من يدفئني؟ من ذا الذي لا يزال يحبني؟
ممدد مرتعش،
أشبه بنصف ميت ...
مع التأكيد المفعم بالحياة، والترحيب المطلق بها:
ذلك لأنني أحبك، يا أيتها الأبدية! ...
مثل هذه الأبيات لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى سرها دفعة واحدة؛ إنها تحتاج إلى السير على طريق طويل من الصبر والتفسير والتعمق، وتزداد هذه الحاجة إلحاحا كلما حاولنا فهم هذه «النعم» التي تختتم بها قصيدة «المجد والأبدية»:
يا نعم الوجود الأبدية،
يا من لا تلطخها «لا»،
أنا إلى الأبد «نعمك» ...
والتي تصل إلى أقصى قوتها؛ لأنها تصل إلى أقصى درجة من التجريد في هذا البيت: «يا من لا تلطخها لا» ... ذلك لأن من أقدم أنظار الفلسفة أن النعم الخالصة لا يمكن التعبير عنها أو التفكير فيها إلا على هيئة النفي المزدوج، أي نفي النفي أو لا اللا، وإن دلتنا هذه الحقيقة على شيء فهي تدلنا على أن قدر نيتشه - أو القدر الذي ساقه إليه تفكيره - لا يمكن أن تفي بالتعبير عنه صيغة مبسطة، بل لا يمكن أن تفي به أية صيغة من الصيغ، على كثرة محاولات المفسرين إلى يومنا الحاضر، أضف إلى ذلك أن فكرة القدر نفسها تنطوي بطبيعتها على شيء قد نسميه بالغموض أو الألغاز، وقد نصفه بالعلو على كل ما هو بشري أو أرضي، ومهما أشار المفسرون والشارحون بإصبع الاتهام إلى الجنون الذي انتهى إليه نيتشه، زاعمين أن هذه النهاية وحدها تدين فلسفته وتحكم عليه بالتناقض، ومهما اعتقد فريق منهم أن المحاولة التي قام بها للانتصار على ما سماه بالعدمية كانت محاولة ناقصة وفاشلة، فلن يحملنا ذلك كله على النظر إلى قدر نيتشه نظرة النفي والإنكار، أو الزج به في صيغة من الصيغ الجاهزة التي تتستر برداء المذهب أو التاريخ، لتحاول فيما تزعم أن تفهمه، وسنتجنب في كل الأحوال أن نصدر عليه أو على فلسفته حكما من تلك الأحكام الغليظة الشائعة التي كثيرا ما تبسط كل شيء لتفسد كل شيء، وسنتذكر ما يقوله في الجزء الأول من زرادشت في الفصل الذي يتحدث فيه عن ذباب السوق: أنت يا من تحب الحقيقة! لا تشعر بالغيرة من هؤلاء المطلقين والمتعجلين! فلم يحدث أبدا أن تعلقت الحقيقة بذراع مطلق ... بطيئة هي تجربة كل الينابيع العميقة، عليهم أن ينتظروا طويلا، حتى يعرفوا ما الذي سقط في أعماقها.
صفحة غير معروفة