لا نريد أن نخوض الآن في أشكال القلق المختلفة كما حللها علماء النفس والاجتماع وفلاسفة الوجود، ولا نريد أن نفيض في الحديث عن القلق الوجودي من العدم أو العبث، ولا عن شجاعة اليأس التي تعبر عنها اليوم أعمال الكثيرين من الفنانين والأدباء المفكرين، فإن الحديث في ذلك يسوقنا إلى أبعد مما نريد أو نستطيع، كما أن القارئ يستطيع أن يلتمسه في غير هذا المكان،
3
وعلينا الآن أن نعود إلى سؤالنا الحقيقي الذي نقصده من وراء هذا الكلام: من هو الشجاع؟
ليس شجاعا من لا يجرح، فالشجاع هو الذي يقدر أنه قد يجرح أو يموت في معركة، فلا يمنعه ذلك من أن يظل شجاعا. والشجاعة لا يمكن تصورها بغير إمكانية الجرح أو الألم أو الخوف أو الضرر أو الموت، وهو أقصى وأعمق الجراح.
لا الملاك ولا الحيوان يمكنهما أن يكونا شجاعين، فالملاك لا يمكن أن يجرح أو يموت، والحيوان لا يعرف شيئا عن معنى الجرح أو الموت؛ ولذلك فهو لا يعرف شيئا عن معنى الشجاعة. ما نصف به رجلا من أنه شجاع كالأسد، هو نوع من التشبيه الإنساني الذي يجعلنا ننزع إلى تصوير عالم الأشياء والأحياء في رداء إنساني، فالأسد لا يمكنه أن يكون شجاعا؛ لأنه لا يحسب حساب الموت في أية معركة يخوضها، ولو أدرك الأسد بإحدى المعجزات أنه يمكن أن يموت لاستحال عليه أن يكون أسدا.
الشجاعة إذن متعلقة دائما بالموت، والشجاع هو الذي يواجه الموت في كل حين، بل إن الشجاعة في حقيقتها ليست إلا الاستعداد للموت، أو هي بمعنى أدق استعداد الإنسان لأن يسقط ميتا في معركة، وكل فعل نصفه بالشجاعة إنما يعيش على فكرة الموت، مهما بدا لنا من الظاهر أنه بعيد عنه، وكل فعل لا يضرب بجذوره في أرض الموت، ولا يقدر احتمال السقوط، فهو فعل فاسد بعيد عن الشجاعة، مجرد من قوة الوجود؛ ولذلك فإن الشجاعة تقاس عادة بمدى الاستعداد للتحمل، والتحمل بمدى القدرة على ملاقاة الموت؛ ولذلك أيضا كان الاستشهاد هو غاية الشجاعة، وكانت شهادة الدم هي تاج الشجاعة، يستوي بعد ذلك أن تكون هذه الشهادة في سبيل العقيدة أو المبدأ أو الوطن أو تحقيق رسالة الحياة. وما أتعس الزمن الذي تختفي فيه القدرة على الاستشهاد والاستعداد له، ويصبح المثل الأعلى للناس هو المحافظة على الحياة وتقديس الراحة والأمن والاستقرار! وما أصدق كلمة «جوته» في القسم الثاني من قصيدته الكبرى «فاوست»: «لا يستحق الحياة ولا الحرية إلا من يغزوهما كل يوم!»
نقول: إن الشجاع هو الذي يرضى بالجراح.
ولكنه لا يسلم بالجراح من أجل الجراح، ولا يرحب بالموت من أجل الموت، إنه يقبل أن يجرح أو يضار في جسده أو نفسه؛ لكي يبقى شيء آخر أكثر حقيقة من الجسد والنفس، وأعمق من الجرح والموت جميعا، لنسم هذا الشيء مبدأ أو عقيدة أو فكرة أو ما شئنا من أسماء، فهو عند الشجاع حقيقة تستحق منه أن يفنى لكي تبقى بعده، ويقين يقربه من قلب الوجود وإن أبعده عنه في واقع الحياة؛ لذلك كان سقوط الشجاع ارتفاعا وهزيمته انتصارا وموته حياة، وليس عجيبا - كما يقال - أن يموت الشجعان دائما وعلى شفاههم ظل ابتسامة! ولا أن يقول أحدهم: إننا ننتصر حين نسحق، ونفلت من القضاة حين نساق أمامهم.
4
ومع ذلك فليس حتما أن يجرح الشجاع أو يموت، ولكن لا مفر من أن يعيش ويعمل دائما وفي فكره أنه يمكن أن يجرح أو يموت؛ ذلك لأن من صميم الشجاعة أن تدخل دائما في معركة، إما أن تنتهي هذه المعركة في أغلب الأحيان بموت الشجاع أو بإصابته، فذلك قدر تفرضه طبيعة العالم الذي نعيش فيه، وهو عالم يغلب عليه الشر كما نعلم جميعا!
صفحة غير معروفة