كم رفعت من حياة تافهة
لعدد لا يحصى من الفانين!
13
وما أجدر الحكيم - لولا أن الحكمة تمنعه من ذلك - بأن يغتر بنفسه، حين يجد أن فضيلته لم تأته من رأي الناس فيه، بل من سلامة ضميره واستقامة فعله، وما أسخف أن يعتز الإنسان بنسبه أو نبله، بينما الفضل فيه للآباء والأجداد. إن جنس البشر كله في هذا العالم متشابه الأصل، واحد بمفرده هو والد الجميع، وهو وحده الذي يدبر الكل، أعطى فيبوس «الشمس» سطوعها والقمر هلاله والأرض شعوبها والسماء كواكبها، جمع الأعضاء مع الروح الذي أرسله من العرش، وبذر النبالة في كل بشر فان، أتفتخرون بالأجداد؟ اذكروا إذن الأصل الذي انحدرتم عنه، اذكروا كذلك أباكم الإلهي، ولن يخلو من الدم النبيل من لا يتنكر للأصل ولا يزيد الشر.
ثم ماذا أقول عن متع الجسد؟ إن السعي إليها محفوف بالهم، والشبع منها مملوء بالندم، كم سببت للمتهالكين عليها من أمراض، ولو أنها كانت تجلب السعادة حقا، فلماذا لا تقول عن البهائم إنها سعيدة وهي لا تسعى لشيء كما تسعى إلى إشباع الجسد؟! ماذا بقي إذن؟ الزوجة والأبناء؟ ولكن الأبناء - كما قيل لي - معذبون، وأنت نفسك أدرى مني بذلك؛ فها أنت ذا في سجنك قلق عليهم، فهل يبلغ قلقهم عليك هذا المبلغ؟ ألا يحق ليوريبيديز أن يصف من لا أبناء له بأنه سعيد في الشقاء؟! إن من طبع اللذة أن تغري بالتمتع، ولكنها كالنحلة التي تفر بعد أن تهدي عسلها وتترك في القلب لدغة لا تنسى، أتريد أن تغتر بمحاسن الجسد؟ ولكن كيف تثق بملك زائل وفان؟ وهل يمكنك أن تتفوق على الفيل في ضخامته، والثور في قوته، والنمر في خفته؟ انظر إلى اتساع السماء وثباتها وروعتها، وسوف تكف عن التعجب مما لا يستحق العجب، أتذكر لينكويس الذي كانت عيناه تنفذان في الحجر؟ لو أن ألكيبياديس الجميل كانت له عيناه، ونفذ بصره إلى ما وراء الجسد البديع، فهل كان يعجبه قبح أحشائه؟ تعجب كما شئت بمفاتن الجسد، ولكن تذكر أن الحمى التي تصيبه ثلاثة أيام لن تبقي لها أثرا.
هل اقتنعت الآن بأن هذه الأسباب جميعا ليست هي الطريق إلى السعادة، بل المتاهة التي تضلك عنها؟ إن البحث عنها بهذه الوسيلة كالبحث عن الذهب على أغصان الشجر، أو الجواهر على فروع الكروم، أو السمك في حضن الجبل، أو الغزال في عرض البحر، أو النجوم في تراب الأرض، أتريد الآن أن تعرف الطريق إلى السعادة الحقة؟ هل تسلم معي بأن ما يكفي نفسه بنفسه هو الذي ينطوي على الشرف والقوة والمجد؟ وهل توافقني كذلك على أن الذي لا يحتاج لشيء غريب عنه ويحتوي في ذاته على الشرف والقوة والمجد لا بد أن يكون شيئا مسعدا للقلب، وأن هذه جميعا لا بد أن تكون أسماء مختلفة لشيء واحد؟ إذن فأنت تتفق معي في أن الناس حين يطلبون الأجزاء المنفردة مما هو كل متكامل بطبيعته إنما يفقدون الكل والأجزاء جميعا؛ فالذي يطلب الثروة وحدها يضيع القوة والكرامة، والذي يسعى إلى السلطة يضحي بالثروة ويحتقر الشرف والسمعة الطيبة، ولكنه حين يصل إلى السلطة يترك الخوف يتسلط عليه، بذلك تضيع هي أيضا من يده. ألا ترى إذن أنه لا يمكن أن يجد السعادة في شيء وعده بها فلم يسبب له غير الألم، وأن السعادة نفسها ليست شيئا يسعى إليه الإنسان؛ لأنها ليست «شيئا» يمتلك أو يخشى عليه من الضياع؟ القوة والشرف والمجد ... إلخ، ليست إذن إلا مظاهر خداعة للخير الحقيقي الكامل ولا يمكن أن تقربنا منه في كثير ولا قليل، وعلينا الآن أن نرى أين نلتمس هذا الخير الحق، ولكن لنبتهل إلى الله أولا أن يقف إلى جانبنا، فذلك ما يخلق بنا أن نفعله حتى في أقل الأشياء شأنا، كما علمنا أفلاطون الحكيم في محاورته «طيماوس». لنحاول إذن أن نبحث عن هذا الخير الحق، ولنقل بادئ ذي بدء: إنه لا شك في وجوده ولا في أنه منبع كل خير سواه؛ إذ لو استبعدنا الخير فكيف نعرف أن الشر شر، ولو ألغينا الكمال فكيف نعرف أن الناقص يفتقر إليه؟ فإذا كانت هناك سعادة ناقصة بخير زائل، فلا بد أن تكون هناك سعادة كاملة بخير باق، أما أين يكون هذا الخير فدعنا نتأمله سويا. الله خير، والدليل على ذلك أن عقول البشر تتفق على هذا الرأي، فما لم يكن هناك شيء يمكن التفكير فيه أفضل من الله، فلا سبيل إلى الشك في أن ما لا يوجد خير منه فلا بد بالضرورة أن يكون هو نفسه خيرا، ولا بد أن يتحقق فيه الخير الأكمل؛ إذ لو كان الأمر على غير ذلك لما كان الله سيد الأشياء جميعا، وقد قلت لك من قبل: إن الخير الكامل هو السعادة الكاملة، فلا بد إذن أن تكون السعادة الكاملة متحققة في الله، ولكن هذه السعادة ليست شيئا غريبا عن ذاته، تلقاه من الطبيعة أو من شيء خارجي، وإلا كان المعطي أكمل من المتلقي، والفرع أفضل من الأصل، وذلك يخالف ما سلمنا به من أن الله هو أسمى الموجودات، وإذا كنت قد اعترفت بأن الخير الأسمى هو السعادة، فلا بد أن تعترف كذلك بأن الله هو السعادة.
الآن قد عرفت أنه لا يمكن أن يكون هناك خيران مختلفان كل منهما متناه في الكمال، وإلا لزم أن يكون أحدهما أكمل من الآخر، واستحال عليهما معا أن يوصفا بالكمال المطلق، إذن فلا بد من التسليم في آخر الأمر بأن السعادة الكاملة هي والألوهية الكاملة شيء واحد. ولنستعن الآن بنوع من الاستدلال الذي يلجأ إليه الرياضيون. فلما كان الناس يصبحون سعداء حين يبلغون السعادة، وكانت السعادة هي الألوهية، فمن الواضح أنهم يصلون إلى السعادة حين يصلون إلى الألوهية، كما يصبحون عادلين حين يصلون إلى العدل، وحكماء حين يبلغون الحكمة، ومن الواضح أيضا أنهم يصبحون آلهة حين يصلون إلى الألوهية، وأن السعيد منهم لا بد أن يصبح إلها، أعني أن يشارك في الألوهية بقدر ما تسمح به طاقة البشر؛ لأن الإله نفسه لا بد أن يكون واحدا.
ولكن السعادة الكاملة هي في الوقت نفسه الاكتفاء الكامل والقوة الكاملة، وهي كذلك الشرف والمجد واللذة، وكلها تتجه إلى الخير الذي هو قمتها وتاجها؛ فالناس تسعى إلى الاكتفاء لأنه خير، كما تسعى إلى القوة والشرف والمجد لأنها تعتبرها خيرا، وتعد نفسها بالفرح والرضا من ورائها؛ فالرغبات جميعا تلتقي في الخير؛ لأن ما ليس خيرا لا يمكن أن يرغب أحد فيه، وإذا كان الناس في بعض الأحيان يتوقون إلى ما ليس خيرا فلاعتقادهم الخاطئ أنه خير، وإذا كان الناس يسعون إلى هذا الشيء أو ذاك لأنه خير، فالأولى أن يقال إن سعيهم الحق إنما يتجه إلى الخير نفسه الذي يرغبون من أجله في هذا الخير الجزئي أو ذاك. ولما كان الخير والسعادة شيئا واحدا كما اتفقنا، وكان الله والسعادة الحقة شيئا واحدا كذلك، فلا بد أن ننتهي من هذا إلى أن جوهر الله يكمن في الخير نفسه لا في شيء آخر سواه. إن كل ما هو موجود فهو يسعى إلى الوحدة، والوحدة والخير شيء واحد، فكل موجود يسعى إذن إلى الخير، وقد بينت لك أن السعي إلى هذا الخير الجزئي أو ذاك لا يمكن أن يؤدي إلى السعادة الكاملة، فلا بد إذن من التسليم بأن الموجودات جميعا تسعى إلى الخير الأسمى، أعني إلى السعادة الكاملة، هذا الخير الأسمى هو الله الذي يدبر الكون، ويضفي الوحدة على أجزائه المختلفة المتنافرة، وهو في سبيل ذلك لا يحتاج إلى مساعدة من الخارج، وإلا ما كان مكتفيا بذاته، ولقد عرفنا أن الله هو الخير، ولا بد الآن أن نعرف أنه يدبر العالم بالخير، ما دام يدبره بنفسه، وأن كل من يسعى إلى الخير فلا بد أنه يسعى في الوقت نفسه إلى الله.
قالت الفلسفة هذا الكلام في هدوء واتزان يليق بجلالها وجدها، فهتف بها السجين: «أنت يا أيتها الهادية إلى النور الحق! لقد ذكرتني كلماتك الإلهية المبينة بما أنساني الظلم، وكنت من قبل أعرفه حق المعرفة، فلتعلمي الآن أن علة همي وحزني أن أرى الشر ممكنا في عالم يدبره إله خير، وأن أجد هذا الشر يسير في طريقه بغير عقاب بينما الفضيلة تبقى بغير جزاء، لا بل يدوسها الأشرار بأقدامهم، فهل لك أن تخلصيني من عجبي ودهشتي؟»
وأجابته الفلسفة قائلة: «إنك لو تأملت حق التأمل فيما انتهينا إليه معا؛ لعرفت أن الأخيار دائما أقوياء والأشرار عاجزون، وأن الرذيلة لا تعدم الجزاء، ولا الفضيلة تعدم المكافأة، وأن الطيبين ينعمون بالسعادة في آخر المطاف، والمفسدين يتعذبون بالشقاء، لقد عرفت معي أين تكون السعادة، وبقي علي أن أهديك إلى طريق العودة إلى الوطن الحق، وأمنح روحك جناحين ترتفع بهما إلى الأعالي فتهتف قائلا: «هذا وطني، لقد أتيت منه وسأبقى فيه.» عليك أولا أن تعلم أن الأخيار يملكون القوة وأن الأشرار ضعفاء عاجزون، ولكي أثبت هذا أقول: إن النجاح في كل عمل إنساني يقوم على شيئين: الإرادة والقوة، وإذا غاب أحدهما فشل العمل في تحقيق ما يريد، فإن غابت الإرادة لم تجد أحدا يتجه إلى ما يريد، وإن نقصت القوة كانت كل إرادة هباء، وكل من يعمل عملا فهو قادر عليه، ومن لا يقدر عليه لا يعمله.»
صفحة غير معروفة