138

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

تصانيف

ليعذرني قارئ هذا الكتاب إذا رآني قد وقفت فأطلت الوقوف عند هذه القصة، رويتها له بلغة كاتبها كما جاءت في آخر رسالة من رسائل إخوان الصفا؛ وذلك لأنني رأيتها - فوق طرافتها من الناحية الأدبية - نموذجا لكثير جدا مما جرت به الألسنة والأقلام في تراثنا، ثم رأيتها - وهو الجانب الأخطر - نموذجا لما نحن اليوم على استعداد تام لقبوله في غير ريبة ولا تردد؛ فلقد هيئت عقولنا على صورة تجعل أمثال هذه القدرات عند «المقربين» من السماء أمرا يكاد يكون مفروغا من صدقه وصوابه، تقوله لعامة الناس، أو تقوله لخاصتهم، فلا تجد إلا نفوسا مؤمنة به وعقولا مصدقة له، كأنك تقول لهم إن الشمس تشرق في الصباح وتغيب آخر النهار! وليكن قارئي على يقين أو ما يشبه اليقين أن صفة الشذوذ الفكري إنما يوصف بها من يعرض الروايات التي تروى عن هذه القوى السحرية عرض المتشكك المرتاب، ولا أقول عرض المكذب لها تكذيبا قاطعا، لا من يسرع إلى تقبلها كما يتقبل عمليات الجمع والطرح في علم الحساب. مصيبة فادحة هي تلك التي تصيبنا اليوم في تفكيرنا فتميل بعقولنا إلى الشلل، لتمرح القوى اللاعقلية كما يشاء لها أصحابها، ثم نزعم لأنفسنا وللناس أن مثل هذا الخبل هو من علامات «الروحانية» التي تميزنا من سوانا، لا تمييز الأضعف الأجهل الأضل، بل هو - كما نتوهم - تمييز الأقوى والأعلم والأهدى سبيلا!

إنني ما كتبت هذه الصفحات إلا توضيحا لوجهة نظري التي حاولت بسطها في هذا الكتاب، وهي أن تراثنا الفكري قد اختلطت فيه العناصر المتباينة، التي ربما كانت كلها منبثقة من طبيعة حياة الأسلاف وما اعترضهم من مواقف ومشكلات، والتي إذا ما ألقينا عليها النظر الآن بكل ما يحيط بنا نحن اليوم من مناخ ثقافي، ألفينا بعضها ما زال صالحا لنا وبعضها الآخر لم يعد صالحا، وتقدمت بفكرتي الرئيسية التي عرضتها في كتابي السابق «تجديد الفكر العربي»، وهو أن وسيلة ربط حاضرنا بماضينا هي في أن أواصل النظر إلى الأمور بنفس المنظار الذي نظر به الأقدمون، شريطة أن أقصر هذا المنظار على ميدان النظر «العقلي» وحده، وأما ميدان المشاعر الوجدانية أو الرؤى التي هي أقرب إلى أحلام اليقظة أو أحلام النوم، فهو - بحكم طبيعته - يقتصر على أصحابه ولا يمكن نقله كما هو من عصر إلى عصر، وها نحن أولاء قد بسطنا في القسم الأول من كتابنا هذا - وهو أكبر القسمين - نماذج من المواقف العقلية عند أسلافنا لنزداد نحن وضوحا في الرؤية إذا أردنا أن نواصل مثل هذه الوقفات العقلية من حياتنا الراهنة، ثم عرضنا في القسم الثاني من الكتاب، لمحات من الجانب الآخر؛ أعني الجانب اللاعقلي الذي عاشه الأسلاف؛ لنرى ماذا نطرح من تراثنا الفكري، نعم قد يكون من الحق أن الإنسان يعيش بوجداناته كما يعيش بعقله، وإن اختلفت مجالات هذا عن مجالات تلك، ولكننا نريد لجانبنا الوجداني اللاعقلي أن ينبت من عناصر حياتنا؛ فلقد شاءت مرحلة التطور الحضاري لآبائنا أن تتخذ أوهامهم صورة التنجيم والسحر وما إليهما، وقد يتحتم للطبيعة البشرية دائما أن تكون لها أوهامها اللاعاقلة، غير أن النتيجة التي تلزم عن هاتين المقدمتين ليست هي أن نستعير أوهام الأولين كما عاشوها، بل أن تكون لنا أوهامنا المناسبة لعصرنا وظروفه.

لقد حكيت لك حكاية الشيخ الذي خلص المسجون من قتل كان محكوما به عليه، وذلك بفعل النجوم كما استطاع أن يستخدمه ذلك الشيخ، وعلقت على الحكاية بقولي إن معظم القراء يرجح لهم أن يميلوا إلى تصديقها؛ لأنهم أشربوا منذ طفولتهم بما يميل بهم نحو تصديق هذه الدعاوى وأمثالها، كما رجحت أن يكون المستنكر عندهم ليس هو أن تصدق ما يقال عن السحر والتنجيم، بل هو أن ترتاب في ذلك. وأود الآن أن أعود إلى القصة كما حكاها إخوان الصفا في ختام الرسالة الأخيرة من رسائلهم؛ لأن التكملة ربما أحدثت نفورا عند القارئ يدفعه إلى التنكر للقصة كلها.

فلقد سأل التلميذ شيخه، بعد أن ألم بما زعم له المتحدث من استخدامه لكوكب المريخ في تخليص المسجون، سأله : هل للمريخ نيرنج يعمل؟ فقال له الشيخ شارحا: «لزحل لباس سواد، وللمشتري بياض، وللمريخ حمرة، وللشمس أصفر، وللزهرة أخضر، ولعطارد ملون، للقمر سمكون (السمكون لون السماء)، ولهم مع ذلك (أي إلى جانب ما يلبس لكل منها من لون يناسبه) دخن وبخورات وأشياء أخر يعرفها العلماء (!) الواقفون على أسرار الخليقة، مثل أكاليل ... يضعها العامل على رأسه، ومخانق ... يتقلد بها، فإن كان العمل لزحل احتاج أن يكون الإكليل من شوك والمخانق من عظام.» «فقلت له (أي إن التلميذ سأل شيخه بعد أن شرح له الشيخ ماذا يلبس وماذا يقول لكل كوكب أراد استخدامه): قد عارضني في هذا الموضع سؤال، ولست سائلا عنه لشك عرض بل لاستفهام حسب (ليلحظ القارئ هنا ما عند التلميذ من قبول لا عقلي لما يسمعه، فهو يسأل لا لشك ... ولماذا لم يشك؟ ألأن مجرد الشك لم يكن مقبولا، كما هو لا يزال بيننا إلى اليوم غير مقبول في هذه الأمور؟!)» «فقال لي ذلك العالم الفاضل: هلم سؤالك!» «فقلت له: الأنبياء - عليهم السلام - ما وقفوا على هذا العلم؟ ما سمعنا أنهم ... هربوا من أيدي أعدائهم سرا، ومنهم من تأدى أمره مع أعدائه إلى أن قتل، فيا ليت شعري! مع قدرتهم على هذا العلم الشريف، لم لا يعملون لأعدائهم من هذه النيرنجات ما كان يضطرونهم معها إلى إجابتهم؟»

سؤال جيد ونافذ من التلميذ، أفتدري بماذا أجاب الشيخ؟ قال: «ما أحسن ما سألت ... لم يستعمل الأنبياء - عليهم السلام - هذا العلم لأحوال: أحدها أنه ضرب من الحيلة والمكر، وهم لم يبعثوا بذلك! وثانيها أنهم لو فعلوا ذلك لكان إجابة الناس إلى الخديعة لا إلى العلم الذي به نجاة أنفسهم، وكان يفوتهم الغرض الذي جاءوا فيه، الذي هو نجاة الأنفس، ولأن هذا العلم فوائده مختصة بالعلم الأرضي، والأنبياء - عليهم السلام - دعاة إلى العالم العلوي الذي هو أعلى من عالم الأفلاك، وأيضا لم يجز لهم أن يضيفوا إلى تأييد الله ووحيه بوساطة الملائكة المقربين، حيلة بشرية ولا نيرنجية فلكية.»

لست أدري ماذا يكون موقف القارئ بعد استماعه لحوار كهذا بين التلميذ وشيخه في موضوع التنجيم، لكنني لا أخفي على القارئ شيئا من نفسي إذا قلت إن موقفي من هذا كله هو موقف الرفض الصريح، فهو كله سخف في سخف وضلال في ضلال، وينبغي لأبناء هذا العصر أن يتخلصوا من كل حرف فيه، فيطرحونه وراء ظهورهم نصا وروحا.

70

أولئك هم إخوان الصفا، المثقفون العلماء! فماذا نتوقع من طراز المثقفين الذين يبدءون برفض العلم أساسا وبالتنكر للعقل معيارا؟ ولنأخذ الغزالي نموذجا لهذا الطراز؛ فهو يناصر اللاعقل مناصرة حارة، ويعجب ممن يركنون إلى «العقل» برغم ما يتعرض له هذا العقل من زلل، والأعجب هو أن الغزالي إذ يؤيد اللاعقل ويناصره، فإنما يفعل ذلك بما يشبه مناهج العقل المنطقي الذي يتنكر له ويهاجمه!

جاء قبيل خاتمة كتابه «المنقذ من الضلال» ما يلي: «الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل، تتفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات.»

ويعلق الغزالي بعد ذلك بقوله إن القارئ أمام هذا الذي نقرره من عجز العقل عن رؤية هذه المدركات، إما أن يكون رافضا وإما أن يكون متفقا معنا، فإذا كان من الرافضين «فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده»! ويريد الغزالي بذلك أنه قد أقام «البرهان» في صفحات كتابه السابقة على ورود هذه العبارة، أفلا يكفي أن يكون قد لجأ إلى «برهان» - والبرهان لا يكون إلا عملية عقلية - ليتبدى ما في كلامه من تناقض؟! أيمكن ل «العقل» أن يثبت عجزه في ميادين هي بحكم الفرض لا ينفذ إليها عقل؟ أيمكن للأنف أن يحكم على روائح تستعصي على شمه وللبصر أن يصف ألوانا تستحيل على رؤيته؟ إن «البرهان» إنما يكون على نتيجة نزعم لها أنها جاءت عن عملية «عقلية»، وأما ما سوى ذلك فلا «برهان» عليه، وقصارى ما نستطيعه إزاءه هو أن «نؤمن» به أو لا نؤمن، نميل إليه أو لا نميل، نحبه أو لا نحبه.

صفحة غير معروفة