42
فهو كذلك - بل وقبل ذلك - الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكون وحيدا: هذه الوحدة أبعد ما تكون عن الانعزال والانطواء؛ لأنها في صميمها التفتح الخالص الذي هو شرط كل اجتماع أصيل. فالسجين في زنزانته ليس وحيدا بحق؛ لأن الوحدة انطلاق وتحرر، والحيوان وإن ثبت عن بعض أنواعه أنها تعيش في مجتمعات، لا يستطيع كذلك أن يكون وحيدا؛ لأنه حبيس في هذا العالم، عاجز عن العلو عليه أو الخروج منه.
وقد استطاع أفلوطين - ربما لأول مرة في تاريخ الفكر البشري - أن يخرج من هذا العالم، وتجربته التي توصف بالوجد أو الانجذاب هي بمعناها الحرفي الخروج من
EK-stasis ، ولكنه لم يخرج من هذا العالم إلا لأن الواحد كان يجذبه بكليته إليه، لم يخرج منه إلا ليعود إليه، بهذا - وبهذا وحده - استطاع أن يحب العالم ويقترب من سره، ويرى مواطن الجمال فيه بعين جديدة لا تغيب عنها الدهشة، إنه لم يرتفع فوق العالم إلا لكي يغوص فيه إلى الأعماق، فليس في استطاعة الإنسان أن يغادر حدود كرته الأرضية؛ فهي ضيقة، هذه الكرة مزدحمة بالسجون والأقفاص، برغم أبعادها غير المتناهية. إن باب الخروج من هذه الغرفة الأرضية الواسعة لا يقع على حدودها وأطرافها، وإنما هو في باطنها، في نقطة المركز منها. ولن يرتفع الإنسان فوق النجوم ما لم يهبط إلى الجذور الضاربة في الوحل.
إن أقدم شواهد الشعر الغنائي عند اليونان تنطق بهذه الوحدة؛ فشاعرة الحب والجمال «سافو»
43
تقول في أبياتها الأربعة الشهيرة:
الآن قد غاب القمر،
وكذلك الكواكب السبعة
انتصف الليل، وزمن الانتظار فات.
صفحة غير معروفة