه لا يقبل الهزيمة، وأنه وإن أفلح في نزع أظافره فلن يفلح في أن ينزع عنه الحياة؟ ألم يكن الأجدر به - وهو يحارب هذا العدو الذي لا يهزم - أن يوفر على نفسه عناء الدخول معه في معركة؟ أهناك معنى لدمه المسفوك وهو يعلم أنه يبذله بغير طائل؟ نعم، ذلك نوع من الشجاعة لم تعرفه عصور الشهداء في مختلف العقائد والمذاهب والأديان، إنها شجاعة يمكن أن نسميها الشجاعة اليائسة، فهي تتحدى وتحارب وتستشهد وتعلم أن هذا كله لا معنى له؛ لأن الوجود كله عبث ولا معنى له أيضا! وهي على العكس من كل ألوان الشجاعة التي عرفتها الإنسانية من قبل، متشائمة متجهمة الوجه، تقبل على الموت ثابتة العينين مزمومة الشفتين، مؤمنة بأن مغامرة الإنسان كلها باطلة، إنها تدخل المعركة وكفى، لا تبتسم ولا تغني ولا تحلم بتاج النصر، وإنما تقدم لأنه لا بد من الإقدام، وتدخل الحرب لأن العدو ينبغي أن يحارب مهما كانت النتيجة، ربما لأنه ليس هناك أمل في القضاء عليه، وربما لأنه ليس هناك أمل في أي شيء على الإطلاق! ولأنها لا تريد أن تثبت شيئا أو تؤكد مبدأ أو تنصر عقيدة ، فكل هذه كلمات ضخمة لا تساوي لحظة التفكير فيها، ما الذي يدفعها إلى هذه التضحية اليائسة؟ ما الذي يدعوها إلى إسالة الدم المهدور؟ لا شيء أيضا، فالنفي هنا أو العدم يطغى على كل شيء، ومع ذلك فلعله شيء يمكن أن نسميه كبرياء القلق أو عذاب الضمير أو غريزة المغامرة المتجددة، مهما تكن هذه المغامرة فاشلة أو عقيمة، ولعلها أخيرا الرغبة في تأكيد أن الإنسان الذي يعرف أن الموت لا مفر منه يريد كذلك أن يؤكد لهذا الموت نفسه أنه يرفض الاستسلام له، وأنه لن يموت إلا واقفا على قدميه! كبرياء وتحد وعناد، لن تخلو في الحقيقة من روح التفاؤل العظيم ونبل البطولة المعذبة!
ولكن لنترك هذه الشجاعة اليائسة جانبا، ولنعد إلى سؤالنا الأول عمن هو الشجاع؟
الشجاع يرضى أن يصاب بالجراح، لا بل قد يرحب بها ويذهب إلى حد أن يعانق الموت نفسه، ولكن هل يرحب بالجرح أو الموت لذاتهما أم أن وراءهما شيئا يهون في سبيله الموت كما تهون الجراح؟!
هنا ستختلف الآراء بسبب اختلافها في مفهوم الشجاعة؛ فهي ليست شيئا مطلقا، أو معلقا في الفراغ، بل هي دائما شجاعة من أجل هدف نريد تحقيقه، فالقديس توماس الأكويني مثلا يقول: «من أجل الخير يعرض الشجاع نفسه لخطر الموت»، وكذلك سيقول كل من يفهم الهدف من الحياة فهما دينيا أو أخلاقيا، فهو لا يرحب بالموت لذاته، بل يسلم به حين يكون هو الطريق الوحيد إلى الخير، غير أن هذا يفترض بدوره أن يعرف الشجاع ما هو الخير، وأن تكون شجاعته في سبيل تحقيقه، وسواء بعد ذلك أن نصف هذا الخير بأنه معرفة حقيقة الوجود أو تحقيق المجتمع الأفضل أو رفع الظلم عن المظلومين ... إلخ. ومن ثم فإن في استطاعتنا أن نقول: إن الشجاعة - وإن كانت تتطلب أعظم التضحيات - ليست هي أولى الفضائل ولا أعظمها، إنها بطبيعتها تردنا إلى فضيلتين سابقتين تتلقى منهما معناها وحقيقتها، ألا وهما الذكاء والعدالة، فبغير الذكاء والعدالة لا توجد الشجاعة، والذكي العادل هو الذي يستطيع وحده أن يكون شجاعا، «وليس عجيبا بعد ذلك أن نجد المسيحية ترتب الفضائل الأساسية هذا الترتيب: الذكاء فالعدالة فالشجاعة فالاعتدال.»
6
أما الذكاء، فلا صلة له بما نفهمه اليوم تحت هذه الكلمة من معاني «الشطارة» و«الدهاء» و«الفهلوة»؛ فليست هذه إلا حيلا يحتال بها الجبناء لتفادي الخطر وتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة، لا بل إن الذكاء بهذا المعنى أقرب ما يكون إلى الغباء والأنانية، أما الذكاء الذي نقصده ونجعله شرطا لا غنى عنه للشجاعة فهو تلك الحكمة التي تجعل الإنسان يفهم كل شيء على حقيقته، وينظم سلوكه ومعرفته على أساس هذا الفهم الموضوعي للواقع؛ فالذكاء يعكس حقيقة الأشياء الموجودة من ناحية، كما يعكس «خيرية» السلوك من ناحية أخرى، أو لعل الأفضل أن نقول: إنه يترجم المعرفة بحقيقة الأشياء إلى السلوك الطيب الخير في الحياة، وهو يعد بهذا المعنى أب الفضائل جميعا، أو هو صورتها الباطنة، كما تكون النفس هي الصورة الباطنة للجسد. والشجاع مطالب بأن يكون ذكيا، أعني أن تكون لديه المعرفة بحقيقة الأشياء، وبالسلوك الخير الذي يطابق هذه المعرفة، فالذكاء هو الذي «يخبر» الشجاعة أو ينقل المعرفة إليها، وإذا كان يبصرنا بالخير في الواقع والسلوك، وكانت العدالة تسهر على تحقيق هذا الخير؛ فإن الشجاعة هي التي تحميه أو تمهد الطريق لتحقيقه؛ ولذلك لا يكون الشجاع شجاعا حين يركب رأسه ويعرض نفسه لكل ما هب ودب من الأخطار، وإلا لكان معنى هذا التهور الأعمى أن الحرص على حياته لا يساوي في قيمته ذلك الشيء أو تلك الأشياء التي يقدم عليها بغير ترو. إن الشجاعة الحقة تفرض نوعا من المعرفة والبصيرة والتقدير الصحيح للشيء الذي نضحي به وللشيء الذي نريد أن نصونه ونبقي عليه بهذه التضحية؛ ولذلك فلا يستطيع أحد أن يقول: إن دون كيشوت شجاع حين يهجم على طواحين الهواء ظنا منه أنها أرواح شريرة أو شياطين، فبقدر إعجابنا بمغامرته الهائلة يكون أسفنا للاندفاع الأعمى الذي يصحبها، وللآلام البشعة التي يقاسيها الفارس الحزين!
الشجاع بصير، فهو يرى الواقع على حقيقته ، ويقدر الفعل الذي يناسب هذه الرؤية، إنه لا يزور هذا الواقع ولا يبدل من قيمته؛ لأنه يعرف طعمه، ويقبله على علاته، إنه لا يحب الموت، ولكنه لا يتردد عن الإقدام عليه إذا وجد أنه لا مفر منه لإنصاف قضية عادلة أو تحقيق قيمة عالية، وهو لا يحتقر الحياة، ولكنه على استعداد للتخلي عنها إذا كانت ترتبط بالمهانة أو تحط من الكرامة. والشجاع يخاف الموت؛ «فليس أبعد عن الشجاعة من عدم المبالاة أو من مغامرة تصدر عن يأس أو سأم أو تعب من الحياة»، إنه يقبل الأذى ويتحمل الجراح وقد يقدم على الموت وهو يعلم أنها جميعا شر لا غنى عنه. فليس الشجاع هو الذي لا يعرف الخوف، وإلا كان ذلك شيئا ينافي طبيعة البشر، بل هو الذي لا يضطره الخوف إلى قبول الشر ولا يمنعه عن تحقيق الخير، فالشجاع يخاف الشر ولا بد أن يخافه، ولكنه لا يدفع بنفسه إلى الخطر قبل أن يعرف مداه ويتحقق من أن الاندفاع إليه هو السبيل الوحيد لتحقيق الخير. إنه يعرض نفسه لهذا الخطر، لا عن طموح إلى البطولة أو خوف من الاتصاف بالحبن، بل لأنه يعرف أنه شيء مخيف ومع ذلك لا يمنعه الخوف من خوضه. ويصل الخوف من الخطر وانعدام الخوف منه مع ذلك إلى أقصى درجاته في الاستشهاد، هنالك يكون الشهيد هو الشجاع بالمعنى الحقيقي للشجاعة، وتكون الشهادة هي المقياس الحقيقي للبطولة، فهي عنوان الصبر والصمود - وهما من أهم ما يميز الشجاعة - ورمز الثقة بالنفس والإيمان بقيمة تعلو على الحياة والموت، وليس الشهيد من لا يخاف (فالمسيح نفسه كان يبكي ويصرخ وهو على الصليب)، بل هو الذي لا يمنعه خوفه من مواجهة المخيف، فإن سأل سائل: ولم يستشهد الشهيد؟ قلنا: لأنه يجد أن الموت هو السبيل الوحيد للكشف عن عظمة الإنسان وإصراره على سيادة الخير وتحقيق العدالة، إنه يريد أن يفقد الحياة؛ ومن هنا كان صبره واستسلامه للعذاب، ومن هنا أيضا كانت ثقته في نفسه وأمله في الإنسان. ولعلنا لا نجد أحدا تتمثل فيه مفارقة الوجود الإنساني كما تتمثل في الشهيد، إنه يجمع بين ذروة القوة وهاوية الضعف، ولم يكن المسيح في يوم من أيام حياته أقوى منه وهو على الصليب ينزف ويصيح: «لم تركتني؟» ألم يقل لحوارييه: «ها أنا أرسلكم كغنم بين ذئاب» (إنجيل متى، 10، 16)، فالشهيد أو الشجاع العادل مضطر إلى الحياة بين الذئاب، والويل لمجتمع أو زمن خلا من الشهداء؛ لأن هذا معناه أنه لم يبق فيه إلا الذئاب، أو لم يبق فيه إلا الغنم والحملان!
هناك شجاعة سياسية، وهناك شجاعة صوفية، الأولى تقاوم ما يعترضها من صعاب من أجل تحقيق العدل، والثانية تسير بالنفس في «ليل العالم»، وتخترق بها ظلام المادة والحواس من أجل الاتحاد بالله، ومع أن النوعين من الشجاعة مختلفان، إلا أنهما ينبعان من نبع واحد، وذلك هو التخلي عن الذات أو العالم والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل قيمة أسمى. كلاهما يحارب الشر في العالم، ويحدوه الأمل في النصر الأخير - فلولا هذا الأمل لاستحالت الشجاعة - ولكنهما على ما بينهما من اختلاف في الوسيلة والهدف، يحلمان بعالم أسمى وأسعد، فالشجاع الذي يحارب الشر يضحي بنفسه؛ لكي يبني عالما جميلا، أو مدينة فاضلة وعادلة على هذه الأرض. وإذن فلا بد للشجاعة التي لا يهديها الذكاء ولا تجند نفسها لخدمة قضية عادلة من أن تكون شجاعة فاسدة، فليست الجراح هي التي تصنع الشجعان والشهداء، بل القضية التي يناضلون من أجلها. ولا بد أن نسأل أنفسنا دائما حين نسمع عن إنسان شجاع: هل كان عادلا؟ وهل كانت شجاعته من أجل العدالة؟
من المستحيل علينا إذن أن نقدر شجاعة الشجاع قبل أن تتوافر لدينا العدالة؛ فنحن لا نستطيع أن نطلب من ظالم أن يعرف حق الشجاع أو يحتمل وجوده؛ ذلك لأن الشجاع عادل بطبيعته، ولن يستطيع أن يفهمه إلا عادل مثله، أعني شجاعا مثله.
وإذا كنا اليوم نحاول أن نقضي على ظلم القرون والأجيال، ونسعى جادين لبناء مجتمع اشتراكي تتوافر فيه الكرامة والحرية والعدالة، فإن من ألزم واجباتنا أن نسأل أنفسنا كل يوم - بل كل لحظة - عن معنى الشجاعة، ونجاهد - على الرغم من كل شيء - أن نحيا حياة الشجعان، على كل واحد منا في مجال عمله أن يسأل نفسه: هل قلت كلمة الحق؟ هل وجدت في نفسي الشجاعة الكافية لأصرخ في وجه الظلم والتبجح والغباء والفساد بأعلى صوتي قائلا «لا!» أم أذلني الحرص الذي يذل أعناق «الرجال»، ففقدت الرجولة، أعني فقدت الشجاعة؟!
لا بد أن نسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة، إن كنا نريد إقامة مجتمع الكرامة والعدل، أعني المجتمع الذي لا يبنيه إلا الشجعان.
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
«إن كان الفكر هو قدرك، فأجل هذا القدر إجلالك لله، وضح من أجله بأفضل شيء لديك، وأحب شيء إلى نفسك.»
الذي قال هذا الكلام لم يكتف بقوله، بل عاشه وقدم حياته دليلا على صدقه، لم تعد شخصيته اليوم موضعا للنقاش العقلي أو الجدل الفلسفي كما كانت منذ نصف قرن؛ فقد هدأت العاصفة التي أثارها نيتشه، وسكنت الأمواج التي بعثتها روحه العتية الغاضبة، ولم تعد هناك حاجة لأن يختصم الناس حوله، أو يحذروا أبناءهم من قراءته، أو يؤلفوا الكتب للتشهير به، ولا عادت هناك أعياد «ديو نيزيوس» تقام باسمه، كما كان الحال في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ومع ذلك فلا يكاد يتنازع اثنان اليوم حول مكانته، ولا يكاد أحد ينكر دوره الكبير في تطور التفكير الحديث؛ فهو بمفرده يمثل بداية مرحلة أو بالأحرى نهاية مرحلة في تاريخ هذا التفكير، مئات الكتب توضع عنه، حتى ليوشك عددها أن يزيد على ثلاثة آلاف كتاب، ومئات العلماء يؤلفون الأبحاث التي تتناول فلسفته ومأساة حياته في دقة وعمق لا مزيد عليهما، ومئات المحاضرات تلقى عنه في مختلف الجامعات والمحافل العلمية.
ما الذي نستطيع أن نضيفه إلى هذا كله، وليس فيه على ما يبدو مجال لجديد؟ أنكتشف في هذه الغابة الكثيفة دربا مجهولا والعلماء قد تركوا آثار أقدامهم في كل مكان؟ أم نواجه اليوم في حياتنا شيئا يذكرنا بنيتشه ويدعونا إلى صحبته أو إعادة النظر فيه ؟ لقد هدأت العاصفة التي أثارها كما قلت، وأصبح في مقدورنا - على خلاف الجيل الذي عاش بين الحربين العالميتين - أن نتأمل في فلسفته من مسافة بعد كافية، بحيث نتجنب الحماس في مدحه أو المبالغة في اللوم عليه، وليست مسافة البعد هذه بالأمر الهين الذي يمكننا أن نغفله أو نقلل من شأنه، بل هي في الحقيقة من أثمن ما يملك الإنسان في زمن ضاعت منه «عاطفة البعد» في كل مجالات الحياة، على حد قول نيتشه نفسه، فهذا البعد كفيل بأن يصحح نظرتنا إليه، ويزيل عنها سحابة الحقد أو غشاوة التعصب، وهو كفيل بأن ينأى بنا عن الحكم على فلسفته أو لها، فذلك شيء بعيد عن الهدف من هذه السطور؛ لأنها تهدف إلى شيء أبسط من ذلك بكثير، ألا وهو أن نعيش مع نيتشه بضع لحظات، أو بمعنى آخر: أن نحاول معا أن نفكر فكره. ••• «إن كان الفكر هو قدرك، فأجل هذا القدر كما تجل الله، وضح من أجله بأفضل شيء عندك وأحب شيء إلى نفسك.»
الفكر إذن قدر، فكيف نشارك في هذا القدر، وهو - كما نعلم - قدر تعيس؟ والمفكر قد انتهى به التفكير إلى الجنون، فما الذي يغرينا بصحبته، ونحن نحاول أن نحافظ على البقية الباقية من عقلنا، في عالم يحملنا كل شيء فيه على الموت أو الجنون؟! لنحاول أن نغوص في هذا التفكير، وسنجد أننا نغوص في متاهة تسلمنا إلى متاهة، ولنجرب أن نمسك بخيوط هذا القدر، وسنرى أنها تتشابك وتتعقد، بحيث تسوقنا في النهاية إلى ظلام لا يمكن الاهتداء فيه، أو غموض لا سبيل إلى التعبير عنه، ومع ذلك فلا داعي لليأس قبل أن نخطو الخطوة الأولى على الطريق! ولنحاول أن ننظر في شيء يعبر عن هذا الفكر أو يصور قدره.
من أهم الشواهد التي تعبر عن قدر نيتشه في المرحلة الأخيرة من حياته تلك القصائد التي يسميها بأناشيد ديونيزيوس، وهي مجموعة من الأشعار ذات إيقاع حر، تنتمي للمرحلة التي وضع فيها كتابه «زرادشت»، وإن لم يجمعها أو يدونها في صورتها النهائية إلا قبل إصابته بالجنون بزمن قليل، إنه يقول في إحدى هذه القصائد أو «الديثيرامب»
1
التي جعل عنوانها «بين الطيور الجارحة»:
الآن
مفردا معك،
مثنى في معرفتي
بين مئات المرايا.
مزيف أمامك أنت
بين مئات الذكريات،
مرتاب،
متعب في كل جرح،
بردان في كل صقيع،
مخنوق بيدي،
عارف بنفسي،
جلاد نفسي!
وبعد هذه القصيدة بقليل نجد في المجموعة قصيدة أخرى هي «الشمس تغيب» تختتم بهذه الأبيات:
الوحدة السابعة!
ما أحسست أبدا
بالأمان الحلو أقرب إلي
ولا بنظرة الشمس أدفأ عندي.
ألا يتوهج الثلج فوق قمتي حتى الآن؟
ها هو قاربي يسبح بعيدا،
فضيا وخفيفا كأنه سمكة ...
ثم تبدأ «شكوى أريادنه» بهذه الأبيات:
من يدفئني؟ من الذي لا يزال يحبني؟
أعطوني يدين دافئتين!
أعطوني فحم القلب!
ممدد مرتعش،
أشبه بنصف ميت، يدفئون قدميه،
تنفضني - آه - نيران حمى مجهولة،
وأرتعد من سهام الصقيع الحادة،
مطارد أمامك، يا أيتها الفكرة!
وتنتهي قصيدة «المجد والأبدية» بالأبيات الآتية:
يا درع الضرورة!
يا كوكب الوجود الأعلى!
يا من لا تدركه رغبة،
ولا تلطخه «لا»،
يا «نعم» الوجود الأبدية
أنا «نعمك» إلى الأبد
لأنني أحبك، يا أيتها الأبدية!
في هذه المجموعة الواحدة من القصائد المذهلة نجد الشك والتمزق الأليم: ... مثنى في معرفتي
بين مئات المرايا
مزيف أمامك أنت، بين مئات الذكريات.
مرتاب.
إلى جانب الاطمئنان الجميل، والراحة السعيدة: ... ما أحسست أبدا ...
بالأمان الحلو أقرب مني ...
وفي المجموعة نفسها نجد البرودة الرهيبة، التي توشك أن تصير تجمدا: ... متعب في كل جرح
بردان في كل صقيع ...
إلى جوار الإحساس بالدفء الخالص الذي يوشك أن يتجاوز طاقة البشر: ... ما أحسست أبدا
بالأمان الحلو أقرب إلي
ولا بنظرة الشمس أدفأ عندي ...
تقف جنبا إلى جنب مع نوع من الأسر الذي يوشك أن يصبح اختناقا، ويكاد ألا يكون منه هروب أو نجاة، لأن اليد تمتد بالحبل الذي يلتف حول الرقبة:
مخنوق بيدي،
عارف بنفسي!
جلاد نفسي!
وتتبعها خفة وانطلاق يخيل للإنسان أنهما لا يتصلان بهذه الأرض:
ها هو قاربي يسبح بعيدا
فضيا وخفيفا كأنه سمكة ...
نجد هذا كله في تلك المجموعة النادرة من الأبيات ، اليأس القاتل والضياع الموحش:
من يدفئني؟ من ذا الذي لا يزال يحبني؟
ممدد مرتعش،
أشبه بنصف ميت ...
مع التأكيد المفعم بالحياة، والترحيب المطلق بها:
ذلك لأنني أحبك، يا أيتها الأبدية! ...
مثل هذه الأبيات لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى سرها دفعة واحدة؛ إنها تحتاج إلى السير على طريق طويل من الصبر والتفسير والتعمق، وتزداد هذه الحاجة إلحاحا كلما حاولنا فهم هذه «النعم» التي تختتم بها قصيدة «المجد والأبدية»:
يا نعم الوجود الأبدية،
يا من لا تلطخها «لا»،
أنا إلى الأبد «نعمك» ...
والتي تصل إلى أقصى قوتها؛ لأنها تصل إلى أقصى درجة من التجريد في هذا البيت: «يا من لا تلطخها لا» ... ذلك لأن من أقدم أنظار الفلسفة أن النعم الخالصة لا يمكن التعبير عنها أو التفكير فيها إلا على هيئة النفي المزدوج، أي نفي النفي أو لا اللا، وإن دلتنا هذه الحقيقة على شيء فهي تدلنا على أن قدر نيتشه - أو القدر الذي ساقه إليه تفكيره - لا يمكن أن تفي بالتعبير عنه صيغة مبسطة، بل لا يمكن أن تفي به أية صيغة من الصيغ، على كثرة محاولات المفسرين إلى يومنا الحاضر، أضف إلى ذلك أن فكرة القدر نفسها تنطوي بطبيعتها على شيء قد نسميه بالغموض أو الألغاز، وقد نصفه بالعلو على كل ما هو بشري أو أرضي، ومهما أشار المفسرون والشارحون بإصبع الاتهام إلى الجنون الذي انتهى إليه نيتشه، زاعمين أن هذه النهاية وحدها تدين فلسفته وتحكم عليه بالتناقض، ومهما اعتقد فريق منهم أن المحاولة التي قام بها للانتصار على ما سماه بالعدمية كانت محاولة ناقصة وفاشلة، فلن يحملنا ذلك كله على النظر إلى قدر نيتشه نظرة النفي والإنكار، أو الزج به في صيغة من الصيغ الجاهزة التي تتستر برداء المذهب أو التاريخ، لتحاول فيما تزعم أن تفهمه، وسنتجنب في كل الأحوال أن نصدر عليه أو على فلسفته حكما من تلك الأحكام الغليظة الشائعة التي كثيرا ما تبسط كل شيء لتفسد كل شيء، وسنتذكر ما يقوله في الجزء الأول من زرادشت في الفصل الذي يتحدث فيه عن ذباب السوق: أنت يا من تحب الحقيقة! لا تشعر بالغيرة من هؤلاء المطلقين والمتعجلين! فلم يحدث أبدا أن تعلقت الحقيقة بذراع مطلق ... بطيئة هي تجربة كل الينابيع العميقة، عليهم أن ينتظروا طويلا، حتى يعرفوا ما الذي سقط في أعماقها.
سنحاول إذن أن نتجنب هذا كله؛ لأن احترامنا لمثل هذا القدر أكبر من أن يصرفنا عن الهبوط إلى هذا الينبوع العميق ... •••
كان الفكر هو قدر نيتشه.
ولكن ماذا نقصد بالفكر؟ وماذا نريد بالقدر؟ أمن الممكن أن يصبح الفكر - وهو نشاط العقل البشري - قدر الإنسان؟!
ألا يوضع نيتشه في تاريخ الفكر الفلسفي بين من نسميهم فلاسفة الحياة؟ أليست فلسفة الحياة هي تلك الفلسفة التي تبتعد بنفسها عن كل معرفة نظرية أو عقلية، وتتجه إلى الحياة الخصبة المباشرة؟ أليست هي التي تقدم الشعور على العقل، والتجربة على التأمل، والواقع على الفكر؟ لقد تعودنا أن ننظر إلى الفكر - والفكر المجرد بنوع خاص - على أنه بعيد عن الحياة بل غريب عليها، وتعودنا أن ننتظر من فلسفة الحياة تعبيرا شعوريا أو شاعريا عن جوهر الأشياء لا أفكارا مجردة أو تصورات ذهنية.
صحيح أنه لا ينكر أحد أن نيتشه كان شاعرا، لا بالمعنى السطحي القريب لهذه الكلمة، بحيث يقال إنه ألف القصائد الشعرية إلى جانب الكتابات النثرية، ووضع كتابا فلسفيا - «زرادشت» - في صورة شعرية، بل المقصود أنه كان شاعرا بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة، بحيث يمكن أن نقول إن الفكر لديه قد استحال شعرا، وإن العلاقة بين الفكر والشعر، أو بين الحقيقة والفن، كانت نوعا من التناقض الأساسي الذي حرك فلسفته من أولها إلى آخرها، حتى لنجده يعترف في أواخر حياته قائلا: لقد فكرت تفكيرا جديا في وقت مبكر من حياتي عن العلاقة بين الفن والحقيقة، وما زلت أشعر بالفزع المقدس وأنا أقف الآن أمام هذا الصراع.
أنسمي نيتشه لهذا السبب شاعرا فيلسوفا؟ قد تكون التسمية جذابة، ولكنها لا تقول في الحقيقة شيئا، والأفضل أن نعفيه من هذا الشعار السخيف؛ لكيلا نحرم أنفسنا من الإحساس المقدس الذي شعر به في أواخر حياته حين أحس بالفزع من الصراع القائم بين الحقيقة والفن.
ولكن ألا نلاحظ أن نيتشه لا يكف عن مهاجمة الفلسفة التقليدية لإيمانها البشع بالتصورات واصطناعها الدائم للأفكار، ولا ينقطع عن تسديد سهامه إلى المنطق والديالكتيك والإنسان النظري أو السقراطي أو غير ذلك من تسمياته المشهورة؟ أليس هو الذي قال في الفترة التي وضع فيها أول كتبه الكبيرة «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى»: إنه ما من طريق يخرج من الفكرة ليؤدي إلى جوهر الأشياء؟ هل نستطيع أن نستخلص من هذا أن الفكر الحق لا بد أن يكون بالضرورة تفكيرا بالتصورات، وأن من طبيعة هذا الفكر أن يتفكر في جوهر التصور، أعني أن يكون شيئا أقرب إلى التفكير في التفكير؟ لعل الجانب الأكبر من فلسفة نيتشه ألا يخرج عن كونه تفكيرا في التفكير نفسه.
ولكن كيف يتفق هذا مع ما قلناه من أنه فيلسوف الحياة؟ أهناك أبعد من الحياة أو أكثر غرابة عليها من هذا الكلام؟ وما هي إذن حقيقة العلاقة بين الفكر والحياة عند نيتشه؟
إنه يقول في كتابه الأكبر الذي لم يقدر له أن يتمه هذه العبارة: «إن الفكر هو أقوى شيء نجده في كل مستويات الحياة.» الفكر إذن هو أقوى ما نجده على اختلاف مستويات الحياة، وأكثره تدفقا بالحياة، ألا يتبع ذلك أن يكون أكثر الموجودات حياة هو الفكر الذي يصل إلى أقصى درجات التفكير؟ وأن تتمثل أقصى درجات الفكر في ذلك التفكير الخالص الذي يتحرك في عنصره النقي، أعني التفكير المجرد، بحيث يكون هذا التفكير المجرد أكثر ألوان الفكر حياة وحيوية؟
ولكن ألا نكون بهذا قد سرنا على الطريق الخاطئ؟ لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الحياة في ذلك، ها هو ذا يصرح في أحد كتاباته المتأخرة: «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة.» وليست النشوة التي يريدها نيتشه هنا إلا حالة من حالات السكر بمعناه الأصيل الذي يجعله مقابلا للحلم ، بمعنى الارتفاع إلى أقصى درجات القوة والحياة؛ فالتفكير المجرد إذن هو أقصى درجات الحياة.
لكن هل يتسنى لكل من يفكر أن يجد في التفكير المجرد بهجة العيد ونشوة السكر؟ لا شك أنه في حاجة إلى كثير من الصبر والمران حتى يجد البهجة والنشوة بدلا من المشقة والعناء، ولن نجد بين فلاسفة العصر الحديث من راح يؤكد في إصرار أن التفلسف يحتاج - قبل كل شيء - إلى الوقت والصبر والتفرغ كما فعل نيتشه، ولن تجد أحدا عبر عن سخطه على التسرع والتفاهة كما عبر نيتشه، إنه يقول في إحدى حكم كتابه «العلم المرح» (رقم 329) تحت عنوان «التفرغ والفراغ»: «إن التعجل هو الرذيلة الحقيقية للعالم الحديث.» كما يقول: «لقد بات الناس يخجلون من الراحة والهدوء، ويكاد التأمل الطويل أن يصيبهم بلذع الضمير، إنهم يفكرون وهم ينظرون إلى الساعة في أيديهم، تماما كما يأكلون طعام الغداء وأعينهم على أخبار البورصة.» ... أو يقول في ختام المقدمة التي وضعها لكتاب «الفجر»: «مثل هذا الكتاب لا يعرف التعجل، ثم إننا أصدقاء الوقع البطيء، مثلي في ذلك مثل كتابي، ولم يكن عبثا أن أكون لغويا، ولعلي ما زلت كذلك حتى الآن، أعني معلما للقراءة البطيئة، وأخيرا يكتب الإنسان كذلك ببطء، هكذا أصبح الآن من عادتي، لا بل من ذوقي ومزاجي - وربما كان ذوقا شريرا - ألا أكتب شيئا لا يصيب المتعجل باليأس.» وكل من يقرأ نيتشه سيجد مثل هذه العبارات متناثرة في كتبه ورسائله، وكل من يريد أن يقرأه حقا فلا بد له من التريث والصبر، أعني لا بد له من التفكير معه. ألسنا نراه يقول في كتابه «هذا هو الإنسان»: «الرقاد في سكون، التفرغ ... الانتظار والصبر ... ولكن هذا معناه التفكير!»
أراد نيتشه أن يجعل عنوان كتابه الأكبر الذي لم يتمه «إرادة القوة»، ولكن أليست إرادة القوة هي أصفى تعبير عن فلسفته؟ وما شأن فلسفة تتحدث عن القوة بالفكر والتفكير؟ وأين نعثر على أثر للتفكير بين أولئك الحكام «الأقوياء» الذين راحوا بين الحربين العالميتين يتمسحون بنيتشه ويهيبون بفلسفته؟ وهل قصد نيتشه بعبارته عن إرادة القوة شيئا يتصل بالسياسة من قريب أو بعيد، كما أراد الذين أساءوا فهمه وجنوا عليه جناية لن ينصفه منها أحد إلى آخر الزمان؟ أم كانت في الحقيقة تعبيرا ميتافيزيقيا يلخص رأيه في حقيقة الحياة في كلمتين؟ أليس من واجبنا اليوم أن نبذل الجهد المضاعف لنفهم ما يريده بالإرادة والقوة وما يقصده من عبارته عن إرادة القوة؟
كتب على الفلاسفة العظام أن يساء فهمهم، كما كتب عليهم أن ينتشر تأثيرهم على أساس من هذا الفهم السيئ. ولعل نيتشه قد أحس بأن الأجيال المقبلة لن تفهمه ولن تنصفه فكتب يقول في أوراقه التي عثر عليها بعد موته: «إرادة القوة، كتاب هدفه التفكير، ولا شيء غير هذا.» ... «فإرادة القوة» قد وضع ليفكر فيه الناس، أي إنه كلام ميتافيزيقي، لا يقول شيئا عن أي شيء أو أية حالة تدخل في إطار هذا العالم، بل يتحدث عن العالم ككل، ويتجاوز كل ما يضمه من أشياء.
لم يكن نيتشه مفكرا فلسفيا فحسب، بل كان قبل ذلك كاتبا لامعا يلمس القلوب ببيانه الرائع ويهز العقول بأسلوبه الحي، ولقد كان يعرف ما يقول حين كتب لصديقته الشابة لوسالومي - وهي التي ستصبح بعد ذلك صديقة مقربة للشاعر رلكه - يوصيها بقواعد الأسلوب العشرة ويذكر من بينها أنه كلما زادت الحقيقة التي يريد الإنسان أن يعلمها للناس تجريدا، كان عليه أن يغري بها الحواس، ولقد نجح نيتشه في هذا الإغراء، حتى غاب عن خصومه وأنصاره على السواء ما في أفكاره العميقة من التجريد، وتشبث القراء بأنه شاعر فيلسوف، ومع أن الوصف في جملته صحيح، إلا أنه لا يمنعنا من القول بأن فلسفته لا تقل تجريدا ولا إحكاما عن فلسفة أرسطو أو كانط أو هيجل، بل إن النفاذ إلى فلسفته لا يقل صعوبة عن النفاذ إلى فلسفة هؤلاء، إن لم يزد عليها بكثير، فبينما يفر القراء من لغتهم الشاقة المعقدة التي تظهرهم على مشقة الموضوع الذي يتناولونه، يغريهم أسلوب نيتشه اللامع المتدفق بأنهم يقرءون شيئا يسيرا، ويوقعهم في خطر الفهم السريع، في حين أنهم يكونون أبعد الناس عن فهمه، بل إنهم في معظم الأحيان ينتشون بقراءته دون أن يدروا شيئا عن الموضوع الذي يتكلم عنه! والذين صبروا منهم على دراسته يعلمون تماما أنهم يصادفون لديه أصعب الأفكار والمشكلات التي تناولتها الفلسفة الغربية في تاريخها الطويل. •••
كان الفكر هو قدر نيتشه.
ونحن لا نقصد من ذلك المعنى الخارجي الظاهر من حياته فحسب، على الرغم من أننا نعلم أن عاطفة التفلسف قد حددت هذه الحياة القصيرة من كل نواحيها، والتهمتها في النهاية في جنون مفزع مخيف، فمما لا شك فيه أن حياة هذا المفكر كانت وستظل مثلا مجيدا مؤلما على نهاية الفكر الصادق الجاد. وسوف يحرك قلوبنا دائما أن نعرف كيف أن عاطفة الفكر المتحمسة قد جعلته في الرابعة والعشرين من عمره أستاذا للغات القديمة في جامعة بازل، وأبعدت بينه وبين الحياة الاجتماعية المطمئنة، ودفعت به شيئا فشيئا إلى مواضع الخطر والعداوة والتهديد؛ فراح في سبيل هذا القدر يضحي بالمستقبل الجامعي المشرق، وبالأصدقاء والمال والسمعة الطيبة، ويغوص بالتدريج في هاوية الوحدة والانفراد، حتى جاءت كارثة «تورين»
2
المعروفة، فعجلت بالنهاية المخيفة لكل هذا العذاب.
كل هذا معروف ومشهور، ولكن نيتشه يقصد شيئا أكبر منه حين يتحدث عن «قدر الفكر»، وعن التضحية بأفضل شيء لدى الإنسان وأحب شيء إلى نفسه. إنه يقول في الكتاب الخامس من «العلم المرح» تحت عنوان: «نحن الذين لا نخاف» هذه العبارة: «هناك فرق شاسع بين أن يقف المفكر بشخصه وراء مشكلاته بحيث يجد فيها قدره ومحنته وكذلك أسمى سعادته، وبين أن يقف منها موقفا غير شخصي.» أعني أن يفهم كيف يلمسها ويمسك بها بقرون استشعار الفكرة الباردة المتطفلة. في الحالة الأخيرة لا يخرج الإنسان بشيء، على كثرة ما يمني به نفسه؛ ذلك لأن المشكلات العظيمة - إذا فرض أنها تسمح لأحد بأن يفهمها - لا تدع للضفادع ولا المتخاذلين فرصة الاقتراب منها، إن هذا هو طبعها منذ الأزل، وهو بالمناسبة طبع تشارك فيه كل الفاتنات! ولقد كانت المشكلات التي عذبت نيتشه، والحقائق التي أحس هو نفسه بالرعب منها، هي قدر فكره، إنه يكتب إلى صديقه «أوفربك» فيقول: «لقد كنت أملي ساعتين أو ثلاثا كل يوم تقريبا، ولكن «فلسفتي» - إذا كان من حقي أن أصف ما يعذبني حتى أعمق جذور حياتي بهذا الاسم - لم يعد من الممكن نقلها إلى أحد، أو على الأقل لم يعد ذلك ممكنا عن طريق النشر.
إنني أشتاق في بعض الأحيان إلى عقد مؤتمر سري معك أنت ويعقوب بورخارت - لأسألكما كيف تواجهان هذه المحنة - أكثر من شوقي لرواية شيء جديد لكما.» ولكن المرجح أن زميلي نيتشه في جامعة بازل ما كانا ليوافقا على عقد هذا المؤتمر، ولو عقداه لما استطاعا أن يحسا بشيء من اليأس الذي أحس به في أواخر حياته، فلن يستطيع أن يشعر بهذا اليأس أو يشارك في بعض عذابه إلا من يجد في نفسه الاستعداد لمتابعته على طريق الفكر الشاق الطويل، والإرادة الكافية لتحمل قدره القاسي الأليم. إن نيتشه يقول بنفسه في إحدى القطع التي جمعت بعد موته: «إن علينا - قبل أن يصيبنا القدر - أن نسوقه كما نسوق الطفل ونضربه بالسوط، فإذا ما أصابنا فعلينا أن نبذل جهدنا لكي نحبه.»
ومن الصعب أن نفهم كيف استطاع نيتشه أن يخطو هذه الخطوة نحو حب القدر، وأن يسير من النفي إلى نفي النفي، أو إلى النعم العليا، أو محبة القدر
Amor fati
كما يسميها.
إنه يتحدث في «هكذا تكلم زرادشت» عن الإرادة الكارهة
Widerwille
للزمن ول «قد كان»، كما يتحدث عن الخلاص من هذه الإرادة الكارهة أو من عدم الإرادة (لا عن الإرادة بوجه مطلق؛ إذ إنه في حديثه ذاك إشارة إلى شوبنهور والبوذية اللذين يستنكر كلاهما عن الإرادة ويصفه بأنه أغنية الجنون الخرافية)، هذه الإرادة الكارهة للزمن أو المضادة له، والنزعة التي تميل إلى المخالفة والهجوم بوجه عام، علامة من العلامات الدالة على تفكير نيتشه في مجموعه،
3
ولكننا نعلم أن كل نزعة مضادة أو مخالفة تظل على نحو من الأنحاء حبيسة لما تخالفه أو تكون ضدا له، فما من مخالفة لا تنطوي على نصيب من المشاركة ولا من تفكير يهاجم الميتافيزيقا أو الأفلاطونية أو المسيحية أو الزمن المعاصر له إلا ويظل بوجه من الوجوه ميتافيزيقيا أو أفلاطونيا أو مسيحيا أو معاصرا، وهذا القول ينطبق على نيتشه أكثر من أي مفكر سواه، بل نحن اليوم أقدر على قوله والإحساس به أكثر منه، ربما لبعدنا عنه البعد الكافي لإصدار هذا الحكم الذي لم يكن في استطاعته أن يعيه أو يصدره بنفسه.
مهما يكن من شيء، ففي إمكاننا - من وجهة النظر هذه - أن نضع فلسفة نيتشه في مكانها، ونخطو خطوة على طريق النقد الشامل لها. يمكننا أن نقول - وهذا ما قاله الكثيرون وقاموا به بالفعل: إن فلسفة نيتشه تمثل الكمال والنضوج في مرحلة من مراحل الفكر الغربي، كما تمثل في نفس الوقت غاية هذه المرحلة ونهايتها، فهي في رأي هؤلاء المفسرين (والمقصود بهم هيدجر وتلاميذه بنوع خاص) تمثل كلمة الختام في الفلسفة الحديثة من حيث هي فلسفة الفكر والإرادة الإنسانية التي تنعكس على نفسها أو تضع نفسها بنفسها، ومن ثم يكون تفسيره للحياة والوجود بأنه إرادة القوة هو أقصى مرحلة لميتافيزيقا الذاتية، أي للفلسفة الحديثة التي يعرفونها أيضا بهذه الصفة، حيث تبلغ هذه الفلسفة غاية إمكاناتها من حيث هي فلسفة ذاتية للإرادة. فإذا كان نيتشه قد وصل بهذه الذاتية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وبلغ بها عن طريق تطرفه الحاسم الصريح إلى آخر حدودها، فلا شك أيضا في أنه قد ظل أسير مملكتها ورهين أفكارها، ومع ذلك فإذا كانت هذه النظرة تنطبق إلى حد كبير على فلسفة نيتشه أو تمثل على الأقل جانبا هاما من جوانبها، فلا شك أيضا في أنها ليست هي النظرة الوحيدة الممكنة إلى هذه الفلسفة الخصبة المتعددة الجوانب والوجوه، أضف إلى ذلك أن الزج بإحدى الفلسفات في صيغة تاريخية أو مذهبية بعينها - مهما كان نوع هذه الصيغة - لا بد أن ينطوي على شيء من الإجحاف والظلم لتلك الفلسفة. وإذا صدق هذا القول على فلسفة ما، فهو أصدق ما يكون على فلسفة نيتشه؛ فالمتأمل لها لا بد أن تأتي عليه لحظة يسأل فيها نفسه: هل هذه الفلسفة شكل من الأشكال العديدة للفلسفة الحديثة؟ أم هي إلى جانب ذلك وفوق ذلك شيء آخر مختلف وجديد؟! •••
ليست الكلمات التي تعبر عن «الضد» والمخالفة هي وحدها التي تدل على تفكير نيتشه، بل إن الكلمات التي تعبر عن التجاوز والعلو والمفارقة - مثل فوق ووراء وبعد التي تتكرر كثيرا في كتاباته وبخاصة في زرادشت - قد تكون أكثر دلالة على طابعه الفكري والفلسفي، وكثيرا ما قيل: إن هذه الكلمات وحدها تعبير واضح عن تطرف نيتشه أو تهوره، وهذا صحيح بالفعل، غير أنها لا تستخدم دائما للدلالة على صيغة التفضيل أو المبالغة، بل كثيرا ما يراد بها التعبير عن تجاوز الضدين جميعا، والعلو فوق كل ما عرفته الإنسانية من أشكال التصور والتفكير. وأوضح مثل على هذا هو حرف فوق
über
كما يرد في الكلمة المركبة فوق الإنسان أو الإنسان الأعلى
über-Mensch, Superman
فليس الإنسان الذي يقصده نيتشه بهذه الكلمة إنسانا أضخم حجما أو أقوى عضلا من بقية الناس، ولا هو ذلك الوحش الأشقر الذي ظنت النازية البشعة أنها جاءت أخيرا لتحقيق وجوده على الأرض، بل هو في الواقع مرحلة تتجاوز مرحلة الإنسان الحاضر، وتتحقق فيها فكرة نيتشه عن إرادة القوة وتأكيد الحياة، وليس للإنسان الأعلى صلة من قريب أو بعيد بالبطل المحارب ولا بالعملاق القوي، وإنما يقترب أكثر ما يقترب من ذلك «الطفل اللاعب» الذي يتحدث عنه زرادشت.
الأمر إذن أمر تجاوز وعلو وارتفاع؛ تجاوز للإنسان الحاضر، وعلو فوق الأخلاق السائدة، وارتفاع على التركة الميتافيزيقية التي ورثها العالم عن أفلاطون. إن نيتشه لا يزال يتحرك - كما هو منتظر - في إطار الفلسفة الحديثة بوصفها ميتافيزيقا الذات التي تضع نفسها وتتمثل نفسها، تشهد على ذلك المواضع الكثيرة التي يمجد فيها الأنا المريدة الخلاقة، أعجب الأشياء ومقياس الأشياء جميعا (كما تقول قطعة معروفة في زرادشت في الفصل الخاص بسكان العالم الآخر)، ولكنه مع ذلك دائم البحث - كما لم يفعل أحد قبله أو بعده من مفكري العصر الكبار - عن المنابع الجديدة والآفاق الغريبة المجهولة، شأن الرواد والمكتشفين الذين لا تحلو لهم الحياة إلا بين مجاهل الكشف وأخطار الريادة! إنه يكتب في القطعة الأخيرة من كتاب «الفجر» تحت عنوان «نحن ملاحو الروح!» فيصف نفسه بأنه «كولومبوس» جديد، يوجه شراع سفينته نحو الغرب على أمل أن يكتشف الهند الجديدة، ولكن هل استطاع نيتشه - بعد أن اتجه بسفينته إلى الغرب إلى هناك «حيث غابت كل شموس البشرية» - أن يبلغ الهند، أي يبلغ الشرق الجديد أو يرى شطآنه على الأقل من بعيد؟!
مثل هذا السؤال لا يجاب عليه بلا أو نعم قاطعة، وتتعذر الإجابة كلما تصورنا مدى خصوبة فلسفة نيتشه وعمقها وتعدد مستوياتها وأبعادها، والأفضل من ذلك أن نحاول البحث عن نص يلقي بعض الضوء على السؤال. ها هو ذاته يقول في مقطوعة هامة من كتابه الكبير «إرادة القوة» يصور فيه حالة من حالات الصفاء والاتزان النادرة في حياته الفكرية العاصفة، ويعبر عن موقفه وهدفه الفلسفي فيقول: «الانتظار والاستعداد، انتظار تدفق الينابيع الجديدة، الاستعداد في ظل الوحدة للقاء الرؤى والأصوات الغريبة، تطهير النفس على الدوام من غبار السوق ومن ضجيج هذا الزمن، التغلب على كل ما هو مسيحي عن طريق شيء يتفوق على المسيحية ولا يكتفي بالتخلص منها، اكتشاف الجنوب في النفس من جديد ورؤية سماء الجنوب الساطعة الحافلة بالأسرار وهي تنتشر فوق رءوسنا، غزو الصحة الجنوبية والقوة الكامنة في النفس غزوا جديدا، أن يصبح الإنسان بالتدريج أكثر شمولا واتساعا ويصير عالميا وأوروبيا - وأكثر من أوروبي - وشرقيا إلى أن يصبح في النهاية إغريقيا؛ لأن الروح الإغريقية كانت هي التأليف والمركب الأول العظيم لكل ما هو شرقي كما كانت - لهذا السبب نفسه - مبدأ الروح الأوروبية: اكتشاف «عالمنا الجديد»، من ذا الذي يحيا وفق هذه التعاليم؟ ومن يدري ما الذي يمكن أن يحدث له ذات يوم؟ لعله أن يكون نهارا جديدا .»
إن نيتشه لا يتحدث هنا عن شيء يخالف المسيحية أو ينافي الروح الأوروبية ، ولا يذكر شيئا عن الضد أو العكس، بل يتجاوز جميع المواقف والأحوال والآفاق إلى ما وراءها، حيث ينتظره عالم جديد ونهار جديد، وهو لذلك في حاجة إلى منابع جديدة تروي عطشه الذي يفوق احتمال البشر: «الانتظار والاستعداد، انتظار أن تنبثق منابع جديدة.» أو كما يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرادشت: «أن ينتظر المرء عطشه ويتركه حتى يصل إلى أقصى مداه؛ لكي يكتشف منبعه.»
والمنبع شيء يتدفق من تلقاء نفسه. إن الإنسان لا يصنعه، فأقصى ما يملكه أن يحاول الكشف عنه وينتظر تدفقه، هناك لا يكون محل للذات المريدة المتسلطة، بل للصبر والتريث والانتظار، وعندئذ نتذكر البيت الأول من قصيدته عن «سلس ماريا»: «هنا جلست أنتظر وأنتظر، لكنني كنت أنتظر لا شيء»، «الاستعداد في ظل الوحدة للقاء الرؤى والأصوات الغريبة.»
وهل فعل نيتشه شيئا غير هذا في خلال السنوات العشر التي سبقت تخبطه في ظلام الجنون؟ ألم يبق مخلصا لطبيعته على الرغم من كل المواقف التي تفجرت فيها نزعته إلى الهدم والعدوان والتظاهر بالعظمة؟ وهذه الرؤى الغريبة، أيمكن أن تكون شيئا غير رؤياه عن عودة الشبيه الأبدية
4
والأصوات الغريبة؟ أليس من الممكن مقارنتها بتلك القطعة الأخيرة من القسم الثاني من زرادشت التي نجدها تحت عنوان: «أشد الساعات سكونا»، حيث نسمع المجهول يتكلم مع زرادشت «بغير صوت»؟
أما تطهير النفس على الدوام من غبار السوق وضجيج الزمن فهو واضح الدلالة على ضرورة العلو والتجاوز بوجه عام، حتى ولو كان هذا العلو فوق ما حققته أو أثارته ظاهرة الفيلسوف نفسه وتأملاته التي جاءت في غير وقتها أو ضد وقتها من غبار النجاح وضجيجه، ولن يخفى ما في «تطهير النفس على الدوام» من تذكير بمبدأ التطهير القديم عند الفيثاغوريين والأفلاطونيين، وأما التغلب على كل ما هو مسيحي دون الاكتفاء بالتخلص منه، فأهم ما نلاحظه فيه أنه لا يذكر شيئا عن عداوة المسيحية أو مخالفتها، بل يتحدث عن روح تتجاوز المسيحية وتعلو عليها؛ فلم يكن من الممكن أن يوجه الفيلسوف همه إلى التخلص ببساطة من المسيحية، وهو الذي يصف نفسه بأنه سليل جيل كامل من «القسس المسيحيين»، ولم يكن من الممكن أيضا أن يدعو إلى نوع من الوثنية أو الإغريقية كما يزعم بعض خصومه، بل إن أقصى ما يريده أن يعلو ويتفوق بالإنسان إلى «نهار جديد» و«عالم جديد» يؤكد إرادة قوته وقدرته على العلو والتفوق فوق إنسانيته الحاضرة.
وتطالب السطور التالية بالعودة إلى اكتشاف الجنوب في النفس، والعودة إلى غزو الصحة الجنوبية فيها، فما هو هذا الجنوب الذي يريد الملاح أن يوجه إليه سفينته؟ إن الحكمة رقم 255 من كتابه «وراء الخير والشر» تصف الجنوب بإشراقه الباهر وشمسه الساطعة بأنه «المدرسة العظمى لاستعادة الصحة في أمور الروح والحس.» وليس الجنوب رمزا للإشراق الناصع فحسب، ولكنه كذلك رمز لكل ما هو عميق وقادر وغني بالأسرار؛ فلقد كان الشمال على الدوام أكثر سذاجة وسطحية من الجنوب، كما تقول الحكمة 35 من كتاب «العلم المرح»، وكان الجنوب هو وريث «الشرق العميق» ووريث آسيا العريقة الغنية بالأسرار، كما كان كذلك رمز ما يسميه نيتشه بالروح الإغريقية.
ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون تمهيدا للسطور التالية التي تريد للإنسان «أن يصبح بالتدريج أكثر شمولا واتساعا، وأن يصير عالميا وأوروبيا وأكثر من أوروبي وشرقيا إلى أن يصبح في النهاية إغريقيا.» والإغريقي هنا رمز لنهاية الرحلة، أو لعالمنا الجديد كما يمضي الكلام بعد ذلك. ولكن ما هي بلاد الإغريق التي يريد نيتشه أن يعيد اكتشافها من جديد؟ وما صلتها بذلك البلد الذي اكتشفته علوم الآثار واللغات القديمة؟
إن الحكمة رقم 419 من «إرادة القوة» تقول: «إن الفلسفة الألمانية في مجموعها هي أشد ألوان الرومانتيكية والحنين التي وجدت حتى الآن أصالة، وهي الشوق إلى أفضل ما عرفه الإنسان إلى اليوم، إن الإنسان لم يعد يشعر في أي مكان بأنه في وطنه، إنه يحن إلى موضع يمكنه أن يقول عنه بطريقة ما إنه وطنه ... وهذا الموضع هو العالم الإغريقي! غير أن جميع الجسور المؤدية إليه قد تحطمت، باستثناء أقواس قزح التصورات.»
إن نيتشه يعلم أنه لم تعد هناك جسور ترجع بنا إلى بلاد الإغريق غير جسور التصورات، وما بقي هذا الطريق الوحيد قائما فسوف نظل «كالأشباح الرقيقة»، صحيح أنه يعترف لهذه الأشباح ببعض الحقوق، ولكنها ستبقى شيئا مؤقتا، ممهدا لما يأتي بعده، وسنظل على جهلنا ببلاد الإغريق ما بقي الطريق إليها مخفيا تحت الأرض، فعيون العلماء المتطفلة لن تبصر الحقيقة في هذه الأمور، وإن كان من الواجب بالطبع أن يستمر العلم في خدمة الكشوف والحفريات.
بلاد الإغريق الجديدة الخالصة لا شأن لها إذن ببلاد الإغريق القديمة، ونصيحته لنا بأن نصبح إغريقيين لا صلة لها بالدراسات الكلاسيكية واللغوية، بل إن الطريق إليها يزداد شمولا باستمرار، حتى يصير عالميا وأوروبيا، وأكثر من أوروبي، وشرقيا إلى أن يمر أخيرا ببلاد الإغريق! ومن الواضح أن كلامه عن الشرق لا يعني أن يكون طرفا مقابلا لأوروبا والغرب، بل عن شيء يسبق الغرب ويتجاوزه، ومن ثم نجده يلاحظ الملاحظة التالية في أوراقه التي تحتوي على خططه ومشروعاته في الكتابة: «يجب علي أن أتعلم كيف أفكر في الفلسفة والمعرفة تفكيرا شرقيا، النظرة الشرقية إلى أوروبا.» وبذلك يتضح شوقه الغريب إلى أن يصبح الإنسان إغريقيا بعد أن يتم له بلوغ الروح الشرقية؛ ذلك لأن الروح الإغريقية كانت هي التأليف والمركب الأول العظيم لكل ما هو شرقي.
بلاد الإغريق التي يريدها نيتشه لا صلة لها إذن بذلك البلد الغربي القديم؛ فهو يريد بلاد الشرق الجديد مع الغرب الجديد، أي مع وطن إغريقي جديد، ومن هنا نفهم ذلك الشعار الهندي الذي يقدم به لكتابه «الفجر» الذي يشرق معه فجر تفكيره والذي يقول فيه: «هناك أشكال من الفجر لا حصر لها، لم يقدر لنورها أن يشرق بعد.» ومن هنا أيضا كانت تلك الحكمة التي يختتم بها هذا الكتاب تحت عنوان: «نحن ملاحو الروح» والتي تنتهي بكلمة غامضة عجيبة هي «أو»: «أيقول الناس عنا ذات يوم إننا نحن أيضا كنا نرجو - وقد اتجهنا بسفننا نحو الغرب - أن نصل إلى بلاد الهند؟ وإنه كان من نصيبنا أن نتحطم على «صخرة» اللانهاية؟ «أو» يا إخوتي؟ «أو»؟»
ما معنى هذه ال «أو»؟ وما هي بلاد الهند التي يريد نيتشه أن تصل سفينته إلى شاطئها؟ أهي بلاد الديانة البوذية؟ ولكننا نعرف مدى احتقاره للبوذية، ونعرف كذلك أنه وصفها هي والديانة المسيحية بأنهما الديانتان العدميتان الكبيرتان، أم تكون الهند رمزا للبلد الذي ستشرق منه ديانة جديدة وفلسفة جديدة؟
إن نيتشه يقارن نفسه هنا بكولومبوس، فالمعروف أن هذا قد اتجه بسفنه ناحية الغرب وهو يرجو أن يكتشف جزرا هندية، غير أنه اكتشف بلدا جديدا لم يكن الهند بل أمريكا، فماذا تعني «أو» في نهاية المقطوعة السابقة؟ أتعني أنه كان يرضيه أن يبلغ الهند لو لم تتكسر سفينته على صخرة اللانهاية؟ لو فعل ذلك لكان متناقضا مع نفسه؛ فقد سبق له أن أسقط الهند «بلد الديانة العدمية» من حسابه. لم يبق إذن إلا القول بأنه كان يريد مثل كولومبوس أن يكتشف أمريكا أخرى أو عالما جديدا يسميه «عالمنا» الجديد، وسواء بعد ذلك أن تكون سفينته قد تحطمت على صخور اللانهاية أو أن يكون قد اكتشف ذلك العالم الجديد، فلا يمكن القطع في ذلك بالنفي ولا بالإيجاب، ولن نستفيد في الحالتين شيئا، فأهم من ذلك بكثير أن نعلم أنه لم يكف عن البحث عن هذا العالم الجديد، ولم يبخل عليه بجهد ممكن أو مستحيل، بل وهب له حياته حتى جن واحترق؛ ولذلك نجده يقول بحق على لسان زرادشت: «كان طريقي كله محاولة وسؤالا.» ولعل هذه التجربة المتصلة وهذا الإلحاح المستمر على السؤال الحر هما خير ما في فلسفة نيتشه، بل خير ما يمكن أن يوصف به الفكر على وجه الإطلاق.
إنه يقول في إحدى قطع «الفجر» التي جعل عنوانها «مملكة أخلاقية متوسطة»: «نحن تجارب، ونريد أيضا أن نكون كذلك!» ولقد كان نيتشه على وعي تام بوضعه التاريخي الخاص الذي جعله يقف بين عواصف الزمن وأمطاره كالحارس العنيد على بوابة تفصل بين عهد قديم وعهد جديد، ولقد بلغ هذا الوعي في السنوات الأخيرة من حياته درجة من التهور الذي لم يقف عند حد. لنستمع إليه وهو يقول في بداية الفصل الأخير من كتابه «هو ذا الإنسان» تحت هذا العنوان: لماذا كنت قدرا؟ «إنني أعرف نصيبي، سوف ترتبط باسمي ذكرى شيء مخيف، ذكرى أزمة لم يحدث مثلها على وجه الأرض ... لست بشرا، إنني ديناميت.»
قد نسمي هذا تطرفا أو تهورا، وقد نرجعه إلى مرض نفسي لا شك أن نيتشه كان يعاني منه، أو نعود به إلى الوحدة المطلقة الأليمة التي عاش فيها طوال حياته، أو إلى تجاهل معاصريه لأعماله الفلسفية والأدبية تجاهلا وصل في بعض الأحيان إلى حد الاحتقار، غير أن التطرف أو التهور لم يكن غريبا على نيتشه؛ فقد طبع حياته وأعماله منذ البداية بطابعه، كما كان لسحر هذا التطرف أثره الكبير على التجاهل الذي أصابه في حياته، والمجد الذي انهال عليه بعد موته، وطقوس العبادة التي قدمت إليه قبل الحرب العالمية الأخيرة من جانب الفاشيين (الذين أساءوا إليه كما قلت وظلموه ظلما لا ندري كيف يمكن التكفير عنه).
ومع ذلك كله فقد كان نيتشه - وهو الذي عاش حياته يحترم الإغريق ويستلهم منهم أنبل ما فيهم وأقوى ما فيهم - يعرف قيمة الحد والتوسط والاعتدال أفضل معرفة، وها هو يكتب في إحدى ملاحظاته التي وجدت بعد موته: «إيجاد الحد والوسط في أثناء السعي إلى تجاوز الإنسانية.» ولكنه كان يملك من الشجاعة ما يجعله يعترف بأن التزام الحد والتوسط شيء غريب عليه وعلى جيله. هل كانت طبيعته البركانية أقوى من كل الحدود؟ هل كانت «الرؤى والأصوات الغريبة» - التي كانت تتدفق عليه طوال حياته تدفق موجات الإلهام العارمة - هي المسئولة عن عدم التزامه بالحد والاعتدال؟ مهما تكن الإجابة على هذه الأسئلة التي يصعب الجواب عليها، فإن نيتشه يعترف في الحكمة 224 من كتابه «وراء حدود الخير والشر» بأن «الحد شيء غريب علينا.» ولا شك أنه يقصد بالحد شيئا يختلف كل الاختلاف عما يقصده أوساط الناس العاديين «بخير الأمور الوسط» أو بالاعتدال الذي يفهمون منه القناعة والطمأنينة والرضا بالقليل ؛ فقد كان دائم الاحتجاج على هؤلاء الأوساط والعاديين، دائم التمجيد للأفراد المستثنين غير العاديين. وما دام العاديون يحمون أنفسهم من سيطرة الغوغاء والشواذ على السواء، فسيكونون خصما جديدا للاستثنائيين، كما يقول في إرادة القوة. •••
يبدو كل شيء في حياة نيتشه وكأنه انجذب بسحر التهور والتطرف، وتمرد على كل القيود والحدود. والسنوات الإحدى عشرة التي عاشها بعد انهياره في مأساة تورين، أشبه ببقايا بركان محترق؛ تبدو هي أيضا بهولها وبشاعتها وقد جاوزت كل الحدود. لقد راح يغوص في لجة الجنون المعتمة كل يوم، ويرسل بعد الكارثة خطابات إلى معارفه وأصدقائه يسمي نفسه فيها قيصر أو ديونيزوس أو المصلوب، وحاولت شقيقته - التي طالما هاجمها الباحثون المحدثون بحق أو بغير حق - أن تخفي من أسرار مرضه الفظيع ما استطاعت. ولكن هل هناك ما هو أفظع من هذه الحكاية التي روتها على لسانه، وأوردها أندريه جيد في رسالة له عن نيتشه إلى إنجيل في العاشر من ديسمبر سنة 1898؟ فالأخت تقول: «إنه يتحدث معي، ويهتم بكل ما يراه حوله، وكأنه لم يصب أبدا بالجنون، غير أنه لم يعد يعرف أنه هو نيتشه، في بعض الأحيان لا أستطيع أن أحبس دموعي عندما أنظر إليه، وإذا به يقول: لماذا تبكين؟ ألسنا سعداء؟»
حاول نيتشه أن يشرح للناس لماذا هو قدر؟ ولقد عاش كالقدر، وأحب كل ما ساقه إليه القدر، ووجد سعادته الأخيرة في الرضا بالضرورة والقدر، ودفع الثمن الذي لا بد أن يدفعه كل من يجد في الفكر الشجاع الجاد مصيره ومسئوليته وقدره، فمرض وتعذب وجن واحترق، لم يكن له مفر من ذلك؛ لأن قدر المفكرين حزين.
العود الأبدي
أنتم تنظرون إلى أعلى حين تطلبون الارتفاع، أما أنا فأنظر إلى أسفل؛ لأنني مرتفع.
نيتشه، هكذا تكلم زرادشت
القسم الأول: عن الكتابة والقراءة «ماذا جرى لي يا أصدقائي؟»
أمس عندما اقترب المساء تكلمت إلى أشد ساعاتي سكونا: هذا هو اسم سيدتي المخيفة.
وهكذا حدث الأمر ؛ لأنني لا بد أن أقول لكم كل شيء، حتى لا يقسو فؤادكم على الراحل المفاجئ!
أتعرفون فزع النائم؟ الفزع يستولي عليه حتى أطراف أصابع قدميه، من أن الأرض تلين تحته والحلم يبدأ.
أقول لكم هذا على سبيل الرمز - بالأمس - في الساعة الساكنة، لانت الأرض تحت قدمي: الحلم بدأ.
عقرب الساعة اقترب، ساعة حياتي التقطت أنفاسها.
أبدا لم أسمع مثل هذا السكون من حولي، حتى أن قلبي تملكه الفزع، عندئذ تكلمت إلي بلا صوت قائلة: «أتعرفه يا زرادشت؟»
وصرخت رعبا من هذا الهمس، والدم غاب عن وجهي، ولكنني سكت.
عندها تكلمت مرة ثانية إلي: «أنت تعرفه يا زرادشت، ولكنك لا تنطق به!»
وأخيرا أجبت كما يجيب العنيد: «أجل، إنني أعرفه، ولكني لا أريد أن أنطق به.» عندها عادت تتكلم بغير صوت وتقول لي: «ألا تريد يا زرادشت؟ أهذا أيضا حق؟ لا تتخف وراء عنادك!»
وبكيت وارتعشت مثل طفل وقلت: «آه! أنا أريد حقا، ولكن كيف أستطيع؟! تجاوزي عن هذا فحسب، إنه يفوق طاقتي.»
عندها تكلمت إلي مرة أخرى بغير صوت: «ماذا جرى لك يا زرادشت؟! قل كلمتك وتحطم!»
وأجبت: «آه، هل هي كلمتي؟ من أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أعظم شأنا، أنا لا أستحق حتى أن أتحطم عليه.»
زرادشت يودع أصدقاءه، ليعود إلى وحدته من جديد، إن أشد ساعاته سكونا قد تحدثت إليه، صوت سيدته المخيفة قد همس في أذنه، وملأ قلبه بالرعب، حقيقته الخفية الباطنة تريد أن تكشف عن وجهها، فكرته المختبئة في أعماق نفسه تريد الآن أن تعبر عن نفسها، ففي أشد ساعاته سكونا يتجلى له أشد الأشياء حبا في السكون، وسر الزمن الذي طالما عذبه وطارده على وشك أن يعلن الآن عن نفسه، أن يكشف الغطاء عن جوهره وماهيته، اللحظات تمر والعجلات تدور والأنهار تجري، وحبات الرمال تتساقط في الساعة الزجاجية، والزمن نفسه يعبر في سكون؛ لأنه أشد الأشياء سكونا. إن السيدة المخيفة تقول لزرادشت: أنت تعرفه! لكن ذلك الشيء الذي لا يقوى على أن يبوح به لنفسه، ذلك الذي يفوق طاقته، والذي سيعود من أجله إلى وحدته ويفترق عن أصدقائه، هو إلهامه المفاجئ عن معنى الزمن، هو معرفته الجديدة بسره الذي يتعدى حدود الحاضر والماضي والمستقبل. إن زرادشت في طريقه إلى القمة، في طريقه إلى فكرته المحيرة عن عودة الشبيه الأبدية.
عجيب أمر زرادشت! فبعد أن أعلن على المجتمعين في السوق حول الراقص على الحبل عن مذهبه في الإنسان الأعلى، وعلى رفاقه وتلاميذه عن فكرته المخيفة عن موت الله وعن إرادة القوة، شمله الصمت والارتعاش فلم يجد مذهبا يعلنه، وعذبه إلهامه الجديد فلم يجد الكلمات التي تعبر عنه. زرادشت الآن يعود إلى جولاته، ويسير إلى كهفه الراقد في أحضان الجبل؛ ليواجه هناك وحدته الأخيرة الفظيعة، وينفرد مع فكرته التي تشبه الهاوية التي لا قرار لها، وينتظر التحول الجديد في كيانه، إنه في القسم الثالث «عن الوجه واللغز» من كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يتحدث إلى الملاحين الذين يعبرون به البحر، وحديثه مملوء بالألغاز والرموز، ويتحدث إلى «العبيط» في «المدينة العظيمة»، ولكنه لا يتحدث إلى الآخرين بقدر ما يتحدث إلى نفسه. لقد تحدث عن الإنسان الأعلى إلى الجميع، وتحدث عن موت الإله وعن إرادة القوة إلى القليلين، ولكنه الآن يتحدث عن عودة الشبيه الأبدية إلى نفسه وحدها. إن فكرته الجديدة ترتفع فوق كل الأفكار، كما ترتفع به إلى القمة المخيفة التي تنتظره بالسعادة أو بالجنون.
يقول نيتشه في كتابه «هذا هو الإنسان
Ecce Homo » عن زرادشت: «سأروي الآن حكاية زرادشت، إن الفكرة الأساسية في الكتاب، فكرة عودة الشبيه الأبدية، هذه الصياغة السامية للإيجاب - التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى صياغة أسمى منها - ترجع إلى شهر أغسطس من عام 1881.»
1
عودة الشبيه الأبدية إذن هي قلب الكتاب النابض، وهي الوسط والمركز الذي تدور حوله أفكاره، إنها تأتي بعد فكرتيه الأخريين عن الإنسان الأعلى وعن إرادة القوة، ولم يكن من الممكن أن تأتي بغير هذا الترتيب، لقد بدأ زرادشت بالتبشير بالإنسان الأعلى: أنا أعلمكم الإنسان الأعلى، الإنسان الأعلى هو معنى الأرض هو الصاعقة، والإنسان شيء ينبغي التفوق عليه، هو حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى، حبل ممدود فوق الهاوية. والإنسان جسر لا هدف له، معبر إلى هذا الإنسان الأعلى الذي يريد أن تمتلئ به الأرض ذات يوم. ولكن هذا الإنسان الأعلى الذي يطالب به زرادشت لا يمكن أن يتحقق حتى «يموت الله»، أي حتى يتحطم التراث الغربي كله، وينهار صرح المثالية الأفلاطونية المسيحية بأسرها. فإذا عرف الإنسان أن كل ما يعلو عليه من آلهة وأخلاق وعالم آخر هو سبب شقائه وغربته عن نفسه وعن الأرض؛ أمكن للمثالية أن تنقلب رأسا على عقب. واستطاع زرادشت أن يقول كلمته الرهيبة: «ماتت الآلهة جميعا، الآن نريد أن يحيا الإنسان الأعلى.» و«موت الله» أو سقوط المثالية والإيمان بعدميتها (إذ ينبغي أن نفهم هذه الكلمة المخيفة من هذه الناحية وحدها، بعيدا عن كل صلة بالإيمان أو الإلحاد) لا سبيل إليه إلا إذا سأل زرادشت كل موجود، وتسلل إلى قلب كل حي، ليكتشف هناك إرادة القوة. سوف يعرف أن إرادة القوة هي حقيقة الموجود، وهي سر حياته وحركته وصعوده وهبوطه وازدهاره وموته. إرادة القوة هي كل ما هو موجود، من حيث إنه موجود في الزمان. والوجود في الزمان هو طريقها ومجالها، من حيث هو صراع في سبيل القوة، وكفاح من أجل العلو والتفوق. ولكن إرادة القوة التي تتحرك في الزمان وتصارع في الزمان هي نفسها تحت رحمة الزمان، وأسيرة سلطانه وقوته. والزمان هنا هو المستقبل الذي تتحرك فيه وتسعى إلى تحقيق ممكناتها، وهو كذلك الماضي الذي يثبتها ويحد من قوتها. الإرادة مقيدة إذن بمجرى الزمان، مجبورة على السير معه إلى الأمام، لا تستطيع أبدا أن تريد العودة إلى الوراء. أفكار نيتشه الأربعة الأساسية إذن مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا؛ فوجود الإنسان الأعلى مرتبط بموت الله، وموت الله مرتبط بإرادة القوة، وهذه بمجرى الزمان، والفكر كله يسير من الوجود القائم في هذا العالم إلى وجود العالم ككل، هذا العالم ككل هو موضوع فكرته عن العود الأبدي.
ولكن فكرته سر يتهيب من الكلمة، ولغز يخاف من التعبير. إن نيتشه يتردد في الإفصاح عنه، ويحيطه بجدار من الكتمان بعد جدار؛ ذلك أنه وليد الرؤية والإلهام، بعيدا عن المنطق والعقل. إنه يتخفى في ظل الرهبة والسكون، ويرتعش بحمى الكشف والجنون، ربما لأن صاحبه قد ترك الآن طريق التراث الميتافيزيقي كله، ووجد نفسه لأول مرة حائرا بغير طريق.
لقد رأينا كيف خاطبته ساعته الساكنة، كيف نادته فكرته الوحيدة المدهشة نداءها الهامس المخيف، وكيف لمحت إليه بسر الزمان، كان جسده أضعف من أن يحتمل رعشتها؛ فهو الآن يعود إلى التجول الوحيد، ويصعد جبلا بعد جبل، ويرتفع من قمة إلى قمة. إن عليه أن يصل إلى قمته الأخيرة، أن يدخل دائرته المقدسة، أن يترك كل القمم وراءه ولكي يرى قلب العالم، وينظر إلى هاويته السحيقة: «أما أنت يا زرادشت، فقد أردت أن ترى حقيقة الأشياء جميعا وسببها الخفي، إن عليك أن ترتفع فوق ذاتك نفسها إلى أعلى، إلى أعلى؛ حتى تجد نجومك أيضا قد أصبحت تحتك.»
2
إن القمة العالية التي يصل إليها الآن تفكير زرادشت هي القمة التي يرتفع فيها حتى فوق ارتفاعه فوق نفسه، أي التي يرتفع فيها فوق إرادة القوة، ويتفكر في حقيقتها وسبب وجودها. ولكن ارتفاعه إلى قمته الأخيرة هو في نفس الوقت - وهذه هي المفارقة التي لا يمكن بغيرها أن نفهم تفكير نيتشه - هبوطه إلى أعمق الأعماق.
3
إنه يصل إلى القمة حين يغوص إلى الهاوية، أو هو يرتفع إلى أقصى حدود الارتفاع حتى يصل إلى الموضع الذي تتحد فيه القمة والهاوية: «من أين تأتي أعلى الجبال؟ هكذا سألت ذات يوم، عندما تعلمت أنها تأتي من البحر، هذه الشهادة مكتوبة في حجارتها وعلى جدران قممها، من أعمق الأعماق يجب أن يصل أشد الأشياء ارتفاعا إلى ارتفاعه.» إن زرادشت لن يصل إلى أعلى قمم الإنسان الأعلى حتى يهبط إلى أبعد أعماق بحر الزمن، التحول الأخير الذي ينتظره مرهون بالتفكير في حقيقة العالم ككل، في علته وسببه الأخير، إن أشد الناس وحدة يفكر الآن في أشد الأشياء شمولا، إنه وحده يستطيع الآن أن يخرج إلى العالم الرحب، والذي تجرد من كل شيء يستطيع الآن أن يرى سر كل شيء، وها هو يروي رؤياه إلى الملاحين، رؤيا الوحيد، إنه يختار هؤلاء المغامرين الباحثين الفرحين بالألغاز، والجسورين الذين يقطعون الأسفار البعيدة ولا يحبون أن يعيشوا بغير خطر؛ لكي يبوح لهم بفكرته عن عودة الشبيه الأبدية. إنه يحكي لهم تجربته الحافلة بالأحاجي والرموز: «عطشان مضيت منذ عهد قريب خلال غبش الضباب الملون بلون الجثث؛ عطشان صلب العود، بشفتين مضمومتين، لم تكن شمس واحدة قد أفلت في عيني.» لقد صعد ذات مرة على الجبل، وعلى كتفيه جلس «روح الثقل» نصف قزم ونصف حيوان يدب في الطين، وظل يصعد متحديا هذا الروح الذي يشده إلى أسفل، ويصب في أذنيه الرصاص، ويقطر في ذهنه أفكارا من رصاص. إن طريقه هو الطريق الصاعد إلى أعلى درجات الإنسانية، المرتفع إلى الإنسان الأعلى، على الرغم من روح الثقل، عدوه اللدود، وهو طريق المبدع الذي يعلو فوق نفسه، طريق الإرادة الخلاقة التي ترتفع فوق ذاتها على الدوام. ولكن هل كان في وسعه أن يستمر في الصعود؟ هل يستطيع الإنسان الخلاق أن يتجاوز ذاته إلى غير حد؟ أم لا بد له أن يصل إلى نهاية يقف عندها؟ إن روح الثقل الذي يرزح فوق كتفيه يهمس في أذنيه بفكرته الثقيلة الخانقة، ويحاول أن يغل إرادته المنطلقة إلى المستقبل: «زرادشت، يا حجر الحكمة، أنت أيها الحجر المندفع، يا محطم النجوم! قذفت بنفسك إلى أعلى ارتفاع، ولكن كل حجر يقذف به لا بد أن يسقط!»
طموح الإنسان لا بد أن يهبط في نهاية المطاف، والصعود اللامتناهي مستحيل؛ لأن الزمن المتناهي يضع له حدا، إنه يستنفد كل طاقة، ويقوى على كل إرادة قوية، ويقوض كل أمل شامخ، روح الثقل تجذب كل كرة يقذفها الطموح إلى الأرض، والنظر إلى هاوية الزمان أو إلى عبث كل مشروع يقدم عليه الإنسان تشل الجسد وتصيب الفكر بالدمار، كل معنى يصبح الآن بالقياس إلى الزمن اللامحدود عديم المعنى، وكل مغامرة عبثا، وكل عظمة حصاد ريح. إن روح الثقل أو المعرفة بلاتناهي الزمن، يمنع انطلاق «الإنسان» إلى «الإنسان الأعلى»، ويحول بينه وبين التفوق على ذاته، ويسحق طموحه تحت عجلات الزمن، الزمن اللامحدود يبتلع كل قوة محدودة، ويجذب إلى قاعه السحيق كل سفينة تحاول أن تكتشف سره، وكيف يستطيع أن يعرف الزمن من هو نفسه زمني؟ ألا تفترض المعرفة نوعا من «الخروج» عن الموضوع الذي نريد أن نعرفه، أو نوعا من الاستقلال عنه؟ ولكن كيف نستطيع أن نخرج من الزمن ونحن سائرون في تياره؟
ولكن زرادشت لا ييئس، إنه يستنجد بشجاعته لكي يتغلب على هذا الروح الثقيل، هذا القزم، هذه المعرفة القاتلة بجبروت الزمن ولا نهائيته، إنه يستنجد بالشجاعة التي تعينه على احتمال فكرته العميقة عمق الهاوية، فكرته عن العود الأبدي. ولا بد أن تكون هذه الشجاعة شيئا لم يسمع به أحد، شجاعة «تميت الموت»، تهاجم لأن في كل هجوم «لعبا رنانا»، ولأن الإنسان هو أشجع الحيوانات، وبهذه الشجاعة تفوق على كل حيوان، كما تفوق على كل ألم؛ لأن ألمه هو أعمق الآلام، إنه يواجه القزم بأشجع أفكار الإنسان، بفكرته التي تجعله يقول للحياة: «هل كانت هذه هي الحياة؟ حسنا، فلتكن مرة ثانية، أيها القزم! أنا أو أنت! إنك لا تعرف فكرتي العميقة عمق الهاوية، إنك لن تستطيع احتمالها.» ويقفز القزم من فوق كتفيه، ويتحرر زرادشت من روح الثقل التي كانت تقيده، ويبدأ الحديث بينهما عن الزمان.
كان زرادشت والقزم يقفان تحت بوابة على طريق، انظر إلى هذه البوابة، أيها القزم! إنها ذات وجهين، هناك طريقان يجتمعان هنا، لم يحدث لمخلوق أن وصل إلى نهايتهما، هذه الحارة الطويلة إلى الوراء، تمتد امتداد الأبدية، وتلك الحارة الطويلة إلى الأمام، إنها أبدية أخرى. الطريقان يتقاطعان ويصطدمان تحت هذه البوابة يتلاقيان، واسم البوابة مكتوب عليها: إنها «اللحظة».
لنتذكر الآن ما قلناه من أن إرادة القوة وصلت إلى حدها النهائي حين عرفت أن الزمان هو طريقها ومصيرها، ففي استطاعة الإنسان أن يريد المستقبل، أما الماضي الثابت الذي لا سبيل إلى تغييره فينفلت من قبضة إرادته. إن أقصى ما يستطيعه هو أن «يعترف» به ويسلم بحتميته، وربما استطاع أيضا أن يعقد الصلح بين الحرية والضرورة عن طريق الخضوع بحريته لهذه الضرورة، (وقد عبر شيللر عن هذه الفكرة فسماها الصلح بين القدر والحرية) وانتزاع شوكة الجبر من مخلب القدر.
ولكن زرادشت يفهم الزمن فهما آخر؛ إنه يوجه حديثه ضد القزم، ويهاجم هذه الحتمية الزمنية بالذات، فاللحظة هي النقطة التي يتلاقى فيها دربان طويلان، يسير أحدهما إلى الأمام ويسير الآخر إلى الوراء. إن رأسيهما يصطدمان عند هذه اللحظة، فيتقاطعان ويتناقضان، ومع أن الماضي هو ما كان وانتهى أمره، والمستقبل هو ما لم يكن بعد وما زال مفتوح النوافذ على شتى الممكنات، فإنهما مع ذلك يصطدمان ببعضهما في اللحظة أو «الآن»، ومن هذه اللحظة العابرة الفانية يمتد الدربان كل إلى غايته، فأما أحدهما فيعود إلى الماضي الأزلي، وأما الآخر فيمضي إلى المستقبل الأبدي.
زرادشت إذن يبدأ من الزمن كما يدور في داخل العالم، إنه عنده سلسلة من اللحظات أو «الآنات»، وهو يقف عند إحدى هذه الآنات ليرى سلسلة لا متناهية من الآنات الماضية تمتد وراءه، وسلسلة أخرى من الآنات المستقبلة تمتد أمامه. ولكن السؤال الآن إن كانت هذه الآنات تمتد حقا إلى غير نهاية، وان كان دربا الزمن يفترقان إلى غير التقاء، والماضي البعيد يترك وراءه ماضيا آخر أبعد منه، وكذلك المستقبل إلى أبد الآبدين. هل يستطيع الإنسان حقا أن يتصور هذه اللانهائية الزمنية؟ ألا يتوه الفكر الإنساني وهو يحاول أن يتخيل الماضي السحيق ويلاحق المستقبل البعيد؟ ألا يقف الموت لمغامرته البائسة بالمرصاد؟
ويسأل زرادشت القزم: «ولكن من يمضي على أحد هذين الدربين، ويظل يمضي ويمضي على الدوام؟ ألا تعتقد أيها القزم أن هذين الدربين يفترقان إلى الأبد؟» إنه يريد أن يعرف منه إن كان التفكير في الزمان كما نألفه في داخل العالم، وكما نفرق فيه بين الدربين اللذين يسير كل منهما في اتجاه معارض للآخر، هو الحقيقة الأخيرة عن الزمن، وهو يريد أن يفهم منه معنى «الأبد» حين نقول: إن الدربين يسيران في طريقي المستقبل والماضي الأبديين، هل هو الأبد حقا؟ أم هو اللاتناهي «السيئ» الذي نسميه عادة بالتكرار؟
ويرد عليه القزم قائلا: كل ما هو مستقيم فهو كاذب، هكذا تمتم القزم في احتقار، الحقيقة كلها ملتوية، والزمن نفسه دائرة. «إن القزم قد وفر على نفسه عناء الإجابة، حقا، إن إجابته صحيحة من وجهة نظر نيتشه، ولكنها سهلة يسيرة. فالزمن عنده دائرة؛ الماضي والمستقبل يتعانقان هناك واللانهاية غير المنظورة، كما تفعل الحية التي تعض ذيلها. والزمن إذن حلقة من اللحظات، أو دورة من الآنات؛ فهل هذا هو معنى العود الأبدي؟ أم أن القزم قد أفسد الفكرة التي تحير زرادشت دون أن تستطيع التعبير عن نفسها؟ «يا روح الثقل! هكذا قلت له في غضب، لا تأخذ الأمر بهذه السهولة!» وهل كان في مقدور القزم أن يجد تصورا آخر يعبر به عن دورة الزمن داخل العالم الذي نعيش فيه غير التصورات المألوفة كالدائرة أو الحلقة؟ أليس له عذره في ذلك طالما أنه لم يفكر في الزمن الكلي، بل اقتصر على ما سميناه بالزمن داخل العالم؟»
ما معنى أبدية الزمان، أزلية الزمن الماضي وأبدية الزمن المستقبل؟
إن زرادشت يستخلص النتيجة التي تترتب على هذه الأبدية المزدوجة في الزمان، إنه يقول للقزم: «انظر إلى هذه اللحظة، من بوابة هذه اللحظة يسير درب أبدي طويل إلى الوراء، خلفنا تمتد أبدية. أليس حتما أن تكون هذه البوابة قد وجدت من قبل؟ وأليست الأشياء جميعا مرتبطة ببعضها على هذا النحو ارتباطا وثيقا، بحيث إن هذه اللحظة تجر وراءها كل الأشياء المقبلة كما تجر نفسها بالتالي؟»
وبعبارة أخرى: فإن الماضي اللامتناهي لا يمكن تصوره كما لو كان سلسلة لا متناهية من الأحداث المتجددة على الدوام، وإذا كان هناك ماض غير متناه، فلا بد أن كل ما يمكن أن يحدث قد حدث بالفعل من قبل. الماضي أبدي لا يمكن أن ينقص منه شيء أو يخرج عنه شيء، بل كل ما يحدث لا بد أن يكون قد حدث فيه من قبل؛ فأبدية الماضي تتطلب أن يكون كل ما يحدث قد حدث بالفعل، وأن يكون الزمن كله قد مر من قبل، كما تتطلب أبدية المستقبل أن يحدث في المستقبل كل ما يمكن أن يتم في داخل العالم من أحداث زمنية. ونحن حين نتصور الماضي والمستقبل كأبديتين لا متناهيتين لا بد أن نتصور أنهما هما الزمان كله بكل ما يشتمل عليه من مضمونات زمنية، ولكن هل نتصور الزمن الكلي مرتين؟ أليس في هذا تناقض؟ ولكن هذا التصور هو الذي سيؤدي بزرادشت إلى فكرته عن عودة الشبيه الأبدية، فكل الأشياء وكل ما يدخل في الزمن أو يسير فيه لا بد أن يكون قد سار فيه من قبل ولا بد أن يسير فيه من المستقبل، فعودة الشبيه تقوم على أبدية دورة الزمان، لا بد أن يكون كل شيء قد وجد من قبل، ولا بد لكل شيء أن يعود في المستقبل من جديد: «وهذا العنكبوت البسيط الذي يزحف في ضوء القمر، وضوء القمر نفسه، وأنا وأنت ونحن نتهامس تحت هذه البوابة عن الأشياء الأبدية، أليس حتما أن نكون قد وجدنا من قبل؟ أليس حتما أن نعود مرة أخرى ونسير على ذلك الدرب الآخر، بعيدا، منطلقين إلى الأمام على هذا الدرب الطويل المفزع؟ أليس حتما أن نعود عودا أبديا من جديد؟»
ولا يكاد زرادشت ينتهي من تساؤله حتى يسمع نباح كلب هائج مجنون، يرتعش وينتفض ويتحدى ويستغيث، ويسحقه رعب وحشي مميت، وكأنه يحاول أن يعض يد الموت التي تريد أن تقبض على رقبته: «حقا، إن ما رأيته لم تبصر عيناي مثله من قبل، رأيت راعيا شابا يتلوى ويختنق وينتفض مقشعر الوجه، وقد برزت من فمه حية سوداء ثقيلة. هل حدث لي أن رأيت كل هذا القرف والفزع الشاحب على وجه الإنسان؟ أتراه قد استسلم للنوم فتسللت الحية إلى فمه، وراحت تعضه وتعضه؟ راحت يدي تشد الحياة وتشدها بلا جدوى! فلم تستطع أن تنتزع الحية من فم الراعي، فانطلقت مني صيحة: عض ! عض! افصل الرأس! عض! كل فزعي، حقدي، قرفي، إشفاقي، كل ما في من خير وشر صاح معي صيحة واحدة.»
فكرة العود الأبدي زحفت كما تزحف الحية إلى جوف الإنسان، إنها فكرة خانقة تلك التي تهمس له بأن كل شيء سيعود، وإذا كان كل شيء سيعود، فكل طموح الإنسان عقيم، والطريق الوعر الذي يؤدي إلى الإنسان الأعلى حمق وغباء، إذ لا بد أن يعود الإنسان التافه الصغير من جديد. وإذا كان الزمن سيعيد كل شيء كما كان فكل مغامرة الإنسان عبث، وكل أتعابه هباء. إن فكرة العود الأبدي تبدو الآن وكأنها تناقض إرادة القوة وتفوق الحياة على نفسها أكثر مما فعلت مع روح الثقل التي تمثلت في القزم. ولكن هذا هو ما يبدو في الظاهر فحسب؛ فزرادشت يصيح بالراعي أن يعض الحية ويفصل رأسها عن الجسد، ويفعل الراعي كما أمره النبي المعذب الوحيد، وإذا بالراعي يتحول شيئا آخر: «لم يعد راعيا، لم يعد بشرا، بل متحولا متجليا يضحك، أبدا لم يضحك من قبل إنسان على هذه الأرض كما ضحك!»
إن احتمال فكرة العود الأبدي قد أتى معه بالتحول العام في وجود الإنسان، لقد أحال الجد مرحا، والثقل خفة، والعبوس البشري رقصا إليها.
غير أن فكرة العود الأبدي ذات وجهين، إنا نستطيع أن ننظر إليها من ناحية الماضي كما ننظر إليها من ناحية المستقبل، فإذا كان كل ما يحدث مجرد تكرار لما حدث من قبل، فلا بد أن يكون المستقبل بدوره ثابتا، وأن يكون عودا لما حدث في الماضي، ولا بد أن تصدق العبارة التي تقول: إنه لا جديد تحت الشمس، ولا بد أن يكون كل فعل يقوم به الإنسان وكل مغامرة يخاطر بها عبثا وباطلا، طالما أن كل شيء قد حدد وحسم أمره من قبل، ولكننا نستطيع أيضا أن ننظر إلى المسألة من ناحية أخرى، فنقول على العكس مما قلناه: إن فرصة الفعل ما زالت باقية أمامنا، وإن في وسعنا أن نحسم أمرنا دائما من جديد مثلما نحسمه في هذه اللحظة ؛ فكل لحظة نعيشها لها دلالة تتجاوز حياتنا الفردية، وكل لحظة لا تحدد المستقبل المعروف فحسب، بل تحدد كذلك كل مستقبل يتكرر فيما بعد، فاللحظة هي مركز الثقل الذي يقع على كاهله عبء الأبدية، والقرار اللحظي الذي نتخذه على هذه الأرض هو الذي يفصل في أمر جميع الأحداث المتكررة للوجود الأرضي، مثلما تفصل حياتنا الدنيوية في رأي الأديان السماوية في مصير النفس في الآخرة. إن نيتشه يتشبث بهذا الإلهام المفاجئ وكأنه هديته الأخيرة إلى الفانين، فاللحظة هي التي تحسم أمر الأبد، أو قل: هي الأبد نفسه، وفكرة العود الأبدي تصبح هي الدعامة الأساسية للوجود الإنساني، كما هي حقيقته وعمقه ومركز الثقل فيه.
غير أننا لو نظرنا إلى الناحيتين اللتين تحدثنا عنهما نظرة مدققة؛ لوجدنا أنهما معا موضع سؤال؛ ففكرة العود الأبدي ترفع التضاد الموجود بين الماضي والمستقبل، أو بالأحرى تضفي على الماضي طابع الثبات الذي يتميز به الماضي، إنهما يتداخلان في بعضهما على نحو نادر عجيب، فالزمن يصبح شيئا ثابتا ومتحركا في وقت واحد، شيئا يتقرر بالفعل ويقبل اتخاذ قرار في شأنه. والإرادة لا تستطيع أن تتجه إلى المستقبل فحسب، بل هي في نفس الوقت تعود بإرادتها إلى الماضي، والزمن يفقد اتجاهه المستقيم المألوف، ويصبح ما للمستقبل للماضي، وما للماضي للمستقبل. كل هذا لا بد أن يحيرنا ويدهشنا ويخيفنا؛ فنحن لا ندري إن كان نيتشه يعبر عن فكرة خيالية مجنونة تبدد كل أفكارنا التي تعودنا أن نفهم بها الزمن، أو إن كان يكشف لنا عن معرفة أعمق بالزمن، تحيط به في أفقه الكوني الشامل، لا ندري إن كان يلاحظ الزمن كما يراه في حركة الموجودات «داخل» العالم، أو إن كان يتجاوز مجال العالم كله حيث لا يستطيع أن يلحق به فكر ولا منطق؛ فالقسم الثالث من كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» مضطرب البناء، يشبه جزيرة العجائب التي تزدحم أدغالها بالألغاز والأحاجي والرموز، إنه لا يكاد يبشر بفكرة العود الأبدي في الفصل الذي أشرنا إليه «عن الوجه واللغز» حتى يقطع بشارته، ولكنه يعود في الفصول التالية فيؤكد البشارة من جديد، ويعلن مقدم «الظهر العظيم»، الذي يتم فيه العود الأبدي، وينتصف الزمن ويكشف القناع عن سره الشامل الرهيب: «انظر، إنه يتقدم، إنه يقترب، الظهر العظيم.» ثم يأتي فصل بعنوان «قبل طلوع الشمس» قد نخطئ فنرى فيه إلهامات نفس شاعرية تسحرها روعة الفجر ويذهلها سر النور؛ ذلك أن الصور الشاعرية عن نيتشه هي دائما رموز تدل على فكره، وما يراه زرادشت وهو ينتظر مطلع الشمس هو «هاوية النور»، هو الأفق الكوني الواسع المتوهج، هو السماء التي تظل الأشياء كلها من تحته، وتضيئها، وتجمع وحدتها: «أن ألقي بنفسي في عليائك، هذا هو عمقي: أن أخفي نفسي في نقائك، هذه هي براءتي!»
فالمفكر هو الذي يواجه السماء ويفتح عينيه وصدره لنورها الساطع الشامل، ومدى العمق في تفكيره يتوقف على قدرته على أن يفتح كيانه للنور الذي يسطع فوق الأشياء جميعا، وبراءة الوجود هي نور العالم الذي يغمر كل الموجودات، والتفكير في العالم بكليته يبدد «الخطيئة» و«الذنب» كما يمحو «الخير» و«الشر» وغيرها من كلمات البشر التي تغطي كالسحب وجه السماء، وبالتفكير في العالم بكليته - العالم الذي سير الزمان وأوجد المكان - ينقشع غضب الآلهة، وتتبخر سطوة القدر، وينهار بناء العالم الآخر، وينهدم كل تفسير ميتافيزيقي أو أخلاقي للوجود، الإنسان يتحرر ويصفو ويستعيد براءة الأطفال: «فوق كل الأشياء تقف السماء المصادفة، السماء البراءة، السماء الاحتمال، السماء الكبرياء»؛ ذلك أن جميع الأشياء «قد عمدت في نبع الأبدية ووراء الخير والشر، والخير والشر أنفسهما ليسا إلا ظلالا وأحزانا رطبة وغيوما.» لكن الأشياء لم تعمد في نبع الأبدية؛ لأن لها وجودا آخر غير وجودها الأرضي، أو لأن لها حقيقة في ذاتها تتجاوز عمرها الفاني، بل لأن الأبدية والزمانية ليسا شيئين مختلفين، بل هما في الحقيقة شيء واحد، فالزمن باعتباره العود الأبدي، هو في الحقيقة الأبد نفسه، ورؤية الموجود في نور العالم رؤية زرادشت البريئة النقية معناها أن نخلص هذا الموجود من كل ما ألقته الأجيال الطويلة على صدره من قدر وأخلاق وعالم آخر، ونريحه من كل التفسيرات الغيبية والعقلية ونتركه يسير في الزمن وكأنه طفل خفيف يرقص ويلعب: «أيتها السماء من فوقي، أيتها السماء النقية العالية! هذا هو نقاؤك الآن عندي، أن ليس هناك عنكبوت أبدي للعقل ولا هناك شباك عنكبوت: إنك عندي أرض ترقص عليها المصادفات الإلهية، وإنك عندي مائدة آلهة لزهر إلهي وللاعبي الزهر!» فلعب الوجود قد أصبح الآن لعبا إلهيا، والمفكر الذي يفتح صدره وبصره لنور السماء ويعانق العالم يقف وراء الخير والشر، ويقترب من حقيقة العالم كله، إنه يستطيع الآن أن يسأل السماء قائلا: «ألست أنت نورا لناري؟ أليست عندك النفس الشقيقة لرؤيتي وإلهامي؟» إن زرادشت قد تفتح كيانه كله للعالم، وهذا التفتح الشامل هو الذي يتوقف عليه فهمه الأصيل للعود الأبدي، لقد رفعت الغشاوة عن بصيرته، وتحرر من قيود الموجودات، واستحم بالنور الذي يغمر جميع الأشياء، وتخلص من روح الثقل التي ترهقها معاني الأخلاق والدين وما وراء الطبيعة والمحسوس، وتوصل إلى سر الزمن حين وقف تحت بوابة اللحظات الأبدية الفانية، بعيدا عن دربي الماضي الثابت المستقر والمستقبل الغامض الذي لم يولد بعد. •••
عودة الشبيه الأبدية هي مدار فلسفة نيتشه وأعمق أفكاره جميعا، إنها تفتقر إلى البناء التصوري المحكم والمعالجة المنطقية المحددة، وتوشك أن تكون نبوءة معتمة أو سرا مطلسما يحاول الشاعر الفيلسوف أن يكشف عنه. إنه يتكلم على لسان زرادشت، وزرادشت هو معلم العود الأبدي، كما هو معلم الإنسان الأعلى وإرادة القوة، ولكنه الآن لا يعلم بقدر ما يشير ويلمح، فرؤياه عن هاوية الزمان تعبر عن نفسها بالرمز واللغز، لكنه لا يلجأ إلى ذلك حبا في التعمية، ولا ولعا بالأقنعة، بل لأن فكرته عن العود الأبدي ترتفع به إلى القمة الوحيدة التي لا يصل إليها سلم اللغة، وتبتعد به وراء حدود الكلمة والعقل والمنهج، وعجزه عن التعبير عن هذه الفكرة تعبيرا تصوريا ليس مجرد عجز فردي كامن فيه، بل هو دليل على عجز التراث الفلسفي الذي يجف على أرضه، إنه يحارب الميتافيزيقا التقليدية ويريد أن يقلبها رأسا على عقب، ولكنه يظل مع ذلك مقيدا بها، مرتبطا بوسائلها وأدواتها، وإذا كان يصارع الأفلاطونية والمسيحية وأخلاق العبيد كما يصارع التفسير التقليدي للوجود، فهو لا يزال يتحرك في أفق هذه الميتافيزيقا التقليدية، ويستخدم مقولاتها وتصوراتها، ويحاربها بنفس أسلحتها، وهو حين يفكر في العود الأبدي يصبح العالم ككل هو مشكلته الرئيسية، إنه ينظر إليه الآن نظرة زمنية؛ فكلية العالم تصبح هي كلية الزمان أو أبديته. بهذا يدخل نيتشه أرضا لم يطرقها أحد قبله، ويحاول التعبير عن شيء لا اسم له، إنه يتلفت حوله فلا يجد التصور الذي يسعفه، ويقف على حافة الهاوية التي لا ينجيه منها تراث أو تقليد، ويحس برعشة الرائد حين تطرق قدماه أرضا مجهولة: «آه يا إخوتي، إن من يكون رائدا، يكون هو الضحية دائما.» هو رائد الفكر الذي يتجاوز الأشياء كلها ويحاول أن يدرك العالم بكليته، ولكن الصعود فوق جميع الأشياء التي تدخل في العالم لفهم العالم نفسه، والعلو على الموجودات كلها لإدراك الوجود بذاته؛ يوقعه مع ذلك في شباك هذا العالم الذي أراد أن يطير فوقه؛ ذلك أننا في كل مرة نحاول فيها أن نتصور العالم على أنه ذلك الذي يحيط بالأشياء جميعا ويتجاوزها لا بد أن يظل تصورنا له محددا بالأشياء؛ فنحن لا نستطيع أن نخرج من العالم إلا إلى العالم، ولا أن نعلو فوقه إلا لنعود فنغوص في أعماقه، فتفكيرنا في العالم ككل لا بد أن يبدأ مما في داخل هذا العالم، كما أن تصورنا للزمان مقيد بما يجري في داخل الزمان.
عودة الشبيه الأبدية هي إذن مذهب نيتشه في العالم ككل، أو رأيه في كلية الوجود، وحديثه عن الأبدية التي تتجاوز كل ما يجري في الزمان من أحداث وكل ما يشتمل عليه من معطيات تجاوزا لا نهاية له، هو في حقيقته حديث عن العالم، تردد كلماته معاني الاتساع والرحابة والشمول، والحديث يصل إلى ذروته في فصل بعنوان: «عن الشوق العظيم»، فماذا يقصده نيتشه بهذا الشوق؟
الشوق لا يعرفه إلا من يكابده كما يقول الشاعر القديم، إنه حنين القلب إلى ما لا تراه العين ولا تلمسه اليد، فنحن لا نشتاق إلى ما تستطيع أعيننا أن تراه، أو أيدينا أن تلمسه، ربما استطعنا أن نشتهيه ونميل إليه، ولكن الشهوة والميل شيء. والشوق شيء آخر، الشوق يتعلق بما هو بعيد، فنحن نشتاق إلى الحبيب الغائب، أو إلى أيام الطفولة وملاعبها، أو إلى الحياة الهادئة المطمئنة، وقد نشتاق أيضا إلى الموت المريح. والشوق يخرج بنا عن حدود الموقف الراهن ومطالبه وأهدافه، فنحن نبتعد به عن كل ما هو قريب، ونحن بالعين والقلب إلى شيء ناء في الزمان والمكان، وحالنا أشبه «بأفيجينيا» على جزيرة تاوريس وهي تفتش بعينها ووجدانها وراء البحر عن بلاد الإغريق. كلنا يعرف هذا الشوق، وكلنا يعرف أيضا ذلك الشوق إلى المجهول، الذي يزيد عن أن يكون رغبة في الوصول إلى ما نشتاق إليه، بل ربما كان ينطوي على ميل غامض لأن يظل بعيدا عنا، وهذا البعد الذي يشتاق إليه نيتشه هو الذي يضع الإنسان في الزمان والمكان غير المحدودين، ويفتح نافذة كيانه للعالم، هذا التفتح للعالم الشامل البعيد ابتغاء التقرب من الموجود القريب، هو الذي يتخذ صورة العود الأبدي، إن زرادشت يتحدث إلى نفسه فيقول: آه يا نفسي، لقد علمتك أن تقولي «اليوم» كما علمتك أن تقولي «قديما»، و«في عهد مضى»، وأن ترقص فوق كل ما هو «هنا» و«هناك». لقد علم نفسه العود الأبدي، أعني علمها ألا تأخذ الفروق الثابتة في الزمان والمكان مأخذ الجد، وألا تستسلم لروح الثقل الذي أوجد كل هذه الفروق، وأن تنظر إلى «اليوم» و«الغد» و«الأمس»، وإلى «الهنا» و«الهناك» بالنظرة التي تساوي بينها وتتجاوزها جميعا، ولكن كيف يتأتى لليوم أن يكون كالغد وكالأمس، و«للهنا» أن يكون كالهناك؟ إنها جميعا تتساوى في فكرة العود الأبدي، فإذا كان جوهر الزمان هو التكرار الأبدي، انهارت الفروق القائمة بين الماضي والمستقبل، عندئذ يكون المستقبل هو ما كان دائما والعكس صحيح، وتكون النفس حاضرة في الزمن كله ، حين لا تكترث بالفروق الموضوعية بين الأحداث، إنها عندئذ تكون حاضرة في «الكل» حيث تتلاشى الفروق الموجودة بين الأبعاد الزمنية والمكانية: «آه يا نفسي، لقد خلصتك من كل الأوكار الضيقة، نفضت عنك التراب والعنكبوت والظلال.» والنفس المشتاقة هذا الشوق العظيم تعانق العالم بكليته، وتغمر ذاتها في النور الشامل، وتقف تحت سماء «البراءة والاحتمال».
الإنسان يعلو الآن العلو الحق الذي يربطه «بالعالم»، ويقف مثل زرادشت عاريا أمام الشمس، وقد ترك وراءه كل الظلال القديمة التي فسرت الحياة بالخطيئة والذنب، وصورت له عالما آخر وراء هذا العالم، وأخلاقا أخرى غير أخلاق القوة والشجاعة والخطر، إن روحه الحقة تطارد السحب جميعا في سمائها، وتتحرر من ظلال التراث المسيحي- الأفلاطوني، وتخرج إلى آفاق العالم الرحب، بعد أن وضعت يدها على العود الأبدي، واكتشفت سر الزمان والمكان، «آه يا نفسي، لقد أعطيتك الحق في أن تقولي لا، كما تقول العاصفة لا، وأن تقولي نعم، كما تقول السماء الرحبة نعم، وها أنت ذي تقفين ساكنة كالنور وتخوضين الآن العواصف النافية.»
ويمضي زرادشت في حديثه إلى نفسه، فيبين لها أن فكرة العود الأبدي لا تلغي الحرية، بل تحررها من القيد الذي رسفت فيه حتى الآن، ألا وهو الاعتقاد بثبات الماضي وحتميته، ولكن عندما يكون الماضي كله هو في نفس الوقت المستقبل كله، فإن النفس تكون لها الحرية التي تسود بها على «ما خلق وما لم يخلق»، ويتفتح الطريق أمام اسم الإنسان الخالق المبدع كما لم يتفتح أمامه من قبل، وتتوثق الصلة بينه وبين العالم الخالق المبدع، الذي يوجد كل ما هو موجود، في عود أبدي لا ينتهي. ثم يحدثها عن الاحتقار، الذي لا يفترس النفس افتراس الدود؛ لأنه احتقار محب عظيم «يحب إلى أقصى حدود الحب، عندما يحتقر إلى أقصى حدود الاحتقار.»
كل من يعرف حقيقة العود الأبدي، يعرف أيضا كيف يتخلص من الأغلال التي تقيده بالموجودات وتجعله عبدا لها، وكيف يرتفع بنفسه فوق كل ما يدخل في نطاق العالم من أشياء وموجودات، غير أنه لا يرتفع فوقها إلا ليعود إليها عودة أصيلة، ولا يتجاوزها إلى العالم الرحب الشامل إلا لكي يجدها من جديد، إن زرادشت يحتقر الإنسان الحالي ويعده شيئا وسطا بين العدم واللامتناهي، أو حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان الأعلى، هذا الإنسان الأعلى هو الذي يصل إلى أقصى إمكانات الإنسانية، فقد عرف سر العود الأبدي الذي لم يعرفه أحد قبله، واستطاع أن ينطلق إلى اللامتناهي، ويخرج بنفسه إلى آفاق العالم الواسع. إنه يقف الآن عاريا أمام وجه الشمس، لا تتبعه ظلال «أخلاق العبيد» الموروثة، ولا يوقر ظهره عبء عالم آخر، وإذا كان زرادشت يشتاق إلى شيء فشوقه العظيم كله يتجه إلى هذا الإنسان الأعلى: آه يا نفسي، لقد خلصتك من كل خضوع وركوع، وقول «يا سيدي»، لقد سميتك، تحول «الضرورة» و«القدر». الإنسان الأعلى قد جعل العالم كله مسكنه، وحرر نفسه من العبودية على اختلاف أشكالها، واختفى بالنسبة إليه الفرق بين الإرادة والضرورة؛ ذلك لأن ما تريده الإرادة عن حرية لا بد أن يأتي في دورة العود الأبدي، وإذا كان زرادشت يسمي النفس قدرا فما ذلك إلا لأن الإرادة العظيمة الأخيرة هي التي تريد الضرورة، لا التي تنحني لها أو تركع أمام صنمها الجامد القاسي. لقد عرفت العود الأبدي فراحت تشارك في اللعبة الكبرى، وتقوم بدورها على مسرح العالم، هكذا تغلبت على التفرقة التقليدية بين الحرية والضرورة، ومثلما اكتسب الماضي ملامح المستقبل، واكتسى المستقبل بملامح الماضي، كذلك تكمن الضرورة الآن في الحرية كما تكمن الحرية في الضرورة: آه يا نفسي، لقد أعطيتك أسماء جديدة وألعابا بهيجة الألوان، سميتك «القدر» و«الوعاء الشامل لكل ما هو شامل» و«حبل سرة الزمان» و«الجرس السماوي»، لقد تحول فهم الإنسان للوجود بفضل فكرة العود الأبدي، إنه يفهم الآن كل شيء في ضوء العالم الشامل المحيط، بل لقد علا وارتفع حتى أصبحت نفسه هي الوعاء الذي يشمل كل ما هو شامل ومحيط، وارتبطت بالوجود والزمان كما يرتبط الطفل بأمه، وصارت كالسماء التي تسدل قبتها الزرقاء على جميع الأشياء: «آه يا نفسي، كل شمس صببتها فوقك وكل ليل وكل صمت وكل شوق، هنالك نموت أمامي كما تنمو عناقيد الكروم.» إن نفس الإنسان تقف الآن بين الأرض والسماء، بين القريب منها والبعيد، وكأنها كرمة شبت في جوف الأرض لتعانق النور، إنها مثقلة بشوقها إلى لقاء العالم وجها لوجه، «آه يا نفسي، لا توجد الآن نفس أكثر منك حبا ولا أوسع شمولا! وأين يمكن للمستقبل والماضي أن يلتقيا إن لم يلتقيا عندك؟» لقد ارتفعت فوق العالم، فازدادت محبتها لكل ما في داخل هذا العالم. نودي الإنسان أن يخرج إلى الكل، ولكنه بقي وسط الأشياء، عرف اللامتناهي، فتضاعفت صلته بالمتناهي، وأحس الفرحة باللامحدود ففاض عذابه بمحدوديته، وحزنه على فناء العالم وفنائه، الارتفاع إلى القمة قذف به إلى القاع، والعلو فوق المصير زاده شعورا بتعاسة المصير. إن نفس زرادشت لا بد أن ترقص وتغني؛ حتى لا تهوي في عذاب شوقها العظيم: «أن تغني غناء مشبوبا حتى تسكن جميع البحار، وتصغي إلى شوقك حتى يسبح القارب فوق البحار الساكنة المشتاقة حتى تسبح المعجزة الذهبية، التي تخطر حول ذهبها كل الأشياء الطيبة الشريرة العجيبة، وكذلك الكثير من الحيوانات الكبيرة والصغيرة، وكل ذي أقدام عجيبة، حتى يستطيع السير على دروب البنفسج؛ إلى المعجزة الذهبية إلى القارب الحر، وإلى سيده زارع الكروم الذي ينتظر وسكينه في يده ...» هذا الشوق الإنساني العظيم - الذي يعرف أن جوهر العالم هو العود الأبدي - لا بد أن يتحقق، والباحث عن نفسه لا بد في النهاية أن يجد نفسه.
فكرة العود الأبدي تفهم الزمن على أنه تكرار أبدي، أما ما هو هذا التكرار الأبدي؟ فإن زرادشت لا يريد أن يقوله، بل يريد أن يتغنى به، فالنفس التي انطلقت تسبح فوق البحار الساكنة المشتاقة تقابل القارب الذهبي الذي يسبح فوق مياه الصيرورة، هذا القارب هو آخر ما يمكن أن تصل إليه النفس، هو قلب الوجود ومركزه. الأشياء كلها تسبح حوله كما تسبح الحيتان حول السفين، «إن قلب الأرض من ذهب.» كما قال زرادشت في موضع آخر، وقلب الوجود هو المعجزة الذهبية أو القارب الذهبي الذي يتحدث عنه زرادشت، وملاح هذا القارب هو ديونيزيوس، إله النشوة والحب والموت واللعب، وهو كذلك إله المأساة والملهاة، وإله اللعب الجاد واللعب المرح الذي يقوم به العالم، ولكنه ليس إلها يظهر في داخل العالم، بل هو الإله الذي يشكل كل شيء دون أن يكون له شكل، هو لعب الوجود نفسه، وهو كذلك سيد الكرم وزارعه. هو ديونيزيوس وباخوس في آن واحد، هو الذي يشبع شوق الكرم إلى السكين التي تخلصه من عناقيده، وهو خطوة الزمن الذي يسترد كل ما أعطاه، الزمن الذي يهدي ويسلب ويبني ويخرب، ديونيزيوس هو المانح العظيم والسالب العظيم على مدى العود الأبدي. «آه يا نفسي! مخلصك العظيم الذي لا اسم له الذي ستبحث له الأغنيات المقبلة عن اسم يليق به! ها أنت ذي تتوهجين وتحلمين، وها أنت ذي تعبين في عطش من كل ينابيع العزاء ذات الأصداء العميقة، وها هي كآبتك تستريح على نغمة الأغنيات المقبلة!»
ديونيزيوس هو الجواب على الشوق العظيم الذي يعذب صدر الإنسان، هو الذي يوجد الموجودات وهو الذي يسلبها الوجود، هو الحاكم الذي يسيطر على كل تحول، ويدبر مجرى الأشياء في الزمان، وحيثما تجلى ديونيزيوس تجلى معه سر العالم، ووجدت نفس زرادشت وطنها الذي تبحث عنه، ديونيزيوس هو المخلص الأخير الذي يبشر به زرادشت، وهو الكلمة الأخيرة التي يعلنها نيتشه: إن الإنسان المتفتح «للعالم» يقابله بهذه الكلمات: «آه يا نفسي، الآن أعطيتك كل شيء ومنحتك آخر ما أستطيع، وها هما كفاي قد فرغتا من الإغداق عليك: انظري، إن دعوتي لك بأن تغني كانت هي آخر دعواتي إليك!»
ويغني زرادشت أغنية ديونيزيوس الأخيرة، أغنية الرقص الأخرى، فيسبح بمجد الحياة، ويهلل لروعتها وغموضها، إنها تظهر له في صورة الأنثى الفاتنة الإغراء، وتتحول أمام عينيه فتارة تكون ساحرة وتارة تكون حية، أو إعصارا أو ليلا معتما كالهاوية، «في عينك نظرت منذ عهد قريب يا أيتها الحياة، رأيت ذهبا يلمع في عينك الليلية، وتوقف قلبي حيال هذه اللذة العارمة.» ولكن الحياة تقول لزرادشت: «ولكنك لست وفيا لي كما ينبغي ... أعرف أنك تفكر في أن تهجرني وشيكا»، ويهمس زرادشت بشيء في أذن الحياة «بين خصلات شعرها الأصفر المضطرب المجنون» وتجيبه الحياة قائلة: «أنت تعرف هذا يا زرادشت، ما من أحد قد عرفه قبلك.»
زرادشت يفكر في أن يهجر الحياة، ولكنه لن يستطيع أن يهجرها إلى الأبد، سوف يموت ذات يوم، ولكن لا بد له أن يعود مرة ومرة إلى غير نهاية، لا بد أن يدور في حلقة العود الأبدي التي لا تكف عن الدوران، وأن يجرب يأسه وأمله، وعذابه وفرحته، ويولد ويموت مرات لا حصر لها ولا عدد.
وتنظر إليه الحياة نظرتها إلى طفل ماكر عبقري، انتزع منها السر الذي ضنت به على أبناء الأرض الفانين، ثم تقول بين الفرحة به والغيرة منه: «أنت تعرف هذا، يا زرادشت؟ ما من أحد قد عرفه قبلك!» ...
والفكر عزاء
عزاء الفلسفة
أنا الذي كنت أنظم الأشعار بوجدان مبتهج بالحماس،
أجدني اليوم مضطرا إلى الشجو الحزين.
هكذا تأمرني ربات الفن المعذبات،
وتدفع العبرات إلى عيني بغنائها الباكي.
الرعب لم يستطع على الأقل أن ينتصر عليها،
فجاءت تتبع طريقي إلى هنا في وفاء.
كانت زينة شبابي السعيد،
وهي الآن للشيخ المقهور عزاء.
الشيخوخة أقبلت على غير انتظار، تتعجلها المصائب،
وراح الألم يضاعف من عبء الزمان.
المشيب أحاط مفرقي قبل الأوان،
والجلد الضامر يرتجف على الجسد الذابل.
مبارك هو موت البشر الذي لا يأتي في سنوات المرح،
بل يقبل على المقهور، الذي طالما اشتاق إليه.
قديما، عندما كان الحظ الغادر يغمرني بعطاياه العقيمة،
كادت ساعة حزن أن تحني رأسي،
والآن، وقد بدل ملامحه الخادعة، واكتسى بقناع قاتم،
أصبح وجودي لعنة، وراح الزمن يطول في سأم.
لم كنتم تصفونني بالسعادة، يا أيها الأصدقاء؟
آه، من يسقط، فلم تكن واثقة خطاه.
من هذا الذي تخرج من شفتيه كل هذه الحسرات؟ وما هذا القدر الذي نزل عليه حتى يزفر بكل هذه العبرات؟ أهو في شدة يرجو منها الخلاص، أم في زنزانة ينتظر حكم الجلاد؟ وإذا كان سيف الجلاد يلمع فوق رقبته، فأي عزاء هذا الذي لم يفقد الأمل فيه حين يوشك الإنسان أن يقطع كل أمل في العزاء؟
هي شكوى سجين، قيلت في سجن بشع، وانتهت بموت أبشع، وهي أبيات يفتتح بها كتاب عظيم، كان آخر ما دونه صاحبه، وجمع فيه خير ما يمكن أن تقدمه الفلسفة للإنسان، ضم فيه أشعة من فكر أفلاطون وأرسطو والرواقيين، وصبغها في شفق تجربته الدموية، فصار قبسا غريبا لا يزال يضيء للناس عبر العصور.
إنه بواتيوس
Boethius
أو أنيسيوس مانليوس توراكواتوس سيفيرينوس بواتيوس، كما يدل اسمه الكامل! ولد في روما في عام 48 (ب.م) من سلالة عريقة كان كثيرون من أفرادها من أعضاء مجلس الشيوخ، وفقد أباه وهو بعد صبي، فتربى في بيت «كونتس أورليوس سيماخوس» وكان رجلا مهذبا رفيع المكانة، رعاه وتولى نشأته وزوجه ابنته فيما بعد، ولم ينحرف به شبابه ولا ثروته التي تركها له أبوه، بل ساعدته فطرته الجادة على الاتجاه إلى الدرس والتحصيل، حتى أدهش معاصريه وحاز إعجابهم. ويكفي أن نعرف أنه كان أعظم الإنسانيين الذين اهتموا بالتراث اليوناني بين الرومان، حتى لقد جعل رسالة حياته أن يترجم أعمال أفلاطون وأرسطو ويرتبها، لولا أن فاجأه الموت المبكر، فسمي بحق «آخر الرومانيين».
1
تقلد منصب القنصل في عام 510، وشرف في عام 522 بتكريم لا يحظى به إلا القليلون؛ إذ عين ولداه سيماخوس وبواتيوس قنصلين في وقت واحد، وأصبح رئيس مستشاري البلاط في رافينا أو ما يسمى ب «المجستر أوفيسيوروم» فنال المجد والشهرة، وسار في منصبه على الخلق الفلسفي القويم، وكانت رافينا في ذلك الحين هي عاصمة إمبراطورية الغوط الشرقية، وكان يحكمها ملك عادل حكيم هو «تيودريش» (471-526) الذي ضم إيطاليا إلى مملكته، ووصفه أعداؤه أنفسهم بالشجاعة والذكاء، لكن العلاقات ساءت فجأة بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية على عهد البابا يوحنا الأول (523-526)، فقد أصدر قيصر الإمبراطورية الرومانية الشرقية جستينوس (518-527) قرارا باضطهاد الأريانيين
2
الذين كان الغوطيون وسائر القبائل الجرمانية يدينون بعقيدتهم، وأضمر تيودريش العداء للإمبراطورية الشرقية، وهدد باتخاذ إجراءات مضادة، وسعى بعض رجال البلاط بالدس والوقيعة، فقالوا لتيودريش: إن أحد أعضاء مجلس الشيوخ - وكان اسمه ألبينوس - على صلة سرية بالسياسيين في بيزنطة، وهب بواتيوس للدفاع عن زميله، دون أن يخطر بباله أن التهمة قد تمتد إليه، وفقد الملك ما عرف عنه من الحكمة والاعتدال؛ فأمر بالقبض عليه، والإلقاء به في سجن بافيا، وأوعز إلى مجلس الشيوخ بالحكم عليه بالإعدام، أو بالأحرى بالتصديق على الحكم الذي أصدره بالفعل عليه. وسواء أصحت التهمة أم لم تصح - فلم يثبت عليها حتى الآن دليل - فقد أعدم بواتيوس في عام 524 بالقرب من مدينة ميلانو، بعد سجن دام ستة شهور، ودفن في كنيسة سان بييترو أو القديس بطرس.
بقي بواتيوس إذن في سجنه ينتظر الموت، وراح يؤلف «عزاء الفلسفة»
3
في خمسة كتب، أملتها عليه تجربة أليمة، استطاع مع ذلك أن يرتفع فوقها ويستعين عليها بالحكمة التي استمدها من ينابيع الفلسفة القديمة، من أفلاطون وأرسطو والرواقية والأفلاطونية المحدثة جميعا، وأن يقترب فيه من الروح المسيحية السمحة التي حدت برجال العصر الوسيط أن يجعلوا منه أحد شهداء الكنيسة، مع أنه كان من أتباع الأفلاطونية المحدثة ولم يكن مسيحيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. •••
لم يكد بواتيوس يفكر في شكواه الصامتة ويحاول تدوينها على لوح أمسكه في يده اليمنى، حتى خيل إليه أنه يرى سيدة جليلة المظهر نافذة العينين شامخة القامة، لم يدر كيف دخلت عليه زنزانته ووقفت إلى جانبه تطل عليه كأنها رؤيا من زمن آخر بعيد، كانت تبدو متقدمة في العمر، وإن كانت ما تزال تحتفظ بقوتها وشبابها، وكان عودها السامق الذي يكاد يطاول السماء وهيئتها الجادة الرزينة تكسبانها شيئا لا يمت بصلة إلى البشر، أما رداؤها فمن خيوط رقيقة، على هيئة الشباك المتوازية، ينتهي بذيل جرار، ولا يخلو من آثار تمزيق، لعله نتيجة الأذى والاضطهاد الذي لقيته على مر العصور، وفي وسطه رسمت حروف الألف باء اليونانية، بحيث تبدأ من أسفل بالحرف «ب»، وهي اختصار براكسيس أو الحياة العملية، وتنتهي من أعلى بالحرف ثيتا وهي اختصار ثيوريا، أو الحياة النظرية التأملية، وكانت تحمل في يدها اليمنى لفافة مكتوبة من الرق أو الورق، وفي اليسرى صولجانا ينطق بمجدها وسلطانها حيث كانت أم العلوم.
غضبت السيدة الجليلة حين أبصرت ربات الشعر حول فراش السجين يملين عليه شكواه الحزينة التي عرفناها من قبل، وأظلمت عيناها وتكلمت قائلة: من الذي سمح لهؤلاء البغايا بالدخول إلى هذا المريض لا ليخففن آلامه، بل ليزدنها اشتعالا بسمهن الحلو؟ إنهن يعكرن صفاء العقل بظلام العاطفة، ويجلبن عليه المرض بدلا من أن يخلصنه منه، وما نفعهن لرجل قضى شبابه عاكفا على دراسة الإيلين
4
والأكاديميين؟
5
فلتطردهن إذن ولتتركنه لرعاية ربات الفلسفة.
جرت الدموع على خد السجين، ولم يستطع أن يعرف من تكون هذه السيدة النبيلة الآمرة، واستسلم لصمته وذهوله حتى اقتربت منه، وجلست على حافة سريره، وراحت تتأمل وجهه الحزين وتشكو مما أصابه من اضطراب التفكير:
ويلي كيف هوى العقل إلى القرار السحيق
عاجزا مسلوبا من وضوحه وصفائه!
كان من عادته أن يبحث عن الأصول،
ويهبط إلى منابع الطبيعة الخفية،
أما الآن فهو مستضعف يحيط به الظلام،
والرقبة ترهقها القيود الثقيلة.
الوقت إذن وقت العلاج لا الشكوى، وسوف تثبت فيه عينيها العميقتين اللامعتين، وتسأله: ألست أنت الذي أرضعته من لبني وغذوته من طعامي حتى بلغ نضج العقل ورجولته؟ ألم أزودك بأسلحة كان يمكن أن تحميك لولا أن ألقيت بها بعيدا عنك؟ ألم تعد تعرفني؟ لم تسكت الآن؟ أمن الخجل أم من الحيرة والاضطراب؟
وجدته السيدة صامتا لا يقوى على الكلام، فوضعت يدها على صدره، وجففت الدموع المنسابة على خده، وطمأنته إلى أن ما يعانيه ليس بالمرض الخطير، وأنه إنما نسي نفسه وسيذكرها بمجرد أن يتعرف عليها من جديد. وأحس كأن ضباب حزنه قد انقشع، وكأن شمس الأمل كادت تعشي عينيه، ورفع بصره إلى وجه طبيبته فعرف فيها مرضعته ومربيته، فلم تكن هذه السيدة النبيلة إلا الفلسفة التي نشأ في بيتها وتعلم على يديها، كم يدهشه الآن أن تنزل عن عرشها العلوي وتزوره في منفاه الوحيد! ألا تخاف على نفسها أن يتهموها زورا كما اتهموه؟ ألا تخشى العقاب الظالم الذي ينتظره؟
ولكن معلمة الفضائل لم تكن لتتركه وحيدا في محنته، ولا كان يرضيها أن تتخلى عنه بغير أن تقاسمه الآلام التي تحملها في سبيلها، وهل كان لأم العدالة أن تترك البريء المظلوم يسير وحيدا على طريق قدره؟ وهل يليق بها أن تخشى الاتهام وهو ليس جديدا عليها؟ وهل هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الحكمة للخطر؟ ألم يكن على القدماء - حتى قبل عهد أفلاطون - أن يكافحوا الغباء مر الكفاح؟ ها هي ذي تقول له: ألم ينتصر معلمك سقراط على الموت الظالم بوقوفي إلى جانبه؟ لقد شرب السم كما تعلم، ومات قبله كثيرون في المنفى أو على يد الجلاد، أنكساجوراس اضطر إلى الفرار أمام غضب الجماهير ليموت بعيدا عن وطنه، زينون الإيلي
6
جلد وعذب وقتله الطاغية نيارخوس قتلة فظيعة، وكانيوس الرواقي أعدمه القيصر المجنون كاليجولا، وسنيكا الحكيم اضطره نيرون إلى الانتحار، وسورانوس أدى به حبه للعدالة إلى الموت ظلما، لا يدهشك إذن أن نسبح على أمواج الحياة فتتقاذفنا العواصف من هنا ومن هناك، فقد قدر علينا أن نغضب الأشرار، وأن نكون همهم الدائم في حياتنا وبعد مماتنا. إن كنت قد وعيت هذا الكلام فما الذي يدعوك إلى البكاء؟ لا تخف عني شيئا، إن كنت في حاجة إلى معونة الطبيب؛ فلا بد أن تكشف عن الجرح. ويجمع بواتيوس أطراف شجاعته فيسألها: أليس في رؤية هذا المكان ما يغني عن كل كلام؟ ألا ينطق بقسوة القدر الذي حكم به علي؟ أهذه هي ملامح وجهي حين كنت أبحث معك في أسرار الطبيعة، وكنت تعلمينني بمعونة الدائرة مسار النجوم، وتنظمين حياتي على هدي النظام السماوي؟ أهذا هو جزاء طاعتك؟ ألم تزيني لي على لسان أفلاطون
7
أن الدول التي يحكمها الفلاسفة أو التي يدرس حكامها الفلسفة هي الدول السعيدة، وأن الأشرار والمجرمين لا ينبغي لهم أن يتولوا شئونها حتى لا يهلك الأخيار والطيبون؟ لقد استمعت إلى نصحك، وحاولت أن أطبق العلم على العمل، يشهد الله وتشهدين على أنني لم أبلغ هذا المنصب إلا لحرصي على الصالح العام. وهكذا نشب النزاع بيني وبين الأشرار، وجلبت علي حرية الضمير سخط الحكام، كم من مرة ثرت على وال يغتصب مال المحروم، وحميت الفقير من استغلال الغني، وكم أنقذت الفلاحين من اللصوص الرسميين، وخففت عنهم الضرائب التي أذاقتهم الجوع. وكم جلبت على نفسي حقد رجال البلاط، وعرضتها للخطر حبا في العدل. القنصل باولينوس - الذي كاد الطفيليون من رجال البلاط يبتلعون ثروته - أنقذته من أيديهم، والقنصل ألبينوس خلصته من عقاب كان ينتظره لتهمة باطلة، وعرضت نفسي لكراهية الداهية كيبريان، ولكن من الذي وجه إلي الاتهام الذي أدى بي إلى هذا المصير؟ إنه بازيليوس الذي طرد من قبل من خدمة الملك، وأوبيليو وجاودينتيوس اللذان حكم عليهما بالنفي بسبب جرائمهما العديدة؛ فلجآ إلى معابد الآلهة هربا من العقاب. أولئك هم الذين لطخوا اسمي، وكانوا أولى الناس بأن تلطخ جباههم وينفوا من الديار. ولكن هل تريدين بعد هذا كله أن تعلمي التهمة التي وجهت إلي؟ لقد ادعوا علي أنني أردت أن أحمي المجلس «السينات»، فحلت بين المدعي وبين تقديم الأسانيد التي تثبت خيانة المجلس، ولكنني لم أفعل ذلك، وما كان لي أن أخون مبدأ سقراط فأخفي الحقيقة وأظهر الكذب. لقد نسبوا إلي رسائل مزورة يدعون أنني طالبت فيها بتحرير روما. ربما كانت إرادة الشر دليلا على عجزنا البشري، أما أن يتمكن الشرير من أن ينفذ أمام الله خيانته، فتلك هي كبيرة الكبائر، وقد يكون هذا هو الذي حدا بواحد من تلاميذك أن يسأل فيقول: «إذا كان الله موجودا، فمن أين يأتي الشر؟ ومن أين يأتي الخير لو لم يكن هناك إله؟» ولو أن الأمر اقتصر على الأشرار بطبيعتهم، لما كان في ذلك شيء، أما أن يشترك أعضاء المجلس كله في توجيه التهمة الكاذبة إلي، فذلك ما يدهشني حقا. إن هذا المجلس نفسه هو الذي طالما تصديت للدفاع عنه وتفنيد التهم الموجهة إليه. ولعلك يا معلمتي لا زلت تتذكرين دفاعي عنه عندما سعى الملك في فيرونا إلى القضاء على أعضاء المجلس جميعا؛ بسبب تهمة الخيانة التي نسبت إلى ألبينوس وحده؛ فأراد الملك أن ينسبها إلى الجميع. وها هو نفس المجلس يتهمني بالإجماع في غيابي، بينما تفصلني عنه مسافة خمسمائة ميل، دون أن يحاول الاستماع إلى دفاعي، وبأي تهمة؟ بالخيانة طمعا في منصب، وأنت التي طردت من قلبي كل مطمع في شيء أرضي، بل لم تتركي فيه مكانا للطمع، وما زلت تهمسين في سمعي كل يوم بهذه الكلمة الفيثاغورية: اتبع طريق الله! لا بل يزيدون على ذلك فيدعون أنك أنت التي دفعتني إلى ما يتهمونني به، وما دفعتني لغير التشبه بالله! ويزيد من ألمي أن الشعب - الذي طالما وقفت إلى جانبه - يصدق دعواهم، ويؤيد حرماني من أملاكي وتجريدي من مناصبي، وتنفيذ الحكم الذي ينتظرني.
قالت السيدة الجليلة: لقد رأيت دموعك فعرفت أنك منفي تعيس، ولولا ما قلته لي ما عرفت شيئا عن قضيتك، غير أنك وإن كنت بعيدا عن الوطن، فأنت لم تنف، وإنما نفيت نفسك بنفسك، وضللت الطريق بإرادتك. ألم أعلمك أن الحرية في أن يمسك المرء بزمام نفسه، ويطيع الحق والقانون بمشيئته؟ ألم أجعل لك وطنا لا نفي منه؛ لأنه لا أسوار له ولا أبواب؟ إن وجودك في هذا المكان لا يحزنني بقدر ما تحزنني رؤيتك على هذه الحال. إن مرارة الألم تمزقك، والعواطف تعصف بك، وهذا ما يجعلني أسقيك الدواء قطرة فقطرة. وتسأل السيدة: هل ترى أن هذا العالم تحكمه الصدفة؟ أم تعتقد أن هناك نوعا من التدبير يتحكم فيه؟ فيجيب السجين: حاشاي أن يخطر لي ذلك على بال! إنما أومن بأن الخالق يسهر على خلقه؛ وتهتف السيدة قائلة: ما أعجب أن يصيبك المرض مع هذا الرأي السليم! وما دمت لا تشك في أن الله هو الذي يدبر العالم، فهل تستطيع أن تقول لي ما هي المبادئ الأساسية التي تدبره؟ ويعجز السجين عن الجواب، فتعود إلى السؤال: هل تتذكر الغاية الأخيرة من الطبيعة؟ - كنت أعرفها ، ولكن الحزن أثلم ذاكرتي. - ألست تعرف أصل الأشياء جميعا؟ - قلت: إنه هو الله. - فهل يجوز أن تعرف الأصل وتجهل الغاية؟ هل أنت واثق من أنك إنسان؟ - وكيف لا أعرف؟ - فهل تشرح لي ما هو الإنسان؟ - إن كنت تقصدين به الكائن العاقل الفاني فأنا أعرفه. - ألا تعرف أيضا أنك شيء آخر؟ - لا. - إذن فلم تعد تعرف من أنت، هذه هي علة مرضك الحقيقية، فلأنك نسيت نفسك رحت تشكو من أنك منفي مجرد من أملاكك، ولأنك لم تعد تعرف الغاية الأخيرة، ظننت أن التافهين وسيئي السمعة هم الأقوياء والسعداء، ولأنك نسيت الأفكار التي تدبر العالم فقد توهمت أن الأقدار تترنح هنا وهناك بغير تدبير، ولكن ما دمت تؤمن بأن حكمة الله لا الصدفة العشواء هي التي تدبر الكون، فلا شك أن شفاءك غير مستحيل.
أتريد أن تنظر نظرة صحيحة
وتعرف الحقيقة؟
فسر في طريقك
بخطى عاقلة،
طارد الفرح والخوف،
وابتعد عن الأمل
يبتعد عنك الألم؛
فالنفس تتعكر،
وتغل في القيود
إن تحكما فيها.
وصمت السجين قليلا، فاستطردت تقول: إن كنت قد أدركت علة مرضك، فلا بد أنك تتحرك شوقا إلى حظك الماضي، وتقنع نفسك بأن التغيير الذي أصابه قد غير الكثير من روحك وعقلك. ولكنني أعرف هذا الكائن الخرافي، وأعرف نفاقه وألعابه الساخرة، ولو تذكرت حقيقته معك؛ لتبينت أنك لم تستفد منه ولا خسرت بفقده شيئا، ولست في حاجة إلى تذكيرك بهذا، فقد طالما هاجمته بكلمات وأفكار استقيتها من مملكتي المقدسة. وكل تغيير مفاجئ لا بد أن يترك أثره على النفس، وينتزعها من راحتها ولو إلى حين. وعلي الآن أن أبصرك بحقيقة ما يدور في باطنك.
ما هذا الذي رماك بالحزن والألم؟ أنت تحسب أن الحظ أدار ظهره لك ولكنك مخطئ، فتلك هي طبيعته وذلك دأبه، ولقد كان مخلصا لطبيعته حين راح يتملقك ويغريك بالسعادة. لقد تبينت النظرة الزائفة التي أطلت من هذا الكائن الإلهي الأعمى، كانت تتخفى عن سواك فإذا بها تكشف لك عن نفسها، هل تحزنك خيانتها؟ إذن فتذكر عبثها بك، واحتقر لعبتها الباطلة. إن ما يسبب الآن لك الغم كان خليقا بأن يجلب لك السلام؛ فلقد تخلى عنك شيء لا يأمن له أحد، ولا يشك في أنه سيتخلى عنه ذات يوم، أم تحسب أن للحظ قيمة، وأنت لا تجهل أنه زائل؟ وهل تعز عليك سعادة تعلم أن بقاءها موضع شك، وأن اختفاءها يجلب الحزن؟ إن العاقل لا يحكم على ما يراه بل يعتبر بالخواتيم، وتقلب الحظ يعلم من يريد التعلم أن خطره لا يخيف وإغراءه لا يخدع، إنك إن أسلمت الشراع للريح فلن تبلغ الشاطئ الذي تريد، بل ستصل إلى حيث تدفعك. وما دمت قد خضعت للحظ فعليك أن تسلم بأحكامه، أم هل تريد أن توقف عجلته الدائرة؟ يا أشد الفانين حمقا! إنها إن بدأت تستقر، فلن تكون إذن هي عجلة القدر! ستقول لك آلهة البخت والنصيب: لماذا تتهمني فتبالغ في الاتهام؟ أي ظلم ألحقته بك؟ أتقول: إنك كنت تملك الثروة والجاه؟ ولكن متى بقيت ملكا للبشر الفانين؟ حين خرجت عاريا من بطن أمك رعيتك وتعهدتك بعنايتي، ولكنني يحلو لي الآن أن أكف يدي عنك، فبأي حق تشكو من ضياع شيء لم تكن تملكه؟ إن الثروة والجاه خاضعان لي، يأتيان معي ويذهبان متى ذهبت، بأي حق يكرهني البشر على ما ليس في طبعي، إن عجلتي تدور إلى أعلى وإلى أسفل، فاصعد معها إن شئت، ولكن لا ترمها بالظلم إن هبطت بك. وما الذي تقوم عليه الفجيعة في المأساة، إن لم يكن هو القدر الذي يخرب الممالك ويخبط بضرباته خبط عشواء؟ ألم تتعلم وأنت صبي أن هناك وعائين عند عتبة زيوس: أحدهما مليء بالعذاب والألم، والآخر بالهناء والفرح؟
8
ألم تغرف من الوعاء الأخير ما يزيد عن غيرك؟ وهل تخليت عنك يوما كل التخلي؟ أتريد أن تخضع لقانون وضعته لنفسك دون القانون الذي يطيعه الجميع؟
وترن هذه الكلمات في سمع السجين رنينا عذبا، ويذوق فيها حلاوة الخطابة والشعر ، غير أن عذابه أعمق من ذلك بكثير، وعقله المضطرب ما يزال في حاجة إلى البلسم الذي يشفيه، والسيدة الحكيمة تحاول أن تسكن من روعه، أما العلاج الحاسم فلم يؤن أوانه بعد؛ فها هي ذي تذكره بطفولته، عندما حرمه الموت من أبيه فتولته أيد أمينة بالرعاية والحنان، حتى إذا بلغ سن الرجولة غبطه الناس على الزوجة النبيلة والأبناء النجباء، وتوالت عليه أسباب المجد والتكريم، وشرف ولداه في يوم واحد بالتعيين في منصب القنصل، بين تهليل الجماهير وتهنئة أعضاء المجلس. لقد غمرته آلهة الحظ بما لم تغمر به سواه، ولو أحصى ألوان السعادة التي نعم بها لزادت عن ألوان الشقاء، أما ما يعانيه الآن من بؤس وما ينتظره من جزاء فهو شيء عابر ككل شيء سواه، ومهما خيل للإنسان أن سعادته دائمة، فإن اليوم الأخير من حياته يحمل معه الموت لهذه السعادة الدائمة. إن الكون نفسه يبدو منقلبا، وكذلك حظ الإنسان، وما يملك من خير أو متاع أبعد ما يكون عن اليقين، أما القانون الأبدي الوحيد فهو هذا: ما من شيء مخلوق له صفة الدوام.
ولا يشك السجين فيما تقوله أم الفضائل جميعا، ولا يجادل في أنه كان في يوم من الأيام أسعد الناس، ولكنه يقول لها: إن أشد أنواع الشقاء أن يتذكر الإنسان أنه كان سعيدا ذات يوم. وتدعوه أم الفضائل أن يجفف دموعه؛ فما زال بين الأحياء من يذكره ويذرف الدموع عليه ويتحرق شوقا إليه، وما زال هناك عزاء عن الحاضر وأمل في المستقبل، فمن ذا الذي اكتمل حظه من السعادة فلم يدع له سببا لشكوى؟ ألا ترى الغني يفتقر إلى النبالة، والنبيل يعوزه الغنى؟ ألا ترى السعيد في زواجه محروما من الأبناء، ومن رزق الأبناء شقيا بأعمالهم؟ ليس شقاء إلا ما تعده كذلك، وكل قدر تستطيع أن تراه سعيدا، لو أمكنك أن تحتمله في هدوء واتزان. ومن ذا الذي بلغ من السعادة حدا لا يتمنى معه لو أنه استطاع أن يغير حاله؟ وأية حلاوة في أقدار البشر لا تمتزج بالمرارة؟ يا لها من سعادة ناقصة هذه التي تأتي من أسباب أرضية! فلماذا إذن، أيها الفانون، تبحثون عن السعادة خارج نفوسكم وهي كامنة فيها؟ إن الجهل والضلال يعميان أبصاركم. دعني أشرح لك سر السعادة الخالصة، هل هناك ما هو أعز لديك أو أعظم قيمة عندك من نفسك؟ لا شك أنك ستجيب بالنفي، لو امتلكت السيطرة على هذه النفس، فسوف تمتلك شيئا لا يضيع منك ولا يستطيع القدر أن يسلبك إياه، إن السعادة الحقة لا يمكن أن تعتمد على الصدفة، ولا هي مما يمكن أن يسلب من الإنسان؛ ومن ثم فإن الحظ المتقلب لا يمكن أن يكون سببا من أسباب السعادة. وكل من يقوده الحظ قد يجهل طبعه المتقلب وقد يعرفه، فإذا كان يجهله فأي سعادة يمكن أن تصيب الإنسان مع هذا الجهل؟ وإذا كان يعرفه فلا بد أنه يخشى ضياع ما يعلم أنه عرضة للضياع، ولا بد أن هذا الخوف سيحول بينه وبين السعادة. ألست مقتنعا بأن نفوس البشر غير فانية، وأن السعادة العارضة تموت بموت الجسد؟ ولو كان في مقدور الحظ المتقلب أن يهب البشر السعادة الحقة، فهل تشك في أنهم سيصيرون بعد الموت إلى الشقاء الدائم؟ ولو سلمنا بأن عطايا الحظ ليست بطبعها زائلة، فأي شيء فيها لا يفقد قيمته مع الزمن، وأي شيء فيها له قيمة في ذاته؟ لن تستطيع أن تقول هذا عن ذهب ولا فضة، فهي إن صارت ملكا لواحد بمفرده تسببت في فقر الآخرين، وإن وزعت بين الجميع لم تصبح ملكا لأحد! ولكن هل هناك صلة تربط بينها وبين نفسك التي تحس؟ أليس جمال النفس ونورها أروع من الجمال والنور الذي ينبعث من الذهب والأحجار الكريمة؟ ولماذا تنسب للأشياء الخارجية من القيمة ما تحرمه على ذاتك؟ أم ترى بلغ بك قصر النظر أن تجد السعادة في الملابس الزاهية والخدم والحشم؟ ما الذي تسعون إليه إذن من وراء هذا الضجيج كله عن السعادة؟ إنكم تحاولون بالشره إلى التملك والترف أن تبعدوا عن أنفسكم الإحساس بالنقص والحاجة، ولكنكم لا تزيدونه إلا قوة واشتعالا! لقد انقلبت الأمور حتى ظن الكائن الإلهي العاقل أن مجده لن يسطع إلا إذا امتلك ما لا حياة فيه، لقد أراد الخالق أن يرتفع الجنس البشري فوق كل ما هو أرضي، ولكنه يشاء إلا أن يضع نفسه بين الأشياء الزائلة في أحط مكان! وهل يستطيع أن يرتفع فوق الأشياء إلا إذا عرف نفسه؟ وهل يستطيع أن يعرف نفسه حتى يعرف أن قيمته تعلو على كل ما عداها؟ أنت يا من تخاف الآن من السيف والرمح، تعلم أن تتجول فقيرا على الأرض وسوف يمكنك أن ترفع صوتك بالغناء أمام قاطع الطريق! ثم ماذا أقول عن المنصب والسلطان؟ وهل كان في وسع الحمم المتفجرة من بركان «إتنا» أن تسبب من الخراب والدمار مثلما سببه المنصب والسلطان حين كانا في يد حاكم شرير، ألا تذكر كيف سعى آباؤك إلى إلغاء لقب القنصل لما وجدوه من غرور القناصل، مثلما محوا كلمة «الملك» من قبل لما لمسوه من جبروت الملوك؟
9
إن الفضيلة لا تشرف بالمنصب، بل المنصب هو الذي يشرف بالفضيلة، ثم ماذا يغريكم في السلطان ويحببه إليكم؟ هل تنسون أيها الفانون من أنتم ومن الذين تتحكمون فيهم؟ أولا تنفجر ضاحكا لو سمعت أن فأرا أعطى لنفسه الحق في التسلط على غيره من الفيران؟! وهل هناك من هو أشد عجزا من الإنسان؟ ألا تكفي لدغة بعوضة للقضاء عليه؟ وهل يتسلط صاحب السلطة حقا على شيء سوى الجسد أو المتاع؟ وأين الذي يتحكم في العقل الحر؟ وأين من يزحزح الخلق الثابت عن هدوئه؟ ألا يتذكر ذلك الطاغية الذي أخذ يعذب رجلا حرا ليشي برفاقه في المؤامرة المنسوبة إليهم، فما كان من هذا الرجل إلا أن عض لسانه وبصقه في وجه الطاغية؟!
لو كان المنصب أو كانت السلطة خيرا في ذاتها، لما وقعتا في يد الشرير، فالأضداد - كما تعلم - لا تجتمع أبدا، وقل مثل ذلك عن ألوان الحظ والسعادة التي لا تصيب إلا سيئي السمعة، فما استطاعت الكنوز أن ترضي النهم الذي لا يشبع، ولا استطاعت السلطة أن تتيح لمن يرسف في أغلال الشهوات أن يكون له سلطان على نفسه، إنها ليست خيرا في ذاتها، فكيف تستطيع أن تجعل من أصحابها أخيارا؟
كلنا يعرف المفسد نيرون
الذي أحرق روما، وقتل الشعب
كلنا يعلم كيف قتل شقيقه،
وكيف لطخ يديه بدم أمه.
وعندما أبصر الجسد الهامد
لم يجد الدموع التي ترطب وجهه،
وإنما راح يطري الجمال الضائع.
هل استطاع السلطان الرفيع
أن يوقف جرائم نيرون؟
يا له من قدر قاس،
حين تلتقي شهوة القتل
بسلطان السيف!
ويجيب السجين قائلا: أنت نفسك تعلمين أن الطموح إلى متاع الأرض لم يكن من طبعي، ولكن نفسي كانت تشتاق إلى الفعل، حتى لا تشل طاقتها على العمل. فترد عليه السيدة الحكيمة بقولها: إن من صفات الأرواح التي ميزتها الطبيعة، والتي لم تبلغ كمال الفضيلة، أن نسعى إلى المجد والسمعة الطيبة عن طريق ما تحققه من أعمال في سبيل الدولة، ولكن يا له من جهد ضائع وعقيم! فأنت تعرف من تعاليم الفلكيين ومن قراءتك لبطليموس أن الأرض لا تزيد عن نقطة ضئيلة إذا قورنت بالفضاء الكوني الكبير، وأن الجزء المسكون منها لا يزيد عن ربع مساحتها، فإذا طرحت من هذا الربع تلك المساحات الشاسعة التي تشغلها البحار والصحاري والمستنقعات لما بقي للإنسان إلا جزء ضئيل. فما قيمة المجد الذي يطمع صاحبه في أن ينشر ذكره على هذا الحيز الصغير؟ وهل يمكن أن تبقى لهذا المجد قيمة في ذاتها؟ وإذا عرفت أن هذا الحيز الصغير تسكنه شعوب مختلفة اللغات والعادات والطباع، فهل تحلم مدينة من المدن بأن يسير ذكرها فيه، ناهيك بفرد واحد؟ إن شيشرون يعترف في أحد كتبه
10
أن سمعة الدولة الرومانية في قمة مجدها لم تستطع أن تتعدى جبال القوقاز، فهل تشك بعد هذا أن من العبث أن يفكر امرؤ في نشر اسمه في مثل هذا الحيز الضيق المحدود؟ وإذا تفكر الإنسان في خلود الزمن، فمن أين يأتيه الفرح بخلود الاسم؟ وإذا استطاع أن يحفظه عبر آلاف السنين، فما هي هذه الآلاف إذا قيست بعمر الأبد؟ وما قيمة المجد الذي أحرزه عظماء الرجال إذا كانت أجسادهم ستتحلل بعد الموت إلى تراب؟ وماذا ينفع بعد ذلك أن تشتهر أسماء لا وجود لأصحابها؟ ولكن الغرور هو الذي يسول لكم أن تسعوا إلى المجد والشهرة بين الناس. فاسمع حكاية الرجل الذي عرف كيف يسخر من هذا الغرور. فيحكى أنه سمع أن رجلا سمى نفسه بالفيلسوف، لا عن حب للفضيلة، بل عن ولع بالشهرة، وقال الرجل لنفسه: سأجرب معه السب والإهانة لأعرف من صبره عليها إن كان فيلسوفا حقا كما يدعي، واحتمل الرجل فترة ثم قال في سخرية مما أصابه من أذى: «هل رأيت أخيرا أنني فيلسوف؟» فرد عليه الأول في سخرية أشد مرارة: «لو أنك سكت لرأيت ذلك حقا!»
راح السجين يستمع في دهشة وذهول إلى هذا العزاء العلوي للقلب المتعب، ولكنه كان يسائل نفسه عما عسى أن يكون ذلك العلاج الحاسم الذي حدثته الفلسفة عنه. ولم يطل صمت السيدة النبيلة عنه، فقد وعدت بأن تأخذ بيده إلى السعادة الحقة، واستحلفها بأن تعجل به إليها، وأطرقت ببصرها قليلا إلى الأرض ثم بدأت تقول: إن مسعى الفانين وإن سار في دروب عديدة، إنما يتجه في النهاية إلى هدف واحد هو السعادة، إنها هي الخير الأسمى الذي ينطوي على كل خير، كما يسعى إليه كل امرئ على طريقته؛ فقد فطر الناس على البحث عن الخير الحق، وإن كانوا يختلفون فيما بينهم حول معناه، فبعضهم يراه في الثروة والجاه، وبعضهم في الشرف والمجد والسلطان. ولكنهم يتفقون في أن الخير الأسمى مرادف للذة والسرور، أي لما يعتقدون أنه يحقق لهم السعادة؛ فالسعادة حال تصيب من يعتقد أنه يملك كل ألوان الخير، وأنه يستطيع أن يكتفي بنفسه، فلا يحتاج إلى شيء يأتيه من الخارج. ألا ترى الناس يبحثون عن الثروة والمنصب والسلطة والمجد والمتعة لاعتقادهم أنها تضمن لهم الاحترام والشهرة والفرح؟ إنهم وإن اختلفوا في معنى الخير، فلن يختلفوا في سعيهم إلى الخير الأسمى.
إن الكائنات تحن إلى أصلها، فالأسد المقيد بالسلاسل يحن إلى عرينه، والطائر الحبيس في قفصه يشتاق إلى غابته، وأنتم يا أبناء الأرض تدفعكم الفطرة إلى أصل الخيرات جميعا وغايتها إلى السعادة.
لنسلم بأن من يملك أسباب السعادة - من مال أو شرف أو منصب - يصبح سعيدا، فهل هناك من اجتمعت له «كل» أسباب السعادة؟ هل منهم من نال السعادة التي لم يعكر صفوها هم أو كدر أو ظلم ألحقه بغيره؟ ومتى كانت الثروة قادرة على أن تمكن صاحبها من الاستغناء عن غيره والاكتفاء بذاته؟ وكيف تستطيع ذلك وهي لا تقدر أن تدافع عن نفسها من السرقة والاغتصاب، بل تحتاج دائما لمن يحميها ويحفظها؟ وأين الغني الذي لا يشعر بالجوع والعطش، أو لا ترتعش أعضاؤه لبرد الشتاء؟ قد تقول: إن الثروة تستطيع أن تسكن الجوع وتروي العطش وتجلب الدفء، ولكن هل تستطيع أن تقضي على الحاجة تماما؟ ألا تجعل هي نفسها الإنسان أكثر حاجة؟ ألا تزيده شرها وجشعا؟ إن الطبيعة يكفيها القليل، أما الجشع فلا يشبعه شيء.
ويمكنك أن تقول مثل ذلك عن المنصب والسلطان، فأنا أسلم معك بأن صاحبهما يعيش مكرما مرموقا، ولكن هل استطاع المنصب والسلطان أن يزرعا الفضيلة في قلوب أصحابهما أو يقتلعا الرذيلة منها؟ ألا نرى أنهما لا تصيبان في الغالب إلا أقل الناس شأنا وأضعفهم خلقا، وأنهما لا تزيدانه - في معظم الأحيان - إلا خسة وشرا؟ إن شرف المنصب لا يجعل صاحبه شريفا، كما أن العاطل عنه لا يمنعنا من تسميته فاضلا وحكيما؛ لأن الفضيلة - كما تعلم - تحتفظ بقيمتها في ذاتها، ولأن من احتقره الناس مرة لن يجلب المنصب له الاحترام، ثم إن كرامة المنصب تتفاوت من عصر لعصر، وتختلف من شعب لآخر، فأي جمال إذن يكمن فيها؟
أتظن أن الملك يجلب السعادة؟ ولكن ماذا تقول إذا كان لا يستطيع أن يحافظ على نفسه؟ ألم تسمع بذلك الطاغية ديونيزوس
11
الذي راح المنافق داموقليس يطري حظه وسعادته، وكيف أراد أن يثبت له هوان هذه السعادة وتعرضها للزوال؛ فدعاه إلى مائدة فخمة حافلة، بينما علق فوق رأسه سيفا حادا يتدلى من شعرة حصان؟ فأي سلطان لا تفترسه الهموم، وأي منصب لا يمشي صاحبه على أشواك القلق؟ إنه كلما أظهر قوته، كشف عن ضعفه، وكلما بث الفزع في قلوب الناس، أثبت فزعه منهم؛ ذلك أن صاحب السلطة هو أول من يعيش في خوف عليها، والذين يعيشون في خدمتها هم أول ضحاياها، ألم يسلم «أنطونيوس كاراكاللا»
12
مستشاره لسيف الجلاد؟ ذلك أن المقربين إلى السلطان لا تقربهم إليه الفضيلة بل الطمع في الثروة والجاه، فما أكثر ما يخدع المجد! وما أكثر ما يهين! وما أصدق «يوريبيديس» حين قال:
يا مجد، أنت أيها المجد،
كم رفعت من حياة تافهة
لعدد لا يحصى من الفانين!
13
وما أجدر الحكيم - لولا أن الحكمة تمنعه من ذلك - بأن يغتر بنفسه، حين يجد أن فضيلته لم تأته من رأي الناس فيه، بل من سلامة ضميره واستقامة فعله، وما أسخف أن يعتز الإنسان بنسبه أو نبله، بينما الفضل فيه للآباء والأجداد. إن جنس البشر كله في هذا العالم متشابه الأصل، واحد بمفرده هو والد الجميع، وهو وحده الذي يدبر الكل، أعطى فيبوس «الشمس» سطوعها والقمر هلاله والأرض شعوبها والسماء كواكبها، جمع الأعضاء مع الروح الذي أرسله من العرش، وبذر النبالة في كل بشر فان، أتفتخرون بالأجداد؟ اذكروا إذن الأصل الذي انحدرتم عنه، اذكروا كذلك أباكم الإلهي، ولن يخلو من الدم النبيل من لا يتنكر للأصل ولا يزيد الشر.
ثم ماذا أقول عن متع الجسد؟ إن السعي إليها محفوف بالهم، والشبع منها مملوء بالندم، كم سببت للمتهالكين عليها من أمراض، ولو أنها كانت تجلب السعادة حقا، فلماذا لا تقول عن البهائم إنها سعيدة وهي لا تسعى لشيء كما تسعى إلى إشباع الجسد؟! ماذا بقي إذن؟ الزوجة والأبناء؟ ولكن الأبناء - كما قيل لي - معذبون، وأنت نفسك أدرى مني بذلك؛ فها أنت ذا في سجنك قلق عليهم، فهل يبلغ قلقهم عليك هذا المبلغ؟ ألا يحق ليوريبيديز أن يصف من لا أبناء له بأنه سعيد في الشقاء؟! إن من طبع اللذة أن تغري بالتمتع، ولكنها كالنحلة التي تفر بعد أن تهدي عسلها وتترك في القلب لدغة لا تنسى، أتريد أن تغتر بمحاسن الجسد؟ ولكن كيف تثق بملك زائل وفان؟ وهل يمكنك أن تتفوق على الفيل في ضخامته، والثور في قوته، والنمر في خفته؟ انظر إلى اتساع السماء وثباتها وروعتها، وسوف تكف عن التعجب مما لا يستحق العجب، أتذكر لينكويس الذي كانت عيناه تنفذان في الحجر؟ لو أن ألكيبياديس الجميل كانت له عيناه، ونفذ بصره إلى ما وراء الجسد البديع، فهل كان يعجبه قبح أحشائه؟ تعجب كما شئت بمفاتن الجسد، ولكن تذكر أن الحمى التي تصيبه ثلاثة أيام لن تبقي لها أثرا.
هل اقتنعت الآن بأن هذه الأسباب جميعا ليست هي الطريق إلى السعادة، بل المتاهة التي تضلك عنها؟ إن البحث عنها بهذه الوسيلة كالبحث عن الذهب على أغصان الشجر، أو الجواهر على فروع الكروم، أو السمك في حضن الجبل، أو الغزال في عرض البحر، أو النجوم في تراب الأرض، أتريد الآن أن تعرف الطريق إلى السعادة الحقة؟ هل تسلم معي بأن ما يكفي نفسه بنفسه هو الذي ينطوي على الشرف والقوة والمجد؟ وهل توافقني كذلك على أن الذي لا يحتاج لشيء غريب عنه ويحتوي في ذاته على الشرف والقوة والمجد لا بد أن يكون شيئا مسعدا للقلب، وأن هذه جميعا لا بد أن تكون أسماء مختلفة لشيء واحد؟ إذن فأنت تتفق معي في أن الناس حين يطلبون الأجزاء المنفردة مما هو كل متكامل بطبيعته إنما يفقدون الكل والأجزاء جميعا؛ فالذي يطلب الثروة وحدها يضيع القوة والكرامة، والذي يسعى إلى السلطة يضحي بالثروة ويحتقر الشرف والسمعة الطيبة، ولكنه حين يصل إلى السلطة يترك الخوف يتسلط عليه، بذلك تضيع هي أيضا من يده. ألا ترى إذن أنه لا يمكن أن يجد السعادة في شيء وعده بها فلم يسبب له غير الألم، وأن السعادة نفسها ليست شيئا يسعى إليه الإنسان؛ لأنها ليست «شيئا» يمتلك أو يخشى عليه من الضياع؟ القوة والشرف والمجد ... إلخ، ليست إذن إلا مظاهر خداعة للخير الحقيقي الكامل ولا يمكن أن تقربنا منه في كثير ولا قليل، وعلينا الآن أن نرى أين نلتمس هذا الخير الحق، ولكن لنبتهل إلى الله أولا أن يقف إلى جانبنا، فذلك ما يخلق بنا أن نفعله حتى في أقل الأشياء شأنا، كما علمنا أفلاطون الحكيم في محاورته «طيماوس». لنحاول إذن أن نبحث عن هذا الخير الحق، ولنقل بادئ ذي بدء: إنه لا شك في وجوده ولا في أنه منبع كل خير سواه؛ إذ لو استبعدنا الخير فكيف نعرف أن الشر شر، ولو ألغينا الكمال فكيف نعرف أن الناقص يفتقر إليه؟ فإذا كانت هناك سعادة ناقصة بخير زائل، فلا بد أن تكون هناك سعادة كاملة بخير باق، أما أين يكون هذا الخير فدعنا نتأمله سويا. الله خير، والدليل على ذلك أن عقول البشر تتفق على هذا الرأي، فما لم يكن هناك شيء يمكن التفكير فيه أفضل من الله، فلا سبيل إلى الشك في أن ما لا يوجد خير منه فلا بد بالضرورة أن يكون هو نفسه خيرا، ولا بد أن يتحقق فيه الخير الأكمل؛ إذ لو كان الأمر على غير ذلك لما كان الله سيد الأشياء جميعا، وقد قلت لك من قبل: إن الخير الكامل هو السعادة الكاملة، فلا بد إذن أن تكون السعادة الكاملة متحققة في الله، ولكن هذه السعادة ليست شيئا غريبا عن ذاته، تلقاه من الطبيعة أو من شيء خارجي، وإلا كان المعطي أكمل من المتلقي، والفرع أفضل من الأصل، وذلك يخالف ما سلمنا به من أن الله هو أسمى الموجودات، وإذا كنت قد اعترفت بأن الخير الأسمى هو السعادة، فلا بد أن تعترف كذلك بأن الله هو السعادة.
الآن قد عرفت أنه لا يمكن أن يكون هناك خيران مختلفان كل منهما متناه في الكمال، وإلا لزم أن يكون أحدهما أكمل من الآخر، واستحال عليهما معا أن يوصفا بالكمال المطلق، إذن فلا بد من التسليم في آخر الأمر بأن السعادة الكاملة هي والألوهية الكاملة شيء واحد. ولنستعن الآن بنوع من الاستدلال الذي يلجأ إليه الرياضيون. فلما كان الناس يصبحون سعداء حين يبلغون السعادة، وكانت السعادة هي الألوهية، فمن الواضح أنهم يصلون إلى السعادة حين يصلون إلى الألوهية، كما يصبحون عادلين حين يصلون إلى العدل، وحكماء حين يبلغون الحكمة، ومن الواضح أيضا أنهم يصبحون آلهة حين يصلون إلى الألوهية، وأن السعيد منهم لا بد أن يصبح إلها، أعني أن يشارك في الألوهية بقدر ما تسمح به طاقة البشر؛ لأن الإله نفسه لا بد أن يكون واحدا.
ولكن السعادة الكاملة هي في الوقت نفسه الاكتفاء الكامل والقوة الكاملة، وهي كذلك الشرف والمجد واللذة، وكلها تتجه إلى الخير الذي هو قمتها وتاجها؛ فالناس تسعى إلى الاكتفاء لأنه خير، كما تسعى إلى القوة والشرف والمجد لأنها تعتبرها خيرا، وتعد نفسها بالفرح والرضا من ورائها؛ فالرغبات جميعا تلتقي في الخير؛ لأن ما ليس خيرا لا يمكن أن يرغب أحد فيه، وإذا كان الناس في بعض الأحيان يتوقون إلى ما ليس خيرا فلاعتقادهم الخاطئ أنه خير، وإذا كان الناس يسعون إلى هذا الشيء أو ذاك لأنه خير، فالأولى أن يقال إن سعيهم الحق إنما يتجه إلى الخير نفسه الذي يرغبون من أجله في هذا الخير الجزئي أو ذاك. ولما كان الخير والسعادة شيئا واحدا كما اتفقنا، وكان الله والسعادة الحقة شيئا واحدا كذلك، فلا بد أن ننتهي من هذا إلى أن جوهر الله يكمن في الخير نفسه لا في شيء آخر سواه. إن كل ما هو موجود فهو يسعى إلى الوحدة، والوحدة والخير شيء واحد، فكل موجود يسعى إذن إلى الخير، وقد بينت لك أن السعي إلى هذا الخير الجزئي أو ذاك لا يمكن أن يؤدي إلى السعادة الكاملة، فلا بد إذن من التسليم بأن الموجودات جميعا تسعى إلى الخير الأسمى، أعني إلى السعادة الكاملة، هذا الخير الأسمى هو الله الذي يدبر الكون، ويضفي الوحدة على أجزائه المختلفة المتنافرة، وهو في سبيل ذلك لا يحتاج إلى مساعدة من الخارج، وإلا ما كان مكتفيا بذاته، ولقد عرفنا أن الله هو الخير، ولا بد الآن أن نعرف أنه يدبر العالم بالخير، ما دام يدبره بنفسه، وأن كل من يسعى إلى الخير فلا بد أنه يسعى في الوقت نفسه إلى الله.
قالت الفلسفة هذا الكلام في هدوء واتزان يليق بجلالها وجدها، فهتف بها السجين: «أنت يا أيتها الهادية إلى النور الحق! لقد ذكرتني كلماتك الإلهية المبينة بما أنساني الظلم، وكنت من قبل أعرفه حق المعرفة، فلتعلمي الآن أن علة همي وحزني أن أرى الشر ممكنا في عالم يدبره إله خير، وأن أجد هذا الشر يسير في طريقه بغير عقاب بينما الفضيلة تبقى بغير جزاء، لا بل يدوسها الأشرار بأقدامهم، فهل لك أن تخلصيني من عجبي ودهشتي؟»
وأجابته الفلسفة قائلة: «إنك لو تأملت حق التأمل فيما انتهينا إليه معا؛ لعرفت أن الأخيار دائما أقوياء والأشرار عاجزون، وأن الرذيلة لا تعدم الجزاء، ولا الفضيلة تعدم المكافأة، وأن الطيبين ينعمون بالسعادة في آخر المطاف، والمفسدين يتعذبون بالشقاء، لقد عرفت معي أين تكون السعادة، وبقي علي أن أهديك إلى طريق العودة إلى الوطن الحق، وأمنح روحك جناحين ترتفع بهما إلى الأعالي فتهتف قائلا: «هذا وطني، لقد أتيت منه وسأبقى فيه.» عليك أولا أن تعلم أن الأخيار يملكون القوة وأن الأشرار ضعفاء عاجزون، ولكي أثبت هذا أقول: إن النجاح في كل عمل إنساني يقوم على شيئين: الإرادة والقوة، وإذا غاب أحدهما فشل العمل في تحقيق ما يريد، فإن غابت الإرادة لم تجد أحدا يتجه إلى ما يريد، وإن نقصت القوة كانت كل إرادة هباء، وكل من يعمل عملا فهو قادر عليه، ومن لا يقدر عليه لا يعمله.»
ولكن هل تذكر الآن أن السعادة هي غاية كل فعل إنساني، وأن السعادة هي الخير نفسه، ومن يسعى إلى السعادة يسعى إلى الخير، يتفق في ذلك الأخيار والأشرار على السواء؟ وهل بقي لديك شك في أن من يبلغ الخير يصبح خيرا، وأن الأشرار الذين يصلون إليه لا يمكن أن يظلوا أشرارا؟ وإذا كان كلاهما يسعى إلى الخير، فيبلغه الأخيار ويعجز عنه الأشرار، ألا يتضح من ذلك أن أولئك أقوياء وهؤلاء لا يملكون القوة؟ إن الخير الأسمى ماثل أمام الأخيار والأشرار، يسعى إليه الأولون بما فطروا عليه من استعداد طبيعي لممارسة الفضيلة، بينما يحاول الأشرار أن يبلغوه عن طريق شهواتهم، أعني عن غير الطريق الذي رسمته الطبيعة لممارسة الأفعال. ألا ترى مدى ضعف أصحاب الرذيلة، هؤلاء الذين لا يملكون القدرة على بلوغ ما تقودهم إليه الفطرة، لا بل تدفعهم الطبيعة إليه؟ وإذا عرفت أن الخير الأسمى هو آخر ما يمكن أن يسعى إليه الإنسان، ألا توافقني على أن من يصل إليه هو أعظم الناس وأقواهم إرادة؟ وأن من يعرف طريق الفضيلة ويتنكبه إلى طريق الرذيلة هو أضعفهم وأشدهم عجزا؟ لا بل تستطيع أن تقول: إن من يتعامون عن الهدف الوحيد لكل ما هو موجود، لا يثبتون عجزهم فحسب، بل يثبتون كذلك عدم وجودهم، وقد يدهشك أن أصف الأشرار - وهم أغلبية الناس - بأنهم غير موجودين؛ ذلك أنني لا أنكر أنهم أشرار، ولكني أنكر أنهم موجودون؛ لأنني أحب أن أحتفظ بهذه الصفة لكل ما يحافظ على طبيعته، أعني لكل ما يسعى إلى الخير. قد تحتج بقولك: إن الأشرار يملكون مع ذلك الغلبة والبأس، ولست أنكر ذلك، ولكنني أراه صادرا عن الضعف لا عن القوة، كما أرى أنهم لا يأتون الشر إلا لعجزهم عن فعل الخير. ولما كان الشر عدما كما اتفقنا من قبل، وكان لا يسعهم إلا اقترافه، فهم في الحقيقة لا يقدرون على شيء، أعني لا يقدرون إلا على العدم، فالقدرة على فعل الشر ليست في الواقع إلا ضعفا؛ لأن القدرة الحقيقية تكمن في فعل الخير والسعي إلى قمة القوة والسعادة جميعا، ألا وهو الخير الأسمى، وما من جزاء للخيرين أعظم من الخير نفسه، فالخير هو السعادة، والسعداء الحقيقيون هم «الإلهيون»، فبقدر ما يكف الإنسان عن فعل الخير، بقدر ما يكف عن الوجود نفسه، وبقدر ما يشارك في الخير، تزداد مشاركته في الكمال الإلهي.
يكفي أن الله - وهو خالق الأشياء جميعا - ينظم كل شيء حين يوجهه إلى الخير، وأنه يرضيه أن يتشبه به المخلوق بقدر طاقته، أما الشر الذي يحزنك أمره، فلو دققت النظر وحاولت أن تراه بمنظار العناية الإلهية لما وجدت له أثرا على الأرض، ولعرفت أن كل ما يصيب الإنسان من قدر فهو خير، سواء في ذلك أكان عقابا للمسيء أو جزاء للمحسن.
أنت يا من سرت قدما على طريق الفضيلة، إن قدرك في يدك، فتمسك بالتوسط والاعتدال، ولا تكف عن صراع القدر، حتى لا تخذلك المصائب أو تفسدك الملذات، ومهما يبد لك القدر قاسيا، فسوف ينفعك في الحالين، إن عاقبك عرفت العدل، وإن كافأك بلغت الخير، بذلك تعود إلى وطنك المضيء الذي حدثتك عنه، وتجد العزاء عن هذا الظلم الذي حاق بك، لا بل تعرف أنه ليس ظلما ذلك الذي ارتفع بك إلى العدل، وسما بك فوق الشر الموقوت إلى سماء الخير الأبدي.
وحوار ولقاء
لوحة رفائيل
شخصيات اللوحة
الصف العلوي: «جماعة تفككت»: 48، 47، 46، 45، 44، 43، 39، 38، 37، 31، 28، 24، 23، 22، 20، 19، 16، 15، 14.
يمين 30، 29 شمال.
17، 18، 21 «جماعة في طريقها للتكوين». «جماعة سقراط على درجات السلم»:
42، 41، 40
يمين 30، 29 شمال. •••
الفلكيون
أصحاب الهندسة
جماعة فيثاغورس
مدرسة صغيرة (أسفل) للمطالعة:
50، 52
54، 55، 57
1، 2، 3
6، 9، 10، 11، 12
49، 51
53، 56
4، 5، 7، 8 (1)
شخصيات متفق عليها:
5 فيثاغورس.
20 سقراط.
29 أفلاطون.
30 أرسطو.
40 ديوجينيس.
51 بطليموس. (2)
شخصيات اتفق عليها عدد كبير من المفسرين:
1 هيراقليطس.
2 أنكساجوراس.
6 ابن رشد.
11 ديموقريطس.
16 إيشينيس.
17 ألكيبياديس.
20 أكسينوفون.
24 سبويسيبو أو الإسكندر الأكبر.
37 زينون.
41 أرستبوس الأصغر.
42 أبيقور.
44 بيرون.
52 زرادشت.
53 أرشميدز أو إقليدس.
مدرسة الحكمة
حول لوحة لرافائيل
رسمها رافائيل في عام 1509-1510، وعرفت في تاريخ الفن باسم «مدرسة أثينا»، وجنت عليها هذه التسمية المشهورة زمنا طويلا؛ فقد حاول المفسرون على مر القرون أن يروا فيها صورة تعكس تاريخ الفلسفة، وترسم للعين كيف ولدت على أرض اليونان، وانتقلت من مدرسة إلى مدرسة، ومن معلم إلى معلم، ثم جاء العصر الحديث فرأى فيها لوحة نفسية تحررت من قيود المكان والزمان، عبر فيها الفنان عن مغامرة الفكر المجرد، وصور بها كفاح أبطاله المساكين، حين يترددون بين النجاح والفشل، ويجربون السعادة واليأس، ويشقون بالوحدة أو يبتهجون بالحقيقة. استطاع رافائيل أن يبدع هذه الملحمة الهائلة التي تزدحم بالحكماء على اختلاف نماذجهم وأشكالهم، وتسجل الصراع بين الفكر والفكر، وتجسد المعاني في شخصيات تملك إعجابنا وإجلالنا، أو تستثير ضحكنا وسخريتنا، نحن هنا شهود في مسرحية لن يسدل عليها الستار أبدا. نعاين النور الذي انبثق في قلب الإنسان وعقله لأول مرة، ونستمع إلى السؤال الخالد الذي انطلق من فم اليوناني القديم: «ما هو الوجود؟» فردده الناس من شرق وغرب، وراحوا على اختلاف أجناسهم وأديانهم وتعدد ملامحهم ولون بشرتهم يحاولون الإجابة عليه. على هذه الأرض الجديدة التي أقام عليها الفلاسفة جنتهم الفانية، لا يوجد فقراء أو أغنياء، ولا سادة أو عبيد، ولا مؤمنون أو كافرون، ولا يسأل أحد ما هو وطنك أو صناعتك؛ لأن الجميع مشغولون بالسؤال عن المعنى والمصير، عاكفون على التأمل والتفكير.
لكن التفكير لا ينفصل عن المفكر، إنه مرتبط بتكوينه وطبيعته ارتباطه بجسده ودقات قلبه (فالأفكار العظيمة تأتي جميعا من القلب)، واللوحة التي بين أيدينا تصور نماذج ثلاثة من الفكر حين تصور ثلاثة نماذج رئيسية من المفكرين، فهناك القلقون دائما، الذين لا يفهمون حين يعتقد الناس أنهم فهموا، والذين يندهشون على الدوام، حين يؤكد الجميع أن ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة. إنهم يحملون بذور التمرد معهم إلى حيث يذهبون، ويسخطون حيث يرضى الكل ويوافقون، حياتهم مقاومة مستمرة، فهم يقاومون العادة والتقاليد، كما يقاومون الشك والتسليم، إنهم لا يرضون باتخاذ «موقف»، حتى ولو كان هذا الموقف هو الشك، ويظل الواحد منهم ينسج كالعنكبوت عالمه الوحيد، ويغوص مثل هاملت من فكرة إلى فكرة، وينحدر من هاوية إلى هاوية، وكأنه يغزل خيوط الحبل الذي سيلتف في النهاية حول رقبته.
وهناك الذين لا يستطيعون أن يستقلوا برأي، أو ينفردوا على طريق، إنهم يتلقون وينصتون، ويلتفون حول المعلم فيتحمسون له أو يعارضونه، ويطرقون برءوسهم موافقين أو يهزونها مخالفين، ويتفانون في الوفاء له أو في الحرب عليه، ويسيرون صفوفا وراء غيرهم فيعيدون كلامهم أو يعيشون عالة على تجربتهم، ولكنهم في كل الأحوال لا يستقلون برأي، ولا يكشفون عن ذات تختلف عن بقية الذوات.
وهناك الباحثون والعلماء، الناقدون منهم والمتشككون، كل شيء بالنسبة إليهم يمكن أن يبرهن على صحته أو خطئه، ويقام الدليل على وجوده أو عدمه، قد يكونون مفكرين مناضلين، وقد يكتفون بالتملي والمشاهدة، قد يقضون حياتهم في التأمل والتجريد، وقد يقضونها في انتظار الإلهام السعيد، أو الحنين إلى الأصل الذي خرجوا عنه والأمل في الرجوع إليه من جديد.
ثم ننحدر درجة أخيرة في سلم التفكير، فنجد هذه النماذج قد تحولت إلى أضدادها، فالناقد الأصيل يصبح شتاما هجاء، ينتقد كل شيء، ويلتمس العيب في كل إنسان، ويحقر من شأن كل عمل، والشارح المدقق والمفسر المتعمق يصبح فأر مكتبة أو خرطوم خنزير، والمفكر القدير ينقلب إلى مجادل لكل رأي، معارض لكل دليل، مؤيد للقول وضده، إنه يسمح بتجاوز الصواب والخطأ، واجتماع الإله والشيطان، يدعي أنه يفهم كل شيء، ويحاول أن يرفع صوته في كل سوق، المثل الأعلى للحقيقة غاب عنه، والموضوعية الأمينة لم تعد قضيته، ويصبح العالم متعالما والأديب أدباتيا، والفيلسوف فيلسوفا (على نحو ما يقول التعبير العامي اللطيف!) يلوك الأسماء الغريبة في فمه ويتحذلق بالنوادر العجيبة في كل «صالون»، ويلبس كالمهرج في كل اجتماع رداء، ويستخدم كالبهلوان منطقا في كل سيرك. الشاك الأمين أصبح لا يدري أين يغرز سهمه، والمتشائم الجاد لا يعرف أين يضرب معوله، ويصبح أحدهما عدوا للفكر والآخر عدوا للإنسان، حاقدا على العالم محتقرا للثقافة، إنهما يفقدان كل مقياس، وينكران كل قيمة، وينتهيان إلى النزعة العدمية، أو إلى عدمية النزعة والاتجاه، أي إلى الفوضى بعينها، إن كل صورة نبيلة تمسخ وتشوه، وجلال الفكر الصامت الجاد يصبح ضجيجا في يد أناس غايتهم لفت الأنظار. •••
المتأمل في هذه اللوحة يشارك في مؤتمر فلسفي، يختلف عن كل المؤتمرات التي نعرفها في القرن العشرين، فالفلاسفة هنا مجتمعون، لا يتعصبون لمدرسة، ولا يتقيدون ببرنامج، ولم تبعث بهم دولة على حسابها. الواحد منهم لا يلقي محاضرة، بل يشارك في حديث، والحديث حر منطلق سخي وكريم، يسمح بالمناقشة والاعتراض، ولا يعرف الخطبة المفزعة التي يتكلم فيها واحد ويصمت الجميع؛ ذلك أنه هو الحديث الذي عبر عن الفكر في نشأته الأولى، قبل أن تدون الكلمة في كتاب، أو تسجن الحروف في مخطوطة. هو مؤتمر دائم أو أكاديمية مفتوحة لا تعرف المواعيد والجلسات ولا اللجان والندوات، ومع ذلك فقد اجتمعت هنا اتجاهات ونزعات عديدة، تستطيع النظرة الأولى أن تميز منها مشاهد خمسة:
أول ما يلفت انتباهنا رجل نصف عار، يجلس في استرخاء وعدم اكتراث على درجات السلم (شخص 40)، إنه هو الفيلسوف الشحاذ ديوجينيس، الذي عرف في تاريخ الفلسفة باسم «الكلبي»، لعله كان أول من دخل إلى معبد الحكمة، فلم يستند إلى عمود أو جدار، ولم ينتظر أن يتحلق حوله المريدون والأتباع، بل تمدد في جلسته كما يتمدد الكلب في دفء الشمس! إنه في الصورة يدير ظهره للجميع، ويكاد يذكرنا بالحكاية التي تروى عنه، حين اقترب الإسكندر الأكبر منه وأراد أن يتحدث إليه، فما كان منه إلا أن طلب منه أن يبتعد حتى لا يحجب عنه نور الشمس! لقد استغنى عن كل شيء، ولم تعد به حاجة إلى إنسان، حتى الملعقة التي كان يأكل بها قذف بها بعيدا عنه، حين رأى صبيا يشرب الماء من راحة كفه. وأما الوعاء الذي يأكل منه فالبعض يؤكد أنه يراه في الصورة، والبعض الآخر لا يرى ضرورة إليه. وأيا ما كان الأمر، فقد فرغ من أكله قبل أن يتوافد الحاضرون إلى «المدرسة»، ومضى يقلب البصر - من بعيد - في المخطوطة التي يحملها في يده اليسرى، وكأنما يلقي عليها نظرة ازدراء قبل أن يلقي بها بعيدا عنه، على نحو ما ألقى بكل شيء وتخفف من كل شيء!
ولكنه - شاء ذلك أو لم يشأ - مشترك في الصراع الدائر حوله، ومهما حاول إيهامنا بأنه قد استغنى عن كل شيء، فهو لم يستغن بعد عن هذه الرغبة في الإيهام! وإلا فلماذا أتعب نفسه بالحضور؟ ألم يكن يستطيع أن يبقى في برميله المشهور؟ لعله يشك في قدرة مظهره على بيان مخبره، ولعله يندم على أنه لم يحضر برميله معه! هذا الفيلسوف الذي ظن أن التفلسف شكل ورداء، قد أحضر كل ما يثبت «كلبيته»: اللحية الكثة المشعثة، والرداء الذي يكشف من الجسد أكثر مما يخفي، والجسد الممدد على السلم كأنه ثوب قديم متسخ لا يدري صاحبه كيف يتخلص منه، كل هذا يصرخ باحتقار من سمته العصور القديمة «بسقراط المجنون» للتمدن والتهذيب، وينطق بأن الفيلسوف هو الشحاذ الأبدي الذي يسأل عما لا يدريه أحد، ويتصدق بما لا يملك أحد أن يعطي. إنه فيلسوف المراعي والغابات، يهيم على الأرض كالوحش التعيس، عاريا إلا من خرقة تستر عورته، جائعا إلا من كسرة تخطفه من الجوع، وما أكثر أتباعه من العراة ودعاة الطبيعة والفطرة! سوف يحاول على الدوام أن يمد يده إلى الكتب التي لا يفهمها، ويجادل في المسائل التي لم يتهيأ لها، وسوف يرتد دائما إلى طبيعته الحيوانية، ويعرف أن الفلسفة عند أمثاله ليست سعيا إلى المعرفة، بقدر ما هي فن عملي من فنون الحياة، ومع ذلك فلا يجوز أن نظلمه ونجرده من كل «عاطفة» فلسفية؛ فوحدته الفاسدة في جوف برميله دليل على أنه يتصل بالفلسفة بسبب، وكلمته الأبية المتهورة للإسكندر الأكبر - إن صحت الرواية - برهان على شجاعته النادرة المضحكة.
إن المفسرين جميعا يتفقون على أنه هو «ديوجينيس» بن «سينوب»، الشحاذ الذي زهد في كل شيء، فلم يبق له من ترف إلا الفلسفة، والكلب الآدمي الذي أراد أن يثبت أن التفلسف هو الشيء الوحيد الذي ليس كلبيا فيه، وأن الفكر هو الذي يعصم الإنسان من أن يعيش ويموت كالكلاب ...
أما المشهد الثاني فهو - في أغلب الظن - يرينا أول القادمين بعد الفيلسوف الشحاذ، إنه الساخر الأزلي، الذي لا تفارق الابتسامة شفتيه، سقراط الساذج المكار في آن واحد، التفت حوله جماعة من كل شكل وصنعة وطبقة، وليس من المصادفة أن يكون سقراط هو أول الحاضرين بعد ديوجنيس؛ ذلك أنه مثله يملك الوقت للجدل الذي يبدو كأنه لا ينتهي، ويملك الوقت ليمضي من بيت إلى بيت، ويحمل فلسفته إلى الحواري والأسواق (وأين منها فلسفة اليوم التي لا تستطيع أن تغادر تابوتها الحديث الذي نسميه الكتاب أو قاعة المحاضرات؟) هنا نجد سقراط (شخص 21 وجماعته) وكأنهم يتهيئون للانصراف بعد أن طال بهم الحوار والنقاش، والفيلسوف يفرد ذراعه اليسرى ويعد على أصابعه كأنه يريد أن يؤكد شيئا انتهى إليه لمن لا يزالون يصغون إليه، والشك يطل من أعينهم يريدون أن يقولوا: «فلننصرف على كل حال، وهل يمكن لسقراط اللبق أن ينتهي إلى شيء؟!»
يبدو من سقراط الجانب الأيسر من وجهه فحسب، تجلله لحية كثة، وتشع منه وداعة أليفة، رداؤه بسيط فضفاض، في لون الزيتون الأخضر، يلتف حوله حزام يشد بطنه المنتفخة، وحركة يديه معبرة بسيطة، يكاد يفرد أصابعه ليعد عليها حججه النافذة المقنعة، وقبحه المشهور عنه قد عوضه النبل المعبر في حركاته وإيماءاته، ولعله الآن يختم الحديث الذي طال بينه وبين الجماعة الملتفة حوله، ويحاول - بعدما اعترف لمحدثيه بأنهم يعرفون ما لا يعرف - أن يتدخل بتواضعه الساخر المعروف، فيستخلص النتائج ويحدد المفاهيم، ولعله لم يصل كالعهد به إلى نتيجة محددة، بل ترك الحديث مفتوحا ليستأنفه في اليوم التالي على مأدبة صديق أو في زحام سوق، ومع ذلك فحركة يديه، والإشارة القاطعة بسبابة يده اليسرى ترجح أنه قد توصل إلى نتيجة لا سبيل إلى الشك فيها، ينصت إليها محدثوه في رضا واقتناع.
إن جماعة سقراط تتألف من ستة أشخاص، ترتبط بهم ارتباطا وثيقا جماعة أخرى (على الجانب الأعلى من الصورة إلى اليسار) من ثلاثة أشخاص (13-15)، لقد حضروا مسرعين، ورئيسهم الذي مد ذراعه اليسرى في هدوء وكأنه يعتذر أو يبرر موقفهم لواحد من جماعة سقراط (يتميز بشعر رأسه وذقنه الكث المهمل الطويل): «ها نحن قد أتينا، إن رفيقي قد أتى معه بالكتب التي كلفتمونا بإحضارها، لقد قطع الطريق جريا، يكاد الرداء أن يسقط عنه لفرط تعجله ولهفته على إحضار مخطوطته، لا شك أنها ستعاون على حسم النزاع وإيضاح البرهان، ولكن ماذا تريد أن تقول؟ هل كان تعبنا عبثا؟! ألم نتفق على الرجوع إلى الدليل المكتوب؟ وا أسفا للجهد الضائع؟ لقد تحقق ما توقعته، سقراط الذكي قد كسب المعركة، استطاع بسحر كلامه وخبث منطقه أن يجعلكم تتخلون واحدا بعد الآخر عن وجهة نظركم، ألم أقل لك ذلك من قبل؟! ألم يكن في استطاعتنا أن ندخر تعبنا؟ تقول: إننا تأخرنا؟ ولكن ما قيمة ذلك إذا كنتم أنتم قد تسرعتم بالاقتناع؟ هل جاءكم الآن كلامي؟!»
إن المتحدث بلسان الجماعة الثانية يبدو على وجهه ما يشبه الندم أو خيبة الأمل، والرجل الأشعث الشعر الذي يبدو أنه يؤنبه أو ينهره أو يستفزه يلتفت إليه، ولكن أذنه ما زالت معلقة بكلام سقراط. إن كل شيء يظهر له الآن سخيفا بعدما قال الفيلسوف كلمته، ربما كان أحد معارضيه قبل لحظات مضت، وربما كان واحدا من أولئك السفسطائيين الذين يهمهم أن يعلنوا هزيمة سقراط على الملأ، ولكن الأسانيد والحجج التي بعث في إحضارها لتأييد رأيه قد تأخرت، والحكيم الساخر قد أوقعه في شبكته، وهو إن كان يلوم هؤلاء الشبان على تكاسلهم؛ فلأنه لا يجد الشجاعة لكي يلوم نفسه. ألم يقف مع سقراط وينصت إليه؟ وكيف كان له أن يفلت من سحره أو ينجو من خطره؟ ها هو كل شيء قد ضاع، والمجتمعون حول سقراط قد اقتنعوا بما قال وأعطوه قلوبهم قبل أسماعهم، ولن تستطيع قيثارة هوميروس نفسه أن تصرف انتباههم عن حديثه الخطر الجميل!
سقراط يختم حديثه، لعله لا يقيم الدليل على صدق رأيه بقدر ما يثبت خطأ معارضيه، إن أهم شيء لديه الآن أن يجردهم من وهم قديم قبل أن يقنعهم بحقيقة جديدة، الشاب الأشقر الذي يقف إلى جانبه ويضع يده اليمنى على أذنه يتطلع إلى المعلم في حب من يصدق الآن كل كلمة يقولها دون حاجة إلى انتظار بقية الحجج والبراهين: «لا بد أن أنصرف الآن يا سقراط، اعذرني إن كنت لا أستطيع أن أنتظر حتى تتم كلامك، لقد خلصتني من أخطائي المتزمتة الموروثة، وإن كنت لا أتصور الآن كيف نجحت في ذلك. ها أنا أنصرف كما قلت لك، ولكن إيماني بك لا يخلو من الدهشة منك!» وأما الشاب البديع - لعله فارس أو محارب - الذي يضع على رأسه خوذة ويقف أمام الساحر الأصلع الفقير، وقد وضع ذراعه اليمنى في خصره، ووقف في استرخاء وقفة المستسلم المذهول، فهو لا يملك إلا أن يعطي نفسه كلها في نظرته المحبة الوفية لسقراط، إنه - كما يبدو - لم يشترك في الحديث اشتراكا فعليا، ولعله كان يعبر الطريق مصادفة مزدهيا بردائه الجميل وقامته الفارعة وجسده الممتلئ بالحياة، ولعله كان قد سمع بسقراط وشيطانه فيما يسمع بقية الأثينيين، فلما رآه يتحدث معهم وقف يستمع فيمن يستمع إليه، ويشاهد بعينيه فن «القابلة» الذي أتقنه سقراط كما أتقنت أمه توليد النساء. إن الشاب الجميل المسحور ببراعة سقراط في توليد الأفكار لا يملك الآن إلا الإعجاب المطلق به، وإن كان لا يفهم كثيرا مما يقول، أو لا يهمه أن يفهم منه القليل ولا الكثير، وكأنه يقول الآن لنفسه: ومع ذلك فهو يؤكد لكل من يصادفه أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف! حقا ما أمتع الاستماع إلى سقراط هذا، وما أشد ما يختلف عن غيره من أدعياء المعرفة!
جماعة سقراط من مختلف طبقات الشعب البسيط، ربما التقوا به بمحض الصدفة، فلم يشاءوا أن يتركوا الفرصة تفلت من أيديهم، ليسوا علماء ولا متعالمين - فكم كان سقراط يكره هؤلاء! - بل أناس استهوتهم طريقته في الحوار وتحديد المعاني والأفكار، إنه لا يتحدث عما وراء الطبيعة، ولا يغوص في أسرار الكون، ولا يتعرض لمشاكل الفلسفة الكبرى، بل يتحدث عن أبسط الأشياء التي تصادفهم في حياتهم العملية، جاعلا شعاره الذي يهتدي به قوله المأثور: المعرفة فضيلة، إنهم يثقون بما يقول، ويتحققون الآن من أنه لا يهتم بأن يعجب ويدهش بقدر اهتمامه بأن يعلم ويربي، لن يجدوا عنده شيئا من ألاعيب الجدليين التي يعرفها تاريخ الفكر من عهد زينون الإيلي إلى مهرجي الفكر في القرن العشرين، إن موقفه موقف صادق أمين، واضح محدد المنطق، وقد طالما جر عليه العداوة الظاهرة أو الخفية من جانب كثير من الفلاسفة، ابتداء من هيجل إلى نيتشه. إن المحارب الجميل يتطلع إليه في ثقة واطمئنان، ويضع يده على خده الأيسر وكأنه يصدق كل ما قال وما سيقول، والشاب الأشقر الواقف إلى جانبه قد أمن على كل كلمة قالها، وإذا كان الآن يسرح بعينيه بعيدا عنه، فهو يستأذنه في الانضمام إلى الجماعة الجديدة القادمة من الوسط، وكأنه يقول له: إنني لا أنصرف عنك إلا لأعود إليك، لقد ازددت اقتناعا بأنه ما من تيار آخر إلا وهو منبثق من منبعك. والعجوز الماثل في الوسط (لعله تاجر أو عامل يدوي) يميل برأسه نحوه، وترتسم على عينيه الضيقتين ووجهه المتعب الهضيم آثار الإجهاد من تتبع كلامه.
إن سقراط يعلمهم جميعا ويتعلم منهم، العلاقة بينه وبينهم تظل علاقة الحر بالحر، إنه ينمو معهم كما ينمون معه، وكل خطوة يخطوها تقربه منهم كما تقربهم منه، إنه لا يهدف إلى إقناعهم تمهيدا للتحكم فيهم والسيطرة عليهم (كما كان الحال لدى السفسطائيين وكما هو الحال اليوم لدى أصحاب الجدل والدعاية)، بل يعترف بجهله أمامهم ويحاول أن يتعلم منهم، ولا يصل إلى معرفة إلا بالاشتراك معهم، هو لا يوجه تلاميذه إلا ليزيدهم معرفة بأنفسهم، أعني ليزيدهم حرية؛ فهو لا يفكر لهم، ولا يخطب فيهم، ولا يحاول أن يخلقهم على مثاله، بل يأخذ بأيديهم حتى يستخرجوا المعرفة من أنفسهم، ويدرب أقدامهم على السير على طريقهم، ويفتح أعينهم على النور الكامن في باطنهم. هذه المعرفة التي يستخلصونها بأنفسهم من أنفسهم هي التي ولدت معهم، وهي وحدها التي ستبقى معهم إلى يوم مماتهم، تلك هي المعرفة «الأخلاقية» الحق، التي يحصلها الإنسان بالتأمل في نفسه، وهي المعرفة التي تبقى بعد أن ينسى كل ما تعلم أو «عرف»!
ويأتي المشهد الثالث، فها هما مفكران جليلان رائعان قد دخلا إلى معبد الحكمة (29، 30) الأنظار كلها تعلقت بهما، الواقفون على الجانبين أفسحوا لهما مكانا، والذين لم يلتفتوا حتى الآن إليهما لا شك أنهم يحسون بهما، لقد جاءا في خطوات جادة ثقيلة حازمة، كأنها إيقاع اللحن الثقيل الجاد الذي يصاحب أفكارهما ، الجميع يصغون إلى حديثهما، يتابعون الذراعين الممدودتين، تشير إحداهما إلى السماء في إصرار وعزم، وتشير الأخرى إلى الأرض في قوة وخشونة. اثنا عشر رجلا التفوا حولهما، استغرقوا في حديثهما الذي لن يصل إلى حد النزاع أبدا، ثم تركوا كل شيء وراحوا ينصتون إليهما، ويتدبرون بينهم وبين أنفسهم إن كانوا سينضمون في النهاية إلى صف الحكيم الإلهي، أو سيقفون إلى جانب العالم الواقعي، إن كانوا سيحلقون في السماء أو سيتشبثون بالأرض، حتى الشيخ العجوز الأصلع الملتف في ردائه الأصفر الفضفاض ترك جماعته وهم ما بين شاك ومتردد ومصر على موقفه وانضم إلى هذا الموكب الجديد الرائع ليتعلم ويستفيد.
إن أميري الفكر العظيمين يتصدران اللوحة، ويضفيان عليها جوا من السمو والعظمة والجلال، إنهما لا يقفان في مكانهما بل يتابعان سيرهما على طريقين متوازيين ولكنهما لا يلتقيان، وكل شيء يدل على أنهما هما أفلاطون
1
وأرسطو، الأول يرفع يده إلى السماء، وكأنما يشير بها إلى عالم المثل، والثاني يؤكد إشارته إلى الأرض، وكأنه يقول: «بل المثل هنا في عالم الأرض والواقع»! ها هما يصلان الحوار الذي لن ينقطع بعدهما، إنهما مستغرقان فيه منذ حين، لا يشعران بمن حولهما، وكل من حولهما يشعر بهما: شيوخ وشباب، أمراء وصعاليك، حكماء ومبتدئون من الألف باء، كلهم التف حولهما، وألقى بنفسه مختارا في أشرهما، وهم لفرط الإعجاب الصامت - العيون الصافية المستسلمة تشي به! - لا يدرون لمن يلقون الزمام: للشيخ العنيد الهادر، أم للرجل الصلب المتزن؟ وإذا كان الشاب الأشقر السمح الوجه، المتشح في سترة بيضاء على اليمين هو الإسكندر الأكبر كما يقول بعض المفسرين، فكم يصعب علينا أن نحدد ميله إلى المشائين أو إلى الأفلاطونيين! لقد اندمج الجميع بكليتهم في الحديث، فلم نتبين حتى وجوههم، إذا استثنينا الأول من كلا الصفين على اليمين واليسار، فالحكيمان يملآن المكان، لا يقل أحدهما عن الآخر في عظمته وجلاله، ولا يتميز واحد عن الآخر في قوته وإقناعه.
يبدو أفلاطون في روعة الشيخوخة، وأرسطو في قمة الرجولة، كلاهما يمسك بيده اليسرى كتابا. أما أفلاطون فكتابه هو «تيماوس»، وأما أرسطو فكتابه هو «الأخلاق». حركة الأول ونظرته المتحمسة تدل على أنه هو العجوز الناري الذي يذكر أبناء الأرض بالسماء، وبنية الثاني ونظرته الواقعية الهادئة تدل على أنه هو المعلم الرزين الذي يعيدهم إلى الأرض. الأول يشير متحمسا إلى عالم آخر، لعله هو عالم المثل أو التجريد أو الحب الإلهي، ويدافع بالعاطفة الملتهبة عن المطلق والمثال. والآخر يرد عليه في قوة وعزم، ولكن في حب وتعاطف، ويكاد يقول له في كلمات عاقلة مرتبة: يا أيها المعلم والصديق، إن حبي لك لا يمنعني من مصارحتك بالحقيقة، حاول أن تنظر معي إلى الأرض، أن تعود إلى التجربة، ألا ترى معي أن المثل لا تأتي معها بغير المشقة والتناقض؟ ألا ترى أن قسمة العالم إلى عالمين أحدهما للمثل الخالدة الثابتة، والآخر للأشياء المحسوسة المشاركة فيها؛ شيء يصعب على العقل تصديقه؟ أعرف أنك تقف بالقلب والشعر وراء هذا العالم البعيد المضيء، ولكن عالم التجربة والواقع عالم قريب وعسير، آه فلتعد إليه! فلتعد معي إليه، ما زلت تقول: إن المثل نماذج خالدة، وتصر على أن الأشياء تشارك فيها، ولكن لا هذا ولا ذاك يثبت وجودها، لا يصح أن نبحث عن جوهر الأشياء خارجا عنها، المثال والظاهرة يا معلمي، الصورة والمادة، العام والفرد، كلاهما مرتبط بالآخر. حقا إن المبدأ العام هو أساس المعرفة بالجزئيات، والصورة هي التي تحدد المادة وتشكلها، والمثال هو الذي يعطي الظاهرة «مظهرها»، ولكنهما متلازمان في الشيء الواحد، لا يتخلى أحدهما عن الآخر ولا يحلق بعيدا عنه، لا لن أستطيع أن أوافقك على رأيك في المثل، وإن كنت أخاطر بأن يتهمني الناس بمعارضتك حبا في المعارضة، نحن يا معلمي لا نختلف في معنى الكلمة، بل نختلف حول الطريق، وإذا كانت غايتنا هي المعرفة التي تحرر الإنسان، فإن طريقينا مع ذلك يختلفان. ستظل عينك تتأمل وترى، وستظل عيني تفحص وتدقق، ستظل قريبا من الله، وسأظل قريبا من العالم، كل ما على الأرض بالنسبة لك ظلال وأشباح، والناس عندك مساجين كهف لا يرون غير هذه الظلال والأشباح، فإذا خرجوا منه - ولكن كيف ومتى يخرجون؟! - أعشى أبصارهم نور الشمس، وبهرهم سنى المثال، أما أنا فلن ألجأ إلى الرمز، لن أحلق على جناح الشعر، لن أرتفع فوق الواقع، بل سأعيدهم إلى الأرض، سأنبههم إلى قيمة التجربة، سأغوص معهم في زحام الحياة. •••
بعد المأساة الجادة بأن المرح الرقيق، فعلى اليمين (38-39 ومن 42 إلى 44) انفضت جماعة منذ قليل في هدوء وبغير ضجيج. إن الشاب الذكي الذي يعرف هدفه (44) ويلبس رداء أزرق ويتلفح بعباءة بنفسجية - لعله كان لسان هذه الجماعة أو رائدها - يهبط درجات السلم، ولم تزل أصداء الحديث الذي شارك فيه تتردد في سمعه، وهناك يقابله زميل آخر، لا نرى منه إلا ظهره، نحس من إشارته أنه أقبل مسرعا، كأنما يخشى أن ينفض مؤتمر الحكماء قبل أن يدرك نصيبه منه، إن ذراعيه الممدودتين ناحية الفيلسوف الكلبي المسترخي على درجات السلم في غير اكتراث توحي بأنه يسأل صاحبه وهو يحاول أن يكتم الضحك: وماذا يصنع هذا أيضا؟ أتسمي هذا الشيء الممدد فيلسوفا؟ أهكذا تفعل الفلسفة بأصحابها؟ إن كان ديوجينيس كما تقول: فلماذا ترك برميله؟! لو أنه أحضره معه لما كنت على الأقل تعثرت فيه! ها أنا قد جئت أبحث عن معلم يهديني في متاهات الحكمة، أليس هذا الذي تجنب الجميع وزهد في الترف وصد عن مباهج الحياة هو أحكم الحكماء؟ ولكن صاحبه لا يكلف نفسه عناء الرد عليه، ولا يحمل كلماته محمل الجد، بل يشير بذراعه إشارة مختصرة حاسمة ناحية الفيلسوفين العظيمين اللذين أقبلا منذ لحظات، يشع منهما نور قاس يحيل كل ما عداهما إلى ظلال فقيرة باهتة: «هنا تستطيع أن تتلقى الحكمة، هنا لا في أي مكان آخر أيها الصديق!» والكلبي يسمع الحديث المهين الذي يدور عنه، لكنه لا يغادر هدوءه، ولا يخرج عن فلكه؛ لقد أدار ظهره للعالم وللناس ولم يعد ثمة شيء يستطيع أن يثير اهتمامه، وبعد أن ينتهي من قراءة مخطوطته - التي أقبل عليها في غير اكتراث، وكأنه يعرف سلفا أنها لن تأتيه بجديد - سيغمض عينيه ويستسلم لحظات لنوم هادئ يساعده على هضم طعامه المتواضع الذي ازدرده منذ قليل (وبعض الشارحين يؤكد أنه يرى وعاء طعامه على يمينه)، لا لن يهزه شيء أو يفقده هدوءه. وهؤلاء المترفون المتخمون هم أبعد الناس عن ذلك؛ إذ ما شأن أصحاب الثياب الفخمة والبطون الممتلئة بالفلسفة؟! الفيلسوف شحاذ من نوع غريب، لا يقف بباب ولا يمد يده بسؤال، وهل يستطيع أن يصل إلى الحقيقة العارية إلا من تعرى مثلي عن كل شيء؟! لا لن يكون لي شأن بهم حتى يتقنوا الشحاذة الفلسفية! فليتحدثوا أو ليسكتوا ما شاء لهم الحديث أو السكوت، أما أنا فلن أغادر برميلي ولو لم أحضره معي!
كانت هناك جماعة ملتئمة كما قلنا، ثم انفضت منذ قليل، العجوز الأصلع ذو الذقن الكثة البيضاء والرداء الأصفر القاتم قد شارك فيها من غير شك (شخص 47)، إنه يقف الآن وحده وكأنه يتحدث مع نفسه، لعله قد اكتشف - بعد الجدال الصاخب اليائس مع الشاب القوي الذي يهبط درجات السلم - أنه قد شاخ وأصبح من جيل قديم نسيه الموت ولم يعد يؤمن به الشباب، حتى هذا الشاب الذي جاء يبحث لنفسه عن معلم لم يكد يلتفت إليه، بل أسرع متجها إلى أميري الفكر الجديدين، هل كان عبثا كل ما أضعته من أيام عمرك في تلقي الحكمة وتلقينها؟ وهل تعرف الحكمة آلام الشيخوخة التي يعاني منها أبناء الإنسان؟! ما أقسى وحدة الحكيم حين يهرم فلا يستطيع أن يقنع أحدا ولا يستطيع أحد أن يصبر على الاستماع إليه! ها هو قد أنفق الساعات يشرح ويؤيد ويثبت بالحجج والبراهين، فماذا كانت النتيجة؟ شاب قوي كان يؤمل فيه الخير وينتظر منه العزاء لشيخوخته والاستمرار لتعاليمه ينصرف عنه غاضبا إلى غير عودة، وصبي ساذج صغير لا يزال يتهجى أحرف «الفلسفة» أسند أوراقه على ركبته، وراح يحاول أن يكتب ما فهمه مني إن كان قد فهم شيئا على الإطلاق، ويائس شاك وضع رأسه الضخم المهمل الشعر على ساعده وبقي وحده يتأمل فيما قلت، أو بالأحرى يتشكك فيه ويفكر في هدم البقية الباقية من أطلاله. إنه يتطلع في استخفاف ورثاء إلى كراسة الصبي المخلص إخلاص الأبرياء، وينتظر حتى يفرغ من تدوين ما علق في ذاكرته ليقول له: «ألم تكتشف بعد أن البرهان مشلول الساقين، وأن الحجج التي قدمها هذا العجوز المسكين لا تحتمل هبوب نسمة واحدة فما بالك بأعاصير الفكر الجديدة؟!» أنا لا أجرده من كل فضيلة؛ فأفكار الفلسفة تظل هي هي، ومشكلاتها لا تفنى ولا تستحدث، ولا تشيب ولا تتجمد، ولكن طريقة تناولها هي التي تختلف، وطريقة هذا العجوز قد أفناها الدهر الذي أوشك أن يفنيه معها. لعل الشاك المعذب لم يفصح عن شيء من هذا كله؛ لكيلا يعدي الصبي المتحمس، ولكن ظهره الذي انحنى، ووجهه الناحل المستطيل الحاد التقاطيع ينبئان باليأس الذي يمزقه ولا يستطيع أن يخفيه، إنه اليأس الذي أغرقه في الشك العقيم، ومنعه من أن يحاول مرة أخرى، أو أن ينضم إلى تيار جديد يجد فيه الجواب على الأسئلة التي تحير قلبه، وإذا كان يشك في مقدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة، فربما يعزيه أن العجوز الأصلع ذا الرداء الأحمر القاتم لم يخل كذلك من الشك والتردد، ها هو يقف حائرا لا يدري إلى أين يذهب ... رأسه وعيناه تتجهان ناحية اليمين، بينما يحاول جسده أن يتجه به إلى اليسار، ويداه المعقودتان على صدره تشيان بتردده، فإحداهما تميل يمينا بينما تشير الأخرى إلى اليسار، لعله مع ذلك قد استراح من العذاب الذي وقع فيه، وتخلى في يأسه عن كل سؤال، ولعله يؤمن الآن بأن لكل شيء وجهين، وأن كل شيء في نهاية الأمر حق وباطل وخير وشر وممكن ومستحيل. هذا هو عذاب الفلسفة، وهذا هو صراع الفكر مع نفسه، سيصل مع هيجل في العصر الحديث إلى قمته، فيقدس الديالكتيك ويمجد التغيير، ويضع يد الإنسان في الماء والأخرى في النار، ويؤرجح الكرة الكونية على قرني الثور فلا تهدأ ولا تستريح! إن وجه العجوز مكفهر، وجبهته مقطبة، وعيناه تكاد تطفر منهما الدموع؛ لقد خاب أمله في نفسه وفي العالم، ونفض يديه من السيطرة على تناقضات الواقع، ووقف مترددا عاجزا عن الاختيار. انفضت الجماعة كلها من حوله (لعله أيضا لم يكن رائدها أو مركز الوسط منها، بل مجرد شيخ محب للحكمة وقف يستمع إلى الجدل الدائر بين أفرادها) حتى إذا اتجه كبيرهم - العجوز الأصلع العملاق ذو الرداء الأصفر الفضفاض الذي يقف في أول الصف الأيمن يشاهد أفلاطون وأرسطو مكتفيا بالاستماع إليهما والتعلم منهما - إلى أميري الفكر العظيمين، وأسرع الشباب منهم بالانصراف - كما ترى الشاب العاري الذراع والكتف على أقصى اليمين في الجانب الأعلى من الصورة (شخص 48) - وجد نفسه وحيدا لا يدري ماذا يفعل ولا يعرف ماذا يريد. •••
في الواجهة الأمامية للوحة، يطالعنا مفكر وحيد متجهم (شخص 1)، إنه يجلس أمام الدرجات الأربع، مستندا برأسه إلى ذراعه اليسرى، على وجهه المتعب النحيل أمارات كآبة لا تخطئها العين، إن يده اليمنى تمسك بالقلم، ولكن العينين لا تتابعان ما تريد النفس المهمومة أن تمليه عليها، ولا تريان شيئا مما أمامهما أو حولهما، بل تتجهان إلى الداخل، وتتوهان في دروب الذات التعيسة المعتمة. إنه مثال المفكر الوحيد الذي يواجه زمنه بالتحدي والعناد، ويغوص في أعماق نفسه ليبحث فيها عن أعماق الوجود، إن يده لا تستطيع أن تلاحق أفكاره أو تعبر عن رؤاه، ولا تستطيع أن ترتبها في نسق أو نظام، ربما كان من أسباب حزنه الجارف غير المحدود أنه قد أدرك الآن أن الكلمة المكتوبة لا تملك أن تعطي للفكرة الشكل الذي يناسبها. إن الحزن المرتسم على وجهه أكبر وأعمق من أن يكون ذلك الانطواء الذي يتحدث عنه علم النفس، ولكن حزنه لا يتناسب مع قوته البدنية، وتأمله لا يتفق مع منظره الشاب، لعله يسأل نفسه - كما يسأل الشيخ الواقف على عتبة الموت: «ماذا بقي بعد الآن؟ وما جدوى هذا كله؟» أو لعله يكرر بنفسه حكمة سليمان: «الكل باطل.» إنه لا يفكر في العالم فحسب، بل يتعذب به ، هو الوحيد حقا بين كل من نراهم في اللوحة من نماذج وشخصيات، وما أشد شبهه بتمثال رودان المشهور «المفكر» الذي يبدو وكأنه يطل في هاوية أعماقه الباطنة التي تجذبه إليها، ترى ماذا يقول لنفسه؟ هل يدرك الآن أن الحياة لم تكن سوى خداع مستمر للنفس؟ هل يحن إلى العودة إلى أحشاء أمه؟ أم يتمنى لو لم يولد على الإطلاق ولم تر عينه نور الشمس؟
اختلف المفسرون في شخصية هذا المفكر الحزين، فالبعض يذهب إلى أنه هو «الفيلسوف الباكي» - هيراقليطس من أفيسوس - الذي يقال: إن الدرس المضني أكسبه نظرة حزينة، وأن الفنان قد رسمه كنموذج مضاد للفيلسوف الضاحك ديموقريطس الذي يظن أنه هو الشاب الوسيم الطلعة الذي يستند بكتابه على قاعدة العامود (شخص 1، في أقصى اليسار من الصورة) وقد التف حوله الأطفال والشيخ العجوز، والبعض يرى أنه هو النموذج المضاد للفيلسوف الواقف إلى جانبه (شخص 2، ولعله هو بارميندز الإيلي) الذي ينتمي إلى مجموعة فيثاغورس الجالس على اليسار، والبعض يقول: إن الفنان قصد به تصوير أحد الشكاك ولعله أركيز يلاوس أو الرمز إلى الخطابة في شخصية ديموستينيس، أو إلى الفيلسوف الرواقي أبكتيت في ملبسه الخشن وحذائه الروماني، الذي كان يوصي بأن يغلق الإنسان باطنه عن كل شيء خارجي، وألا يفتح نفسه للعالم بل يجعل منها قلعة محصنة منيعة. مهما يكن الرأي في شخصية هذا المفكر الحزين من الناحية التاريخية، فالمهم أنه يملأ فراغا في اللوحة كان سيظل شاغرا بدونه، والمعروف أنه هو آخر من أضافهم رافائيل إلى لوحته، ولا شك أن العين كانت ستفتقد المفكر الوحيد بحق وسط هذه الجماعات المختلفة من الحكماء والمعلمين والمتفرجين والمنصتين؛ ذلك أن الفيلسوف الشحاذ «ديوجينيس» الممدد على سلم مدرسة الحكمة ليس وحيدا بحق، مهما حاول أن يقنعنا أو يقنع نفسه بذلك! «فكلبيته» تلفت الأنظار إليه، ومظهره الشائن يضطر الجميع إلى الاهتمام به والامتعاض منه، كما يجرده بالضرورة من طابع الوحدة الحقيقية التي تكتفي بنفسها، وتبتعد عن كل ما يجذب العالم إليها أو يجذبها إلى العالم. •••
اللوحة كلها يسودها هدوء نبيل يضفي عليها طابع السمو والجلال. الجميع من متحدثين وصامتين مشتركون في حوار حقيقي قائم على التفاهم والمحبة، ليس هناك نزاع أو جدل أو ادعاء أو اتهام أو طموح كاذب مما يعكر اليوم حياتنا الفكرية ويخجل معظم المثقفين - لو كانوا أمناء مع أنفسهم - أن يطلقوا على أنفسهم اسم المثقفين، فليس هناك أكثر من المدارس والاتجاهات على هذه اللوحة، وليس أشد من الصراع بين المثالي والواقعي والضاحك والباكي والاجتماعي والمنعزل، والمتحمس المدافع عن رأيه والمتردد المرتاب في كل رأي، ومع ذلك فنحن لا نحس بغير الانسجام الكلي ولا نلمس غير الجد العميق، إن فيثاغورس (شخص 7 على اليسار، جالسا القرفصاء واضعا الكتاب على ركبته اليسرى) ومجموعته (من شخص 4 إلى شخص 9) يمثلون أسرة فلسفية يربط بين أفرادها المختلفين حب المعرفة؛ فالفيلسوف الرياضي الذي كان أول من سمعت أذناه موسيقى النجوم والأفلاك يشرح لأفراد عائلته ما غمض عليهم من رسوم، واللوح الأسود يمسك به الصبي الجميل الذي يتطلع إلى وجه الفيلسوف وصلعته أكثر مما يتابع شرحه! إن وجهه الرائع يفيض طيبة ووداعة لا تلبث أن تشع من وجوه حوارييه الملتفين حوله وتنعكس عليه من جديد، والعجوز الأصلع ذو اللحية البيضاء الكثة انكمش وراء المعلم - وكأنه يعتذر عن كل ما فاته بعد أن أدرك هذه السن! - لا يخجل من أن ينقل عنه، والمعلم لا يضن عليه بنعمة المعرفة التي لا يصح أن يحرم منها أحد، ولو كان هو هذا الشيخ الملتحي العجوز الذي يبدو أنه يتابعه في صعوبة، ويوسع عينيه لينقل رسومه، ويحرك شفتيه ليجتر ما يقوله، إنه يقف عند الكلمة المكتوبة، ويحصر همه في النقل والتجميع، وقد يفلح في أن يكون شارحا ومعلقا، ولكنه لن يكون فيلسوفا أبدا، فما أبعد الفلسفة والحكمة عن فيران الكتب وحفظة العناوين والطبعات! أفكار الحكيم تنهمر كالمطر وتتدفق كالنور، وهل تخشى الشمس على نفسها أن يسرقها من يتدفأ بنورها؟ وهل ينقص من البحر أن يعطي للشاطئ موجة بعد موجة؟! في المعرفة كما في الحب لا يمكن التفرقة بين الأخذ والعطاء، إن اليد تأخذ باليد، ولا يدري أحد من الذي يأخذ ولا من الذي يعطي. إن الشرقي الذي يقف خلفه، ولا تخطئ العين ملامحه الأسيوية، وغطاء رأسه وشاربه المغولي، يميل برأسه وصدره إلى الأمام، ويتطلع في ذهول المحب وخشوع التلميذ إلى الرسوم والأشكال، وتسعفه يده التي تستقر على صدره كأنما يقول: ما أسعد قدري الذي جاء بي إلى هنا! ما أعجب الأسرار التي تحملها الأعداد! وما أبدع الانسجام الموسيقي الذي يعكس الانسجام الكوني الأكبر! هذا الشرقي يحاول أن يفهم، والحب هو طريقه إلى الفهم؛ فالمعرفة الحقة لا تصل إلى العقل إلا إذا مرت بالقلب، وما أقرب هذا الحكيم من حكماء الشرق الملهمين! أما الوجه السماوي النبيل والملامح الصافية الشفافة التي يحملها الشاب الوسيم الذي يتلفع في رداء أبيض فخم (شخص 3) فلعله أحد رعاة الفنون، أو أحد الأثرياء النادرين الذين اهتدوا إلى أن الحكمة هي أجمل رداء يمكن أن يزينهم، وأن الجمال الذي يشع من النفس يخسف البريق الذي يشع من الذهب. لماذا يشق على نفسه بتفاصيل الفلسفة أو مشكلات العلم والفن؟ ألا يكفيه أن يتذوق الثمار بعد أن تجتاز مراحل النمو والازدهار، وأن يجعل من نفسه الخيمة التي تظل المفكرين، والبيت الذي يستضيفهم ويكرمهم ويشجعهم؟
فإذا ألقينا نظرة إلى اليسار لفت انتباهنا معلم شاب وسيم ممتلئ الوجه بسام التقاطيع، إن ذراعه اليسرى المفتولة تمسك بكتاب كبير وتسنده على قاعدة العامود، لقد أحضر إليه المربي العجوز على أقسى اليسار تلميذين صغيرين، حمل أصغرهما على صدره فأجهد الحمل الجميل شيخوخته. إن المعلم الشاب يجد متعة في التعليم، ويكاد يكون تمثالا ناطقا لما يسميه نيتشه «بالعلم المرح»، وها هو صديقه أو زميله يشاركه في تهجية الكلمات للصغار، ويضع ذراعه اليسرى على كتفه ليتمكن من تبين الحروف (لعلهما يقرآن نشيدا من إلياذة هوميروس)، لقد انتهى الطفل الأول لتوه من تلقي درسه، إنه يقف الآن وراء الأسيوي وعيناه الجميلتان المتسائلتان تقولان: ماذا لو استمعت قليلا إلى ما يقوله هؤلاء، حبا مني لن أفهم شيئا؛ فالأشكال التي يرسمها الشيخ الجالس القرفصاء غاية في الصعوبة، ويظهر أن هذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار يلتفون حوله ويتابعون كلامه في صمت وخشوع! أستطيع أن أحشر نفسي وسطهم وأنقش الرسوم في رأسي لكي أدهش بعد ذلك زملائي في اللعب. إن علي - على كل حال - أن أنتظر حتى يفرغ شقيقي الصغير من درس الهجاء، وهؤلاء الفلاسفة الشيوخ لن يضايقهم أن ينضم إليهم فيلسوف صغير!
أما على اليمين فهناك مدرسة الهندسة (من شخص 53 إلى شخص 57)، إن المعلم يضع برجله على شكل سداسي مكون من ستة نجوم يتألف من مثلثين متساويي الأضلاع. كانت الهندسة ما تزال «ميتافيزيقية»، والمثلث ما يزال يحتفظ بطابعه الإلهي (المعروف من أفلاطون كان يستبعد بصراحة كل من ليس لهم إلمام بالهندسة من أكاديميته). لقد قاس الله العالم بمثلثات الهندسة ودوائرها، وكان هو نفسه مهندسه الأعظم، هذه الصفة الإلهية للهندسة هي التي تستطيع أن تفسر الانبهار السماوي الذي يتجلى على وجوه الشبان الأربعة، إن أحدهم يحاول أن يفهم، والثاني يستفسر، والثالث يوضح لزميله السر العجيب الذي أدركه، ليشاركه النعمة التي حظي بها، والرابع يكاد يرقص من نشوة الفرح بما تراه عيناه ويحاول عقله البريء أن يدركه.
وإلى جانب هذه الجماعة تقف حلقة الفلكيين على أقصى اليمين، إن الشيخ الملتحي يوازن كرة الفلك الخفيفة على يده اليمنى، والشاب الذي يعطينا ظهره يمسك الكرة الأرضية بكلتا يديه، كلاهما ملتفت إلى الشابين المشتركين في الحديث، ويبدو أن أحدهما - وهو الأصغر سنا - هو رافائيل نفسه، والآخر معلمه بيرو جنيو. وكيف لا يضع الفنان نفسه في هذه الجماعة، وهي لا تناقش درسا في الفلك بالمعنى الذي نفهمه اليوم من التفسير العلمي لطبيعة الأجرام السماوية وحركتها، بل ترفع مفهومات الفلك إلى مستوى القداسة، وتتحدث عن المثلث والهرم والدائرة والمكان والزمان كما تتحدث عن الخلود واللانهاية والنظام والحكمة الإلهية؟! إن الهدوء يسود هذه الجماعة، والرهبة والخشوع أمام «القبة المزدانة بالنجوم» تملك قلوبهم كما ملكت قلب كانط في العصر الحديث حين لم يجد شيئا يمكن أن يملأ قلبه بالجلال والإعجاب غير القانون الأخلاقي المطلق في صدره والسماء ذات النجوم من فوق رأسه، لقد شاهدوا ورأوا - بالمعنى الأصلي الذي تحمله كلمة تيوريا
Theoria
اليونانية (رؤية - مشاهدة) كما كانت عند أفلاطون، لا بمعناها الشاحب الحديث (نظرية) - وملأوا القلب حين امتلأت العين ... كانت دورة الفلك عندهم حقيقة رائعة أو ظاهرة أولى كما سيقول «جوته»، وكذلك بقيت من عهدهم إلى عهد كوبرنيكوس (آخر الفلكيين القدامى) تغمرهم بنور الانسجام الأزلي، وتشعرهم بالجمال والنظام والحكمة الخالدة. •••
كانت هذه هي لوحة رافائيل أو ملحمته الملونة، حشدها بألوان من صراع النفس والفكر، وعبر فيها عن نماذج إنسانية تكافح من أجل المعرفة. إنه لم يستبعد طبقة من طبقات الشعب، ولا استثنى مرحلة من مراحل العمر؛ فأغنى الأغنياء يقف في معبد الحكمة مع أفقر الفقراء، والزي الفخم مع الخرقة التي لا تكاد تستر الجسد، الأمير والحاكم والفارس يستمعون إلى سقراط إلى جانب التاجر والعامل ورجل الشارع. فالفلسفة لا تعرف الغني ولا الفقير، ولا تميز بين السلطان والشحاذ؛ إن عينها النافذة لا ترى الرداء الخارجي، بل تتجه إلى الإنسان أينما كان. كذلك لا تفرق الفلسفة بين الشعوب والأجناس؛ في اللوحة نرى اليوناني والمصري والمغولي والعبري، حتى الأطفال والنساء وجدوا مكانهم بين الحكماء: فهناك ما يشبه أن يكون «روضة أطفال فلسفية» يتلقنون فيها مبادئ الكتابة والهجاء، ويطالعون أسرار الرموز والأعداد، وهناك المرأة التي تضفي على جفاف الفلسفة جوا من التجانس والانسجام، والكل تنتظمهم وحدة فلسفية توثق رباط الحكمة بين الإنسان والإنسان.
من الخطأ أن نفسر شخصيات هذه اللوحة تفسيرا تاريخيا أو حرفيا (وإن كان هذا لا يمنع أن معظمها ينطبق على شخصيات حقيقية وجدت بالفعل، واستطاع نقاد ومؤرخو الفن أن يتعرفوا فيها على فيثاغورس وديوجينيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو من شخصيات الفلسفة القديمة، كما تعرفوا على شخصية رافائيل نفسه ومعلمه بيروجنيو والكاردينال بمبو)؛ فالفلسفة القديمة ليست هي وحدها التي تواجهنا بتياراتها المختلفة على هذه اللوحة؛ ذلك أنها أغنى من أن تقتصر على مدرسة بعينها وأشمل من أن تحد ببلد أو عصر بذاته، إنها أقرب إلى أن تكون سمفونية للنفس البشرية التي لا تكف عن السعي إلى المعرفة، فالحكمة هي قلب اللوحة النابض، والفكر العظيم هو الشخصية الرئيسية فيها، والعشق الفلسفي (أو الإيروس) هو الرباط الذي يوحد الإنسانية في أشخاص مفكريها، ويحقق الجمهورية العقلية التي طالما تمنوا تحقيقها على هذه الأرض «وها هي تقنع بالتحقق في لوحة، على جدار، في متحف» وسواء بعد ذلك أن نضع «هيجل» أو «شيلنج» مكان أفلاطون، أو نتصور ابن رشد أو هيوم مكان أرسطو، فسمو الفكر وشرف الغاية في الحالين واحد.
حقا إن فارق الكرامة بين الفكر الحديث والفكر القديم شاسع ومخيف، فأين نجد اليوم الحاكم الذي يقف من المفكر أو العالم وقفة الإسكندر الأكبر من أرسطو؟ وأين نجد المؤتمر الذي يتناقش أعضاؤه في مسائل الفكر والمصير بمثل هذا الحماس والتفاني والاستقلال؟ ومع ذلك فإن المقارنة بين العصرين مستحيلة بقدر ما هي ظالمة، فمن المستحيل أن نبحث اليوم عن أستاذ «بكرسي» يضع نفسه في «برميل» أو يتمدد في الشمس كما كان يفعل الفيلسوف الشحاذ، أو يطوف بالأسواق ليعرف الناس بأنفسهم كما كان يفعل سقراط. وإذا كنا لا نستطيع أن نطلب هذا من مفكري اليوم وعلمائه، فإن من حقنا مع ذلك أن نطلب منهم أن يبحثوا عن المعرفة بحثهم عن أنفسهم، ويدافعوا عن الحرية دفاعهم عن الحياة. وما بقي صوت يرتفع في سبيل شرف الفكر وكرامته وحريته من كل ما يقيد استقلاله، ففي استطاعتنا أن نطمئن إلى أن مدرسة الحكمة يمكن أن توجد في القرن العشرين كما وجدت في القرون السابقة على الميلاد، وأن نطمع في أن يكون لها ممثلوها الذين يعيشون بيننا، كما كان لها أربابها في بلاد اليونان.
خلاف حول الإنسان
بين كامي وسارتر
عندما ظهر كتاب «المتمرد» لألبير كامي في سنة 1951 استقبله معظم النقاد بالحفاوة والتقدير، واعتبروه من أهم الأحداث الأدبية والفكرية في فرنسا وفي أوروبا بوجه عام، وتعددت الآراء حول هذا الكتاب الذي يعالج قضية الثورة في الحياة الغربية منذ ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس على سلطان روما حتى الثورة الماركسية الكبرى، ويكشف عن مدى إخلاصها لطبيعة الإنسان وكرامته، أو انحرافها عن مبادئ التواضع والاعتدال وسقوطها في مأساة القتل والجريمة. قال عنه البعض: إنه كتاب لم يظهر له مثيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووصفوه بأنه أحد الكتب الأساسية التي تسجل بنبلها وإنسانيتها بداية عهد جديد. وكان هناك اتفاق يشبه الإجماع على أنه - من الناحية الأدبية على الأقل - قد نجح نجاحا تاما، فلم يبق هناك أحد لم يتأثر بسمو عبارته تأثره بسمو تفكيره، ولم يختلف أحد من أصحاب اليمين أو اليسار على أسلوبه القوي الحساس الذي يكاد في جماله وشجاعته وحدته ألا يكون قد جرى على قلم كاتب أوروبي بعد نيتشه.
غير أن هناك كاتبا خرج على هذا الإجماع، وراح يحمل على الكتاب وصاحبه حملة شديدة كانت سببا في نزاع مؤسف أدى إلى القطيعة بين اثنين من أعظم المفكرين في عصرنا الحديث، فقد كان هذا الكاتب هو «فرنسيس جانسون»، مساعد سارتر في تحرير مجلته «العصور الحديثة» وأحد النقاد والمفكرين اليساريين.
لقد استفز كامي استفزازا جعله يرد عليه بلهجة غاضبة لا تخلو من التعالي والكبرياء؛ مما حمل سارتر على الإجابة على هذا الرد في لهجة أشد غضبا وقسوة. ومع أن الحساسية الشديدة للنقد كانت من أقوى الأسباب التي زادت من حدة هذا الخلاف، فإننا نستطيع اليوم - بعد أربعة عشر عاما من وقوعه - أن ننظر إليه نظرة هادئة تبعد عنه العوامل الذاتية المسرفة، وتوضح كيف أنه لم يكن في الواقع مجرد خلاف بين شخصيتين كبيرتين، بل شيئا ينبع من صميم العصر الذي نعيش فيه ولا يزال يشغله ويعذبه إلى اليوم.
يبدأ جانسون فيسأل هذا السؤال: هل يجوز لكتاب يعالج قضايا ينقسم حولها الناس وقد يقتتلون من أجلها أن يكتب بمثل هذا الأسلوب الجميل، أو يبلغ هذه الدرجة من سمو اللغة ونبلها وتعاليها؟ إن كامي نفسه يرفض الفنان الشكلي كما يرفض الفنان الواقعي، فهو في الفصل الذي وضعه عن «التمرد والفن» يدين الاثنين معا، ويقول : إن عيب الأول أن الشكل في أعماله يغرق المضمون، كما يأخذ على الثاني أن المضمون عنده يطغى على الشكل. كلاهما يبحث عن الوحدة حيث لا مكان لها، فإذا ظن أنه وصل إليها لم تكن سوى وحدة خادعة ومخدوعة، وإذا طبقنا هذا على أسلوب كامي وجدناه قد أغرق في الشكلية على حساب الروح الموضوعي التي يحتمها مضمون يتناول مسائل الثورة والتاريخ، وأسرف في الاهتمام بالأسلوب إلى حد وصل فيه إلى التطرف الذي وضع هو نفسه كتابه لإدانته. لقد قال في حديثه عن الأسلوب: «عندما يبالغ الكاتب في الاهتمام بالأسلوب والتظاهر به، يصبح عمله حنينا خالصا، وتصبح الوحدة التي يحاول اقتحامها شيئا غريبا على الواقع.» فهل ينطبق هذا القول على أحد كما ينطبق عليه؟ إن الكتاب كله صرخة احتجاج على التطرف والظلم والتنكر للإنسانية الحقة، ولكنه - على حد قول الناقد - احتجاج مفرط في جماله وجلاله وثقته بنفسه، مبالغ في دقته وكماله وتعاليه.
ويعود الناقد إلى إنتاج كامي السابق على «المتمرد» ليحلله من وجهة النظر هذه، فقد كانت روايته الوباء «تاريخا متعاليا» لمرض الطاعون الذي داهم مدينة وهران الجزائرية، وهي في ذلك تختلف عن روايته الأخرى «الغريب» في أن مرسو - بطل هذه الرواية الأخيرة - يرى العالم من وجهة نظر الذات الواقعية الوحيدة التي تجد نفسها غريبة بين ذوات أخرى واقعية، في حين أن مؤرخ الوباء ينظر إلى الأحداث التي تقع في المدينة من عل، ويكتفي بتأمل الموقف من خارجه؛ ولذلك فإن الوباء لا تمثل تحولا في تفكير كامي، بل تتابع المرحلة التي يعبر عنها كتابه الفلسفي «أسطورة سيزيف»، فقد تعلمنا من هذا الكتاب كيف نحافظ على العبث أو المحال، ونتمسك بالرهان الممزق العجيب معه، عندئذ يحتل الجسد والحنان والخلق والفعل والنبل الإنساني مكانه في هذا العالم الخالي من المعنى. كانت كرامة الإنسان تتمثل عند سيزيف في التمرد العنيد على قدره، والإصرار على مجهود يعلم أنه عقيم. وكان عليه أن يقتدي بهذا البطل الإغريقي فينتقل باستمرار من فعل إلى فعل ويواجه العالم، ويستزيد من الحياة بقدر ما يستطيع، ويستنفد طاقاته في سبيل لا شيء، ويفقد الأمل في إدراك معنى الوجود، ويتجرد من كل الأوهام التي تعده بالخلاص. وهكذا قدمت أسطورة سيزيف صورة منطقية أو منهجية لسلوك «الغريب» غير المنطقي ولا المعقول، ووضعت الإنسان أمام قدره الظالم غير المفهوم، وعلمته أن الإنسان غريب أمام نفسه وأمام العالم، وأن واجبه وكرامته معا في احتمال هذا الوجود العبثي وتحديه. ثم جاءت «الوباء» فعبرت عن هذه المعاني كلها على نطاق أوسع، فلم يعد الأمر هنا يتعلق بمصير فرد واحد، بل بمصير مدينة وقعت فريسة للطاعون وكتب عليها أن تحيا في حال حصار؛ ولذلك جاءت الرواية «ميتافيزيقية»، واستحقت أن تسمى «بالقدر الإنساني». فالمشهد الحقيقي الذي تدور أحداثها على مسرحه هو العالم كله لا مدينة وهران وحدها، وشخصياتها تعبر عن البشر جميعا لا عن رجال هذه المدينة ونسائها فحسب، والوباء الذي تروي قصته ليس هو الطاعون، بل الشر المطلق الذي يرزح بثقله على كل وجدان واع. غير أن هذا التشابه بين الموقفين كان في الحقيقة نوعا من الخطأ الذي يتحمل المؤلف وزره؛ لأن الانتقال مستحيل من أحدهما إلى الآخر، ولأن الصلة مقطوعة بين الوباء الذي يؤرخ له عقل خالص وبين القدر الإنساني الذي يحياه أناس واقعيون. ولعل أسلوب كامي هو الذي كان مسئولا إلى حد كبير عن هذا الخطأ أو عن هذا الوهم، فقد لجأ إلى أسلوب الرواية الذي يتميز بالتعالي والبرود، ويتأمل الموقف ولا يعيش فيه؛ ذلك لأن صراع البشر مع فيران الأرض لا يمكن أن يكون خاليا من المعنى إلا إذا نظرت إليه من أعلى، أما إذا عشت بينهم ووصفته من الداخل فستجد أن كل واحد فيهم يضفي على حياته معنى من المعاني؛ لأن مجرد الحياة في ذاتها لا بد أن ينطوي على المعنى، فإذا قررت أنها خالية من كل معنى فعليك عندئذ أن تضع لها حدا؛ لأن المنتحر هو وحده الذي يقرر ألا يقرر شيئا ...
كان كامي إذن يعيش في تناقض مستمر لم ينكره لحظة واحدة من حياته، فهذا العقل الذي يحب الوضوح، وهذه الروح التي تمجد النور، قد وجدت أنها تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذاب البشر، حتى اعتقدت أن الإنسان قد حكم عليه ظلما بأن يعيش، وهو الكائن العاقل في عالم غير معقول، وأن ينشد الوحدة والانسجام وسط التناقض والاضطراب، وهو لذلك لا يملك إزاء هذا «الظلم الميتافيزيقي» سوى أن يقابله «بالشرف الميتافيزيقي» الذي يمكنه من الصمود لعبثية العالم، والتمرد عليها كذلك تمردا عبثيا. كذلك يفعل الدكتور «ريو»: بطل الوباء الذي يتحدى المرض ويحاول أن ينتزع من بين مخالبه أكبر عدد من الأحياء، وإن كان يؤمن مع ذلك أن كفاحه عقيم، وأن الوباء لا بد أن ينتصر عليه في النهاية.
حاول كامي إذن في أسطورة سيزيف أن يثبت وجود العبث أو المحال ويثبت معه أن الوعي به لا يؤدي إلى الانتحار بل إلى التمرد، ثم عكف سنوات عديدة على وضع «مقاله» عن التمرد، وفيه ينتقل من الفرد إلى المجموع، ومن قدر ظالم مقدور إلى قدر آخر مفروض على الناس، فهو يتأمل في هذا الكتاب حقيقة العلاقة بين التمرد والجريمة، وبالأخص تلك الجريمة التي يصفها بالجريمة المشروعة أو الجريمة المنطقية أو الأيديولوجية، وهو يسأل إن كان من الممكن أن يؤدي التمرد - الذي هو بطبيعته احتجاج على قدر ظالم وغير مفهوم - إلى تبرير الجريمة الشاملة والقتل الجماعي، أو إن كان من الممكن على العكس من ذلك أن نكتشف فيه مبدأ ذنب معقول؛ فالفعل التاريخي لا يستطيع أن يدعي البراءة. والمهم أن نعرف إن كان في طاقة الإنسان أن يعصم نفسه من الانزلاق إلى الذنب الشامل، ويلتزم بلون من التمرد المعتدل الذي يحتج على الظلم والعبودية والمهانة في الوقت الذي يؤكد فيه طبيعة الإنسان وكرامته. فالعبد الذي يتمرد على طغيان سيده ويقول له: «لا»، إنما يقول في نفس الوقت «نعم»، ويؤكد قيمة إنسانية لا ينبغي أن تهدر أو تهان؛ لأن البشر جميعا من مظلومين وظالمين يشاركون فيها بنفس المقدار، وبذلك يكون التمرد - الذي هو أصله تعبير عن صرخة ذات وحيدة - تأكيدا للتضامن بين البشر، فإذا أنكر هذا التضامن فقد اسمه وانحرف إلى القتل والجريمة. كان تمرد سيزيف تعبيرا عن سخطه على الموت وعاطفته الجياشة بالحياة، وكان إنكارا للآلهة وتحديا للمحال أو العبث؛ ولذلك فقد كان من الممكن أن يظل تمردا وحيدا، أما التمرد الذي نتحدث عنه الآن فهو ينتزع الفرد من وحدته، ويجعل الإحساس بالغربة التي كان يقاسيها والشر الذي كان يعانيه وحده وباء «مشتركا» بينه وبين الناس. وبذلك يصبح التمرد هو الحقيقة الواضحة الأولى التي تجمع البشر على قيمة واحدة، كما يصبح من المستطاع أن نقول: نحن نتمرد، فنحن إذن موجودون.
وهكذا ينتقل كامي إلى دراسة التمرد الميتافيزيقي الذي يصفه بأنه حركة يواجه الإنسان بها قدره والخليقة بأجمعها، محاولا أن يسترد الوحدة السعيدة ويتخلص من عذاب الموت والحياة، ثم يبين بعد ذلك كيف يتحول هذا التمرد المتافيزيقي إلى تمرد تاريخي؛ فينسى أصله ويتنكر لمنبعه ويزحف إلى السيطرة على العالم خلال جرائم لا نهاية لها، بعد أن كان في مبدئه احتجاجا على الموت والشقاء، ومحاولة «لغزو الوجود الذاتي وإبقائه في وجه الله» ويكون لويس السادس عشر أول ضحية لهذا الانحراف التاريخي، وتقيم الثورة الفرنسية نظاما من القهر الذي لا ينتهي، وتنشئ الجمعية الوطنية نظاما مطلقا جديدا؛ فتجلس الفلسفة على العرش بعد أن طردت الله من السماء، من ثم يفلت التمرد الإنساني الأصيل من كل الحدود ليصبح ثورة ميتافيزيقية تجلت في ثورات العصر التي حاولت أن تؤله النوع البشري، أو تنطلق إلى الغزو الشامل للعالم، أو تقيم مملكة غيبية في نهاية التاريخ، فتشوه وجه التمرد الأصيل في كل الأحوال.
1
لم يكن غرض كامي إذن هو وصف ظاهرة الثورة ولا عرض أسبابها التاريخية والاقتصادية، بل كان غرضه - على حد قوله - هو الكشف عن المسار المنطقي في بعض الوقائع الثورية، وبيان الموضوعات الدائمة للتمرد الميتافيزيقي، ومن هنا يبدأ جانسون في توجيه نقده إليه، فهو في رأيه ينظر إلى الثورات من وجهة نظر ميتافيزيقية، ويهمل أسبابها الاقتصادية والتاريخية، وهو يذهب إلى أبعد من هذا، فيقتصر على اكتشاف المسار المنطقي للثورات، ويرفض الاعتراف بأن للعوامل الاقتصادية والتاريخية دورا في نشوئها؛ وبذلك تصبح الثورة عنده مرادفة لتأليه الإنسان. وتتكفل الشيوعية الروسية بتحقيق الطموح الميتافيزيقي الذي يصفه كتابه بمحاولتها أن تشيد مملكة الإنسان الذي سيصل في النهاية إلى مرتبة الألوهية.
في رأي الناقد بالمواقف الواقعية في هذا التصور الغريب للتاريخ لا بد أن يلغي التاريخ نفسه؛ إذ إن كامي يضحي في سبيل حوار فكري مجرد، يدور بين الاحتجاج الميتافيزيقي على الموت والعذاب من ناحية، وبين الطموح الميتافيزيقي الذي يغري الإنسان بالتسلط المطلق والسيطرة الشاملة من ناحية أخرى، بحيث نجد التمرد الحق في الحالة الأولى، والثورة الفاسدة في الحالة الثانية، وقد يصلح هذا المستوى الفكري للمناقشات اللاهوتية، ولكنه لا يصلح للكلام عن المواقف الواقعية، ولا لفهم حياة البسطاء من الناس، والكادحين الذين يجوعون ويكافحون المسئولين عن تجويعهم. ولا شك عند الناقد في أن كامي أرفع من أن يؤمن بهذه «المستويات الدنيا» أو أن يسلم بالدور الرئيسي الذي تؤثر به الحتمية الاقتصادية - أو الحتمية التاريخية كما يفضل أن يسميها - على أفعال الناس وأفكارهم. ويستمر الناقد فيقول: إنه إذا كان هناك عيب كامن في الثورات، فلا ينبغي أن نفتش عنه عند الفلاسفة، بل في الأفعال الثورية نفسها؛ ولذلك فلا صحة للقول بأن مذهب ماركس هو الذي أدى إلى إرهاب ستالين، ولا مبرر للحكم على النظرية من نتائجها، وللزعم بأن المادية الجدلية أو التاريخية هي المسئولة عن النظام البوليسي البشع على عهد ستالين. وهكذا يكون كامي قد وقع في خطأين: أولهما أنه لم ينقد النظرية من داخلها بل حملها مسئولية أفكار وأفعال بعيدة عنها بعدا كبيرا، وثانيهما أنه مر مرور العابرين على ظاهرة الثورة نفسها وسكت عن ظروف نشأتها وحركة تطورها وعناصر السلوك البشري المكونة لها.
ويأخذ الناقد على كامي أنه عرض للثورات التاريخية عرضا ناقصا بالاعتماد على كتابة تاريخية ناقصة للمذاهب الثورية. فمن الخطأ أن يوجه النقد إلى الثورات الكبرى في العصر الحديث بالاعتماد على تحليل العقد الاجتماعي لروسو، أو سرد خطب سان جوست، أو تحليل ظاهريات الروح لهيجل، أو عرض حركات التمرد الدامية والفوضوية والفاشية، أو الكلام عن ماركس ولينين وستالين من وجهة نظر مسبقة، أضف إلى ذلك التحليل السطحي لمذهب هيجل، ففي رأي كامي أنه أراد أن يجسد الحقيقة والعقل والعدالة ويلقي بها في مجرى التاريخ؛ فقذف بالعقل المجرد الذي كان إلى عهده يخطط من أعلى للظواهر المتعلقة به في مسار التاريخ، ومهد بذلك لعهد جديد يخلو من العلو أو «المتعالي»،
2
وينصرف بكليته إلى تنازع القوى والصراع على العالم. لقد بذل جهده لتدمير كل حقيقة متعالية وكل حنين إلى التعالي، وقدم بذلك - على مستوى ديالكتيك السيد والعبد - المبرر الحاسم لروح القوة التي تسيطر على القرن العشرين، وبذلك جعل من تاريخ الإنسانية صراعا مميتا لغزو العالم والوصول إلى السيطرة المطلقة، وانتهى تفكيره إلى «الدولة المطلقة» التي أقامها الجنود والعمال، وتمجيد النجاح البشع بكل ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو موت الملايين، كما استمد منه الثوريون في القرن العشرين تلك الأسلحة التي دمروا بها مبادئ الفضيلة الشكلية.
فعل كامي هذا كله ليثبت أن كل الثورات تخون التمرد الحق من حيث تريد أن تؤله الإنسان، وهو لهذا يلقي الذنب كله على رأس هيجل، فمنهجه الجدلي يريد أن يصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي «تلتقي فيها مدينة البشر مع مدينة الله.» وستالين عنده هو أحد أبناء هيجل الروحيين، والشيوعية في جوهرها محاولة متطرفة لتحقيق المساواة بين الإنسان والإله، وجعل الأرض مملكة يصبح الإنسان فيها إلها، وإقامة ديانة تتعبد الإنسان وحده؛ ولهذا أصبحت «الأرض المقفرة» اليوم نهبا للقوة المحضة التي ستقرر إن كان الإنسان إلها أو لا.
وهكذا يبدأ نابليون وهيجل - الفيلسوف النابليوني - عهد الفعالية المحضة، كما توضع المبادئ الخالدة والقيم غير المتجسدة والفضيلة الشكلية موضع الشك، ويبدأ العقل في التحرك فلا يعود تجريدا خالصا بل غزوا متصلا، وتنتصر العدمية، فيجلس قيصر على العرش، وينتشر الرعب في كل مكان. وينتهي كامي إلى اقتراح الشكل السياسي الذي يلائم التمرد الحق في عصرنا الحاضر، ويقف في وجه الفعالية التاريخية المطلقة، هذا الشكل السياسي هو النقابية الثورية التي ترتبط في رأيه بالحقائق الواقعية، وتتمثل في البلاد الإسكندنافية، وليس للعالم نجاة إلا بالتمسك بالتمرد المعتدل في وجه الثورة القيصرية، وإثبات فعاليته من خلال عذابه وتناقضاته وهزائمه المتكررة وكبريائه العنيد.
هكذا ينتهي كامي من حيث بدأ، أعني إلى التمرد الحقيقي الذي لا ينتهي بدوره إلى نتيجة؛ لأنه موجه إلى «قدر ظالم وغير مفهوم» ولأنه لا يخرج عن كونه وجودا يحارب نفسه، وتمردا يتمرد على ذاته. فيم كانت الحاجة إذن إلى هذه «اللفة» التاريخية كلها؟ لا شك عند الناقد في أن الهدف منها هو إلغاء التاريخ بمعناه الواقعي؛ فكامي الذي يتطلع إلى أوروبا العجوز المعتمة من شواطئ الجزائر الشابة المشمسة لا يرى إلا «تاريخ الغرور الأوروبي»، أي وجه التاريخ المظلم الكئيب، وحين كان يتحدث على لسان سيزيف، كان يؤمن حقا بضرورة الفعل، ولكنه الفعل العقيم الذي لا معنى له ولا أمل فيه، فلما اشترك في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده، بدأ يحس بأن للتاريخ معنى، وظن أن التحرير سيؤدي إلى حياة نبيلة وسعيدة. ولكن ذلك لم يكن إلا وهما؛ فالتاريخ يتكلم من جديد بلغة البطش لا بلغة الفضيلة، وسيزيف الذي ازدادت تجربته قد زادت كذلك خيبة أمله، ولا بد الآن من تناول التاريخ لإثبات أنه غير موجود، أعني لإثبات أن الشر التاريخي ليس إلا صورة من صور الشر المطلق، أو من العبث الذي كتب على الإنسان أن يتحمله ويتحداه في وقت واحد، والدليل على هذا أنه يتكلم عن تمرد العبد على سيده - وهو تمرد تاريخي لا يفهم إلا في مجتمع معين وظروف معينة - على ضوء التمرد الميتافيزيقي؛ ليستخرج منه «قاعدة التمرد الذهبية» التي يصوغها في هذه العبارة الديكارتية: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» وهكذا يسمى تاريخا ما ليس بتاريخ، ويظل مغلقا على نفسه في هذا التمرد الميتافيزيقي الخالص الذي يعجز - على حد قوله - عن إخراج الإنسان من عزلته، لا بل يحكم عليه بهذه العزلة حين يضعه وجها لوجه أمام قدر ظالم لا معنى له. وما دام الإنسان سيظل معرضا لهذا الظالم المطلق، فمن الظلم أن نأخذ ألوان الظلم النسبية مأخذ الجد أو أن نحاول إيجاد حلول لها، فالأطفال الأبرياء سيظلون يموتون، حتى في ظل مجتمع كامل، والشر الأصيل باق مهما حاولنا أن نتمرد عليه.
لا مفر إذن عند الناقد من الوصول إلى هذه النتيجة: إن تمرد «الإنسان المتمرد» قد فقد النقاء الأصيل الذي وجدناه في تمرد سيزيف بعد أن التزم واهتم بالعالم، وتحول لحظة عن حواره المتكبر مع العبث إلى شكل من أشكال التنكر للعقل، والإفلات من الحد، فكامي قد أراد بكتابه أن يجد ملجأ يفزع إليه من شرور التاريخ؛ ليفتش عن الخير خارجه؛ ولذلك كان تمرده هروبا من التاريخ أو رفضا له؛ لأنه وجد الاعتدال والبراءة في التمرد، والانحراف والعبودية والعذاب الجماعي في التاريخ، ولا يشفع لكامي أنه يلح في مواضع كثيرة من كتابه على الالتزام بالتاريخ وعدم إنكاره؛ لأن إنكاره يعني إنكار الواقع، ولأن تاريخنا مهما يكن جحيمنا، فلا يمكننا أن ندير له ظهورنا أو نشيح عنه بوجوهنا؛ ذلك لأن التاريخ هنا ليس إلا شكلا آخر من أشكال العبث أو المجال التي ينبغي علينا أن نحافظ عليها ونتحداها وجها لوجه، وإن كنا لا نستطيع أن نغير منها شيئا أو نقدم فيها على شيء، وكامي بذلك يجعل نفسه سجينا للتاريخ، أو خارجا عن مجرى التاريخ، ويحكم على نفسه بما حكم به على الشيوعيين والوجوديين، وهو بذلك أيضا يسلخ نفسه من مجرى التاريخ، ويضع نفسه على قمة وحيدة ليتأمله من بعيد، مع أننا مهما خرجنا عن التاريخ - لإعطائه هدفا أو غاية - فنحن دائما نعيش فيه، وإذا كان التاريخ يصنعنا، فنحن كذلك نصنعه على الدوام. •••
كتب جانسون هذا النقد في شهر مايو سنة 1952 تحت عنوان لا يخلو من السخرية: «ألبير كامي أو النفس المتمردة»، وكتب كامي في آخر يونيو ردا نشر في عدد أغسطس من «العصور الحديثة»، تنبئ سطوره الأولى بالمرارة والكبرياء، لم يكتب الرد إلى سارتر ، الذي كان الناس جميعا يعلمون أنهما صديقان، بل أرسله باسم «السيد مدير تحرير العصور الحديثة» معلنا بذلك في العنوان نفسه عن الجفوة التي ستستمر بينهما أكثر من سبع سنوات، حتى يضع لها الموت حدا بالحادث الذي أودى بحياة كامي في مطلع سنة 1960. ويبدأ كامي - بلهجة جادة ونبرة متعالية! - فيقول: إنه سيقصر حديثه على المنهج العقلي والاتجاه الذي يدل عليه المقال؛ لأنه - في رأيه - ليس دراسة بقدر ما هو موضوع يستحق الدراسة. ويحمل كامي سارتر مسئولية المقال كله، فيغفل اسم جانسون - الذي يصفه بقوله مساعدكم - ويتساءل عن غرضه من تشويه موضوع كتابه وتلفيق تاريخ وهمي لحياة صاحبه، فإذا كان الناقد يورد تقريظ الصحافة اليمينية لكتابه، فإن بعض المجلات اليمينية قد هاجمته، كما أنه لا يتردد في أن يكون يمينيا إذا وجد الحق مع اليمينيين. هذا إلى أن مقال الناقد يثبت في رأيه أنه ليس هناك حدود فاصلة بين اليمين الرجعي واليسار المتزمت؛ فكلاهما قد هاجم الكتاب وجرح صاحبه.
لم يستطع الناقد في رأيه أن يضعه بين اليمنيين فحاول أن يبرهن على أن دراسته للتمرد والثورة دراسة سطحية تلغي التاريخ وتنكر الواقع ولا تخدم غير الرجعية، ثم عاب عليه أن أسلوبه «قد بلغ درجة من النجاح تكاد تكون كاملة.» وكأن الأسلوب الجميل لا يأتي إلا من اليمين، أو كأن الثوريين ينبغي أن يكتبوا بأسلوب ركيك! ولا ينكر الناقد في هذا الكتاب الذي يعالج موضوع التمرد والرعب في العصر الحديث نوعا من الاحتجاج، ولكن الشيء الذي يغضبه أنه احتجاج بلغ ذروة الجمال والجلال، وكان التعبير عن الاحتجاج يتطلب من الكاتب أن يبتعد عن الحياة، ويلجأ إلى جزيرة البرود والصفاء، ويستخدم لغة ركيكة تصلح دون غيرها للكلام عن شقاء الإنسان!
ويتساءل كامي: كيف يمكن أن يتهم بالرجعية وعدم الواقعية والإيمان بالحقائق المتعالية؛ وجميع كتاباته السابقة على «المتمرد» تشهد على قربه من الواقع والتصاقه بالتاريخ؟ وكيف يمكن أن ينكر قارئ أو كاتب أن الطريق من «الغريب» إلى «الوباء» هو الطريق إلى المشاركة والتضامن بين البشر ؟ لا شك إذن عند كامي في أن ناقده قد اتبع أيسر السبل وأكثرها رواجا، وهي أنه إذا تعذر على الناقد أن يجد عيبا في الكتاب فمن السهل عليه أن يضعه فيه؛ فهو قد راح يتحدث عن موضوعات لا وجود لها في الكتاب أو ليست على الأقل هي موضوعه الرئيسي، وترك المسائل الأساسية التي تناولها كالكلام عن الحد والاعتدال اللذين يفرضهما فعل التمرد نفسه، ونقد العدمية التي جاءت بعد هيجل، والتنبؤ الماركسي وفكرة الذنب ... إلخ. لقد راح يؤكد أنه - أي كامي - يرفض أن يعترف بأي دور للعوامل الاقتصادية والتاريخية في نشوء الثورات. والواقع أنه لم يبلغ من الجهل والغباء إلى الحد الذي يوقعه في هذا الخطأ، ولكنه لم يرد أن يضيف إلى مئات الكتب التي تبحث في الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها التاريخ كتابا جديدا، ولا أن يصف ظاهرة الثورة أو يتتبع أسبابها التاريخية والاقتصادية، وهو الأمر الذي حاوله غيره آلاف المرات، وإنما أراد أن يقصر نفسه على توضيح الخط المنطقي في بعض الوقائع الثورية، والكشف عن موضوعات التمرد الميتافيزيقي الدائمة فيها، وإبراز ميلها الواضح إلى تأليه الإنسان. ومن ثم عدم كلامه بالتفصيل عن تلك العوامل الاقتصادية لا يعني إهمالها أو إنكار أثرها، كما لا يعني السكوت عن شقاء الجائعين.
وإذن فقد كان هم الناقد أن يثبت بعد المؤلف عن الواقع، في الوقت الذي يثبت فيه بعده هو عن نصوص الكتاب! لقد كتب كامي يقول: إن من الممكن التسليم بالدور الأساسي الذي تقوم به الحتمية الاقتصادية في نشأة السلوك والفكر البشري، وإن رفض مع ذلك التسليم بأنها هي التي تقوم بالدور الوحيد، ولكن الناقد جاء يقول: إنه لا يعترف بالدور الأساسي الذي تقوم به العوامل الاقتصادية ... إلخ. فلماذا الإصرار على نقد كتاب لا نصدق ما يقوله صاحبه أو نفهم منه غير ما يقول؟ وما الفائدة إذا كان المؤلف يقول: إن السماء زرقاء فيصمم الناقد على أنها سوداء؟! أليس معناه أن المؤلف مجنون أو أن الناقد أصم؟! إن الناقد يكذب إذ يلخص الموضوع الرئيسي للكتاب على هذا النحو: الشر كله في التاريخ، والخير كله خارجه . في الوقت الذي خصص فيه المؤلف قسما كبيرا من كتابه لمحاربة هذا الرأي وإثبات بطلانه؛ فقد حاول أن يقيم الدليل على أن النزعة التاريخية والنزعة المضادة للتاريخ كلتيهما على خطأ، فالذين لا يؤمنون إلا بالتاريخ يسيرون إلى الرعب، والذين لا يؤمنون بالتاريخ يبررون الرعب أيضا، وكلاهما يسير في الحالين إلى العدمية. وكيف يستطيع أن ينكر التاريخ وفي ذلك إنكار للواقع نفسه؟ إن الكتاب لا ينكر التاريخ، ولكنه يحتج على الاتجاه العقلي الذي يجعل منه شيئا مطلقا، ولا يشهد على ذلك نص أو بضعة نصوص، بل تشهد عليه تحليلات الكتاب وعاطفته العامة. لقد كان على الناقد أن يواجه رأي المؤلف الأصلي، الذي يذهب فيه إلى أن خدمة التاريخ لذاته تؤدي إلى العدمية، أو يحاول بدلا من ذلك أن يثبت أن التاريخ وحده يمكنه أن يقدم قيما أخرى غير القيم التي تمجد القوة والعنف، أو يثبت أيضا أن في إمكان الإنسان أن يخوض التاريخ بغير حاجة إلى أية قيمة من أي نوع. لو أنه فعل ذلك - وهو أمر عسير بغير شك - لاستحق منهجه الاحترام وربما حظي بالقبول، ولكنه اختار الطريق الملتوي، وراح يلفق للمؤلف آراء لم يقلها، وينكر عليه أشياء لم تخطر على باله، وينصب نفسه قاضيا يتهمه بالانعزال عن التاريخ والانسلاخ عن ثورات العصر وكفاح الأحرار في مدغشقر والجزائر والهند الصينية! هذا في الوقت الذي يعرف فيه الجميع موقفه من ثورات التحرير، ودوره في حركة المقاومة السرية في بلاده، أليس من حق المؤلف بعد هذا كله أن يتهم الناقد بالتجرد عن النزاهة والإخلاص والبعد عن كل مناقشة عميقة أو جادة؟ •••
ويتخلى كامي بعد هذا عن موقف الدفاع ليبدأ في الهجوم! فهو يتهم ناقده بأن مقاله يقوم من الناحية الفلسفية على التناقض والعدمية، ومن الناحية التاريخية على عدم الفاعلية. أما التناقض فلأن مقاله يدافع عن الماركسية كعقيدة ويعجز عن تأييدها كسياسة؛ ولذلك يحاول أن يصف كل نقد للماركسية بأنه يمين، وأن يثبت - اعتمادا على هيجل وماركس - أن الفلسفة المثالية فلسفة رجعية، هذا إلى جانب أن يصمت صمتا تاما عن كل الحركات الثورية فيما عدا الماركسية، وإذا ذكرها فلكي يسخر منها أو يتهكم عليها؛ فهو يتجاهل الحركة الدولية الأولى وثورة الباكونيين، كما يصمت عن ثوار سنة 1905 في روسيا، وهم الذين يصفهم كامي بالمتمردين المعتدلين أو القتلة الأبرياء، ويضعهم في مركز كتابه، ثم يسخر بالحل الذي يقدمه كامي ممثلا في الحركة النقابية الاشتراكية كبديل للاشتراكية القيصرية، وينكر أن يكون هناك حل آخر غير الاشتراكية الماركسية، ربما لأنها هي التي أثبتت نجاحها وأصبح لديها جيش قوي ونظام بوليسي متين!
فعل الناقد هذا كله من وجهة نظر ماركسية متزمتة، ولكنه لم يستطع أن يناقش الماركسية كسياسة مفتوحة، يدل على ذلك أمران: أنه لم يتعرض لآراء المؤلف عن ماركس وهيجل، ولم يشر بالتأييد أو النفي إلى هذين السؤالين اللذين طرحهما في كتابه: أليست هناك نزعة إلى التنبؤ في تفكير ماركس (أي التنبؤ بالمجتمع البشري السعيد الذي ستنتهي عنده كل المتناقضات) تدحضها اليوم وقائع عديدة؟ ألم يكن كتاب «ظاهريات العقل» لهيجل سببا في قيام نظرية في الانحطاط أو «الكلبية» السياسية وظهور هيجليين يساريين أثروا على الحركة الشيوعية في القرن العشرين؟
إن كامي لم يهاجم منهج ماركس النقدي، بل أثنى عليه، ولكنه انتقد فكرة التنبؤ «اليوتوبية» وحملها مسئولية جانب كبير من الرعب والإرهاب الذي عرفته الاشتراكية على عهد ستالين مثلا، وهو يرى أن آراء ماركس ليست آراء مقدسة لا تمس؛ إذ أصبح من الضروري مناقشتها بعد مرور قرن من التطور الاقتصادي والعلمي والصناعي، ولو بعث ماركس نفسه اليوم لكان أول من يحرص على تعديل آرائه. وإذا كان من الواجب مناقشة الماركسية، فإن الماركسيين أنفسهم هم أول من يلزمهم هذا الواجب؛ ذلك لأن الفلسفة الماركسية قد وصلت إلى مرحلة تحتم عليها أن تتجاوز نفسها أو تتناقض مع نفسها، وأن تصحح مبادئها أو تتنكر لها.
وأخطر من هذا كله أن الناقد يصمت صمتا تاما عن كل مآسي الاشتراكية «الفردية» المتسلطة، كما يتجاهل ما كتبه المؤلف عن الصلة بين الثورة في القرن العشرين وبين الرعب والفزع السائدين فيه. وإذا صح أن هذه الاشتراكية المتسلطة هي التجربة الثورية الأساسية في عصرنا الحديث، فلا بد من مواجهة صريحة لمشكلة الرعب والتعذيب والإرهاب التي اقترنت ولا تزال تقترن إلى حد كبير بهذه الاشتراكية، وبالأخص مشكلة معسكرات الاعتقال، ولا شك أن طرح هذه المشكلة يضايق الكثيرين ممن يفتخرون بأنهم يعيشون في التاريخ أو يصفون أنفسهم بالواقعية، ولكنهم - على كل حال - لا يستطيعون أن يتجاهلوا عذاب ملايين البشر الذين عاشوا في هذه المعسكرات. وتجاهل هذه المشكلة معناه أمر واحد، وهو الموافقة على المذهب، والسكوت عن السياسة العملية التي يتبعها؛ وفي هذا تناقض دموي صريح، ومغالطة يزعم معها صاحبها أن التاريخ الحديث - على الرغم من اضطرابه وبشاعة وجهه - ينطوي على معنى ضروري ويسير نحو غاية محددة، تنتهي عندها كل التناقضات، ويقوم المجتمع الحر السعيد. إن كتاب المتمرد يحاول أن يبين أن التضحيات التي اقتضتها الثورة الماركسية أمس واليوم لا يمكن أن تبررها إلا النهاية السعيدة المفترضة للتاريخ، وأن الديالكتيك الهيجلي والماركسي يستبعد - في نفس الوقت - هذه النهاية، ولا بد للتغلب على هذه الصعوبة من القول بهذا الفرض: التاريخ ليس له غاية، ولكن له معنى غير متعال عليه. ربما كان هذا الفرض ممكنا، ولكنه سيؤدي حتما إلى نتائج خطيرة، فتحرير الإنسان من كل عقبة لحبسه بعد ذلك في سجن ضرورة تاريخية يساوي في الواقع تجريده من كل بواعث الكفاح للإلقاء به في آخر الأمر في أحضان حزب من الأحزاب، بشرط أن يكون المبدأ الوحيد لهذا الحزب هو الفاعلية والنجاح، ومعنى هذا - بحسب قانون العدمية - هو الانتقال من الحرية القصوى إلى الضرورة القصوى، والنتيجة هي خلق جيل أو أجيال من العبيد.
إن الناقد يوافق على التمرد الذي يمكنه - على حد قوله - أن يساهم في سلامة أي مشروع ثوري، ما دامت شعلته حية في قلب هذا المشروع، ومعنى هذا أنه يوافق على التمرد، بشرط ألا يكون تمردا على الحزب أو الدولة الشيوعية، أما المؤلف فهو يتمرد باسم الطبيعة الإنسانية، وباسم كرامة الإنسان، وهو يحس بكل ما قاسته أوروبا وما تقاسيه من تطرف الثورات وانحرافها، فيقول: إن الروح الثورية في أوروبا تستطيع للمرة الأولى والأخيرة أن تعيد التفكير في مبادئها، وتسأل نفسها ما هو الانحراف الذي أضلها وقادها إلى الرعب والحرب، وتكتشف من جديد - بأسباب تمردها - روح الصدق والإخلاص الكامنة فيها. أما التمرد باسم التاريخ، وجعله هو القاعدة والمبدأ والمعنى الوحيد، فلا بد أن يؤدي إلى تأليه التاريخ، والتنكر للتمرد الحق، وإلغاء الحرية والمغامرة الوجودية، وفي هذا إلغاء لروح المذهب الذي يدعو إليه سارتر صاحب مجلة العصور الحديثة والمسئول في رأي كامي عن هذا النقد وصاحبه، وفيه كذلك إنكار لكل منهج نزيه ينبغي أن يلتزم به النقاد. ليس هناك من حل إذن غير التخلي عن اللعب بالحجج العقلية والوقوف إلى جانب الضحايا والمقهورين والملايين المجهولة التي تحمل التاريخ على ظهرها كما تحمل الصليب، ويستغلها المستبدون كل يوم لأغراض الحرب وصراع القوة والدمار. •••
كان من الطبيعي أن يرد سارتر على هذه السطور المتكبرة المريرة التي وجهها كامي إليه؛ فجاء رده أشد قسوة ومرارة، وإذا كان كامي قد سماه «السيد مدير تحرير العصور الحديثة»، فإنه يوجه إليه خطابه قائلا: «عزيزي كامي.» إنه يأسف في السطور الأولى على الصداقة التي كانت تربط بينهما، ولم تكن صداقة يسيرة، لقد كان هناك الكثير الذي يجمعهما، والقليل الذي يفرق بينهما، ولكنه كان يفضل أن ينصب الخلاف بينهما على المسائل الأساسية، ولا تختلط به رائحة الكبرياء الجريحة، وكان يريد أن يسكت، لولا أن لهجة كامي قد جعلت سكوته شيئا مخجلا، ولولا أن طريقته «البوليسية» في مهاجمة الناقد جانسون قد أجبرته على مواجهته بالحقائق التي كان يجد حرجا في مصارحته بها.
إن سارتر يسأله قائلا: أين مرسو - بطل الغريب - يا كامي؟ وأين سيزيف؟ أين هؤلاء الذين دعوا إلى الثورة الدائمة؟ لا شك أنهم قد قتلوا غيلة، أو أنهم يعيشون اليوم في المنفى؛ فقد سيطرت ديكتاتورية مستبدة على صاحبهم الذي يريد تنظيم القانون الخلقي، إنه لا يريد أن يناقش ناقده مناقشة الند للند، بل يريد أن يلقنه درسا، ويصوره كما لو كان ظاهرة مرضية في الحياة العقلية، يتناولها تناول الطبيب للجثة الميتة في لوحة رمبرانت المشهورة عن درس التشريح! ولكن من الذي قال: إن آراءه مقدسة؟ ومن الذي قال: إن في مناقشتها تجريحا «لمبررات حياتنا وكفاحنا» ومساسا بمبادئ لا يجوز لها أن تمس؟ وما الذي جعله مدافعا عن البؤساء وشقيقا لهم؟ وهل هو حقا شقيق للعامل البائس الذي يتظاهر في بولندا، أو للصحفي المسكين الذي يكافح المستعمرين في الهند الصينية؟ أليس هو الذي اختار بؤساءه وقال عنهم: إنهم إخوته؟ أم يريد أن يبين للناس أنه تعب، ويحتج بذلك للخروج بنفسه من دائرة النقاش والكفاح؟ ولماذا يغضب كل هذا الغضب لأن أحد النقاد الشبان قال له: إن تفكيره غير فعال، أو أن الحركة النقابية السكندنافية واعتدال البحر الأبيض المتوسط اللذين يبشر بهما لا يعجبانه؟ كيف يتحول السخط على العصر إلى موضوع إنشائي يزدحم بالبلاغة والإنشاء؟ ولم هذا التجاهل كله للناقد، والكلام عنه كأنه شيء ميت، وتوجيه الخطاب باسم «مدير التحرير» في حين يعلم الناس أنهما (سارتر وكامي) صديقان منذ أكثر من عشر سنين؟ ولم التخفي وراء المكافحين والبؤساء والشهداء وأبطال المقاومة أو بالأحرى لم الوقوف أمامهم؟ وكيف نسمي هذا كله؟ إرهابا؟ أم تهديدا؟ أم تخويفا باسم الأخلاق؟! ثم من أنت يا كامي حتى تتعالى كل هذا التعالي؟! وما الذي يعطيك الحق في التكبر على جانسون على هذه الصورة التي لا يوافقك عليها أحد؟ وإذا كنت تكتب أو تفكر خيرا منه، فهل يبرر هذا أن تتكلم عنه كما لو كان نملة، أو تقف منه موقف القاضي من المتهم؟ ولماذا ترميه بالنية السيئة، والرغبة في الافتراء عليك وتشويه كتابك، والادعاء بأن كل تفكير ليس ماركسيا فهو تفكير رجعي، والسكوت على وجود معسكرات الاعتقال في روسيا؟ يا لسخف هذه الاتهامات جميعا! وماذا يفعل الناقد إذا كانت أفكارك غامضة وضعيفة، وكان كتابك شاهدا على عجزك الفلسفي؟ وإذا كنت تدافع عن المغامرة في التاريخ، فلماذا ترفضها في الأدب؟ ولماذا تحتمي بعالم من القيم الخالدة التي لا تمس بدلا من أن تكافح ضدنا أو تكافح معنا؟ لقد قلت مرة: «إننا نختنق بجانب أولئك الذين يعتقدون أنهم على حق مطلق، سواء أكان ذلك في آلاتهم أو في أفكارهم.» ولكن يبدو أنك قد تخليت الآن عن أصدقائك القدامى من المخنوقين، ووقفت مع الذين يقبضون على رقابهم! •••
ولعل أهم ما يأخذه سارتر على كامي هو أن الأخير يخلط بينه وبين جانسون - كاتب ذلك النقد الذي أثار ثائرته - فهو يوجه خطابه إلى مدير تحرير العصور الحديثة والمسئول عما ينشر فيها، وليس في هذا ما يلام عليه، ولكنه يجعله كذلك مسئولا عن رأي جانسون واتجاهه الفكري، وكأنه هو الذي حرك القلم في يده بالكتابة، وسب المكافحين والبؤساء ورجال المقاومة، وسد أذنيه عما يقال من وجود معسكرات الاعتقال في روسيا! وكل هذا ليس صحيحا، ولا يمكن أن يكون وسيلة مشروعة للجدال؛ فالعصور الحديثة - كما يقول سارتر - قد خصصت أحد أعدادها لمناقشة موضوع معسكرات الاعتقال، واتخذت منه الموقف الملتزم الذي ينتظر منها، كما أن صاحبها لم يتردد يوما في إعلان رأيه في الشيوعية، والدليل على هذا أن الشيوعيين يكرهونه ولا يكرهون كامي. إن سارتر يدين معسكرات الاعتقال، ولكنه كذلك يدين استغلال الصحافة البرجوازية لموضوعها كل يوم، وكأنها تفرح بتعذيب الروس للتركمانيين كتبرير لتعذيب الفرنسيين للأحرار في مدغشقر أو الجزائر، وتخويف اليساريين في داخل فرنسا نفسها، وفرض العبودية على الناس في ظل حكومة تدعي الاشتراكية. وهكذا يقف البرجوازيون هذا الموقف العجيب من اليساريين، فإما أن يعترفوا بوجود معسكرات الاعتقال في روسيا، أو يتهموا بالاشتراك في أكبر جريمة ترتكب على وجه الأرض، حتى إذا اعترض أحدهم على شيء قالوا له: «والمعسكرات! إن معسكرات الاعتقال فضيحة للجميع، وليس الستار الحديدي غير مرآة ينعكس عليها نصفا العالم المشتركان في الجريمة.» لقد كافح كامي - كما يقول سارتر - بكل قواه طغيان فرانكو وسياسة فرنسا الاستعمارية، وكان من حقه أن يتناول موضوع معسكرات الاعتقال في كتاب يبحث قضية الرعب في عصرنا الحديث ، ولكن استغلال هذا الموضوع لإسكات ناقد هاجمه شيء لم يكن يليق به، هكذا يخلط بين الأسياد كما يخلط بين العبيد. وما دام لا يفرق بين هؤلاء، فلن يشعر نحوهم بغير تعاطف من ناحية المبدأ؛ ولذلك فإن سارتر لا يجد له حلا إلا أن يذهب بنفسه إلى جزر جالاباجوس! •••
ويستطرد سارتر في الكلام عن قصور كامي الفلسفي، وكيف أنه يكتفي بالكتب الثانوية ولا يكلف نفسه بالرجوع إلى المراجع الأصلية، سواء أكان ذلك في حديثه عنه أو عن هيجل أو ماركس، بل إن سارتر يذهب إلى حد أنه لا ينصحه بالرجوع إلى «الوجود والعدم» الذي ستكون قراءته صعبة عليه أيما صعوبة؛ لأنه تعود ألا يتعب نفسه في الفهم؛ لكي يستطيع بعد ذلك أن يقول: إنه لم يجد شيئا يفهم.
ثم يمضي سارتر في إلقاء درس في الفلسفة على كامي، يعلمه فيه معنى الحرية، وكيف أن الحرية الباقية هي «الاختيار الحر» للكفاح من أجل أن نصبح أحرارا، أي حرية الالتزام الذي يخوض معركة التاريخ، لا حرية المتفرج من فوق قمة وحيدة «خارج» التاريخ، ثم يعود بالذاكرة إلى الأيام التي تعرف فيها على كامي، وكان ذلك في سنة 1945، فيقول له: «لقد كنت بالنسبة لنا - وقد تصبح كذلك غدا - مركبا عجيبا يتألف من الشخص والفعل والمؤلفات.» كان ذلك في سنة 1945 عندما اكتشفنا كامي الذي اشترك في المقاومة كما اكتشفنا كامي مؤلف الغريب، وعندما قارنا بين محرر جريدة الكفاح «كومبا» السرية وبين «مرسو» الذي أدت به الأمانة إلى حد أن يرفض القول بأنه يحب أمه أو عشيقه، والذي حكم عليه مجتمعنا بالإعدام، وعندما عرفنا قبل كل شيء أنك لم تكف يوما عن أن تكون أحدهما أو الآخر، جعلنا هذا التناقض الواضح نتقدم في معرفة العالم، ولم تكن في ذلك الحين بعيدا عن القدوة والمثل؛ ذلك لأنك تجمع في شخصك صراعات العصر، وتتجاوزها بالحماس الذي يجعلك تحياها، كنت من أغنى الشخصيات وأشدها خصوبة، آخر ورثة شاتوبريان وأفضلهم والمدافع المتمرس عن قضية اجتماعية، وكانت لديك كل فرص النجاح وكل ما يجعلك جديرا به، فقد كنت تجمع بين عاطفة العظمة والإحساس الملتهب بالجمال، بين حب الحياة والشعور بمعنى الموت. ويواصل سارتر كلامه عن تجربة كامي بالعبث أو المحال، وعاطفته التي تتمرد على العالم وتحبه في نفس الوقت، وجعله من السعادة واجبا على الإنسان، وإضفائه المعنى على وجوده؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يبحث عن هذا المعنى ويطالب به، وكيف أن هذا المعنى كان دائما «خارج» التاريخ أو فوقه؛ لأن الإنسان قد حكم عليه أن يبحث عن العدالة في مواجهة الظلم الأبدي، ويخلق السعادة ليحتج على عالم الشر والشقاء. وإذن فقد ظل كامي حلقة في تراث فكري معاد للتاريخ، يمكننا - إذا استثنينا باسكال - أن نقول: إنه بدأ بديكارت، وهو قد رفضه رفضا سابقا على كل تجربة؛ لأن هذا التراث يرفضه، ولأنه - أي كامي - يجعل القيم الإنسانية كلها في الصراع «ضد السماء»؛ ولذلك فقد انتهى إلى حكمة مريرة، تحاول أن تنكر الزمن بسبب ما واجهته فيه من متاعب، وعندما جاءت الحرب واختار أن يشترك في حركة المقاومة للنازيين، كان ذلك نوعا من الاحتجاج على شكل من أشكال الظلم والعبث الأبدي. وهكذا دخل التاريخ مرغما، لكي يخرج منه بعد ذلك ويواصل تأمله من بعيد، وظل التاريخ بالنسبة إليه هو الحرب وجنون الآخرين الذي «يمنع الطيور من الغناء، والناس من الحب.» كما ظل الصراع فيه يحمل طابع الصراع غير الزمني ضد ظلم القدر الإنساني؛ ولذلك فلم يكن يفكر حين اشترك في المقاومة في صنع التاريخ - كما قد يقول مفكر مثل ماركس - بل في إنقاذ فكرة الإنسان من بين مخالب القوى العمياء التي توجه هذا التاريخ. وهكذا عاد إلى اليأس الذي يرى من واجب الإنسان أن ينتزع منه سعادته لإثبات أننا «لا نستحق كل هذا الظلم.» ولكن سارتر وأصحابه لم ينظروا إلى الحرب على أنها حالة من حالات التاريخ بل تمسكوا بكلمة مالرو: «ليبق النصر من حظ أولئك الذين قاموا بالحرب دون أن يحبوها.»
وهكذا أصبح كامي رمزا للتضامن بين البشر، واستطاع أن يقول : «إن الناس يكتشفون تضامنهم عندما يدخلون في صراع مع قدرهم المتمرد.» ولكن هذا هو الذي حجب عنه حقيقة أخرى، وهي أن صراع الإنسان مع الطبيعة ليس إلا سببا ونتيجة لصراع من نوع آخر أقسى وأمر، ألا وهو صراع الإنسان مع الإنسان. كان يتمرد على الموت، وكان غيره يتمرد على ظروفه الاجتماعية، وكان الطفل البريء يموت فيلعن القدر الظالم، ولكن والد الطفل - سواء أكان عاملا أو عاطلا - كان يلعن البشر الذين تسببوا في موته بسبب الفقر أو الجوع. وهكذا ظل تمرده مثاليا لا تستطيع الملايين أن تسمع فيه صوت سخطها الحقيقي، وكان كلامه عن الفقر أو الموت كلاما حقيقيا قبل الحرب، ولكنه لم يعد كذلك بعد انتهائها؛ فقد أصبح الناس لا يتمردون على القدر، بل على الذين يصنعون قدرهم، ولا يريدون أن يتعلموا «فن الحياة» أو يكتشفوا «أسرار الجسد والطبيعة» بل يحاولون أن يحتملوا عناء أجسادهم المتعبة في آخر الليل، والطبيعة الغريبة التي يرون بها عدوهم الأول وهو يستغلهم في المصنع أو المعمل أو الوظيفة؛ ولذلك أصبح تمرده صرخة مثالية لا تقنع مظلوما، وتضامنه صراعا يدور تحت عينيه بين الطبقات، وراح يحمل التاريخ مسئولية الخطأ بدلا من أن يحاول تفسيره أو يشارك في تقدمه، ويستعير من مالرو وغيره كلامهم عن تأليه الإنسان، ويصدر أحكامه على الجنس البشري بغير تمييز، ويسأل عن معنى التاريخ - وهو سؤال جامد مجرد - بدلا من أن يحاول إعطاءه ذلك المعنى بالمشاركة فيه. وهكذا أصبحت شخصيته - التي كانت عنوانا على الأمل والحياة في خلال الحرب - مجرد سراب من آثار الماضي، ولم يفطن إلى أن الطبيعة التي كان يتغنى بمجدها وجمالها قد تغيرت هي أيضا بتغير علاقات الناس بها. لم يبق له إذن غير الذكريات واللغة التي تزداد تجريدا، وليس أمامه إلا أن يترك الناس ويعكف على نفسه وحيدا في عزلة بعيدة قد يجد فيها الدراما الإنسانية التي افتقدها. •••
بهذه اللهجة القاسية تحدث سارتر إلى كامي ، ولكن من الإنصاف أن نقول: إنه كان كذلك قاسيا في حديثه عن نفسه ، وإنما اشتد في لهجته معه؛ لأنه أحس أنه قريب منه، وأن كليهما ملتزم بالتاريخ وإن اختلفت نظرتهما إليه، فكامي - في رأي سارتر - قد تجمد في قلعة أفكاره المثالية وقيمه الأخلاقية المطلقة، بينما راح سارتر - بنزعته العقلية وفكره التحليلي - يفسر هذا التاريخ الذي يصنعه البشر كل يوم، ويشارك في اتخاذ المواقف الحاسمة من الظلم الاجتماعي والسياسي في بلاده وفي العالم كله على السواء، ولعله لم يشتد في قسوته على كامي كما قلت إلا لأنه أحس أنه بعاطفته وجده وصدقه جزء منه، فالإنسان لا يهاجم شيئا مقطوع الصلة به، بل يزداد في هجومه عليه كلما كان هناك شيء قوي يجمعه به أو يفرقه عنه، وتلك هي إحدى المفارقات الكامنة في طبيعته؛ ولذلك فإن هجومه عليه - مهما اشتدت قسوته - يخفي على الدوام عاطفة حبه وتقديره له، بل ويعبر عن رغبته في أن يمد يده إليه ليسيرا معا - برغم كل الاختلافات - على طريق واحد إلى جانب المظلومين والضحايا والمقهورين. وإذا كان الموت قد باغت كامي وهو في أوج شبابه ومجده - بعد سبع سنوات من هذا الخلاف قضاها وحيدا كالبطل الجريح - ولم يقدر لهذه اليد أن تصافح يد الصديق القديم، فإننا نحن الذين ننظر اليوم إلى هذا النزاع - بعد أربعة عشر عاما من وقوعه - لا نملك إلا الأسف؛ لأنه فرق بين شخصيتين كبيرتين كان من الممكن أن تكمل إحداهما الأخرى، ولكننا مع ذلك لا نملك إلا الإعجاب بهذا الخلاف الذي دار في صميمه حول الإنسان وعذابه ومصيره في عصرنا الحديث، وطبيعي أن الفرد الواحد لا يمكنه أن يملك الحقيقة كلها، كما لا يمكن أيضا أن يكون كل ما يقوله أو يفكر فيه خطأ كله. ولقد أظهرت هذه المناقشة - إذا أحسنا فهمها وجردناها من الحدة والغضب والحساسية التي اتسمت بها - أن الخلاف هو الشرط الأساسي للقاء، والحوار بين الأشخاص والأفكار هو الدليل الأول على حرية الفكر والضمير، ولا شك أن هذا الخلاف لم تقل فيه الكلمة الأخيرة ولا يمكن أن تقال، فما زال سارتر يتابع نشاطه المذهل ويثبت كل يوم مدى صدقه والتزامه بواقع الإنسانية ومستقبلها، وإذا كان زميله قد تركه إلى الأبد، فلا شك أنه كلما فكر في هذا الخلاف أحس بما يدين له به، واستمد منه مزيدا من العمق والشجاعة والإخلاص، ولا شك أيضا أننا سنستطيع أن نستفيد من تأملنا في هذا الخلاف؛ لأنه كان وسيظل خلافا حول الإنسان.
ومعرفة وحقيقة
ما هو الشيء؟
الأبعاد كلها في الزمان والمكان تنكمش، المسافة التي كان يقطعها الإنسان في شهور وأيام طويلة - في الصحراء على ظهر جمل، وفي الطريق الزراعي على سرج حمار - يعبرها اليوم في مقعد مريح بالطائرة في بضع ساعات. الخبر الذي كان يحتاج منه إلى سنين طويلة قبل أن يسمع به، وقد يعيش ويموت وهو لا يدري عنه شيئا، يستطيع اليوم دون أن يغادر باب بيته أن يدير مفتاحا صغيرا في جهاز إرساله الأنيق فيعرف أخبار العالم كله في لحظات قصار. البذرة التي تحتاج إلى شهور وسنين قبل أن تستوي ثمرة، تعرضها عليه الشاشة البيضاء في دقيقة واحدة. آثار الحضارات القديمة في الشرق والغرب يقدمها له الشريط السينمائي وكأنها تقع على جانب الطريق. وقمة الانتصار على الأبعاد والمسافات يبلغها من خلال هذه العين السحرية التي نسميها «بالتليفزيون». غير أن المشكلة مع ذلك ما زالت باقية؛ فانكماش البعد لم يقربنا من القرب نفسه، وأبعد الأشياء التي قربتها لنا الصورة في الفيلم، والصوت في المذياع، يمكن مع ذلك أن يظل بعيدا عنا، وأبعد ما تستطيع العين أن تراه، والخيال أن يتصوره، يمكن مع ذلك أن يظل قريبا منا.
1
ما هو ذلك الشيء الذي اختزلنا في سبيله المكان إلى أقصى مداه، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا؟ أحلنا من أجله الأعوام والشهور إلى لحظات ولم يزل ممتنعا علينا، أبعد هذا كله يظل عنا بعيدا؟ أم يا ترى هو بطبيعته بعيد وقريب في آن واحد؟ هل كان آباؤنا وأجدادنا أقرب إلى الوجود والموجودات منا اليوم؟ أم هل أبعدتنا هذه الأجهزة القادرة عن حقيقة الوجود والموجود؟
لنسأل معا: ما حقيقة القرب؟ كيف نصل إلى كنهه وماهيته؟ يبدو أنه لن يتركنا نتسلل إلى سره بسهولة، فلنفتش إذن عما يدخل في دائرته، لنبحث عما هو قريب. قريب منا ما تعودنا أن نسميه بالأشياء، ولكننا مضطرون أن نسأل مرة أخرى: وما هو الشيء؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء! ولكن لعل الإنسان في تاريخه الطويل قد أهمل في السؤال عن حقيقة الشيء، فلنق أنفسنا إذن من التورط في حكم سريع، ولنعد السؤال مرة أخرى: كيف نصل إلى شيئية الشيء؟ وما الذي يجعل الشيء شيئا؟ ولا بد لنا لكي نجيب عليه أن نعرف الدائرة التي يدخل فيها كل موجود نسميه باسم الشيء.
الحجر على الطريق شيء، وكومة التراب في الحقل، الجرة شيء والنبع في الصحراء، ولكن ما حال اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هذان أيضا شيئان، كما أن السحب في السماء أشياء، وأوراق الخريف في مهب الرياح، وشجرة الصبار على الدرب المهجور، بل لعل من حقها جميعا أن تكون أشياء. ما دمنا نضيف الكلمة نفسها إلى ما لا يظهر ولا تراه عين، هذا الذي لا يظهر يسميه «كانط» مثلا بالشيء في ذاته، وقد يسميه غيره باسم «الله»، فالأشياء في ذاتها، والأشياء التي تظهر للعين، وكل ما هو موجود على الإطلاق؛ يعرف في لغة الفلسفة بالشيء، أعني كل ما ليس بعدم. غير أن التسمية مع ذلك تحتاج إلى شيء من التحديد، فنحن نخجل أن نسمي الله شيئا، كما أننا لا نرضى أن ندعو الفلاح في الحقل، والعامل في المصنع والمعلم في المدرسة أشياء، بل إننا لنتردد أن نسمي الغزال في الغابة، والجراد في العشب، والقطة على عتبة البيت أشياء، والإنسان لا يمكن أن يكون شيئا، فهذه الكلمة الأخيرة تفتقد كل ما نفهمه وراء الوجود الإنساني من معنى وقيمة. كما أن كلمة الإنسان لا تشتمل على ما يجعل الشيء شيئا، الأولى إذن أن نطلق كلمتنا على ما يشبه المطرقة والساعة والحذاء، غير أن هذه أيضا ليست مجرد أشياء وحسب، والأقرب إلى المعقول أن نسمي كل ما تجرد عن الحياة - سواء في الطبيعة أو في محيط الاستعمال - باسم الشيء، كأن يكون كتلة من الصخر، أو قطعة من الخشب، أو كومة من التراب. وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التي سمينا فيها كل موجود باسم الشيء، كما تركنا ما سميناه بالأشياء في ذاتها وأردنا به أسمى الموجودات وأبعدها في الخفاء، لنعود إلى أفق ضيق كل موجود فيه لا يزيد عن كونه «مجرد شيء»، وكلمة «مجرد» هنا قد يراد بها الشيء المحض، وقد تعني كذلك الشيء ولا مزيد عليه، بمعنى تقويمي يضع من شأنه، مثل هذه - فيما يبدو - هي الأشياء بالفعل، وهي التي ستساعدنا على تحديد ما نبحث عنه من شيئية الشيء.
من الخير في مثل هذه الأحوال ألا نسير في الطريق المجهول معصوبي الأعين. لنرجع لحظة إلى تاريخ الفكر، ولنستعن بما خلفه لنا التراث الفلسفي وهو يحاول الإجابة على هذا السؤال العتيد.
ما سأل سائل عن ماهية الوجود والموجود إلا برز الشيء أمامه كأنما هو أظهر الموجودات وأولاها بمعنى الوجود، وقد أدى هذا إلى أن أصبحت الإجابات المتوارثة عن ماهية الشيء أمرا بينا واضحا بذاته، حتى إنه ما عاد أحد يحس بالحاجة إلى إثارة السؤال من جديد، ويمكننا أن نعرض للتفسيرات التي حاولت بها الفلسفة أن توضح ماهية الشيء (أو بمعنى آخر ماهية الوجود) فيما يلي:
لنأخذ مثلا على ما وصفناه بأنه «مجرد شيء»، هذه الكتلة من حجر الجرانيت،
2
هي كتلة ممتدة خشنة ثقيلة ذات لون وغير ذات شكل، تلمع تارة وتنطفئ تارة أخرى، كل هذه صفات نستطيع - في غير عناء - أن نلاحظها عليها، وهي جميعا خصائص تتعلق بها. والحجر كشيء، له هذه الصفات والخصائص، هل قلنا الشيء؟ ما الذي نفهمه الآن من هذه الكلمة؟ من الواضح أن اجتماع هذه الصفات لا يكون ما أسميناه بالحجر أو بالشيء، كما أن إحصاءنا لها لا يجعله يتمثل أمامنا ككل، الأولى أن نقول: إن الشيء هو ما اجتمع حوله وعليه هذه الصفات، أو أن نقول : إنه هو الذي يحملها، وهنا نستطيع أن نتحدث عن لب الشيء وحامل صفاته.
3
والتفسير الآخر هو الذي يحدد ماهية الشيء بالجوهر وما يحمله من أعراض، وهو تفسير يبدو مطابقا لنظرتنا الطبيعية إلى الأشياء، وليس عجيبا أن ينعكس في سلوكنا المعتاد نحوها، أعني في حديثنا عنها، فالقضية اللغوية البسيطة تتألف - كما هو معلوم - من موضوع
4
ومحمول، والموضوع هو الذي «يحمل» خصائص الشيء وصفاته، والمسألة بهذا الشكل لا تكاد تحتمل الجدال: فمن ذا الذي يشك في العلاقة القائمة بين العالم واللغة، بين بناء الشيء الخارجي وبناء القضية اللغوية؟ ومع ذلك يمكننا أن نسأل: هل يعكس بناء القضية اللغوية (العلاقة بين الموضوع والمحمول) بناء الأشياء في العالم الخارجي (العلاقة بين الجوهر والعرض)؟ أم هل نعكس الأمر ونقول: إن تصورنا لبناء الشيء قائم على أساس القضية اللغوية؟ مهما يكن من أمر فإن الإجابة على هذا السؤال بوجهيه وتقرير أولوية أحدهما أصعب من أن يبت فيها في هذا المجال، بل إن في استطاعتنا أن نقول: إننا لم نصل فيه إلى جواب حاسم حتى اليوم، ولعل وضع السؤال على هذا النحو هو الذي جعل الإجابة عليه مستحيلة، فلا بناء القضية اللغوية هو المقياس الذي يطبق عليه بناء الشيء، ولا هذا الأخير مجرد صورة تعكس الأول، بل الأولى أن نقول: إن بناءهما معا - الشيء والقضية - وما يقوم بينهما من علاقات متبادلة ينبثقان عن مصدر واحد أصيل. والأمر بعد في هذا التفسير الأخير (الشيء هو الجوهر حامل الأعراض) يكشف عن أنه ليس تفسيرا بديهيا ولا طبيعيا كما بدا لنا في أول الأمر، ولعل وجه الطبيعة فيه أنه نشأ عن «عادة» قديمة أنستنا على مر العصور ذلك الأصل «غير العادي» الذي نبعت منه، هذا الشيء غير العادي هو الذي عرفه فكر الإنسان في فجره الحر الفتي الثائر عند اليونان، فنبهه وعلمه الدهشة، أعني علمه التفلسف.
5
هذا التفسير الذي لا يطلق على الشيء فحسب - بل على كل موجود على الإطلاق - تفسير لا يبلغ جوهره، ولا يصل إلى كنهه، وإنما يكتفي بأن يغلفه ويدثره، إنه لا يتيح لنا أن نلتقي التقاء مباشرا بحقيقة الشيء، بل الأولى أن نقول: إنه يأتينا عن طريق الحواس، أو إنه يصطدم بجسدنا إن جاز هذا التعبير، وليس عجيبا بعد هذا أن يقوم تصورنا للشيء على مجموع معطياته الحسية، أو مجموع إحساساتنا به. والواقع أن الأشياء أقرب إلينا من إحساساتنا بها، ووقوفنا عند هذه الإحساسات يضيع علينا معناها وحقيقتها الكلية، نحن نسمع العاصفة تهب، والباب يصفق، ولا نسمع مجرد إحساسات صوتية، ونحن نرى البيت ولا نرى مجرد إحساسات بصرية أو لونية، ونلتذ بطعم التفاحة ولا نقف عند ملمسها ولونها ورائحتها.
والتفسير الأخير يقول: إن ما يجعل الشيء شيئا هو المادة التي فيه، وهي التي تحدد خصائصه الحية من شكل ولون وحجم وامتداد، غير أن هذه المادة
6
لا تكون وحدها أبدا، بل هي دائما مصحوبة بالصورة،
7
والذي يجعل الشيء شيئا هو التقاء صورته بمادته، فالتفسير كله يقوم على أساس النظرة المباشرة للشيء أو على منظره
8
الخارجي الذي نراه منه، وهو ينطبق على ما نجده في الطبيعة من أشياء، وما نستخدمه منها في حياتنا اليومية على السواء.
غير أن هذا التفسير الذي سيطر على الفكر الفلسفي زمنا طويلا، وحدد تصوره للموجود عامة، سواء أكان مجرد شيء أم أداة لهدف أم عملا فنيا (يكفي أن نتذكر النزاع الأزلي حول قضية الشكل والمضمون في الأدب والفن وعلم الجمال!) لا يقربنا مع ذلك من حقيقة الشيء.
فالاعتراض الأول عليه:
أنه لا يمكننا من التمييز بين الموجودات - على اختلاف درجاتها - بين مجرد الشيء كأداة تقصد إلى هدف، والعمل الفني الذي لا يشك أحد في أنه أبعد من أن يكون مجرد شيء أو وسيلة لغاية، وإنما نتبين من خلاله تجربتنا بالوجود والحقيقة على الإطلاق.
والاعتراض الثاني:
أن هذا المركب من الصورة والمادة قد أصبح مع الزمن قالبا آليا يمكن أن يطبق في سهولة على كل ما يقع بين الأرض والسماء! فإذا فهمت الصورة على أنها العنصر المعقول المنطقي، والمادة على أنها العنصر غير المعقول وغير المنطقي، وإذا ربطنا هذه العلاقة بين الصورة والمادة بالعلاقة المشهورة بين الذات والموضوع، صارت لدينا أداة سهلة تحيل الفكر إلى آلية بحتة يوشك ألا يستعصي عليها شيء.
والاعتراض الثالث:
أنه لا ينبع من تصور مباشر للشيء بما هو شيء، بل يتصوره أداة تهدف إلى غرض، أعني أنه تفسير يأتي من جهة الإنتاج والصناعة، وهنا يمكننا أن نفهم ما يقوله أرسطو من أن الصورة تحدد نوع المادة، كذلك يفعل الحداد قبل أن يطرق الفأس، والنجار قبل أن يصنع السرير، والخزاف قبل أن يسوي الجرة، فارتباط الصورة بالمادة يقوم سلفا على الغاية التي جعلت لها الجرة والفأس والسرير. من هذه «الغائية» يحدد شكل الصورة كما اختير نوع المادة، واكتسب هذا النسق المؤلف من الصورة والمادة معناه، الشيء إذن - بحسب هذا التفسير - أداة أنتجتها يد صانع، والمادة تعينه من حيث هو وسيلة فحسب، ولا تعين بحال شيئيته بما هو شيء.
ولا نريد أن نعود بمركب الصورة والمادة إلى تطبيقاتها الواسعة على الموجود بإطلاقه، وذلك من ناحية الخلق والعقيدة وخاصة في فلسفة العصور الوسطى، ونكتفي بأن نقول: إن هذا التفسير الأخير مثله كمثل ما سبقه من تفسيرات لم يتقدم بنا خطوة في محاولتنا الولوج إلى قلب الشيء بما هو شيء، أعني مجردا عن الغاية منه، وعن الصفات التي يحملها، والخصائص الحسية التي تنضاف إليه،
9
فلنعد إذن مرة أخرى إلى سؤالنا القديم: ما حقيقة القرب؟
أردنا أن نجيب معا على هذا السؤال، واتفقنا على أن نتناول شيئا نجده قريبا منا، وقبل أن نمد أيدينا إلى هذا الشيء نفسه آثرنا الروية والصبر ورحنا نسأل عن حقيقة الشيء، وكان لزاما علينا - قبل أن نتعجل السير في طريق مجهول - أن نناقش معا مختلف التفسيرات التي حاول الفكر في تاريخه الطويل أن يجيب بها على هذا السؤال، وقد تبين لنا أنها جميعا لم تقربنا من حقيقة الشيء، فلنتناول الآن شيئا قريبا منا، وليكن هذه الجرة .
نحن نقول: إن الجرة شيء، فما الجرة؟ نقول: إنها وعاء، ذلك الذي «يعي » شيئا غيره ويحويه، المحتوى فيها هو الأرضية والجدار، والجرة بما هي وعاء شيء مكتف بذاته، هذا الاكتفاء الذاتي يجعل لها كيانا مستقلا يميزها عن كل شيء أو موضوع سواها، والشيء المستقل بذاته يصبح موضوعا عندما «نضعه» أمامنا، سواء كان ذلك في الإدراك المباشر، أو في ذلك الحضور الذهني الذي يتم عن طريق الذاكرة والتصور، ومع هذا فإن شيئية الشيء لا تكون في تصورنا له كموضوع، ولا «موضوعيته» تحدد لنا كنهه وماهيته.
الجرة تظل وعاء سواء تمثلناها بالتصور الذهني أو لم نتمثلها، والجرة بما هي وعاء، ذات قوام مستقل بذاته، فما معنى قولنا: إنها قائمة بذاتها؟ هل يفسر لنا ذلك ماهية الجرة كشيء من الأشياء؟ الجرة لم تكن وعاء حتى وضعت في صورة الوعاء، وما تم لها ذلك حتى «صنعت» على يد صانع، الخزاف جبل الجرة من طينة أعدها وانتقاها، والطينة من الأرض، ومنها تخلقت الجرة جرة. من هذه الطينة يمكن لها أن ترتكز مباشرة على الأرض، وبطريق غير مباشر على رف أو مائدة، بالصنعة ومن يد الصانع تم لنا ما سميناه بقوام الجرة، إن تناولنا الجرة بما هي وعاء مصنوع جعلها تبدو لنا وكأنها شيء من الأشياء، لا مجرد موضوع أيا كان، أو هل نعود فننظر إلى جرة على أنها «موضوع»؟ لنحاول ذلك، وسيتبين لنا أنها لم تعد مجرد موضوع يتمثله التصور الذهني فحسب، بل هي موضوع سوته يد صانعه «ووضعته» أمامنا. بهذا المعنى الجديد يبدو لنا قوام الجرة ذاتها وكأنه هو الذي جعل منها شيئا. والحقيقة أننا نرى هذا القوام من جهة الصنع، من حيث إن صانعا قصد إليه وفكر فيه، وهنا يتكشف لنا أننا قد رجعنا إلى ما أردنا أن ننفيه، أعني أننا سنفكر في الجرة من حيث هي موضوع، وإن كانت موضوعيتها في هذه الحالة آتية من جهة الصنع لا من جهة التصور المجرد، وسيتبين لنا أننا قد أخطأنا الطريق، وأن وقفتنا عند موضوعية الموضوع لم تؤد بنا إلى شيئية الشيء، فلننظر الآن إلى المسألة من ناحية أخرى.
قلنا: إن شيئية الجرة تكمن في كونها وعاء، ونحن نعرف معنى الوعاء مما يعيه، أعني حين نملأ الجرة، حتى لنوشك أن نقول: إن الأرضية والجدران هي التي «تعي» ما نصبه فيها، ولكن لنحترس مرة أخرى من التورط في السرعة! هل إذا ملأنا الجرة خمرا كان معنى ذلك أننا نصبها بين الجدران والأرضية؟ نحن نصب الخمر حقا بين جدارين وعلى أرضية، والذي يحفظ السائل المصبوب هو الأرضية والجدران، وما يحفظ السائل ليس هو بالضرورة ما يعيه.
الخمر حين نفرغها في الجرة تملأ ما فيها من فراغ، الفراغ هو واعية «الوعاء»، الفراغ، هذا العدم في جرتنا هذه، هو الذي يجعلها وعاء، الجرة وحدها تتكون من قاع ومن جدار، ومن هذا الذي تكونت منه يمكنها أن تستقر على رف أو مكتب. ولكن ماذا عسى أن تكون الجرة إذا انكسر قاعها أو جدارها فلم تعد تحوي شيئا؟ إنها ما تزال جرة على كل حال، وإن أصبحت عاجزة عن أداء وظيفتها، فالجرة وحدها هي التي تمسك السائل أو تدعه يفلت منها!
من القاع والجدار تتكون الجرة، وبهما على الأرض تستقر، غير أنهما لا يكونان هذه الصفة الواعية فيها، فإذا سلمنا بما انتهينا إليه من أنها تكمن في الفراغ، كان علينا أن نقول: إن الخزاف لا يسوي من الطين قاعا وجدارا، أو إنه لا يشكل الطين بل يشكل الفراغ، من هذا الفراغ وفيه ومن أجله سوى الطين وأعطاه صورته، تصور الخزاف هذا الفراغ غير الواعي أول ما تصور، ثم شكله في صورة الوعاء، الفراغ في الجرة حدد شكل الإنتاج، ووجه كل ضربة من يد الخزاف، وشيئية الوعاء لا تكمن بحال في المادة التي صنعها منها، ولكن في الفراغ الذي يحتوي السائل المصبوب ويعيه.
ونعود الآن فنسأل: هل كانت الجرة حقا فارغة؟ أم سرح بنا الخيال في تأملات شاعرية حتى نسينا كلمة العلم؟ الفيزياء تؤكد لنا أن الجرة مملوءة بالهواء وما يتركب منه من عناصر كيميائية، ونحن حين نملأ الجرة خمرا إنما نحل نوعا محل نوع آخر، فالسائل المصبوب يزيح الهواء ويحل في مكانه، وهذه الحقيقة الفيزيائية لا شك في صحتها، وهي تطابق التصور العلمي للواقع، ولكن هل هذا الواقع الذي قدمه لنا العلم هو الجرة؟ لا مفر من الإجابة بالنفي؛ فالعلم لا يتعدى ما يسمح به منهجه من موضوعات ممكنة، حقا إن المعرفة العلمية ملزمة، فما وجه الإلزام في حالتنا هذه؟ وجه الإلزام أنه يلغي وجود الجرة كشيء ويتصورها مساحة جوفاء يحل السائل المصبوب فيها محل الهواء، أي إن حالة من حالات المادة تحل محل أخرى، الجرة كشيء لا وجود لها في نظر العلم. إن المعرفة العلمية - كما يقول هيدجر - قد بددت وجود الأشياء من زمن قديم، حتى قبل أن تصل إلى تفجير القنبلة الذرية والهيدروجينية، وما انفجار هذه القنبلة وغيرها من أسلحة الفتك والدمار إلا الحلقة الرهيبة الأخيرة من سلسلة طويلة تم فيها الإجهاز على وحدة الشيء ونفي واقعه ووجوده. ولقد بقيت شيئية الشيء في تاريخ الفكر أمرا منسيا لم يكشف عنه حجاب، وظلت حقيقة مطوية لم تجد التعبير عنها في لغة الإنسان.
لم إذن لم يكشف الشيء عن حقيقته كشيء؟ هل فات الإنسان أن يتصوره كذلك؟ ولكن الإنسان لا يفوته أمر لم يكن موجودا من قبل، إذن ما حقيقة هذا الشيء كشيء، هذه الحقيقة التي لم تستطع أن تكشف عن نفسها للإنسان حتى الآن؟ هل بقيت بعيدة لم تقترب منه ولم تنبهه إلى وجودها؟ وما هو هذا «القرب» وما حقيقته؟
10
سألنا هذا السؤال من قبل، ورحنا نبحث عن شيء قريب منا لكي نستطيع الجواب عليه، ووجدنا الجرة، ولكي نصل إلى حقيقة الجرة كشيء، سألنا: ما الذي جعل الجرة جرة؟ وضاع منا هذا السؤال حين توجهنا إلى العلم نسمع منه الكلمة الأخيرة في القضية. والحق أننا لم نجد عنده إلا الفراغ كما تتصوره الفيزياء، لا فراغ الجرة كما بحثنا عنه، وأردنا أن نصل به إلى شيئية الشيء.
كيف يعي الفراغ في الجرة؟ يعي الفراغ حيث يتلقى السائل المصبوب ويحتفظ به، فكلمة «الوعي» إذن تتضمن تلقي السائل والاحتفاظ به في آن واحد، ووحدتهما معا تعين من وجه الانسكاب، سواء في ذلك سكب السائل في الجرة أو منها، سكب السائل من الجرة إهداء، وفي الإهداء ماهية الوعاء، والوعاء محتاج للفراغ الذي «يعي» ما يسكب فيه، وماهية الفراغ تكمن في إهداء ما فيه، على أن الهدية والإهداء أغنى من السكب والانسكاب، والذي يجعل الجرة جرة هو سكب ما فيها هدية للرفيق والحبيب، والجرة الفارغة أيضا تكتسب ماهيتها من الإهداء، ولو لم يكن فيها من شيء نسكبه أو نهديه، هذا الإهداء أو الامتناع عنه أمر يخص الجرة وحدها (فالمطرقة أو الحذاء مثلا لا يستطيعانه).
هدية الجرة شراب، الشراب قد يكون ماء أو خمرا، في الماء يكمن النبع، وفي النبع الصخر، وفي الصخر نعاس الأرض تستقبل الندى والمطر من السماء، في ماء النبع تلتقي الأرض والسماء في عرس بهيج، وتخضل الخمر عطية الكرم والعناقيد، ثمرة رضعت من خير الأرض، وتغذت من شعاع الشمس في انسكاب الماء وإهداء الخمر تلتقي الأرض والسماء، وفي الإهداء ماهية الجرة وحقيقتها، وفي الجرة تلتقي الأرض والسماء.
الهدية المسكوبة شراب للبشر الفانين، يروي عطشهم وينعش فراغهم ويملأ بالبهجة ناديهم، والهدية من الجرة لا تكون دائما من نصيب الفانين، فقد تدخل المعبد، وقد توهب في عيد مقدس، وقد تقدم قربانا للآلهة الخالدين، هنا تكون هدية الجرة هي الهدية الحقة، وفي إهدائها يكون جوهرها النقي، صب الشراب حين نعود به إلى أصله الأول يفيد معنى التضحية والقربان للآلهة،
11
أي الإهداء في معناه الخالص.
في إهداء الشراب يكمن البشر، وفيه تكمن الآلهة. في الشراب يجتمع الفانون والخالدون، وفي إهدائه تلتقي السماء والأرض والبشر والآلهة، وهذه العناصر الأربعة - وإن توحد كل منها بماهيته - مرتبطة في نسيج محكم، لا يستغني واحد منها عن الآخر.
إهداء الشراب يكون هدية بقدر ما تجتمع فيه الأرض والسماء، والخالدون والفانون، أي بقدر ما يتحد فيه هذا الرباع الفريد، ولكن الإهداء هو الذي يكشف عن حقيقة الجرة، والإهداء من الجرة - كما قدمت - يجمع كل ما يتصل به بسبب: تلقي الخمر والاحتفاظ بها، القاع والجدار، الفراغ في الوعاء، صب الشراب باعتباره هدية وتضحية.
الهدية تجمع هذه الأمور كلها من حيث تجمع «الرباع» الفريد، وتجعله يتلبث في هذا الشيء الذي أسميناه بالجرة، وهذا التجمع العجيب هو الذي يكشف لنا عن حقيقتها، فهي اللحظة والموضوع الذي يحل فيه.
الجرة إذن تكشف عن ماهيتها كشيء، والجرة جرة من حيث هي شيء، لكن كيف يكشف الشيء عن ماهيته؟ الشيء يتشيأ،
12
والتشيؤ يضم الرباع الفريد في لحظه وفي موضع نشير إليه قائلين: «هذا الشيء!»
تحدثنا عن القرب والبعد في مبدأ هذا المقال، قلنا: إننا نعيش في عصر انكمشت فيه الأبعاد وطويت المسافات. وبالرغم من ذلك فقد كتب علينا أن نبقى غرباء عن الأشياء وتبقى غريبة عنا. نحن إذن لا نقترب من الأشياء، وهي لا تقترب منا، ونحن نعيش في حال تختلف عن أحوال آبائنا الأولين، وعن الفنان والشاعر الذي يكاد يضم الأشياء إلى صدره ويحس نبضها على قلبه، ويلمس طبيعتها العذراء بين يديه. والآن نسأل: ما هو القرب؟
للإجابة على هذا السؤال رحنا نفتش عن شيء قريب منا، فلما وجدنا الجرة رحنا نفكر في ماهيتها كشيء، وبعد أن وجدنا حقيقة الشيء من حيث هو كذلك أحسسنا بأننا نزداد قربا من حقيقة القرب، «فالشيء يتشيأ» وهو في تشيئه يجمع الأرض والسماء والفانين والخالدين، ويقرب هذه العناصر الأربعة بعضها من بعض بعد أن كانت بعيدة غاية البعد،
13
في هذا «التقريب» تكمن حقيقة القرب، غير أن «القرب» يخفي حقيقته عنا، حتى لنستطيع أن نقول: إن أقرب الأشياء إلينا هو في الوقت نفسه أبعدها عنا ... الشيء يجمع العناصر الأربعة: يضم الأرض والسماء، ويجمع الفانين والخالدين.
الوجود على الأرض معناه كذلك الوجود تحت السماء، والوجود الفاني يكون كذلك بقدر ما يتصور ذاته في مقابل وجود خالد غير محدود.
والعناصر الأربعة تلتقي في وحدة أصيلة تؤلف ما سميناه «بالرباع الفريد».
الأرض هي المهد واللحد ، الغذاء والثمر ينبعان من قلبها، الماء واليابسة يمتدان على صدرها، النبات والحيوان يعيشان على خيرها ويلقيان نصيبهما من حنانها.
إن ذكرنا الأرض رجع بنا الفكر إلى العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، السماء هي مشرق الشمس ومغربها، ومطلع القمر وانحداره، وانبلاج النهار وغسق المساء، ورهبة الليل وروعة النجوم، وأحوال الطقس ودورة الفصول، وموكب السحاب وزرقة الأثير.
إن ذكرنا السماء رجع بنا الفكر إلى العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، الخالدون هم رسل الربوبية، من جوهرها الأزلي المقدس يتجلى جوهر الإله لنا، أو يحجب جلاله عنا.
إن ذكرنا الخالدين فقد ذكرنا العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، الأرض والسماء، الآلهة والفانون، كل منها مستقل بكيانه، غير أنها جميعا متحدة في نسق فريد، وكل عنصر منها يعكس - على طريقته - جوهر العناصر الثلاثة الأخرى، كل منها يعكس ذاته في داخل هذا النسق العجيب، وفي هذا الانعكاس يستضيء كل عنصر على حدة، كما تغمر الكل هالة من النور، كل منها مستقل بذاته متمتع بحريته، غير أن الوحدة التي تتألف منها جميعا وحدة ضرورية، سوف نطلق عليها اسم «العالم»، هي وحدة لا تعرف بالتفسير والتعليل؛ لأنها بسيطة كلية، إن جزأناها إلى عناصرها أو فسرناها بغيرها فقد غاب عنا جوهرها ومعناها.
الشيء يجمع العناصر الأربعة، والشيء يضم العالم - وهو الاسم الذي سمينا به وحدة الرباع الفريد - في لحظة وفي موضع سميناه بالشيء.
ليس وجود الإنسان مجرد وجود على الأرض وتحت السماء وأمام الخالدين، ولكنه كذلك وجود «مع» الأشياء، وفي الأشياء يتجمع الرباع الفريد كما قلنا، وعلى الإنسان أن يشعر بهذه الوحدة الأصيلة للعناصر الأربعة، وأن يبقي عليها في الأشياء، وذلك هو معنى وجوده وسكنه على الأرض،
14
بهذا نعود بالشيء إلى مملكته الأولى، إلى كهفه الأمين، وبهذا نكون قد اقتربنا من حقيقة الشيء والعالم والقرب في آن واحد!
حذاء فان جوخ
رأيان في الفن
نحن نسأل هنا عن الفن، والسؤال الجاد عن شيء هو سؤال عن حقيقته، ماذا نريد بالحقيقة؟ نريد بحقيقة الشيء ما يجعله «ما هو» و«كيف هو»، أي ما يكون الأصل في ماهيته وجوهره . وبالسؤال عن حقيقة الفن نسأل في نفس الوقت عن العمل الفني والفنان. وإذا قلنا: ما الذي يجعل العمل الفني عملا فنيا، كان الجواب: الفنان. وإذا قلنا: ما الذي يجعل الفنان فنانا؟ كان الجواب هو العمل الفني. ولن نستطيع أن نفكر في أحدهما دون الآخر. غير أن العمل الفني والفنان - على توثق العلاقة بينهما - لا يكفيان وحدهما، ولا بد من شيء ثالث يجمع بينهما ويكون حقيقتهما ويعطي اسمهما، هذا الشيء الثالث هو الفن.
1
بقدر ما يكون الفنان هو أصل العمل الفني وحقيقته، وبقدر ما يكون العمل الفني - على نحو آخر - هو أصل الفنان وحقيقته، فإن الفن سيكون بالضرورة هو أصل كليهما وحقيقته. ولكن ماذا نقصد بالفن؟ هل يمكن أن يكون أصلا وحقيقة؟ كيف نجده وفي أي مكان؟ هل هناك شيء في العالم الخارجي يمكن أن نشير إليه بقولنا: هذا هو الفن، أم أن الفن فكرة عامة ندرج تحتها جزئيات كثيرة من فنانين وأعمال فنية؟ نحن بهذه الأسئلة كلها نصطدم بلغز قديم، بدأ منذ أن بدأ الإنسان يسأل عن طبيعة الفن ويحاول تذوقه والتعرف على سره، أعني منذ أن بدأ هو نفسه يبحث عن سر نفسه، ولا ندعي أننا سنحل هذا اللغز؛ فلم نصل بعد إلى مهارة الحاوي الذي يخرج الكتكوت من جيبه، وكل ما نريده هو أن نحاول رؤية هذا اللغز، أن نسلط الضوء عليه، أن نضعه في المكان الذي يهيئ لنا بعد ذلك أن نعثر على الطريق المؤدي إليه.
لم نقرر بعد إن كان ما نسميه بالفن موجودا أو غير موجود، وإن كان هو الذي يكون حقيقة العمل الفني والفنان أو إن كان من الواجب أن نبحث عنهما في مجال آخر، فلنجرب إذن أن نبحث عن الفن حيث لا شك في وجوده، أعني في العمل الفني، فما هو العمل الفني وكيف يكون عملا فنيا؟
نحن نعرف الفن من خلال الأعمال الفنية، ونعرف الأعمال الفنية من خلال الفن ، أنكون بهذا القول كمن يدور في دائرة مفرغة يحرمها التفكير المنطقي ويرفضها الإحساس السليم؟ إن صح أن حقيقة الفن لا تعرف إلا من تأمل الأعمال الفنية، فكيف نتأمل هذه الأعمال إن لم تكن لدينا من قبل فكرة سابقة عما هو الفن؟ ومن قال: إن الملاحظات العامة التي سنجمعها من تأملنا للأعمال الفنية يمكن أن تكشف لنا عن حقيقة الفن؟ كل خطوة نخطوها من العمل الفني إلى الفن لا بد أن تسبقها خطوة أخرى من الفن إلى العمل الفني، وهذه الدائرة لا مناص منها؛ علينا إذن أن نجرب طريقا جديدا، ولنبدأ بالسؤال عن العمل الفني نفسه، ما الذي يجعله منه عملا؟
الأعمال الفنية معروفة لكل إنسان، يكفي أن ننظر في الحدائق والميادين العامة لنرى النصب والتماثيل، وفي المتاحف والمعارض والبيوت لنرى اللوحات من مختلف البلاد والعصور، إن لها من الواقعية ما للأشياء، ومن الوجود ما لسائر ما نحسه ونراه ونستخدمه من موجودات، الصورة تعلق على الحائط كما تعلق بندقية الصيد أو أصيص الورد، واللوحة من رسم فان جوخ أو محمود سعيد تنقل من بلد إلى بلد كما ينقل الفحم والبطاطس والأخشاب، ورباعيات بيتهوفن أو أغاني عبد الوهاب توضع في نوافذ المحلات كما توضع القمصان والأقلام وألعاب الأطفال، كل الأعمال الفنية فيها هذه «الشيئية» التي لا تخلو منها سائر الأشياء، ولكن ألا نغمطها بذلك حقها؟ ألا نعاملها معاملة التاجر والمخزنجي؟ أليس من حقها علينا أن ننظر إليها من وجهة نظر المجرب والمتذوق؟ ولكن ما حيلتنا إذا كان ما نسميه بالتجربة الجمالية لا تقوم له قائمة بغير «شيئية» العمل الفني؟ ماذا يكون التمثال بغير الحجر؟ واللحن بغير الصوت؟ واللوحة بغير القماش والورق واللون؟ فالشيء إذن ماثل في كل عمل فني، بل إننا لنستطيع أن نعكس الأمر فنقول: إن العمل الفني ماثل في الشيء، فالتمثال في الحجر، والحفر في الخشب، والرسم في اللون، واللحن في الصوت.
أنكون بهذا السؤال عن الشيء في العمل الفني قد أربكنا أنفسنا بغير طائل، في حين أن العمل الفني يتجاوز «الشيء» ويشير إلى ما هو أبعد منه؟ حقا، إن العمل الفني شيء مصنوع، ولكنه يقول لنا أكثر مما يقوله مجرد الشيء، كما يوحي إلى ما يرتفع عنه ويرمز إلى ما يعلو عليه، ومع ذلك فقولنا: إن العمل الفني رمز لما وراءه لا يعفينا من البحث عما يرمز به، أعني أنه لا يعفينا من النظر إلى شيئيته التي يقوم عليها كيانه والتي خلق منها الفنان ما نسميه عملا فنيا. لا بد إذن من البحث عن واقع العمل الفني إذا كنا نريد أن نعرف واقع الفن، ولا بد من البحث عما هو الشيء الذي يكون منه هذا الواقع، أعني لا بد من السؤال عما هو الشيء، على الرغم من أننا نعلم سلفا أن العمل الفني أكثر بكثير من أن يكون مجرد شيء.
فما هو الشيء من حيث هو شيء؟ وما هي طبيعة الموجود الذي نقول عنه في العادة: إنه شيء؟ نحن نقول عن الحجر على الطريق: إنه شيء، كما نقول عن الجرة والنبع، ولكن ما هو الحال مع اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هما كذلك أشياء، مثلهما مثل السحاب في السماء، والشجرة في الحقل، والورقة في مهب الريح، والطائر في الغابة، كل ما يظهر بنفسه إلى الوجود يسمى في لغة الفلسفة شيئا، بل إن ما لا يظهر ولا تراه عين أو يدركه حس قد نسميه شيئا. ألم يتحدث فيلسوف مثل «كانط» عن الشيء في ذاته؟ ألم يقصد به كلية الوجود وما يجعل الوجود وجودا؟ كل ما ليس عدما فهو إذن شيء، سواء كنا نريد به آخر الأشياء وأبعدها (كالموت والبعث) أو أقربها إلى عيوننا وحواسنا (كالحجر والجرة)، والكلام نفسه ينطبق على العمل الفني من حيث هو موجود بين الموجودات، غير أن وجوده كشيء لا يعنينا كثيرا في التعرف على وجوده كعمل فني، بل إننا لنشفق على أنفسنا أن نسميه شيئا كما نشفق عليها من تسمية الفلاح في الحقل والمعلم في المدرسة أشياء؛ فالإنسان ليس شيئا، وكرامته وتاريخه الحضاري يربآن به أن يكون شيئا، كما يقفان في وجه كل من تحدثه نفسه أن يعامله معاملة الأشياء. والأفضل أن نسمي المطرقة شيئا أو الحذاء أو الفأس أو الساعة، ومع ذلك فليست جميعها أشياء خالصة، بل الشيء الخالص فيها هو الخشب أو الحجر أو الحديد، أعني كل ما ليس بحي في الطبيعة أو في مجال الاستعمال. فالشيء الذي يستحق هذه التسمية هو الشيء الخالص الذي خرج عن مجال الحياة والاستخدام على السواء، إنه شيء وكفى. هل اقتربنا بهذا من واقع العمل الفني الذي قلنا: إنه يزيد عن كونه مجرد شيء، لنبتعد الآن عن التاريخ الميتافيزيقي الطويل الذي حاول على مر العصور أن يفسر شيئية الشيء بأنها الشيء الباقي وراء الخصائص والصفات، أو «الموضوع» الذي يحمل هذه الخصائص والصفات، أو الجوهر وراء الأعراض، أو المادة الأولى أو الهيولي التي تنطبع عليها الصورة فتتشكل على نحو ما نراها أو نلمسها أو نحسها أو نتذوقها. لنبتعد عن هذا كله، ولنبعد عنا كل ما يقف بيننا وبين الشيء نفسه مباشرة، لنحاول أن نلتقي بالأشياء أو نتركها تلاقينا عن طريق ما توصله إلينا حواس البصر والسمع واللمس، أو عن طريق ما نحسه فيها من لون أو صوت أو ملمس. لنحاول ما وسعتنا الطاقة أن نقترب منها القرب الخالص المباشر بعيدا عن كل هدف يمكن أن تستخدم له أو تصنع من أجله. لنترك شيئية الشيء تتحدث إلينا بنفسها - في تجربة اللقاء المباشر - بعد أن نتخلص من كل التصورات التقليدية التي حاولت أن تصف لنا الشيء أو تحدد لنا الموجود، سواء على أنه «حامل» الصفات أو وحدة الإحساسات المتنوعة أو المادة المشكلة. لنحاول كما قلت أن نفكر في الموجود من ناحية وجوده ولا نفرض نظريات ولا تصورات غريبة عليه، وأن نواجه الشيء بغير وسيط، ونعانقه كما يعانق الحبيب الحبيب، ونراه مرة بعين الطفل أو الشاعر أو الحكيم، هذه العين التي تعرف معنى الدهشة والعجب والحب والسرور.
لنضرب مثلا شيئا من الأشياء: ليكن زوجا من الأحذية مما يلبسه الفلاحون، لنوضح المثل في ضوء لوحة مشهورة من لوحات الأحذية الكثيرة التي رسمها الفنان العظيم «فان جوخ»، هو زوج من الأحذية كما قلت، وكل إنسان يعرف ما هو الحذاء وما وظيفته وما ينبغي أن يتوافر فيه لكي يكون حذاء، وكل إنسان يعرف أن الأحذية أنواع وأن اختلاف الهدف منها له أثره في اختلاف مادتها وشكلها، فالحذاء الذي نلبسه في الصيف غير الذي نلبسه في الشتاء، والذي نذهب به إلى حفلة رسمية غير الذي نلبسه في الحقل، ولكن هذا الشيء نعرفه من قبل، كما نعرف أن وجود الحذاء كأداة أمر مرهون بالوظيفة التي يؤديها، فالفلاح في الحقل يلبس الحذاء (أو هذا على الأقل ما نتمناه لأهلنا جميعا في الريف) وفي الحقل يكون وجود الحذاء أول ما يكون، بل إن درجته في الوجود تزداد كلما استغرق الفلاح في عمله فلم ينظر إليه أو يحس به أو يفكر فيه. إنه يسير به وحسب، وهناك يكون الحذاء حذاء بحق، أعني يكون الأداة التي تحقق ما خلقت له، أما إذا اكتفينا بتأمل الحذاء بوجه عام، أو نظرنا إلى زوج جديد من الأحذية لم توضع فيه قدم، فلن نستطيع بحال أن نعرف شيئا عن طبيعة هذا الحذاء بما هو أداة صنعت لتحقق غرضا. صحيح أن الطفل الصغير يراه فيعرف أنه خلق لتلبسه القدم، أما طبيعة هذا الحذاء الحقة فلا تتجلى بكل ما فيها من حضور حتى تلبسها القدم الخشنة أو الرقيقة، الصغيرة أو الكبيرة، المرفهة أو التي كتب عليها الشقاء.
ليستحضر القارئ في ذهنه صورة هذا الحذاء العجيب الذي رسمته ريشة فان جوخ؛ إن النظرة الأولى إليه لا تكاد تتبين شيئا من حوله، اللهم إلا المكان الغامض غير المحدود، لن تجد شجرة ولا ورقة ولا كومة تراب، إنه زوج من الأحذية ولا شيء سواه.
ومع ذلك فمن سحنة هذا الحذاء الخشن الثقيل تطل قسوة العمل وتعب النهار، في مظهره الغليظ وتعاريجه العميقة يجتمع الإصرار والصبر على المشوار الطويل الذي يقطعه صاحبه في أرجاء الحقل، ما بين ري وبذر وحرث ، على الجلد الشاحب المتآكل آثار من عرق الأرض وألمها، من عرفانها وخصوبتها، تحت النعلين تنداح وحدة الطريق إلى الحقل خلال ظلمة النهار الغارب، وعلى وجه الحذاء المتعب الجاد تلمح العين طيبة الأرض وكرمها، وتسمع الأذن صدى ندائها المكتوم وهي تهدي منحتها الذهبية من الغلة، أو عطيتها الحلوة من الفاكهة. هل نسمع أيضا صدى أنينها من حد المحراث الذي يشق جسدها الأسمر من آلاف السنين؟ أم نرى على خطوط الحذاء أثر القلق على لقمة العيش، والخوف من نزوات العاصفة وغضب الأمطار، والفزع أمام خطر الدودة والموت والجفاف؟ هل نرى عليه ملامح الفرح بالمحصول الجديد ودلائل الامتنان للأم الوفية؟ هذا الحذاء جزء من الأرض، جزء من عالم الفلاح، قطعة من حياته وكده وأنفاسه. وانتماؤه على هذا النحو إلى حياته وتاريخه وشقائه هو الذي يحقق وظيفته ويجعله ما هو عليه، أعني حذاء فلاح. إن الفلاح نفسه قد لا يعرف هذا كله، إنه يلبسه فحسب، وحين يعود إلى بيته في المساء يخلعه بعد نهار حافل بالتعب والرضا والألم، ولكنه حين يمد يديه إليه في الصباح سيحس بما قلناه دون حاجة إلى التأمل والتفكير، وسيعرف أنه يؤدي وظيفته خير أداء، ولكنه سيعرف أيضا أنه يستطيع أن يعتمد عليه، وأنه أحد هذه العوامل الكثيرة التي تجعله يحس بالراحة في ظل الأرض والأمان في عالمه الصغير المحفوف بالأخطار. هل نقول: إن الأرض والعالم بالنسبة للفلاح مجتمعان في هذا الحذاء؟ ربما كان في هذا شيء من المبالغة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الفلاح يحس منه بكثير مما يستشعره في حياته من تواضع وبساطة واطمئنان. في هذا الاعتماد على الحذاء تكمن طبيعته كحذاء، في الاستعمال المتصل به حتى يبلى تكمن وظيفته كأداة، هل نكون بهذا قد اقتربنا قليلا من طبيعة «الشيء» أو من حقيقة العمل الفني؟
إن صح أننا عرفنا طبيعة الأداة بما هي أداة من مثال الحذاء الذي قدمناه، فلم تكن معرفتنا به عن طريق وصف ولا تفسير لصناعة الحذاء، ولا عن طريق ملاحظة أو تقرير لأوجه استعماله، لقد عرفنا ما عرفناه من سبيل واحد لا سبيل سواه: بلقائنا مع رسم فان جوخ، تكلم إلينا الحذاء العجيب وأصغينا، شعرنا بأن كياننا في حضور هذا العمل الفني أصبح غيره في أوقات أخرى، تعلمنا منه ما هي حقيقة الحذاء، ونخطئ كثيرا لو تصورنا أن ما قلناه كان من قبيل الإسقاط الذاتي للمشاعر والأحاسيس، أو من قبيل الإعجاب المتحمس بعمل يستحق الإعجاب والحماس، فالأصح أن ما قلناه عنه أقل بكثير مما يجب أن يقال، وما جربناه أضعف مما ينبغي أن يجرب، وكذلك الشأن مع كل عمل فني عظيم لا مع هذا الحذاء الفريد وحده! المهم أنه جلى لنا حقيقة الحذاء بما هو حذاء، نقول: جلى حقيقته ونقصد أنه أظهرها بعد اختفاء، فالحقيقة هنا ظهرت أو تجلت، وهو ما كان يقصده اليونان من كلمة أليثيا
Aletheia (أي الحقيقة) أو الجلاء بعد الغموض والاختفاء.
حقيقة الفن إذن هي إظهار حقيقة الوجود، وهنا يسأل القارئ: ولكن الفن يتعلق دائما بالجميل والجمال لا بالحق والحقيقة؛ فالحقيقة مجالها المنطق، والفن الجميل هو الذي يظهر الجمال، أم ترانا نريد بقولنا: إن الفن يظهر حقيقة الوجود أنه يحسن تقليده ومحاكاته، وهو الرأي القديم الذي لم يعد له اليوم مكان؟ أم نقصد أن لوحة فان جوخ قد نجحت في محاكاة حذاء واقعي وجعلت منه عملا فنيا؟ ليس الأمر كذلك.
فاللوحة لم تقتصر على إعطائنا صورة هذا الموجود الذي نسميه بالحذاء، بل نقلت إلينا الحقيقة العامة للموجود، وهي لم تنقل لنا هذه الحقيقة عن مثال أو فكرة سابقة في الوجود، (من يستطيع اليوم أن يزعم أن الفنان الذي يبني معبدا يونانيا أو فرعونيا قديما قد نقله عن فكرة المعبد على وجه الإطلاق؟ أو أن المتنبي أو شكسبير قد حاكى بقصائده مثال الشعر في ذاته؟) بل أظهرت الحقيقة في هذا العمل الفني، أو جعلتها تحدث في الزمان والتاريخ، أو فتحت عين الموجود على الوجود، ولا بد هنا من أن نعود فنسأل: ما هي هذه الحقيقة التي تتجلى في بعض الأزمان في صورة الفن؟ وماذا نقصد بأن الفن يظهر الحقيقة؟
الأصل في العمل الفني هو الفن، وما هو الفن؟ هو ما نجده في العمل الفني، ومن أجل هذا رحنا نبحث عن طبيعة العمل كعمل، وقادنا هذا إلى البحث عن صفة «الشيئية» التي تكمن وراء كل عمل فني أو غير فني، رأينا أننا لن نصل إلى نتيجة نرضى عنها بتصوراتنا التقليدية عن الشيء، لا لأن هذه التصورات التي ورثناها من تاريخ الميتافيزيقا لا تكفي للتعرف على شيئية الشيء فحسب، بل لأنها كذلك تسد علينا الطريق إلى طبيعة العمل بما هو كذلك، فلكي نصل إلى حقيقة العمل لا بد أن ننتزعه من كل العلاقات التي تربطه بما عداه، حتى يقوم وحده بذاته وفي ذاته.
العمل الفني يعرض في المعارض ويضم إلى المجموعات، المعجبون يتسابقون إلى رؤيته، والتجار يتنافسون في الحصول عليه، الجهات الرسمية تسهر على رعايته والنقاد يهتمون بأمره، والفلاسفة يجعلون منه موضوعا لعلم الجمال.
ولكن هل نلتقي بهذا كله بالعمل الفني في حقيقته؟ لقد انتزع العمل الفني من عالمه ففقدنا القدرة على رؤيته على ما كان عليه، لوحات جويا أو أعمال باخ أو قصائد المعري هي هي، ولكنها لم تعد تقول لنا كل ما كانت تقول لأصحابها أو معاصريهم، لقد أصبحت تراثا نحافظ عليه، أو نحاول القرب منه، ولكنها أصبحت بذلك أيضا «موضوعات» للبحث والمناقشة والتذوق، وابتعدت بذلك أيضا عن طبيعتها الأصلية.
بأي شيء إذن يرتبط العمل الفني إن نحن جردناه من كل علاقة بما عداه؟ نقول: إنه ينتمي إلى عالمه الذي تتحقق ذاته من خلاله، فالحقيقة «تحدث» في العمل الفني وتتجلى فيه، وقد رأينا ذلك على ضوء لوحة فان جوخ، فلنجرب أن نراه الآن على ضوء عمل فني آخر، وليكن معبدا من معابد الإغريق. هذا البناء الذي نسميه بالمعبد لا يحاكي شيئا، إنه يقف هناك في الوادي تحيط به الصخور من كل مكان، في داخله تمثال للإله، نراه من قاعة الأعمدة وتشع حوله القدسية والجلال. المعبد هو الذي يجعل الإله يتجلى فيه ويغمره برهبته وحقيقته، والمعبد هو الذي يجمع ويهيئ هذه الوحدة من العلاقات التي نرى من خلالها قدر الإنسان اليوناني وتاريخه وميلاده وموته وهزيمته وانتصاره وارتفاعه وسقوطه، إنه يفسح لنا هذا الأفق الواسع الذي نطلع منه على عالم هذا الشعب، وكأننا نراه وهو يعود إلى نفسه ويتأمل قدره ومصيره.
المعبد يقف هناك فوق الصخور، يستريح فوق هذه الكتلة المعتمة الصابرة، ويقاوم العاصفة الثائرة حوله، والمطر المتدفق عليه، ويبين كم هي غاضبة هذه العاصفة، وكم هو مقتدر هذا المطر، لمعان الصخر الذي تباركه الشمس هو الذي يظهر روعة النهار ورهبة السماء ووحشة الليل، صلابته التي لا تتزعزع تصطدم بها أمواج البحر الهائج فيذكرنا بهدوئه كم هي ثائرة، الشجرة والعشب، الحية والفراشة تظهر في صورتها وتبدو على ما هي عليه، كل شيء حول المعبد ينمو ويتشكل ويتخذ موضعه من الكل، والأرض كلها تظهر للإنسان في معناها الأصيل، سكنا له وموطنا، لا نعود نقول: إنها كتلة هائلة من المادة، ولا إنها فلك من الأفلاك التي تسبح حول الشمس، بل نقول: هي التي تظل كل ما ينمو ويتفتح ويتنفس، وهي التي تعطي له المسكن والأمان، المعبد الشامخ في موضعه فوق الصخور هو الذي يفتح أعيننا على هذا العالم ويعين له مكانه فوق الأرض، هذا الوطن الأصيل. إننا لا نقول: إن البشر والحيوان والنبات والأشياء كانت موجودة ومعروفة من قبل ثم جاء المعبد فأصبحت الوسط الذي يحيط به، بل الأولى أن نفكر بالعكس، الإنسان لا يعرف قدره وتاريخه، وأنواع الحيوان والنبات لا تظهر حقيقتها إلا بعد أن يظهرها العمل الفني على عالمها ويضعها فيه؛ فالعمل الفني هو الذي يظهر الحقيقة ويجليها ويخرجها إلى النور.
المعبد هو الذي يضع هذه الكائنات المحيطة به في عالمها الحقيقي، وهو الذي يعطيها وجهها ويطلعها على ذاتها قبل أن تصبح موضوعات للعلم والدرس والتحصيل، وكذلك الأمر مع صورة الإله المنقوشة بداخله وأمامه المحارب المنتصر الذي يقدم له القرابين، ليست الصورة من قبيل المحاكاة، ولا هي تريد أن تعرفنا كيف يبدو الإله، ولكنها العمل الفني الذي يدع الإله نفسه يظهر في حقيقته، أي الذي يجعله «يكون». من خلال العمل الفني «تظهر» الحقيقة، يكون الإله، «يوجد» العالم، ما معنى قولنا: إن العالم «يكون»؟ معناه أننا نعرف من خلال العمل الفني ما هو العالم، فليس العالم مجموعة من الأشياء والموضوعات مما نعرف وما لا نعرف، نحصيها ونضعها إلى جانب بعضها البعض، وليس العالم فراغا حقيقيا أو متخيلا نتصور مجموع الموجودات في إطاره؛ ذلك لأن العالم أعلى درجة في الوجود من كل ما نلمسه أو ندركه من الموجودات، ولأنه لا يمكن أن يصبح «موضوعا» مما نجده أو نراه أمامنا، ففي الفترات الحاسمة من تاريخنا حين نولد أو نموت، وحين ننتصر أو ننهزم، ونكلل بالمجد أو نقع في الكارثة، في مثل هذه اللحظات يكون العالم عالما؛ ذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي قدر عليه - سواء أراد أو لم يرد - أن يوجد في الوجود ويسأل عن حقيقة العالم، فالحجر لا عالم له، وكذلك النبات والحيوان، إنهم منتمون بالضرورة إلى وسط يرتبطون به على الرغم منهم، وعلى العكس من ذلك الفلاح، فهو يقيم في العالم المفتوح أمامه، المتسع لأفراحه وهمومه، الذي تلقاه حين ولد وسيؤويه حين يموت، ولكنه حين يزرع ويرعى البذور ويتعهد الثمار بفض أسرار الأرض ويكشف عن حقيقتها ويجعلها تصبح أرضا، وكذلك المثال حين يعالج الصخر، والشاعر حين يتناول اللغة، والرسام حين يمد ريشته في اللون، والموسيقي حين يؤلف بين الأصوات، ففي كل عمل فني يتفتح العالم ككل، وتتجلى الحقيقة على حقيقتها.
في وقفة المعبد في مكانه الشامخ فوق الصخور «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئا قد صور هنا أو عبر عنه أو أتقن تقليده، بل نقول: إن الوجود كله قد تجلى وظهرت حقيقته. وفي لوحة فان جوخ «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئا قد أجيد رسمه أو أحسنت محاكاته، بل نقول: إن طبيعة الحذاء كأداة قد ظهرت في هذه اللوحة، وفي ظهورها تجلى الوجود كله - الأرض والعالم في تلاقيهما وفي تنازعهما - في نور الحقيقة، المعبد واللوحة كلاهما لا ينبئنا بشيء عن شيء، فالجمال يظهر في بساطتهما وصفائهما، وبظهوره تتجلى الحقيقة، حقيقة العالم والوجود كله، ألم نقل: إن الفن هو إظهار الحقيقة؟
تأملنا العمل الفني حتى الآن من ناحية العمل نفسه، أعني من ناحية شيئيته وواقعيته، ولم ننظر فيه من ناحية الفنان، أعني من ناحية الخلق والإبداع. إن سلوك الفنان والصانع يكاد يتشابه، على الأقل من ناحية المظهر؛ فسلوك الخزاف والمثال والنجار والرسام يكاد يكون واحدا، والفنانون العظام كانوا دائما يقدرون الصنعة والصانع، ويعرفون أهمية الحرف اليدوية والمران اليدوي. ومن المعروف أن اليونان كانوا يطلقون كلمة واحدة على العامل اليدوي والفنان هي «تخنيتس»، ولكن هذه الكلمة لا تعني في الحقيقة أي نوع من أنواع الصنعة والإنجاز العملي، بل تعني أسلوبا من أساليب المعرفة، والمعرفة عندهم كانت دائما ضربا من الرؤية بمعناها الأعم، أعني إدراك الموجود بما هو موجود، وجوهر هذه المعرفة هو الحقيقة بالمعنى الذي ذكرناه، أعني تجلي الموجود وظهوره من الخفاء، «فالتخني» بهذا الفهم اليوناني إظهار للموجود من الغموض والخفاء بالمظهر الذي تراه العين منه، و«التخنيتس» ليس هو الصانع اليدوي، بل ذلك الذي يجعل الموجود يظهر على الحقيقة، أو يجعل حقيقته تظهر فيه. ولا عجب إذن أن تتوقف عملية الخلق في العمل الفني على طبيعة العمل نفسه، لا بوصفه شيئا مصنوعا بل باعتباره مجالا تحدث فيه الحقيقة. ولكن ما هي هذه الحقيقة التي تظهر في العمل الفني؟ وما مدى صلتها به حتى تظهر فيه؟ قلنا: إن الحقيقة هي عدم التخفي أو هي الجلاء بعد الاختفاء، وهي بهذا التعريف لا تبدو إلا من خلال الشقاق القائم بين الإيضاح والإخفاء، والحقيقة بهذا هي مهد هذا الشقاق الأصلي الذي يكافح فيه من أجل الوضوح أو الانفتاح.
وحين تظهر الحقيقة على هذا النحو في العمل الفني فليس معناه أنها لا تظهر إلا فيه (هل نستطيع أن نقول هذا والفنانون الحقيقيون هم أبعد الناس عن الغرور؟) إنها قد تظهر كذلك في تأسيس دولة أو في فداء بالروح ، أو في سؤال جاد عن معنى الحياة، أو في القرب من الوجود الحق .
فالحقيقة - بحسب جوهرها - تحب أن تستقر في الوجود؛ ولذلك فإن من جوهرها أيضا أن «تكون» في العمل، واستقرار الحقيقة واتخاذها شكلا في مثل هذا العمل هو إبداع للموجود الذي لم يكن من قبل ولن يتكرر من بعد، هو وضع له في الضوء والانفتاح، أعني في الحقيقة، وإنقاذ له من التخفي والانغلاق، أعني من عدم الحقيقة. إننا نستطيع أن نقول عنه الآن: إنه كائن وليس عدما، ولكن ألا يصح هذا عن كل موجود آخر، سواء أكان عملا فنيا أو يدويا أو أي شيء مسته يد الصنعة والصناع؟ ما الذي يميز العمل الفني عنها جميعا؟ يميزه عنها أننا نستطيع أن نقول عنه ما نقوله حين تظهر الحقيقة، أعني أنه «يكون»، ولكن أليس هذا شيئا عاديا؟ ألا نقول عن كل ما نراه أو نلمسه أو نستخدمه: إنه كائن؟ نعم ولا، فكل ما ذكرناه موجود حقا وكائن، ولكنه سرعان ما يسقط في النسيان ويهبط إلى التعود ويصبح مجرد أداة أو وسيلة، أما «الكينونة» في العمل الفني المبدع فهي أغرب ما فيه؛ ذلك لأنه «كائن» كهذا العمل الفني لا كشيء آخر سواه (العمل الفني لا يريد ولكنه «يكون»، إن له معنى ولكن ليس له غرض، سواء كان هذا الغرض علميا أم اقتصاديا أم إصلاحيا، إنه لا يقصد شيئا بل يدل ويشير)، وفي هذا التجلي والظهور على حقيقته تكمن وحدته وتفرده، وكلما توحد العمل الفني في انفتاحه على الوجود، وبدا كأنه يبتعد عنا؛ لأنه يبتعد عما ألفنا وتعودنا، خرج من عاديته وازداد منا قربا، أو بالأحرى ازددنا نحن من حقيقته اقترابا، هنالك نعود إلى حقيقته ونصمد فيها، أعني إلى الوجود الذي فتح أعيننا عليها، فهل من عجب إن قلنا بعد ذلك إننا نكون موجودين بحق حين نكون أمام العمل الفني الحق؟ ما أبعد هذا عن التجربة والتذوق وكل ما يبدأ فيه العلم ويعيد! وما أقربه إلى حقيقة العالم والوجود والإنسان! هذا الذي راح يكتشف العمل الفني فاكتشف نفسه، ويبحث عن الشيء والصنعة فيه فوجد الأرض التي انتزع منها، والعالم الذي جعل مقامه عليه، والوجود الذي أظهر الحقيقة فيه!
الفن هو الذي يظهر الحقيقة، في كل مرة يظهرها يبدأ التاريخ أو يعود فيبدأ من جديد، والفن بذلك تاريخي، إنه إبداع الحقيقة في العمل الفني والمحافظة عليها، هو تاريخي لا بالمعنى الخارجي للتاريخ - من تغير وتبدل في الزمان - بل بالمعنى الأصيل الخلاق من إظهار الحقيقة، ولا يكون ظهورها إلا في التاريخ. نحن نسأل عن حقيقة الفن، ولم نسأل عنها؟ لكي نعرف إن كان الفن في وجودنا التاريخي أصلا وحقيقة أو مجرد ادعاء ودعاية، وحين يصبح الفن أصلا وحقيقة حاسمة في حياتنا فسوف نعرف كيف نهيئ له المجال وللفنان الطريق، وكيف نساعد الإنسان العادي على أن يخرج مرة عن أفقه اليومي المعتاد إلى أفق الحقيقة والنور.
العمل الفني إذن هو مجلى الحقيقة والفنان هو مجليها. •••
ولكن لنحاول مرة أخرى أن نضع السؤال بطريقة أبسط، ونجيب عليه كذلك إجابة بسيطة، ما هو هذا الشيء الغريب الذي يبدو كأن لا أثر له، ومع ذلك فتأثيره لا حد له، ويستخلص من الحياة العادية، ومع ذلك فهو يلمس أعمق أعماق وجودنا، ونزنه بكل الموازين العملية فيبدو شيئا كماليا، ومع ذلك فلا غنى عنه لكل من دخل مرة في حياته؟
لنتصور إنسانا رزق موهبة الفن، أو لنقل على وجه التحديد: موهبة الرسم، ولنتصور أنه يلتقي بمحض الصدفة بشيء من العالم الخارجي كشجرة أو حيوان أو وجه إنسان؛ إنه يحس بشيء يلمسه أو يؤثر فيه، ينبعث من شكله أو لونه أو حركته ويدفعه إلى أن يعبر عن تأثره بالقول أو بالفعل، ويستعين بقدرته على التشكيل والتصوير في اكتشاف حقيقته أو خاصيته. إن كيانه الباطن ينفعل بهذا الشيء وتعروه حركة عجيبة، فهو يتفتح ويتلقى، وهو يستيقظ ويتوتر ويستعد للعمل، هذه الحالة الوجدانية التي يحس بها قد تختلف درجتها قوة أو ضعفا، فقد تكون لمسة خفيفة عابرة أو حالة من حالات التأثر الشديد والتسلط القاهر، إنه يحس عندئذ بأن لديه جهازا عضويا خاصا ينتبه إلى حقيقة الأشياء والأحداث، ويحاول أن يرصد شكلها المميز ويظهر طبيعتها الكامنة.
في مثل هذه الحالة الوجدانية يشعر الإنسان الذي تحدثنا عنه بأن لديه رغبة لا تقاوم في تناول هذا الشيء الخارجي الذي يراه أمامه، لا لكي يستغله في تحقيق غرض عملي كما يفعل الصانع الفني، بل ليخلقه من جديد، ولكن كيف يتم هذا الخلق الجديد؟ بأن يحاول إعادة تشكيله، فيبدع من المادة التي لديه - وهي في حالتنا هذه الألوان والسطح الذي سيرسم عليه - شيئا آخر يبدو شبيها بالشيء الذي وجده بالخارج، نقول: شبيها به، ونقصد بالطبع أن هذا الشبه تحدده طبيعة المادة التي أشرنا إليها، فالقماش الذي سيرسم عليه لا يقدم له إلا سطحا أملس، بينما الشجرة الحقيقية التي يريد أن يرسمها موجودة كجسم حي في العالم الخارجي، كذلك يحدده الأسلوب الفني السائد في عصره، فالرسام من عصر النهضة مثلا يرى هذه الشجرة بعين غير العين التي يراها بها فنان تجريدي حديث.
في هذا الفعل انتصار للفنان على الطبيعة، فهو فعل «خلاق»، يريد أن يبدع به عالما، ولكنه عالمه هو، هذا الخلق ليس شيئا إراديا متعمدا، ولكنه يخدم هدفا معينا، أي هدف؟ الوجود الإنساني. ولكن كيف يمكن للخلق الفني أن يخدم وجود الإنسان؟
قلنا: إن شكل الشيء الخارجي - ونعني بالشكل كل ما يمكن أن يدرك إدراكا حسيا من خط أو سطح، وبنية أو وظيفة، وحركة أو سلوك - يعبر عن جوهره وما يميزه، ويختص به ويعطي له معناه، هذا التعبير يكون في الشيء الخارجي ناقصا وغير محدد، والفنان هو الذي يحس برغبة تدفعه إلى إتمامه وإيضاحه، إنه يرى حقيقة الشيء تقترب منه فيضع نفسه في خدمتها، حتى يمكنها أن تتضح على نحو أكمل، لا بالأفكار والتصورات والنظريات كما يفعل العالم، بل على نحو حسي متصل بما يرى ويسمع ويلمس، إن شكل الأشياء يأخذ بيده ويتحكم فيه في نفس الوقت، فيقبل عليها ليستكمل بناءها أو يبسطها أو يكثفها أو ينظمها أو يفعل بها ما توحي به حاسته الباطنية التي أشرنا إليها لكي يرفع من درجة تعبيرها ويظهر طبيعتها المميزة. طبيعي أن هذا يذكرنا بالمحاكاة أو «الميمزز» التي تحدث عنها القدماء، ولكنها ليست تلك المحاكاة السطحية التي تنسخ الواقع، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إننا نفهمها إذا تصورنا العلاقة بين الفنان والشيء الخارجي، كالعلاقة بين الممثل والشخصية التي يخلقها الشاعر أو الكاتب المسرحي؛ فالممثل يسخر كل طاقته على التشكيل وعلى قدرته على الرؤية في تجسيم هذه الشخصية في صورة حية، كما تفعل الطبيعة في الشيء نفسه، ولكن بصورة تتفوق عليها بقدر ما يتفوق الإنسان بفضل طبيعته العاقلة على الطبيعة، وحين يدرك الفنان طبيعة الشيء؛ يدرك في نفس الوقت حقيقته، لا إدراكا نظريا كما يفعل عالم النفس الذي يبحث الحياة النفسية الباطنة، بل على نحو حي مباشر؛ فالفنان حين يشعر بأن كيان الشيء يلمسه، يشعر كذلك بأن شيئا يستيقظ في كيانه هو.
ذلك هو اللقاء بين الفنان والعالم الخارجي، فهو يرى الشيء، ويحس بتفرده وجماله وعذابه، فيتردد على الفور شيء كالصدى في نفسه يستيقظ ويسمو ويتفتح، وكلما زاد حظ الفنان من العمق والقوة والغنى الوجداني، كانت قدرته على هذا اللقاء أقوى وأعمق، وعلى الاستجابة للوجود الخارجي أغنى وأدق. في هذا اللقاء وبهذه الاستجابة يعود الفنان أيضا إلى نفسه، فقد رأينا أنه لا يدرك الشيء كما هو عليه من الواقع، بل يرى وراء ظاهره باطنه، ويستشعر حقيقته من مظهره، وفي هذا اللقاء تظهر حقيقته هو أيضا، ويدرك وراء وجوده اليومي وجودا آخر أعمق وأبعد. ليس هنا شيء من الغرور أو الأنانية، فكما برزت حقيقة الشيء في حس الفنان، فكذلك تستيقظ حقيقته هو نفسه ويدرك رسالته التي خلق لها ونودي إلى تحقيقها من خلال العمل الفني.
هكذا تتحد حقيقة الشيء وحقيقة الفنان في وحدة حسية تجاهد في سبيل التعبير، إحساس الفنان بذاته يجري في طريقة رؤيته للشيء الخارجي، وشكل الشيء الخارجي يتم الإحساس به من خلال التجربة الذاتية، وكلاهما يندمج بحيث يصبح شكلا أو عملا فنيا يختلف الدافع إليه باختلاف العصور وتفاوت شخصيات الفنانين، فبعضهم يوجه اهتمامه إلى جوهر الشيء وقوامه، ويعني بالأشكال في علاقاتها وقوتها، كما نرى في الفن القديم، وبعضهم يهتم بالجو السائد بين هذه الأشكال، أي بالضوء أو اللون أو الجو العام، كما يفعل التأثيريون، وبعضهم يبحث عن البناء والمعمار، كما فعل «أندريا دل سارتو» (1486-1531)، وبعضهم الآخر بالقوة المتدفقة بالحركة الديناميكية، كما نرى في لوحات «ميكيل أنجلو» أو تماثيله. أراد الفنان المصري القديم أن يصور الشيء المميز والقانون الباقي وراء التنوع الظاهر في العالم، بينما أراد الفنان الحديث أن يعبر عن الطابع الفردي الذي لا يتكرر (لنذكر رمبرانت أعظم الفنانين). كان الفن حتى الحرب العالمية الأولى يبدأ بما تقدمه الطبيعة؛ لكي يبرز ما فيها من تعبير وشفافية، ثم حدث شيء جديد، وأخذ الفنانون يبحثون عن الأشكال الأولية الكامنة وراء الأشكال الطبيعية، لكي يعبروا بها عما في الحياة من عناصر أولية، ونشأ بذلك ما نسميه اليوم بالفن التجريدي.
كذلك تختلف عملية التأثر والبحث والتكوين، ونحن بهذا نطرق فصلا من أصعب وأمتع الفصول في حياة الفنانين ونفسياتهم، ونطلع على تاريخ العمل الفني الواحد من خلال الفنان، كما نتعرف على تاريخ تجربته في الخلق والإبداع، فمن الفنانين من يتحول انطباعهم إلى الفعل مباشرة، وكأن هذا الفعل يقفز على الفور من لقائهم الحي مع الشيء الخارجي (كما في رسوم دومييه)، ومنهم من يعاني هذا التأثر ثم تمر فترة طويلة من المعاناة قبل أن يتحقق في صورة عمل فني، فالشكل ينمو شيئا فشيئا، ويظل ينتقل من مرحلة إلى أخرى، ويضيف لنفسه عناصر شتى من تجارب سابقة، ويعالج انطباعات من أعمال قديمة، ويحاول محاولات يطرح بعضها ويستبقي البعض الآخر حتى يصل أو يكاد يصل إلى التعبير الذي كان يبحث عنه، ولكل فنان في ذلك عاداته وطبعه الخاص، فما يعين أحدهم على الخلق قد يضايق الآخر، وكميات القهوة الرهيبة التي كان يستعين بها بلزاك على إنتاجه الخصب؛ تصبح تفاحة عطنة يحرص شاعر مثل شيلر على شمها عند الكتابة ! •••
اقتصرنا حتى الآن على الكلام عن العناصر التي نراها مباشرة في العمل الفني ، على فرض أن للإنسان عينين تريدان وتستطيعان الرؤية، على أن هناك عناصر أخرى تشترك في تكوين العمل الفني لا تقل تأثيرا عن سابقتها، وإن لم تكن في مثل وضوحها، من هذه العناصر ما يمكن أن نسميه «بالصور الأولية»، فلكل شكل من الأشكال - وليكن تفاحة أو بذرة أو خيطا - معناه المباشر، قد يكون هذا المعنى مرتبطا بحياتنا العادية، وقد ندرس طبيعته من الناحية العلمية أو الصناعية، أو نجعله رمزا يعبر عن معنى من المعاني التاريخية أو الدينية أو الأسطورية. لنأخذ الخيط مثلا، فنحن نستطيع أن نستخدمه في غرض عملي، فنعلقه بين نقطتين أو نحيك به ثوبا، نستطيع أيضا أن نبحث عن خصائصه العلمية لنفهم قوانين المرونة التي يخضع لها أو مميزاته الاقتصادية في إنتاج الأقمشة، وما شابه ذلك، ويكتسب هذا الخيط معنى أعمق حين نتحدث عن «خيط الحياة»، فنستعير هذه الصورة عن أسطورة قديمة، ونعني بها أسطورة آلهات القدر «النورن» اللائي يجلسن عند نبع «أورد» في مبدأ الخلق والتكوين، ويغزلن أقدار البشر في خيوط، فالأسطورة تصور الحياة خيطا تغزله آلهات القدر ويمددن فيه زمنا لكي يقطعنه في النهاية، والحياة في هذه الصورة شيء تبدأه قوى مجهولة، وتصله فترة ثم لا ندري كيف تنهيه، إنها شيء يمكن أن يسير في نعومة الخيط وسهولته، ولكنه قد يتعقد ويلتف ويضل، وقد يكون ضعيفا واهنا يهدد في كل لحظة بالانقطاع، وقد يحتمل الشد والجذب والتوتر، وقد نرى حاضره ولكن لا نعرف أبدا مستقبله.
في صورة الخيط إذن إشارة إلى وجود الإنسان، تكشف كل ما فيه من تشابك أو بساطة، من عتمة أو إشراق، من خطر أو أمان، صورة الخيط المحسوسة هذه تلقي الضوء على غموض الوجود، وتعكس ألم المصير وصدقه، إنها لا تقدم للإنسان تصورا علميا عن طبيعته، بل شعورا حيا لكل من يستطيع وجدانه أن يتفتح على معنى الوجود، وهي تعطيه وسيلة وأداة، لا لكي يحقق غاية علمية أو عملية، بل ليفهم معنى حياته واتجاهها، قد تعبر أسطورة آلهات القدر عن هذه الصورة ولكنها لا تستنفدها؛ ذلك أنها أقدم من الأسطورة، كما أنها كامنة هناك في جوهر الأشياء وفي أعماق الضمير، وقد تفلح الأسطورة في إبرازها والتعبير بها عن مصير شعب من الشعوب، ولكن الصورة نفسها عنصر أولي من عناصر الوجود الإنساني؛ ولذلك استطاعت أن تبقى بعد فناء التفكير الأسطوري، وزوال الاعتقاد في آلهات القدر، كما استطاعت أن تبقى كإشارة مسعفة نرمز بها لحياتنا ونفهم بها وجودنا، وقل مثل ذلك في صورة أخرى كالميزان والدائرة والأفق والكف والطريق، تشير جميعا إلى معنى من معاني الوجود أو المصير.
ظهرت هذه الصور كلها أول ما ظهرت في مجال الرؤية على أرض الأسطورة والطقوس البدائية، ثم ضعفت القدرة على الرؤية بالتدريج، وحل محلها الخيال الديني، وأصبحت حكمة لمن يرى الغيب موعظة ومذهبا في الحياة، وتفقد الطقوس سلطانها القديم لتصبح في دور العبادة التي لا تزال تحتفظ بها نوعا من إثارة الشعور الديني بالرهبة والتقوى، وتتحلل الأسطورة لتحل في الحكاية الخرافية أو الشعبية أو العادة الموروثة، وتبقى الصورة في هذا كله تعبيرا عن الحكمة الباقية مهما أضعف التفكير العقلي المجرد من قوتها أو قيمتها، وتحيا في أعماق الوجدان فيما نسميه باللاشعور، ومن هناك تواصل تأثيرها على الشعور، والتفكير والإلهام، بل قد تشارك في تكوين ما نسميه بالضمير، وتتحكم إلى حد لا يستهان به في توجيه حكمنا على الأشياء والأحداث.
قد نكون فقدنا الشعور الواعي بهذه الصورة، ولكن هذا لا يمنع أنها لا تزال تتخلل حياتنا، وقد نحس في بعض اللحظات بومضة من معناها القديم (عندما نقف إجلالا لذكرى عزيز أو نقبل رأس ميت حبيب أو نتبادل خاتم الزواج مع شريك الحياة)، إنها مظاهر واضحة في حياة الطفل ولعبه واحتفاله، كما تظهر في ألعاب الشعوب واحتفالاتها وما بقي من طقوسها وأعيادها، ولكنها لا تظهر كأوضح ما تكون إلا في الفن؛ فالحالة التي تغزو الفنان - وهو يباشر الخلق - قريبة من حالة الطفل والعراف القديم، هي حالة لا يحكمها العقل الناقد ولا الإرادة الهادفة، بل تستثار فيها الحياة، فتتفتح على العالم الخارجي وتتفتح للعالم الداخلي، هناك تظهر تلك الصورة، لا كما أرادها الوعي أو فكر فيها، بل تظهر منسوجة في خيوط ذلك الشيء العجيب الذي يتشكل ويتخلق، قد نحس بها في رسم يصور طبيعة مفتوحة تتلاقى فيه حدود السماء العالية بالأرض المنبسطة، وبينهما تلك المنطقة المحدودة التي قدر للإنسان أن يعيش فيها بين العلو والعمق والاتساع والضيق، وقد نشعر بها في رسم آخر يلتقي فيه البحر والشاطئ حين يقطعهما شكل صغير لإنسان عمودي عليهما، يقف منتصبا هادئا مصمما على الفعل مستعدا لمواجهة المجهول، بذلك تثير هذه الصورة المرسومة صورة أخرى سحيقة القدم ما زالت حية في أعماق الضمير، هي صورة الطريق والمصير، تراها العين أو تسمعها الأذن فيفرح الوجدان ويشرق؛ لأنه يرى ويسمع فيها أثر حكمة قديمة تسجل صراعه مع الظلام الأبدي أو مع الموت المحتوم، كذلك الأمر مع إيقاع يتكرر في لحن أو قصيدة، أو مع دائرة تدخل في تكوين لوحة أو بناء، إنها جميعا تضع الموجود الراهن في مكانه من الوجود الخالد العام.
ليس العمل الفني الأصيل إذن شيئا جزئيا أفصله عما يحيط به من وجود عام، بل هو دائما كل متصل ووجود مستقل، فالكرسي الذي أراه الآن أمامي موجود في محيط أشمل منه، فإذا التقطت له صورة فوتوغرافية اقتطعته من عالمه، أما إذا رآه فنان مثل فان جوخ وصوره؛ فإنه يجعل منه المركز الذي يتوسط بقية المكان، كما يتشكل الكرسي نفسه بحيث يبدو كلا مستقلا بنفسه يضفي على كل ما يحيط به روحه وشخصيته. هذا «التشكيل» يتفاوت بين عمل وآخر، قد يكون شفافا مجردا كالشكل الهندسي، وقد يكون ظاهريا أو عرضيا خالصا، وقد يبدو من كتلة الجسم الذي يصوره الفنان وقد يبدو من خلال الحركة أو الجو العام، المهم أنه يحاول دائما أن يبرز الظاهرة الملقاة في عالم الواقع في وحدة ممتلئة بالحياة، هكذا نحس دائما بأن هناك ما يعلو على الشيء المصور ونعني به الوجود ككل، وهذا الوجود ككل لا أستطيع أن أزعم أنني أراه أمام عيني ، فما أنا نفسي سوى جزء ضئيل من كل لا آخر له، وما كل شيء ألتقي به أو أتعامل معه سوى نقطة في بحر من الأشياء والعلاقات، ولكن عملية التشكيل الفني التي أشرت إليها تبرز أمرا فريدا، فهذه الوحدة التي نشأت عن لقاء الشيء المدرك بالإنسان المدرك تشبه صوتا يملك القدرة على الدعاء والنداء. إن الوجود كله حاضر فيها، كل الطبيعة والحياة والتاريخ في وحدة حية، وليس معنى هذا أن العمل الفني يجب أن يكون دائرة معارف للحياة والأحياء، وليس معناه أن اللوحة الضخمة التي تصور مختلف العصور وألوان النشاط الإنساني في بلد من البلاد أو عهد من العهود أقدر من غيرها على إبراز هذه الوحدة الكلية، فليس المهم هنا ماذا يصور الفنان، بل كيف يصوره، المهم هو الأسلوب الذي تعالج به الظاهرة الواحدة في عملية التشكيل الفني، وهنا يكون الحذاء أو الكرسي الوحيد الذي يرسمه فان جوخ على أرض متواضعة أقدر على إبراز الكل من لوحة ضخمة على مبنى رسمي يصور أشتاتا من العصور والشخصيات؛ ذلك لأنه أقدر منها على إسماعنا صوت الكل ونداء الوجود.
هكذا نحس «بالعالم» في كل عمل فني، قد تختلف طبيعة هذا العالم من فن إلى آخر، ولكنها تظل في حقيقتها الأخيرة واحدة؛ فعالم الموسيقى يختلف عن عالم الرسم أو الهندسة، والعناصر الأولى في العالم الأول هي الزمن والنغم، وهي في الثاني السطح والخط واللون، وفي الثالث المكان والكتلة، ولكن اختلاف العناصر بين هذه الفنون لا يمنع أنها تتحد في النهاية في شيء واحد، إنها تحاول أن تضفي على الوحدة - التي تجمع بين الكون والإنسان - معنى تفتقر إليه في الواقع العادي؛ لكي تعبر من خلالها عن شمول الوجود وحقيقة العالم. •••
رأينا كيف أن الفنان يبرز جوهر الأشياء من خلال الرؤية والتشكيل، ويظهره في صورته الخالصة، هو في هذه الصورة الخالصة يظهر جوهره هو نفسه كما يظهر جوهر الإنسان بوجه عام، فالشيء يكتسب معنى جديدا من خلال الرؤية والإحساس والتقييم الذي يقوم به الإنسان، كما يصل الإنسان نفسه من خلال هذا الشيء إلى الشعور بذاته، وحين يحدث هذا يشف الوجود كله من خلال العمل، ويصبح الجزئي رمزا للوجود الكلي. ولما كانت عملية التشكيل تتم على مادة واقعية - كاللون والحجر والنغم واللغة - فإن نتيجتها تتم على هيئة عمل باق، وحيث يأتي المتفرج أو المتذوق ليتأمل هذا العمل، فهو يشارك في العملية التي أخرجته إلى الوجود، وبذلك لا يكون الفنان الذي ولد ليشاهد وخلق ليرى - كما يقول جوته - قد صنع شيئا لنفسه فحسب، بل للناس جميعا. إن في استطاعتهم الآن أن يتأملوه ويفهموه ويجربوه؛ بذلك يتميز العمل الفني عن كل عمل سواه أيا كانت منفعته أو أهميته، فهو لم يوجد من تلقاء نفسه، بل أوجده الإنسان، وهو ليس جزءا من ذلك العالم الأول الذي وجد من قبل أن نوجد ونعني به الطبيعة، بل هو جزء من ذلك العالم الثاني الذي ينتج عن التقاء الإنسان بالطبيعة، وهو يشغل مكانة خاصة بين موجودات هذا العالم الأخير، تجعله - على الرغم من محدوديته وتناهيه - يمثل كلا منفردا، ورمزا للكون والوجود بوجه عام؛ ذلك أن كل عمل فني حق مهما كان صغيرا فهو عالمي بطبيعته، إنه مكان مشكل زاخر بالمعنى، يستطيع المرء أن ينفذ إليه بالرؤية والسمع والحركة، هذا المكان يختلف في بنائه وتكوينه عن كل مكان يملؤه الواقع الخارجي، فليس أدق وأعمق وأجمل وأكثر حياة من كل ما نقابله في حياتنا اليومية فحسب، بل إنه يختص بميزة فريدة: فالشيء والإنسان فيه يتفتحان. إن الشيء والإنسان يكونان مقيدين محجوبين في المكان الذي نحيا فيه حياتنا اليومية، وما ندركه منهما يكشف عن حقيقتهما ويخفيها عنا في نفس الوقت، لكن الفنان الذي يقدر على رؤية الحقيقة - كما يقدر على التعبير عنها - يستطيع أن يصل بها إلى التعبير الكامل عن نفسها؛ فالباطن قد أصبح ظاهرا يمكن للعين أن تراه، والظاهر قد صار باطنا يمكن للوجدان أن يحس به ويضمه إلى تجاربه، ومن خلال ذلك تقترب الأشياء من بعضها كما يزداد الإنسان منها قربا، بحيث يحس أنه يحيا في هذا العالم الكلي الواحد حين يحيا في هذا العالم الجزئي الموحد الذي دخله من باب العمل الفني، ليس يكفي عندئذ أن يرى ويسمع ولا أن يستمتع ويتذوق، كما هو الشأن مع سائر ما يحيط به في حياته العادية، فالعمل الفني يفتح له أفقا جديدا يستطيع أن يتنفس فيه ويتحرك ويتعامل مع مخلوقات تفتحت كذلك على حقيقتها؛ لذلك فإنه مطالب بأن يبذل جهدا كبيرا في التأمل، وهو هذه الموهبة التي كادت تضيع منا من فرط ما نعمل ونجتهد ونفخر بالعمل والاجتهاد، وننسى التركيز والسكون والمشاهدة والتفتح على حقائق الموجودات. إننا نسمع الكثيرين يتكلمون عن الفن، ولكن القليلين هم الذين يتصلون به اتصالا أصيلا، صحيح أن معظمهم يحس بأن هناك شيئا جميلا، ويتحدث بطلاقة عن الأساليب والمدارس، ويعنى بإبراز الجديد في «الشكل» أو في «المضمون»، ولكن هذا كله لا يعبر عن صلة حقيقية بالعمل الفني، فهذه الصلة لا تأتي إلا حين يجمع الإنسان نفسه أمام العمل الفني ويتعلم السكون ويستعد للتلقي، ويدخل في عالمه متفتح النفس، يقظ الحواس؛ فيشاهد وينصت ويعايش؛ عندئذ يتكشف لنا هذا العالم الذي نسميه عالم الفن كما تتكشف لنا نفوسنا بمقدار ما نقترب من العمل الفني ونحاول أن نتعمقه، وهنالك تسقط الأقنعة اليومية وتتألق النفس بنور مباشر ويخف وجودنا الذي نحس بثقله على مدى الأيام، وترتفع الأسوار التي كانت تسد علينا الباب إلى قلب «العالم»، ونعرف معنى الأصالة والخصوبة والصفاء، كما نحس لمس الحقيقة الخالدة على كياننا البائس الفاني.
إشارة إلى المراجع
ليست هناك قائمة بالمراجع بالمعنى المعروف لهذه الكلمة - فقد ذكرت منها في سياق النص ما وجدته ضروريا ليرجع إليه القارئ إذا شاء - بل هي إشارات إلى المصادر التي اعتمدت عليها في بعض الأحيان اعتمادا كبيرا؛ اعترافا بالفضل لأصحابه، وتسجيلا لواجب الشكر والأمانة نحوهم.
كهف أفلاطون
يعتمد هذا المقال على جمهورية أفلاطون، وعلى كتاب هيدجر نظرية أفلاطون في الحقيقة، الذي نشر النص اليوناني الذي أوردنا ترجمته، وصدر في برن، مطبعة فرانكه، 1954 من ص5 إلى ص52، وعلى كتاب «ييجر
Jaeger » كالمعروف بأيديا (أو التربية) مثل الحضارة الإغريقية، الجزء الثاني، أكسفورد، بلاكويل، 1944 من ص279 إلى ص301.
وحيدا مع الواحد
يستند هذا المقال - بجانب نصوص أفلوطين - على محاضرة كان قد ألقاها أستاذي الدكتور ف. شتروفه قبل حوالي عشر سنوات في جامعة بازل بسويسرا، وعلى محاضراته عن تاريخ التصوف بوجه عام.
تعلموا أن الإنسان ...
يستند هذا المقال أيضا إلى محاضرة ألقاها الدكتور شتروفه في خلال الفصل الدراسي الشتوي 1961-1962 على طلبته بجامعة فرايبورج، مع إضافات وتعديلات كثيرة.
لا ... عن صعوبة الاحتجاج
يعتمد هذا المقال على كتاب أصدره صديقي الدكتور كلاوس هيزيش في دار نشر زور كامب، فرانكلفورت، 1964، وحصل به على درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان، وعلى ما دار بيننا من مراسلات حوله.
Kgaus Heintich: Versuxh uber die Schwietigkeit nein zu sagen. Frankfurt/Main, Suhrkamp. Verlag, 1964.
قدر المفكرين حزين
تعتمد هذه الدراسة عن نيتشه على مقال لأستاذي الدكتور شتروفه، مع زيادات وتعديلات طفيفة عليه.
العود الأبدي
تعتمد هذه الدراسة عن نيتشه على كتاب للأستاذ الدكتور أوجن فنك عن فلسفة نيتشه، سلسلة كتب أوريان، مطبعة كول هامر، شتوتجرات 1960.
Eugen Fink: Mietsches Philosophie. Urban-Bucher, Kohlhammer-Verlag, Stuttgart, 1960.
مدرسة الحكمة
كانت نقطة الانطلاق في هذا المقال هي كتاب باول فللدكيللر عن لوحة رافائيل المسماة مدرسة أثينا، وقد أخذت عنه الفكرة والمعلومات الواردة في المقال، أما التأملات أو «الشطحات» فأنا المسئول عنها!
Schule von Athen. Berlin, Philos. & Leben, 1957.
صفحة غير معروفة