يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس:
5 «هذا الانفعال أو العاطفة - يعني بذلك الدهشة - يميز الفيلسوف حقا، وليس للفلسفة أصل سواه.» انفعال الدهشة إذن هو أصل «أرخيه» الفلسفة، كلمة الأصل هنا - بمعناها اليوناني - تعني أمرين: أولهما ذلك الذي تصدر عنه الأشياء وتنبع منه، وثانيهما ذلك الذي يسود ويسيطر على ما يصدر ويتفرع منه، فالدهشة بهذا المعنى ليست هي البذرة التي تبدأ منها حياة الفلسفة فحسب، بل هي قوة الحياة نفسها التي تحملها وتسيطر على مراحل نموها وتوجه مصيرها. يقول أرسطو في هذا المعنى:
6 «من خلال الدهشة بدأ الناس الآن وفي أول الأمر يتفلسفون.» أي أنهم توصلوا من خلال الدهشة إلى المبدأ الذي تصدر عنه الفلسفة ويسري في تيارها الذي لا ينقطع.
من الخطأ الظن بأن أفلاطون وأرسطو يتحدثان عن الدهشة والاندهاش كما لو كانا علة الفلسفة والتفلسف، فلو صح هذا لما زادت الدهشة عن أن تكون مجرد دفعة ساقت الفلسفة في طريقها حتى إذا سارت في هذا الطريق استغنت عنها وتقطعت أسبابها بها، ولكن الدهشة هي الأصل - بالمعنى الذي أشرنا إليه - في كل فلسفة، إنها تلازم كل خطوة من خطواتها، وتسري سريان الدم في مشكلاتها ومسائلها، الدهشة انفعال وعاطفة، لا بالمعنى النفسي الحديث لهذه الكلمة، بل بالمعنى الذي يحتمل العذاب والتعذب والصبر والمعاناة، حيث ننفعل انفعال الدهشة، نجدنا نقف وقفة مع أنفسنا، نفزع إليها من الموجود الذي أدهشنا أن نجده أمامنا، وأن يكون على هذه الحال بعينها لا على حال أخرى، هذا التوقف عند الموجود وهذا الفزع منه هو في نفس الوقت فزع إليه ووقوع في أسره. الدهشة هي الحال التي يتفتح لنا فيها وجود الموجود ويكشف عن نفسه، هي الرجفة التي اقشعر بها كيان الحكيم اليوناني الأول ففتح فمه ليسأل: ما أنت أيها الموجود؟ لم كنت ولم يلفني وإياك ليل العدم؟ أيها القريب البعيد، لم لا تكشف عن وجهك إلا لتسدل عليه القناع؟ في هذه الحال سعى الحكيم اليوناني إلى أن يطابق بينه وبين الموجود، أي إلى أن يكون حكيما.
7
نعود فنقول: إنه ليس من همنا هنا أن نتابع السؤال الفلسفي الأول: ما هو الموجود؟ والتحولات التي طرأت عليه خلال الطريق الطويل الذي يمتد خلفنا وسيمتد أمامنا ما عاش الإنسان. إن محاولتنا هنا أكثر تواضعا: نريد أن نفتش عن الدهشة في قلوبنا وعقولنا؛ لنعرف إن كنا ما نزال قادرين على معاناتها، وإن كان في استطاعة الإنسان اليوم أن يسأل ويتساءل، بالمعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين.
يقول باسكال في كلمة مشهورة: «تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان بما لا نهاية له»،
8
ولقد كان التفلسف من قديم وسيبقى دائما هو الفعل الذي يتعدى به الإنسان عالم كل يوم ويتجاوز به حدود ذاته، ولا يتسنى له ذلك حتى يعلو فوق كل شيء، أعني فوق العالم بوصفه كل الموجودات، نقول: إن الفيلسوف يعلو على عالم كل يوم ولا نقول يتعالى عليه؛ ذلك لأنه بشر كسائر البشر، ملقى به في قلب الحياة اليومية التي لا يستطيع أن يتفلسف بعيدا عنها، مسئول عن إشباع حاجاته الجسدية التي لا يستطيع أن يعيش بغيرها، ولكنه يعلو على عالم كل يوم لا ليخرج منه بل ليعود إليه أوثق اتصالا بجذوره، لا عن أنفة أو كبرياء، بل ليتفرغ لتأمله والنظر فيه، فعمل الفيلسوف إذن مجرد عن الهدف والمنفعة، ولا سبيل إلى قياسه بالعمل اليومي (ليس الفيلسوف وحده هو الذي يعلو فوق العالم. إن كل من تصيبه هزة تدنيه من حدود الوجود يفعل مثل ذلك، العاشق والشاعر والثائر والمريض على فراش الموت والمؤمن في بيت الله، كل أولئك يعلون فوق العالم اليومي وينفذون من دائرته الضيقة المتناهية، لا مكان للفلسفة والتفلسف في عالم يطغى عليه العمل ويتحكم فيه، عالم لا تنمو فيه شجرة الدين، ولا يتنفس فيه إلهام الشعر، ولا تهزه رجفة الحب أو يعمقه إحساس الموت).
قلنا: إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق حدود العالم اليومي، وتسمو به على أسواره الضيقة، وكذلك زعمنا عن كل تجربة عميقة تقرب الإنسان من ذاته ومن الكل المحيط به، في الشعر والحب والدين والموت، ولكننا لم نقل: إن كل فلسفة أو كل شعر أو كل حب يفعل به ذلك، إن هناك ألوانا من التفلسف الظاهري التي تحكم أسر الإنسان في سجنه اليومي بدلا من أن تخلصه منه، وهناك ألوان زائفة من الشعر والعبادة والحب لا تحمل من أصل معناها الحق إلا الاسم والقناع، هناك لا نستطيع أن نعلو فوق العالم - هذا العلو الذي يستطيع وحده أن يدنينا منه - ولا فوق وجودنا المحدود، ومن أين لنا هذا العلو ونحن نضع كل ما من شأنه أن يتسامى بنا في سلة حياتنا اليومية؟ في العبادة الزائفة يصبح الإله نفسه حلقة في سلسلة الأهداف والوسائل اليومية، ووظيفة نبغي بها تحقيق غاية أو إدراك أمل. في الحب الزائف يصبح سر الحب وعاطفته وسيلة من وسائل الذات المحدودة الأنانية لا غاية في ذاته؛ فالمحب الحقيقي يجد نفسه ملقى في أحضان العالم العظيم العميق، والحب هو الذي يزيد من عظمته وعمقه. في الشعر الزائف والفن الظاهري لا ينفذ «الشاعر» من قبة العالم اليومي ولا يتصل بقلبه النابض (فلو فعل لكان ذلك علوا به) وإنما يرقش زخارف خداعة على جدران هذه القبة، ويضعها في خدمة الحياة اليومية، تارة باسم «الشعر الحالم» وأخرى باسم «الشعر السياسي»، وهناك أخيرا الفلسفة الزائفة التي لا تعجز فحسب عن العلو بالإنسان على الحياة اليومية، بل إنها تحكم إغلاقها عليه وتزيد من عذاب سجنه بين جدرانها، إنها تشبه عندئذ فلسفة السفسطائي بروتاجوراس الذي يسأله سقراط: أي شيء إذن تعلم الشباب الذين يتدافعون إليك؟ ويجيبه بروتاجوراس: عندي يتعلم الشباب الرشد سواء كان ذلك في أمورهم الخاصة، فيتعلمون على سبيل المثال كيف يؤثر الإنسان بالقول والفعل أفضل تأثير على الدولة. هذا هو برنامج الفلسفة الزائفة المتظاهرة التي ما زلنا نسمع المنادين به في كل مكان من العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، ارتفع به صوت هذا السفسطائي الذكي المتحمس الثرثار منذ أكثر من عشرين قرنا في أسواق أثينا وشوارعها، وأثر هذه الفلسفة الزائفة في محنة الإنسان المعاصرة، التي يمتحن فيها بقدرته أو عجزه عن توجيه السؤال الفلسفي من جديد، بكل حرارته وجديته وخطورته، يفوق بكثير كل ما قد يلصقه الفلاسفة برجل الشارع من احتقار لكل ما لا يتصل بالحياة العملية بسبب، وما أكثر ما يكون بريئا منه! ذلك أن رجل الشارع لا يخلو في لحظات نادرة من حياته المتعبة أن يهتز لبيت من الشعر أو يرتجف لسؤال عن معنى الحياة. أما الفيلسوف الزائف الذي يحشد قوى التفلسف في خدمة الحياة اليومية، فأين ما يمكن أن يهزه أو ينقل الرجفة إلى قلبه وعقله؟! إن ما يحمل هدفه في ذاته، كما تقول عبارة كانط المشهورة: لا يمكن بحال أن يصلح وسيلة لهدف من الأهداف أيا كان، ومع ذلك فنحن لا نحاول هنا أن ننقد عصرنا، بل نريد أن نفهم من جديد العلاقة الخالدة بين الإنسان والكون، ونعيد الدهشة إلى عيوننا وقلوبنا ونحن نسأل السؤال القديم الجديد: ما هو الوجود؟ ومن هو الإنسان؟
صفحة غير معروفة