ولعل رسالة اليونان - إن لم تكن رسالة الإنسانية نفسها - في تحقيق هذا الحد الذي يفتقر إليه البشر بطبيعتهم، وترويض نزعات التهور والتطرف التي تجر عليهم الخراب، والعثور على «حكمة الوسط» التي يجدون فيها حقيقتهم؛ إنها في نفس الوقت رسالة الواجب التي تدعو الإنسان إلى إنسانيته، بل إننا لنستطيع القول بأن تاريخ الإنسانية هو تاريخ الصراع المستمر بين الاعتدال والتطرف. وإذا تأملنا هذا التاريخ وجدنا أن العصور تختلف عن بعضها البعض بقدر ما تعترف بالحد أو تتنكر له؛ فمن هذه العصور ما شكل حياته على أساس الوعي به، ومنها ما نظر إليه نظرة الازدراء وتردى في مهاوي الشطط والإسراف. من تلك على سبيل المثال نذكر اليونان القديمة، والعصر الوسيط في ذروته، وعصر النهضة الإيطالية، وازدهار الفن في فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر. والأدب الألماني في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وكلمة «الكلاسيكية» في هذه العصور تكاد تكون مرادفة للالتزام بالقيود والأشكال التي تفرضها معرفة الحد، سواء في الأدب أو الفن والعلم، أما العصور التي نسيت الحد أو تنكرت له، فمن الصعب تحديدها؛ لأنها تتوقف على الزاوية التي تنظر منها، كما أنها يمكن أن تكون موزعة بين العصور جميعا بقدر ما أصاب الأفراد أو الجماعات فيها من كوارث نتجت عن التطرف في الأنانية أو استغلال السلطة أو شهوة البحث.
2
لن نستطيع هنا أن نتتبع هذا الصراع بين الاعتدال والتطرف، ولكننا نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لم يبلغ في أي وقت ما بلغه في العصر الحديث، لم يبلغ التطرف في عصر من العصور ما بلغه اليوم، ولم يحدث في تاريخ الإنسانية أن أفلتت قوى الشر والطيش واللامعقول من زمام العقل كما تفعل اليوم. ولو أن الأمر اقتصر على بعض الحركات الأدبية أو الصرخات الفنية لقلنا أوهام شعراء، ولابتسمنا ونمنا هادئين، ولكنه أصبح حقيقة واقعة نحس بها في حياتنا اليومية، وخطرا نشفق منه على نظام العقل والمجتمع والوجود، ونذيرا بدمار الحضارة كلها في لحظات. كل ما في العالم من جمال، كل ما في التاريخ من تراث، وفي القلب من راحة أصبح معلقا بغضبة جنرال مشهور، أو صرخة سياسي كبير، أو اكتشاف علمي رهيب، لا بل بغلطة جندي أو موظف بسيط في إحدى محطات التحكم في الصواريخ أو الطائرات المحملة بالقنابل الذرية أو سفن الفضاء المتجسسة على مساكن البشر. نعم، ليس ماكبث وحده هو الذي قتل النوم؛ فقد قتله كل هؤلاء.
هل يجرنا هذا إلى التشاؤم؟ ولكن كلمة التشاؤم تصبح كلمة ساذجة إذا أدركنا هول ما يحيط بنا اليوم، فكل أحلام الرومانتيكيين أو شطحات اللامعقوليين أو الصرخات المثيرة على لسان فيلسوف القوة والإرادة «نيتشه»؛ تصبح كألعاب الأطفال على شاطئ البحر المعتم العاصف الذي نقف اليوم أمامه. أهناك ضرورة عمياء وراء ما نشهده اليوم من مظاهر الجنون في السرعة والتسلح والتعصب الأعمى للمذاهب، والتحلل الخلقي في كل مكان، وتمجيد العمل بأي ثمن، والحماس للبطولة أيا كانت، وتخزين قنابل الذرة والميكروبات؟ أم أن هذه الضرورة القاتلة ليست في التاريخ نفسه، بل لا بد من البحث عنها في مكان آخر؟ أنجدها في تلك الهوة المظلمة العميقة، في ذلك العالم السفلي المخيف الذي كشفت عنه أعمال فرويد والرومانتيكيين واللامعقوليين والرمزيين ... إلى آخر القائمة؟! أم نجدها في خطب من يعدوننا بفردوس قريب على الأرض وبغير مقابل، اللهم إلا دم بعض الأجيال وشبابهم وسعادتهم؟! أم نجدها أخيرا في كارثة لا بد أنها حدثت للعقل البشري نفسه، فهدمت الأعمدة التي كان يرتكز عليها هيكله النبيل، وأحدثت فيه صدعا لن يلتئم إلا إذا أعاد العقل نفسه النظر في نفسه، وأدرك وظيفته الحقيقية التي ترتبط بالإنسانية منذ قال اليونان على لسان أرسطو: إن الإنسان حيوان ناطق؟
إن العقل هو الشيء الإنساني حقا في الإنسان، والمطالبة اليوم بسيادة العقل والتعقل تصبح هي المطالبة بجعل الحياة إنسانية عن طريق الحد من القوى اللامعقولة وترويضها وكبح جماحها. وإذا كان هناك واجب يلقي عبئه على الناس اليوم فهو واجب الإيمان بجوهر الإنسان بوصفه كائنا عاقلا، وإدراك مسئولية هذا العقل في توجيه مصيره تجاه الفوضى والظلام المحيطين به؛ إن عليه أن يتعلم كيف يطيع صوت العقل. طبيعي أننا لا نطلب منه أن يعود إلى التفاؤل العقلي الذي اتسم به عصر التنوير في القرن الثامن عشر وأدى بأحد أقطابه «ليبنتس» إلى رؤية النظام والانسجام في كل ما تقع عليه العين، والقول بأن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة؛ ذلك أن الرجوع بالزمن إلى الوراء شيء مستحيل، وأشد منه استحالة أن نطالب الإنسان بأن ينظر بعين أجداده أو يفكر تفكيرهم أو يحس إحساسهم، هذا إلى جانب أن الإيمان المطلق بالعقل في ذلك العصر لا يخلو اليوم من شيء من السذاجة والتفاؤل اليسير وحسن النية في طبيعة الإنسان الخيرة، وقد أثبتت الكوارث التي مرت بالعالم في حربين عالميتين أنها كانت نوعا من العبط أو التمني، ومع ذلك يظل الإيمان بالعقل والثقة في قدرته على تأكيد قيمة الإنسان وإبراز مسئوليته هو الواجب الأول اليوم، الواجب الذي لا يحتاج إلى الكلمات الكبيرة أو طبول الوعظ المدوية، بل يحتاج إلى أن يحمله الناس في صمت وجد وبساطة وهم يباشرون حياتهم اليومية، ولا بد من التفكير لحظة في هذا السؤال الخالد: ما هو الإنسان؟ سيعلمهم أن يتوقفوا قليلا وسط التيار الذي يجرفهم كل يوم ليتذكروا أن الإنسان هو الكائن العاقل، أي الكائن الجدير بالاحترام والتكريم. •••
نقول: إن العقل هو مبدأ الاعتدال، ونصف الرجل في لغتنا اليومية بأنه «عاقل» إذا وجدنا لديه الاستعداد للتفاهم، والالتقاء في وجهات النظر، والتسامح في قبول الرأي المعارض، والبعد عن التعصب بوجهة نظره. إنه رجل نأخذ ونعطي معه في الكلام، ونشترك معه في البحث عن الحل المعقول للمشكلات. ولكن ما هو الحل المعقول؟ ليس حلا لمسألة حسابية أو رياضية، ولكنه العمل بروح من التسامح والمشاركة للتغلب على الخلاف والتناقض، والوصول إلى حالة من التوازن والتلاقي تسمح بأن يحيا الناس بعضهم مع البعض في سلام، هذا الصوت العاقل لا يمكن أن يسمع بالطبع حيث تثور الانفعالات وتنطلق النزعات، وتقذف بالإنسان كأنه كرة من اللحم والأعصاب المتوترة إلى أقصى حدود التوتر؛ ذلك أنه حيث يكون العقل يكون الاعتدال ويكون التزام الحد. ولكن هل يكون في حديثنا عن العقل إلغاء لكل ما توصل إليه اللاعقل من إمكانيات وما كشف عنه في طوايا النفس من كنوز وأسرار على يد أصحاب حركة «العاصفة والاندفاع» أو الرومانتيكيين أو الوجوديين واللامعقوليين من أبناء اليوم، لا بل على يد الشعراء والمتصوفين والملهمين في كل العصور؟ لا يمكننا بالطبع أن نطلب ذلك؛ فنحن لا ننكر ولا نستطيع أن ننكر ما في كل هذه الحركات الفنية والأدبية والنفسية من جوانب إيجابية، ولا نستطيع أن نغمض أعيننا عن هذا العالم السحري المزدحم بالقوى الخفية، الذي ظل مغلقا على أبناء العصور القديمة والعصر الوسيط وبداية العصر الحديث. كما أننا لا نستطيع أيضا أن نغفل عما في إبراز الحياة اللامعقولة من فائدة للعقل نفسه، ولا ما في تحليلات المعاصرين لألوان القلق والهم والضياع والاغتراب والتأزم من خصوبة حقة في فهم الإنسان. ولكن ما يهمنا هنا هو النتائج «العملية» التي يؤدي إليها هذا الاهتمام الزائد بجوانب اللامعقول، ومزالق التطرف والتهور التي يمكن أن تؤدي إليها؛ فقد يكون الوقت قد حان لتوجيه النظر إلى الجانب المعقول من الحياة بمثل ما وجهناه إلى الجانب غير المعقول، وقد يكون الوقت قد حان للقول بأن الجانب المضيء من الوجود لا يقل أهمية ولا روعة عن الجانب المظلم، وأن الأمل والشجاعة والتعاطف والفرح والحياة تستحق أيضا - بعيدا عن كل تفاؤل رخيص - أن نتكلم عنها كما نتكلم عن اليأس والقلق والهم والغربة والموت.
إن من الصعب أن نتتبع الحركات اللامعقولة في التاريخ الحديث لندرك إلى أي مدى انحرفت إلى التطرف ونسيت الحدود، ولكن يحسن أن نقف عند بعضها وقفة قصيرة قد تعيننا على تبين ما نسميه بالحد والاعتدال.
وأول ما يخطر على البال هو «نيتشه» فيلسوف الإرادة والقوة والإنسان الأعلى، والعبقري الذي دفع ثمن عبقريته بالدم والألم والجنون. إنه يقول على سبيل المثال في كتابه «وراء الخير والشر»: «لقد أصبح الحد (أو المقياس) شيئا غريبا علينا، ولنعترف بهذا: إن ما يدغدغنا الآن هو اللامتناهي اللامحدود، إننا نحن أبناء العصر الحديث نحن أنصاف البرابرة أشبه بالفارس الذي يمتطي صهوة جواد راكض إلى الأمام، نترك زمام اللجام يسقط أمام اللامتناهي، ولا نشعر أننا في قمة السعادة إلا حيث نكون في قمة الخطر.»
ولسنا في حاجة إلى اقتباس نصوص أخرى من نيتشه سيضيق عنها المقام؛ فهذا النص يصلح لإلقاء الضوء على «عدم الاعتدال» الذي قلنا إنه يميز الطابع الأساسي للعصر الذي نعيش فيه ، وقد يصلح كذلك ليبين لنا جانبا من خيانة الإنسان الحديث لإنسانيته، فقد استطاع نيتشه في كلمته الموجزة أن يشخص الداء ويعبر عنه في أتم صيغة: إنه احتقار الحد والتنكر للمقياس، و«دغدغة» اللامتناهي واللامحدود التي تدفع بالإنسان إلى تحطيم نفسه بنفسه، وهدم معبده فوق رأسه، وهو أخيرا تمجيد الخطر والإعلاء من شأن البطل الذي يتجاوز بالمغامرة والبطولة حدود الإنسان الحالي بمثل ما تجاوز الإنسان حدود القرد. ولن تخفى على القارئ هذه الكبرياء التي يصف نيتشه بها أبناء العصر الحديث - كما يصف نفسه - حين يقول عنهم: إنهم «أنصاف برابرة»، فمما لا شك فيه أن نيتشه لم يكن يقصد بالبطل أو الإنسان الأعلى أو نصف البربري ذلك «الوحش الأشقر» الذي راح ينشر الدمار في الحرب الأخيرة، كما أنه لم يكن يفهم من ورائه أي معنى من معاني التفوق الحربي ولا العسف أو الظلم من جانب «السادة» على «العبيد»، فالذي فهم هذا فأساء الفهم هم أنصاف المتعلمين أو أنصاف الآدميين من العسكريين ورجال السياسة الألمان الذين حسبوا أن البطولة هي العسف، والقوة هي العنف، والخطر هو الخطل والجنون. لقد ظنوا أنه يكفي أن يضع الإنسان الخوذة على رأسه والنياشين على صدره ويمشي مشية الإوزة لكي يكون بطلا أو إنسانا أعلى! ولكن ألا يقع جزء من التبعة على هذا التمجيد المطلق للحياة الخطرة والطاقة المنطلقة من كل قيد والنزوع إلى المستحيل واللامتناهي؟ ألم يكن في هذا الشوق الفاوستي إلى المطلق غير المحدود إغراء لمن لا يملكون براءة نيتشه وشهامته بالسقوط في هاوية الظلم والطغيان؟ ألم يحمل ذلك البعض إلى تصوير الالتزام بالحد كأنه شيء جدير باحتقار الأقوياء، والجهد الصامت المتواضع للحصول على الأمان والاطمئنان كأنه شيء لا يليق بمن يسعون وراء البطولة والمطلق، والعمل في سبيل السلام والنظام كأنه تعبير عن الانحلال والضعف؟ وهل من العجيب بعد ذلك أن تفهم الحياة الخطرة على أنها إشعال الحرب، والعظمة الخلاقة على أنها الظلم والاستعباد؟ إن الإنسان هنا تأخذه النشوة بما يخيل إليه أنه هو العظمة الأخيرة للإنسان، وبدلا من أن يرتفع إلى سماء «السوبرمان» نجده يسقط إلى هاوية الوحش، وبدلا من أن يقوده الشعور المتكبر إلى أخلاق البطولة؛ نراه ينحدر إلى حضيض العبودية.
كلمة نيتشه إذن مثال واضح على ما يميز الإنسان الحديث من بعده، أعني فقدان الإحساس السليم بالحد، والتنكر للمقياس والاعتدال، والاندفاع وراء التهور المخرب تحت ستار السعي إلى المطلق واللامتناهي. إن هذا التهور والانفلات من الحدود قد تخلل حياتنا الحاضرة من أخص خلجاتنا وهمومنا إلى أعم قضايانا في السياسة والاجتماع، وأصبحنا في غمرة التهور الجارف نعيش في خطر الدمار الشامل بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة الرهيبة.
صفحة غير معروفة