الحق أن أفلوطين قد شعر بهذه المخاوف التي تصيب كل من يفكر تفكيرا طبيعيا؛ فهو يقول:
16 «كلما أوغلت النفس فيما لا شكل له، وهي عاجزة كل العجز عن الإحاطة به؛ لأنها لم تحدد به ... انزلقت وخافت من أن يكون نصيبها هو العدم.» إن ما لا شكل له - وهو مجال الواحد - ليس هو العنصر الطبيعي الذي تسبح فيه النفس والفكر؛ ذلك أن ما لا شكل له فلا سبيل إلى وصفه أو فهمه؛ لأن الخيال لا يستطيع أن يدركه أو يتشبث به، فإذا تجاوزت النفس كل ما هو ذو شكل - أي كل موجود؛ إذ لا يخلو موجود من أن يكون له شكل - فلا بد لها أن تنزلق عنه، ولا بد أن ترتجف ارتجافة الرهبة والخوف حين لا تجد أمامها سوى العدم والفراغ، ولا تهتدي إلى شيء يمكنها أن تتشبث به. إنها ما زالت غفلا لم تجرب ولم تتمرس؛ فلا عجب أن تظن أن ما لا شكل له فلا وجود له، ولكن ما لا وجود له لا يتساوى مع ما هو عدم، وأفلوطين نفسه يسأل في موضع هام من الرسالة الثالثة
17
في سياق حديثه عن القفزة الحاسمة إلى الواحد إن كانت قفزة إلى العدم،
18
وهنا يلجأ إلى التعبير المدهش حين يقول: «أجل، إنه هو العدم بالقياس إلى كل ما هو أصل له؛ إذ ما من شيء يمكن أن يقال عنه: لا إنه وجود، ولا إنه جوهر، ولا إنه حياة؛ إذ هو يرتفع فوقها جميعا.»
19
الواحد المطلق إذن عدم، لا بمعنى العدم المفتقر إلى الوجود، بل بمعنى ما يتفوق في القوة والجود والامتلاء على كل ما هو موجود، إنه ليس موجودا، بل هو فوق كل موجود، على حد تعبير أفلوطين في ختام الرسالة السادسة.
20
فما هو إذن هذا العدم أو هذا الواحد، أو ما نشاء له من أسماء لا تستطيع أن تسميه؟ ما هذا الذي يفوق كل موجود في الجود والقوة والامتلاء والوجود؟!
صفحة غير معروفة