الإهداء
مقدمة
القسم الأول: طريق العقل
1 - خطة السير
2 - مشكاة البديهة
3 - مصباح العقل في مشكاة التجربة
4 - مصباح العقل يشتد توهجه
5 - زجاجة المصباح
6 - الكوكب الدري
7 - الشجرة المباركة
صفحة غير معروفة
القسم الثاني: شطحات اللاعقل
8 - اللامعقول، ما هو؟
9 - يقظة الحالمين
10 - سحر وتنجيم
فهرس تحليلي
القسم الأول: طريق العقل
القسم الثاني: شطحات اللاعقل
الإهداء
مقدمة
القسم الأول: طريق العقل
صفحة غير معروفة
1 - خطة السير
2 - مشكاة البديهة
3 - مصباح العقل في مشكاة التجربة
4 - مصباح العقل يشتد توهجه
5 - زجاجة المصباح
6 - الكوكب الدري
7 - الشجرة المباركة
القسم الثاني: شطحات اللاعقل
8 - اللامعقول، ما هو؟
9 - يقظة الحالمين
صفحة غير معروفة
10 - سحر وتنجيم
فهرس تحليلي
القسم الأول: طريق العقل
القسم الثاني: شطحات اللاعقل
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
تأليف
زكي نجيب محمود
الإهداء
إلى زوجتي ...
صفحة غير معروفة
مقدمة
كنت في كتابي «تجديد الفكر العربي» قد طرحت هذا السؤال: كيف السبيل إلى ثقافة نعيشها اليوم، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة هذا العصر الذي نحياه؛ شريطة ألا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاورا بين متنافرين، بل يأتي تضافرا تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر نسج اللحمة والسدى؟ ثم حاولت أن أقدم عن هذا السؤال جوابا، إلا يكن هو الجواب القاطع، فلا أقل من أن يكون جوابا محتمل الصواب؛ لعله يثير الفكر عند آخرين، فيصححونه ويكلمونه، وكان جوابي عندئذ هو أن نأخذ عن الأقدمين وجهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة التي جعلوها موضع البحث؛ وذلك لأنه يبعد جدا - لتطاول الزمن بيننا وبينهم - أن تكون مشكلات حياتنا اليوم هي نفسها مشكلاتهم، وإذن لم يعد يجدي أن أحصر بحثي في مشكلاتهم التي طويت موضوعاتها طيا، ولكن الذي قد يعود علينا بالنفع العظيم، من حيث الحفاظ على كيان لنا عربي الخصائص، هو أن ننظر إلى الأمور بمثل ما نظروا، أو قل بعبارة أخرى: أن نحتكم في حلولنا لمشكلاتنا إلى المعايير نفسها التي كانوا قد احتكموا هم إليها.
ولقد زعمت في محاولتي تلك أن النظرة العقلية، برغم اختلاطها بكثير جدا من عناصر اللاعقل، كان لها شيء من الظهور عند آبائنا من العرب الأقدمين؛ بمعنى أنهم كلما صادفتهم مشكلة جماعية التمسوا لحلها طريقة المنطق العقلي في الوصول إلى النتائج، وكادت النزعة اللاعقلية العاطفية عندهم أن تقتصر على الحياة الخاصة للأفراد؛ فلقد كانت لهم في طرائق العيش الاجتماعي «حكمة» - والحكمة إنما هي نظرة عقلية مكثفة - وما زلنا إلى يومنا هذا نرتد إلى حكمتهم هذه، فترد على ألسنتنا - من محفوظنا - روائع مما قالوه في ذلك شعرا ونثرا، وكأننا كلما نطقنا برائعة من تلك الروائع قد أسرجنا مصباحا يناسب الموقف المعتم الذي أحاط بنا، فنهتدي في مواجهته إلى طريق؛ نعم قد كان لهم إلى جانب نظراتهم المعقولة العاقلة شطحات للوجدان، لكن جانبا من هذين لا ينفي جانبا.
وقد أردت بهذا الكتاب الذي بين يديك أن أقف مع الأسلاف - في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللاعقلية كليهما - فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية؛ لأرى: من أي نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف التمسوا لها الحلول، لكنني إذ فعلت ذلك، لم أحاول أن أعاصرهم وأتقمص أرواحهم لأرى بعيونهم وأحس بقلوبهم، بل آثرت لنفسي أن أحتفظ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتا لينصت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يدلي فيه بعد ذلك - لنفسه ولمعاصريه - برأي يقبل به هذا ويرفض ذاك.
قسمت الكتاب قسمين: جعلت أحدهما لرحلتي على طريق العقل عندهم، وجعلت الآخر لبعض ما رأيته عندهم مجافيا للعقل، لائذا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدت أن يجيء القسم الأول أكبر القسمين؛ لتكون النسبة بين الحجمين دالة بذاتها على النسبة التي أراها واقعة في حياتهم الفعلية بين ما وزنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.
ولقد اهتديت في رحلتي على طريق العقل بدرجات الإدراك في صعودها من البسيط إلى المركب، وهي المراحل التي أشار إليها الغزالي عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة هي عنده درجات من الوعي، تتصاعد وتزداد كشفا ونفاذا، فاستخدمت بدوري هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق العربي - من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر - إذ خيل إلي أن السابع قد رأى الأمور رؤية المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأياها رؤية الزجاجة التي كانت كأنها الكوكب الدري، ثم رآها الحادي عشر رؤية الشجرة المباركة التي تضيء بذاتها.
وذلك لأني قد رأيت أهل القرن السابع وكأنهم يعالجون شئونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخذوا يضعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر وقد صعدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التي تضم الأشتات في جذوع واحدة، ثم جاء الحادي عشر بنظرة المتصوف التي تنطوي إلى دخيلة الذات من باطن؛ لترى فيها الحق رؤية مباشرة.
كذلك تصورت لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالا محوريا كان للناس مدار التفكير والأخذ والرد؛ ففي المرحلة الأولى كانت الصدارة للمشكلة السياسية الاجتماعية؛ من ذا يكون أحق بالحكم؟ وكيف يجزى الفاعلون بحيث يصان العدل كما أراده الله؟ وفي المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: أيكون الأساس في ميادين اللغة والأدب مقاييس يفرضها المنطق لتطبق على الأقدمين والمحدثين على سواء، أم يكون الأساس هو السابقات التي وردت على ألسنة الأقدمين فنعدها نموذجا يقاس عليه الصواب والخطأ؟ وفي المرحلة الثالثة كان السؤال هو هذا: هل تكون الثقافة عربية خالصة، أو نغذيها بروافد من كل أقطار الأرض لتصبح ثقافة عالمية للإنسان من حيث هو إنسان؟ وجاء القرن العاشر فأخذ يضم حصاد الفكر في نظرات شاملة؛ شأن الإنسان إذا اكتمل له النضج واتسع الأفق، وها هنا كان العقل قد بلغ مداه، فجاءت مرحلة خاتمة يقول أصحابها للعقل: كفاك! فسبيلنا منذ اليوم هو قلوب المتصوفة.
وأما القسم الثاني من الكتاب ففيه نظرة موجزة إلى الوجه الآخر من قطعة النقد، حتى لا نرى الحقيقة من جانب واحد؛ فإلى جانب الوقفات العقلية عند أسلافنا كان هنالك حالات رفضوا فيها أحكام العقل ولاذوا بما نبضت به قلوبهم حينا، وبما أشبع فيهم خيال الأيفاع حينا آخر، وحاولت جهدي أن أحلل المعنى المقصود بمصطلح «اللامعقول» حتى لا ينصرف في الأذهان إلى شتم وازدراء، إنما هو لون آخر ينبع عند الناس دائما من صميم فطرتهم الإنسانية، وكل ما في الأمر أنني لا أجد هذا الجانب من السابقين قنطرة تصلح لعبور اللاحقين إذا أرادوا وصل الطريق، واكتفيت من جانب اللامعقول هذا بصورتين: التصوف إحداهما، والسحر والتنجيم ثانيتهما، ورأيت في ذلك ما يكفي لاكتمال الصورة التي أردت رسمها أمام القارئين.
إنني في هذا الكتاب شبيه بمسافر في أرض غريبة، حط رحاله في هذا البلد حينا، وفي ذلك البلد حينا، كلما وجد في طريقه ما يستلفت النظر ويستحق الرؤية والسمع، ومثلي في رحلتي هذه مثل السائح؛ قد يفلت من نظره أهم المعالم؛ لأنه غريب لا يعرف بادئ ذي بدء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد، ولكنني أيضا - مثل السائح الغريب - قد تقع عيني على شيء لا تراه أعين أبناء البلد؛ لأنه مألوف لهم حتى لم يعودوا قادرين على رؤيته رؤية صحيحة، ومن هنا كنت لا أستبعد وقوعي في أخطاء بمعنيين؛ بمعنى إهمال ما لم يكن يجوز إهماله من معالم الطريق، وبمعنى وقوف النظر أحيانا عند ما لا يستحق الوقوف عنده بالنظر، وواضح أنه لو أراد مسافر آخر أن يستبدل لرؤيته منظارا بمنظار لرأى رؤية أخرى، وانتهى إلى أحكام أخرى غير التي رأيت وإليها انتهيت.
صفحة غير معروفة
وإني إذا رجوت لهذا الكتاب رجاء، فذلك أن يجيء خيره أكثر من شره، وصوابه أكبر من خطئه.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
طريق العقل
الفصل الأول
خطة السير
1
كانت عادتي كلما هبطت مدينة من سفر - قصر مقامي بين ربوعها أو طال - أن أبدأ بالنظر إلى خريطتها؛ لأقسم أرجاءها أقساما تتناسب في سعتها مع طول المدة التي أنوي إقامتها، فكلما قصرت مدة الإقامة ازدادت تلك الأقسام اتساعا، وكلما طالت المدة ضاقت الأقسام، ثم أخصص لكل قسم نصيبه من الزمن؛ لأجول مارا على تفصيلات أجزائه سائرا على القدمين، لا أستعين بقطار أو سيارة إلا إذا هدني التعب هدا يستحيل معه أن أواصل السير؛ ذلك لأني أومن بأن الرؤية المتأنية الفاحصة التي ترسخ في الذاكرة وتدوم ، هي تلك التي تجيء من سائر على قدميه، يمهل الخطى حينا، ويقف عن السير حينا، كلما احتاجت منه الأشياء إلى إمهال أو وقوف، وبغير هذا النظر إلى خريطة المكان، لأتصور به أين شرقه من غربه، وأين شماله من جنوبه؛ تتمزق الصورة عندي وتتبعثر تفصيلاتها، حتى أخرج من زيارتي وكأنني لم أحصل شيئا، مهما كثرت عندي أجزاء ما رأيت وما سمعت، فكأنما أمسكت بكتاب ومزقت أوراقه قصاصات قصاصات، تجمعها أمامك في كومة لا ينساق فيها سطر وراء سطر، ثم قلت لنفسك: ذلك هو الكتاب، لم ينقص حرفا! لكنه في الحقيقة قد نقص كل شيء حين زالت عنه الوحدة التي تجمع أجزاءه في كيان.
النظرة إلى خريطة البلد الذي أقيم فيه هي العمود الفقري الذي يبقيه في خبرتي كائنا متصل الأجزاء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى علم أحصله، فمهما امتلأ وفاضي من حقائق مفككة الأوصال عن رجال أو عصور أو مذاهب، فأنا المفلس من العلم المفيد ما لم أجد لنفسي الإطار الذي يجمع الأشتات في كيان واحد، أعرف فيه أين يقع الرأس وأين يكون الذنب، وإني لأغلو مع نفسي في مطلب التوحيد هذا، حتى لأحاول في كثير من الأحيان ألا أكتفي بمجرد مبدأ نظري أجعله قطبا للرحى، بل ألتمس لنفسي صورة مجسدة أخلقها لنفسي خلقا، فتعينني على ترتيب الأجزاء وتنظيمها في نسق موحد.
2
صفحة غير معروفة
فلما هممت بالقراءة لهذا الكتاب، طالبت نفسي أولا بخطة للسير؛ فالتراث العربي أوسع من المحيط، ولم يكتب لي الله في أعوامي الماضية أن أعب منه إلا قطرات لا تملأ القدح، فكيف بي وأنا الغريب - أو شبه الغريب - في هذه الدنيا المدوية بمكنونها الضخم، وقد هممت بالسير في أحنائها وثناياها؟ إنني أريد أن أبحث في هذه الدنيا الفكرية الفسيحة الأرجاء، عن طريق واحد دون سائر ما فيها من طرق ومفاوز، وهو طريق «العقل» كيف سار وأين؟ فهل أستطيع الخطو بقدم واحدة إذا لم يكن أمامي خط واضح أسير على هداه؟!
وطريق العقل في ثقافة عريضة طويلة كالثقافة العربية، لا يكون قائما وحده، بحيث لا يجد السائر طريقا سواه، بل لا بد أن يخالطه كل ما يخالط الطبيعة البشرية من جوانب أخرى غير جانب العقل، فالإنسان - فردا كان أو مجتمعا - لا يتحرك في حياته مهتديا ببوصلة واحدة، ذات مؤشر واحد، يشير دائما إلى هدف واحد، بل إن طبيعته لتنطوي على منازع متعارضة أحيانا أشد التعارض؛ فقد يحدد له «العقل» هدفا بعينه ويرسم أمامه الطريق المؤدية إلى ذلك الهدف، ثم تجذبه «العاطفة» نحو هدف آخر وطريق آخر، فلو وصفنا إنسانا فردا، أو مجتمعا من الناس، أو عصرا من العصور، بصفة «العقلانية» فإنما نفعل ذلك على سبيل التغليب والترجيح، لا على سبيل الحصر والقطع والتحديد.
وإذا أردنا شيئا من التوضيح الذي يفرق لنا بين وقفة «عقلية» وأخرى «عاطفية»، فحسبنا - فيما أظن - أن نرتكز على العلامة المميزة الآتية؛ فصاحب الوقفة العقلية يشترط في خطوات سيره أن تكون الخطوة التالية مكملة للتي سبقتها، وممهدة للتي تلحق بها، بحيث تجيء الخطوات معا في تضامن يجعلها وسيلة مؤدية آخر الأمر إلى هدف مقصود، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيرا بالقدمين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيرا عقليا ينتقل به صاحبه من فكرة إلى فكرة، حتى ينتهي إلى حل لمشكلة أراد حلها، ذلك هو السير «العقلي» وعلامته المميزة. لكن ما كل سلوك إنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثيرا ما يريد الإنسان شيئا ويعمل بما ليس يحقق له ما أراد، فإذا سألته: كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه بأنه يحس «ميلا» لا قبل له برده، يميل به نحو جانب مضاد لما ظن بادئ الأمر أنه ما يريد ...
الوقفة «العقلية» - بعبارة أخرى - وقفة تتقيد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة، سواء كانت تلك الحلقات المؤدية محببة أو كريهة عند من أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة. وأما الوقفة «العاطفية» أو «اللاعقلية» فهي التي يؤثر صاحبها اختيار الطريق المحبب إلى النفس بغض النظر عن تحقيق النتائج.
ويندر جدا أن تجد بين الناس إنسانا خلص له العقل وحده، لا يأتمر إلا بتوجيهه، كالذي يقال عن سقراط إنه كان عقلا صرفا، حتى لتعذر عليه أن يتصور كيف يرى العقل رأيا ثم لا يجد هذا الرأي تنفيذا عند صاحبه؛ فما يراه العقل - كما ذهب سقراط - هو نفسه العلم بحقائق الأشياء، ومن ذا الذي يرفض أن يعامل الأشياء على حقائقها؟ ومن ثم جاءت فكرته القائلة بأن «العلم والفضيلة شيء واحد»؛ يريد بذلك أن ما يدركه العقل (وهذا هو العلم) وما ينبغي على الإنسان أن يفعله (وهذه هي الفضيلة) هما جانبان لموقف واحد، فهناك الإدراك الصحيح، وهنا الفعل الصواب بناء على ذلك الإدراك، ولم يتصور سقراط أن يدرك الإنسان بعقله الإدراك الصحيح، ثم يفعل الفعل المضاد مدفوعا إليه بالميل والهوى، اللهم إلا إذا كان الإنسان عدوا لنفسه يريد لها التهلكة، يرى طريق الحق ويسلك طريق الباطل، يرى سبيل النجاة ويسلك سبيل الخطر والضياع.
ذلك ما لم يتصوره سقراط في الإنسان العاقل، قياسا على نفسه؛ فهو - كما قيل عنه - لم يشعر في حياته قط بموقف تنازعته فيه الأضداد، فالعقل يشده إلى هنا والعاطفة تجذبه إلى هناك؛ لأن ما يراه عقله هو نفسه ما تميل إليه عاطفته.
وخطأ سقراط هو في أنه قاس الناس على نفسه؛ لأن الفرد من الناس مركب من عقل وعاطفة، فإذا اتفقا على الهدف والطريق - وكثيرا ما يتفقان بلا عناء - كان خيرا، وإلا فهما قد يختلفان، بحيث يكون لكل منهما هدفه وطريقه وعندئذ يحدث الصراع المألوف في حياتنا بين إملاء العقل وميل العاطفة، وعندئذ أيضا تكون قسمتنا للناس إلى من تغلب عليهم صفة العقلانية، ومن تغلب عليهم دفعة العواطف، ومن امتزاج الصنفين يتكون المجتمع الإنساني في معظم حالاته.
3
فإذا التمسنا طريق العقل في الثقافة العربية، كان معنى ذلك أننا نبحث عن خيوط اللحمة في نسيج، دون خيوط السدى، عالمين بأن اللحمة والسدى معا تشتركان في نسيج واحد، ولماذا أحاول عزل القمح عن الشعير بعد أن كان مختلطين في مزيج واحد؟ أحاول ذلك لسببين: أولهما: الرغبة في رسم خطة للسير الواضح، على النحو الذي أشرت إليه في أول الحديث، والثاني: عقيدة عندي بأنه إذا أراد الخلف - الذي هو نحن العرب في عصرنا القائم - أن يجيء امتدادا للسلف، فلن يكون ذلك إلا عن طريق الجانب العاقل من حياة السلف؛ لأن الجانب اللاعاقل من حياة ذلك السلف ربما تعلق بأشياء لم تعد ذات شأن في حياتنا، وبالتالي فإنها لم تعد تستحق منا أن نسكب عليها هوس العاطفة دفاعا عنها وحفاظا عليها.
على أن طريق العقل الذي نلتمسه لنسير فيه، ليس هو طريقا كله المنطق الجاف الذي يصنف الكائنات أجناسا وأنواعا بعد أن يسلبها مضامينها الحية، ولا يبقى منها إلا أشكالها الخارجية الفارغة من الغذاء والدسم، لا، بل إن مرادنا هنا هو أن نعيش ثقافتنا القديمة وهي في حالات نبضها، مليئة بمشكلاتها، وكل ما في الأمر هو أننا نريد أن نتخير من تلك الثقافة مواقفها التي عالجتها بالإدراك السليم، لا بالعاطفة حتى وإن كانت رضية ودافئة.
صفحة غير معروفة
وللإدراك السليم في مواجهة المشكلات صور، ليست كلها أقيسة أرسطية جفت في هياكلها عصارة الحياة، بل إن منها ما هو أقرب إلى عفوية الطفل في إدراكه، ومنها ما هو ممتزج بالسخرية اللطيفة، ومنها ما هو إدراك بالبصيرة النافذة، تصل إلى الحق بلمحة واحدة، ولنا بعد ذلك أن نقيم على ذلك الحق ما استطعنا من تبرير وبرهان، ولا بد أن يكون في حصاد الثقافة العربية كل هذه الصنوف من الإدراك السليم، في مختلف المواقف التي تعرضت لها.
فالفرق بعيد بين رجلين صادفتهما مشكلة بعينها، ولنقل مثلا إن كلا منهما قد أخذه القلق على عقيدته الدينية، وأراد أن يطمئن على قوتها؛ أما أحدهما فقد جعل طريق اطمئنانه هو أن يخلق بأوهامه قصصا يحكيها عن أقطاب من أتباع هذه العقيدة، تدل على أنهم بقوة عقيدتهم تلك استطاعوا أن يفكوا عن العالم الطبيعي قيود السببية العلمية الصارمة، فهم يحصلون على ماء بغير مصادره، ويحصدون ثمارا بغير نبات ينبته وهكذا، وأما الآخر فيبحث لبيان القوة في عقيدته عن أسس يقبلها الإدراك العلمي السليم، سواء كانت تلك الأسس قائمة على لمح البصيرة، أو على مشاهدات البصر، أو على استدلالات العقل لنتائج يخرجها من مقدمات بين يديه.
وفي التراث العربي هذان الصنفان من الرجال؛ الصنف الذي لا يقيد نفسه بالشواهد في مواجهة مشكلاته، والآخر الذي يواجه تلك المشكلات بأسلوب عاقل، لا يجد أبناء الثقافات الأخرى، أو أبناء الأجيال القادمة، بأسا في تتبعه واقتباسه.
4
لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة التي تفرق بين موقفين؛ أحدهما يتحدى الوقائع وحدودها، وبالتالي فهو يتحدى العلم وطرائقه، والثاني يجعل الوقائع مداره، ثم يعالجها على أي نحو يطيب له؛ شريطة أن يصون لسلامة الإدراك مقوماتها، أقول: إني لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة، حتى قفزت إلى ذهني آية قرآنية كريمة ووجهة نظر في تأويلها، فوجدتها هي الآية التي ترسم لي خطة السير فيما أردت السير فيه، وأعني بها آية النور، ووجهة نظر الإمام الغزالي في تأويلها؛ لأنه يؤولها في كتابه «مشكاة الأنوار» على نحو يجعلها مبينة لدرجات الإدراك السليم، التي ربما كانت هي الدرجات التي يتدرج بها الفرد الواحد في نموه العقلي، وتتدرج بها الأمة الواحدة، أو الثقافة الواحدة في طريق نضجها، وعندئذ يمكنني أن أتابع تراثنا الفكري مهتديا بتلك الدرجات الإدراكية، وملتمسا لكل درجة منها عصرا تمثلت فيه، ورجالا تمثلت فيهم، وكتابات تجلت فيها، فإذا وجدتني أسير مع هذه الدرجات في طريق موصول خلال عصور الثقافة العربية، كنت بذلك قد وقعت على خريطة الواقع، وخطة للسير في شعابه.
تقول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
فالنور هنا هو قوة الإدراك، ومن السهل على خيالنا أن يتصور في الإدراك نورا وفي الغفلة ظلاما، وإن أسماء الله تعالى لتحتوي على عدد كبير يدل على إدراكه لكل دقائق خلقه، ما ظهر منها وما بطن؛ فهو العليم، السميع، البصير، وهو اللطيف الذي يعلم دقائق المعاني وغوامضها، ما دق منها وما لطف، وهو الخبير الذي لا تغرب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في ملكه شيء إلا ويكون عنده خبره، وهو الحكيم، وهو الشهيد العالم بعالم الغيب وعالم الشهادة، أي إنه تعالى عليم بما بطن من الأمور وما ظهر، يقول الإمام الغزالي في شرح أسماء الله الحسنى: إن اسم «العليم» يشير إلى العلم على إطلاقه، فإذا أضيف علمه تعالى إلى الغيب فهو «الخبير»، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو «الشهيد»، وهو الحق بالمعنى المطلق للحق، أي إنه تعالى حق بذاته غير مستند إلى شيء سواه، وأما كل حقيقة أخرى فحقها نسبي مضاف إلى غيره، فأحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله، وأحق المعارف بأن يكون حقا هو معرفة الله، وهو المحصي لأن علمه تعالى محيط بالمعلومات جميعا، ففي علمه ينكشف لكل معلوم حده وعدده ومبلغه، وهو النور أي إنه هو الظاهر بذاته الذي يكون به كل ظهور سواه، وهو الرشيد الذي ينساق تدبيره إلى غاياته على سنن السداد.
لكن هذا الإدراك في خبرات الناس يكون على صور متباينة هي التي رمزت إليها الآية الكريمة - على تأويل الغزالي للآية - فأما أولى هذه الصور الإدراكية فهي المحسوسات التي تدركها حواس الإنسان؛ من بصر وسمع ولمس وغيرها، وتلك هي التي رمزت إليها الآية بالمشكاة، وماذا بداخل المشكاة؟ بداخلها مصباح في زجاجة، أما المصباح فهو العقل الذي يدرك المعاني؛ إنه لا يقف عند حدود ما تورده الحواس، بل يجاوز تلك الحصيلة الحسية إلى دنيا المعاني المجردة، والذي يعينه على فاعليته هذه هي الزجاجة التي تحيط به، والزجاجة هنا ترمز إلى الخيال، ويقصد بالخيال هنا القدرة على حفظ ما تورده الحواس مخزونا، حتى يعرض على العقل عند الحاجة إليه، فلئن كان العقل يجاوز ما تجيء به الحواس من العالم المحيط، إلا أنه يرتكز على المحسوسات ليتمكن من الوثوب إلى ما وراءها، وبالطبع لا يستخدم العقل كل الوارد الحسي دفعة واحدة، إنما هو في كل لحظة من لحظات فاعليته ينتقي ما ينفعه، وإذن فلا بد له من حافظ يصون له المدخر من خبرة الماضي، فيكون له كالخازن الذي يمده في كل لحظة بما يريد، وتلك هي الزجاجة المحيطة بالمصباح.
لكن قوة الخيال هذه - الزجاجة - من أين تأتيه؟ نعم، إنه موصوف في الآية بأنه كالكوكب الدري لمعانا، لكن لهذا الضياء الساطع مصدرا، فهو يوقد من شجرة مباركة، والشجرة هنا - في تأويل الإمام الغزالي - هي الروح الفكري الذي يؤلف بين العلوم العقلية، إنه بغير تأليف وتنسيق ثم انتقاء واختيار، تظل المعلومات أشتاتا لا تنفع، فلنقل إذن إن الشجرة المباركة هنا هي «المبدأ»، أو جملة المبادئ التي توحد الشتيت ليصبح نورا هاديا، أعني ليصبح علما يكشف عن الحق، فإذا استطرد السائل ليسأل: ومن أين للشجرة نفسها هذه القوة؟ أجابت الآية الكريمة بأنها قوة ذاتية لا تستمد من شيء آخر؛ إذ هي إنما تضيء بزيتها هي، وزيتها هذا يكاد يضيء من تلقاء نفسه، ولو لم تمسسه نار، وإذن فهو المصدر الإدراكي الأخير الذي يقوم بذاته، ثم يكون منه المدد لغيره من صور الإدراك. هو أقرب شيء إلى ما نسميه في المصطلح الفلسفي «بالحدس» أو الإدراك بالفطرة أو بالبصيرة؛ لأنه إدراك يلمع دفعة واحدة، يبرهن على غيره، لكنه هو نفسه لا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو مباشر غير مسبوق بما يمهد له أو ما يولده وينتجه، وإن شئت فقل عن مثل هذا الإدراك الأولي المباشر: إنه إلهام أو وحي من الله.
صفحة غير معروفة
على هذا النحو يتصاعد النور، أو تتدرج صور الإدراك؛ حسا، فعقلا يصونه خيال، فبصيرة يوحي إليها، فتهتدي إلى الحق بالفطرة الملهمة. •••
سألت نفسي: أتكون هذه هي نفسها المراحل التي تنمو بها مدارك الفرد الواحد من الناس؛ تمتلئ حواسه بما يرى ويسمع ويلمس، فتغزر خبراته بما حوله، فيتناولها العقل بالتنظيم، مهتديا في ذلك بمبادئ جبلت في فطرته؟ بل سألت نفسي: أفيبعد أن تكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها ما تميزت به عصور الثقافة الإنسانية؛ فعصر ثقافي كانت تسوده التجارب الأولية بالعالم المحيط وظواهره، فكان تعليله عند أهله بالأساطير، تلاه عصر انخرط فيه الفكر لينصب في قوالب وأطر هي التي يطلقون عليها اسم «العقل»، وكان ذلك عند اليونان الأقدمين، ثم أعقب هذا وذاك وحي بالمبادئ والقيم التي تمسك بثمرات العقل في شجرة واحدة، وكان ذلك في ديانات الشرق الأوسط التي انتهت إلى الإسلام؟
وإذا كانت هذه المراحل الإدراكية أمرها كذلك، فهل يجوز لي أن أترسم مدراجها في تتبع مسار العقل في التراث العربي؟ بمعنى أن ألتمس ذلك العقل في خواطر البداهة أولا، ثم في محاجات المنطق ثانيا، ثم في حدس الصوفية ثالثا؟ وقد تعود الدورة على هذا النحو مرة بعد مرة؛ وفرة في الحصاد، فتنظيم لذلك الحصاد الوافر، فتأمل فيما يجاوزه ويعلوه.
5
إن للفيلسوف البريطاني المعاصر ألفرد نورث وايتهد كتابا صغيرا هاديا ومفيدا، عن «أهداف التربية»، وقد حاول في كتابه هذا أن يقع على أسس مقنعة يقوم عليها تقسيم التعليم إلى مراحل يتلو ويكمل بعضها بعضا، فبحث أولا عما يميز الإدراك الإنساني في كل مرحلة عمرية، حتى إذا ما وجد تلك المميزات، جعلها مدارات للتربية، كل منها في مرحلته الخاصة، وبعد شيء من التحليل الدقيق الذي نعهده في كل ما أنتجه وايتهد من فكر، انتهى إلى مميزات ثلاثة تتعاقب على الناشئ في مراحل نموه؛ ففي البداية يكون التحصيل عند الطفل متميزا بعقوبة خلاقة، تمتد أصابعه لكل ما يصادفه، يحطم ويهشم ليملأ حسه بكل جوانب الشيء الذي يقع عليه؛ يلمس، ويذوق، وينظر، وينصت، يجري هنا وهنا ويتعثر ويستقيم، حتى إذا ما خرج من طفولته العفوية تلك، هدأ قليلا ليجمع القواعد التي تنظم له حصاده الغزير المهوش، وما إن تجتمع له مجموعة كافية من تلك القواعد في بضع سنين، تراه عندئذ يصبو إلى صعود فوقها إلى المبادئ العامة التي تطويها.
ومن ثم فقد كان الرأي التربوي عند وايتهد، أن تخصص المرحلة الدراسية الأولى لما يشبه التحصيل العشوائي الذي يتبدى في فطرة الطفولة، ثم تخصص المرحلة الوسطى (الثانوية) لما يشبه تقعيد القواعد، أعني إدراج الحصيلة الأولى تحت قواعد العلوم وقوانينها، وأخيرا تأتي المرحلة الأخيرة متمثلة في التعليم الجامعي، فتصب اهتمامها، لا على العلوم المختلفة من حيث هي مجموعات من قواعد وقوانين، بل على المبادئ الأعم التي تشمل تلك العلوم كتطبيقات لها، فالمبادئ العامة وحدها هي التي تتيح للفكر أن ينظر إلى المشهد كله بنظرة شاملة، تمكنه من أن يجاوي ويعلو عليه بما هو أكثر تقدما وتطورا.
ففي المرحلة الأولى فاعلية حرة مطلقة السراح، وفي المرحلة الثانية تحديد للملامح والقسمات، وفي المرحلة الثالثة اتساع في الأفق وبعد في مرمى النظر، في الأولى إدراك بالجملة على شيء من إبهام وغموض، وفي الثانية تفصيل للأجزاء وربط بينها بالعلاقات، وها هنا يكون التحليل لما هو مجمل، والضبط لما هو منساب على فطرته، والسير على منهاج يقيد الخطوات، أما في الثالثة فارتفاع إلى مبادئ يضم كل مبدأ منها قوانين أشتاتا تفرقت بين مختلف العلوم، ومن ثم تنشأ فكرة المعرفة الموحدة، والكون الموحد ويكتمل عند الإنسان مبدأ التوحيد.
بعبارة أخرى، يبدأ التحصيل بمشاهدة الوقائع لذاتها لا لدلالاتها، ثم ينظر إلى كل واقعة من حيث هي مثل لقانون علمي يطويها مع أشباهها في مجموعة واحدة، وأخيرا يلحق هذا القانون مع قوانين أخرى تتصل به بمبدأ يحتويها جميعا، كأنها أفراد أسرة واحدة.
ولعل أوضح مثل لهذا التدرج في الإدراك كما يراه وايتهد هو اللغة، وكيف يحصلها المتكلم بها، فيبدأ الطفل في التقاطها مفردات وجملا لا يعرف لها أصلا ولا فصلا، فهو يسمع ويحاكي، ثم يتعلم بعد ذلك القواعد التي تضبط ما كان قد التقط، حتى إذا ما اكتمل نضجه أمسك بتلك اللغة إمساكه للكائن الحي، يعرف كيف يستخدمه ويصرف أموره على النحو الذي يريد. •••
والشبه - على وجه الجملة - واضح بين مراحل الإدراك كما تحدث عنها وايتهد في بحثه التربوي، ومراحل الإدراك كما لمحها الغزالي عند تأويله لآية النور، ففي الحالتين تكون مراحل الإدراك في مدارج صعوده بادئة بالعفوية النشيطة الحية، ومعقبة عليها بالتنظيم والتنسيق وتقعيد القواعد، ثم منتهية بإدراك المبادئ الأشمل والأعم، لولا أن الغزالي يضيف إلى ذلك مرحلة رابعة يكون عندها تأمل مسدد بقوة الإلهام.
صفحة غير معروفة
وسأجعل هذه المدارج نفسها معالم طريقي عندما أشق لنفسي طريقا في دنيا تراثنا الفكري، باحثا عن «العقل» كيف بدأ وكيف نما، وفي أي اتجاه استقام به السير أو انعرج.
وإنه ليخيل إلي - بعد نظرة إلى تاريخنا الفكري من أعلى - بأن القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) قد شهد مرحلة الومضات العفوية الخلاقة، وأن القرنين الثامن والتاسع هما اللذان قد شهدا التنظيم والتقسيم وتأصيل القواعد والاستدلال منها، وأن القرن العاشر قد جاوز القواعد المجزأة المفرقة إلى المبادئ الفلسفية الكاملة الشاملة، ثم جاء القرن الحادي عشر، فلجأ إلى الحدس ليلتمس الحق في لمحة التصوف، وأما بعد ذلك - فباستثناء حالات تلفت النظر - كان نشاطنا الفكري على الأعم الأغلب تدوينات وتجميعات لما كان، بغير إضافة جديدة، هذا في المشرق. وأما في الأندلس فقد سارت الخطوات على غرار الدورة نفسها؛ تنظيم وتقسيم، ثم تتويج لذلك بنظرات فلسفية شاملة، ثم آخر الأمر تصوف يريد أن يختصر الطريق إلى الحق بشهود مباشر.
الفصل الثاني
مشكاة البديهة
أدب وفلسفة وفروسية وسياسة
6
لست أكتب هذه الصفحات كما يكتب المؤرخون، فأتبع اللواحق بسوابقها والنتائج بمقدماتها، بل إني أكتبها كما يكتب الرحالة عن مشاهداتهم أثناء الطريق، فليست وقفتي وقفة العالم وهو يحلل موضوعه إلى عناصره، بقدر ما هي وقفة الأديب الذي ينطبع بالحوادث من حوله، فيقص على الناس ما قد أحسه في مجرى شعوره الواعي؛ إنها أقرب إلى وقفة هوسرل في تعقبه لظواهر الوعي عند إدراكه لما يدركه، تعقبا يهتم بوقع الشيء المدرك في جملته، منها إلى وقفة ديكارت في رده الإدراك إلى بسائط الحدس، أو وقفة هيوم في رجوعه بالإدراك إلى معطيات الحواس؛ لا، ليس هو تحليلا وتشريحا ما أقصد إليه بهذه الصفحات، لكنه الأثر الذي يخرج به المتفرج بعد مسرحية شهدها لتوه، وانصرف إلى داره يستعيد الصوت واللون والحركة، وكيف كان وقعها على بصره وسمعه.
ومن يكتب عن الماضي أحد رجلين: فإما هو رجل تعمد نسيان عصره وخبرته وأفكاره، ليكر راجعا إلى العصر الذي أراد الكتابة عنه، منخرطا في أهله كأنه واحد منهم، ينظر إلى الأمور بعين كعيونهم، ويقوم الأشياء بمعيار هو نفسه معيارهم، التماسا للإنصاف؛ وذلك لأن الناس في زمن لا يطالبون بالعيش في زمن آخر لم يئن أوانه بعد، وإما هو رجل يحمل معه خبرته كلها وأفكاره كلها وظروف عصره هو؛ ليرجع إلى العصر الذي أراد الكتابة عنه، لا كتابة رجل يريد إنصاف الناس بحكمه على مواقفهم من شئون دنياهم، فيلبس لبوسهم ويحكم بأخلاقهم على سلوكهم، بل كتابة رجل يريد أن ينتفع في عصره القائم بما عساه واجده من خير عند الأسلاف، فسواء كان للأقدمين أعذارهم فيما قالوه وفعلوه أو لم يكن، فليس هذا من شأن صاحبنا هذا، وإنما هو كالوسيط في عالم التجارة، يبحث عند المنتجين عن السلعة التي يستطيع بيعها لزبائنه، فقد يغض نظره عن الجيد إذا علم أن ليس عنده من يشتريه، ويسعى وراء الرديء؛ لأنه السلعة الرائجة في سوق بيعه، بل إنه عند النظر إلى السلع المعروضة لا يكاد يفهم ماذا تعني الجودة والرداءة؛ لأن الجودة والرداءة ليستا موضع نظره في هذه الحالة، إنما موضع نظره هو ماذا ينفع الناس في بلده، وماذا لا ينفعهم.
ولست هنا أفاضل بين الرجلين؛ فلكل منهما وجهة نظر ترتب عليها أسلوبه في البحث، وكل أسلوب يبحث به صاحبه عن غايته هو أسلوب صحيح إذا انتهى بصاحبه إلى تلك الغاية، فلا صواب هنا ولا خطأ إلا بالقياس إلى ما يبتغيه الباحث، وإني لأقرر عن نفسي أنني حين هممت بهذه الرحلة في دنيا تراثنا الفكري، لم أجعل غايتي تقويم ذلك التراث، ومن أكون حتى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم لتراث كان بالفعل أساسا لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتي شيئا آخر، أظنه من حقي إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكري عما يجوز لعصرنا الحاضر أن يعيده إلى الحياة ليكون بين مقومات عيشه ومكونات وجهة نظره، وبهذا يرتبط الحاضر بذلك الجزء من الماضي الذي يصلح للدخول في النسيج الحي لعصرنا الذي يحتوينا راضين به أو مرغمين.
7
صفحة غير معروفة
عدت إذن بكل أحمال عصري على كتفي وفي شراييني وأعصابي، لأجدني قد وقفت أول ما وقفت عند هذه المعركة التي نشبت على الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان؛ وقفت أنظر وأسمع، يأخذني العجب مرة والإعجاب مرة؛ ذلك أني وجدت بين ما أراه وما أسمعه كثيرا مما يستحيل أن أجد له مكانا في ثقافتي العامة مهما حاولت إقحامه عليها، وكثيرا آخر مما تتقبله هذه الثقافة نفسها وتتمثله كأنه أصل أصيل من بنائها.
وكان أميز ما يميز الموقف كله عندي، هو أنه مصطبغ في جملته بشيء من الإدراك الفطري المباشر، الذي يصدر أحكامه بغير لجوء إلى تحليل وبرهان، وإذن فهو مثل جيد لصدق ما زعمته في الفصل السابق من هذا الكتاب، وهو أن أولى مراحل الطريق متسمة بضرب من عفوية النظر، ترى الفكر فيها وكأنه الومضات التي تلمع، لا تدري كيف جاءت، لكنها - على كل حال - تضيء وتهدي.
وماذا تقول في موقف امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسة، امتزاجا لا تستطيع معه أن تستل عنصرا منها لتقيمه وحده بعيدا عن سائر العناصر؛ فرجل السياسة هنا يرسل الرأي في عبارة مصقولة بحس الأديب، والأديب هنا يصوغ العبارة بحكمة الفيلسوف، والفيلسوف هنا ينتزع الحكمة ببديهته الصافية والسيف في يده وعنان جواده في قبضته؛ فهو الأديب الذي جادت عبارته إن شئت، وهو الفيلسوف الذي نفذت بصيرته إن شئت، وهو الفارس الباسل المقدام المدرب على القتال إن شئت، ثم هو السياسي البارع بحيلته في حل ما تعقد من الأمر إن شئت؛ لأنه كل هذه الأشياء معا وفي آن.
ولنقف - في هذا الصدد - وقفة عند الإمام علي رضي الله عنه؛ لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة، وفروسية وسياسة؛ ليكون وحده شاهدا على ما قد زعمناه عن الروح التي تميز بها القرن السابع (الأول الهجري)، ومن هذا القطب سنظل نتجه بأبصارنا إلى يمين وإلى يسار، لنلم بلمحات من أبطال ذلك الموقف الذي نحن واقفون الآن بإزائه، وعندئذ سوف تتكامل بين أيدينا قطعة من نسيج حي، هو هو حياة السلف في تلك الفترة من زمانهم، وهو هو ثقافتهم ووجهة أنظارهم، فإذا رأينا في أنفسنا - وهي ممتلئة ما تزال بزادها الفكري من عصرنا - إذا رأينا فيها ميلا إلى جانب من المشهد دون جانب، كان ما تميل إليه أقرب إلى عصرنا، وبالتالي فهو أيسر مأخذا وأولى بأن يبعث حيا في زماننا.
ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970-1016م) وأطلق عليها «نهج البلاغة»، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رءوس عامة تجمعها، وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله، والعالم، والإنسان، وإذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقا يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثرا في دواعيه وظروفه.
على أن حرفتي - وهي الأستاذية في الفلسفة - تقتضيني هنا ألا أرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد، فأقول - لأنبه القارئ إلى تمييز هام ومفيد - إن الفلسفة إنما تجيء على أحد وجهين، كثيرا ما يسمى أحدهما «بالحكمة» ليقتصر لفظ «الفلسفة» على الوجه الآخر، أما أول هذين الوجهين فهو ذلك الضرب من القول النافذ إلى صميم الحق، لكنه صادر عن تجربة شخصية فردية حيوية عند قائله؛ ولذلك فهو أقرب إلى التعبير الأدبي منه إلى التجريد الرياضي الذي نعرفه في النوع الثاني، ولك أن تقارن - مثلا - بين كونفوشيوس أو بوذا من ناحية، وأفلاطون أو أرسطو من ناحية أخرى، فعندئذ ترى في الحالة الأولى خبرة شخصية فريدة نابضة بحياة صاحبها، وترى في الحالة الثانية تعميمات مجردة قريبة من معادلات الجبر وأشكال الهندسة، لا تكاد تلمح فيها أثرا من حياة صاحبها الحميمة، ومن الضرب الأول - ضرب الحكمة - كان الإمام علي في ومضاته الفكرية.
لقد عرفت «نهج البلاغة» في صدر الصبا، بل لعل الصواب هو أني عرفته في أطراف الصبا الأولى، وبقيت منه نغمات في الأذن، ثم أخذت أسمع بعد ذلك - كلما لمع خطيب على منابر السياسة - قول الناس تعليقا على بلاغة الخطيب: لقد قرأ نهج البلاغة وامتلأ بفصاحته، وها أنا ذا أعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات قد ازدادت في الأذنين حلاوة، وإذا العبارات كأنها أضافت طلاوة إلى طلاوة، وأما محصول المعنى فلا أدري كيف انكمش أحيانا وراء زخرفه الكثيف.
كلا، لست أعني بزخرف الكلام هنا طلاء يزين به ليخفى على الناس هزاله، بل أعني طريقة في اختيار اللفظ الصلب العنيد، الذي لا يقوى على تشكيله إلا إزميل تحركه يد صناع، وكان يمكن للمعنى نفسه أن يساق في لفظ أيسر منالا، فصنعة الفنان هنا شبيهة بصنعة المثال في الحضارة المصرية القديمة؛ يتخير لتماثيله صم الجلاميد، فكأنما الكاتب هنا كالنحات هناك، أراد عملا أقوى من الدهر دواما وخلودا، لكنني مع ذلك كله أحسست في كثير من مواضع «النهج» أن صلابة اللفظ تهيئني لاستجماع قوتي كلها قبل أن أهم بحمل المعنى الذي قدرت له أن يتناسب مع لفظه قوة، فإذا قوتي التي استجمعتها لم يستنفد منها إلا أقلها، وذهب معظمها هباء.
اقرأ - مثلا - خطبته التي قالها يوم بويع في المدينة، وفيها يخبر الناس بما سوف تئول إليه أحوالهم: «ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه
صلى الله عليه وسلم ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا ... ألا وإن الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل ، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة؛ حق وباطل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق فلربما ولعل، ولقلما أدبر شيء فأقبل.»
صفحة غير معروفة
هذا مثل أسوقه، وإني لأدعو القارئ أن يتخيل نفسه كما لو كان واحدا من أهل المدينة آنذاك، وجلس مع الجالسين ليستمع لأمير المؤمنين يوم بيعته، فبأي معنى راسخ يترك مكانه بعد أن سمع الخطاب؟ إن اللفظ هنا - بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا العصر - قد نحت من حجر صوان، وصف بعضه إلى بعض صفا عجيبا، فإذا استمعنا إليه، خيل إلينا أنه قد قصد لذاته لا ليلفت السمع إلى معنى وراءه، فترانا قد شغلنا به هو، نعجب لقوته وبراعة تركيبه، لكننا لا نكاد ننفذ منه إلى شيء وراءه.
ليس هذا نقدا لبلاغة «النهج»؛ فبلاغته مقطوع بها، لكنني أردت الإشارة إلى الاختلاف البعيد بين ثقافتين؛ ثقافتنا اليوم، وثقافتهم بالأمس، كانت صياغة اللفظ عندهم هي الهدف وهي الوسيلة، فإذا أجاد صائغ الكلام صوغ كلامه فقد فرغ من مهمته، وأما اليوم فقد حلت - أو كان ينبغي أن تحل - محل الصياغة اللفظية المحكمة، صياغة رياضية محكمة لقانون علمي يمكن استخدامه في تسيير مركبة أو استنبات زرع أو تحلية ماء من البحر الأجاج.
وحذار أن نخلط هنا أمرا بأمر، إننا لا نقول إن عليا - رضي الله عنه - كان ينبغي له يوم بويع أن يقدم للناس برنامجا قوامه تخطيط علمي بني على صيغ رياضية دقيقة، بل نقول: إن فكر المفكر هنا قد اعتمد على بداهة الفطرة، ولا بد أن يكون معيار النبوغ عندئذ بين الناس هو حظ الرجل من تلك البداهة الفطرية، ولما كانت عبقرية العرب الأصيلة في لسانها، كان نبوغ النابغ مشروطا عندهم بالقدرة على الصياغة اللفظية، أما وقد تبدل العصر غير العصر، وتغير المعيار حتى أصبح النابغ يقاس بالقدرة على الصياغة الرياضية للقوانين العلمية، فلم يعد ذلك الجانب من تراثنا مطلوبا لحياتنا، دون أن يحد ذلك مقدار شعرة من قيمته الفنية الأثرية، أئذا أعجبتني عمارة الهياكل في معابد المصريين القدماء، وراعتني فخامة بنائها وشموخ عمدها وجبت علي عبادتهم وصلاتهم؟!
8
على أن بلاغة «النهج» وحكمته، لم يكونا إلا خيطين من رقعة متشابكة الخيوط هي التي أردنا تصويرها؛ لنصور بها رؤيتنا للمرحلة الأولى من مراحل العقل على طريق تراثنا الفكري، وأما ما قصدت إليه من هذه الرقعة المتشابكة الخيوط فهو أول صراع دار حول الخلافة، بين علي ومعاوية، لنرى بأعيننا مشهدا تجسد فيه تراثنا من نواح كثيرة، فهو مشهد اجتمعت فيه فصاحة العرب إلى شجاعتهم، كما ظهرت فيه أساليب الدهاة من ساستهم، وثبتت فيه بذور أولى لأفكار سياسية ومذهبية، كان لها بعد ذلك أقوى الأثر في توجيه التيارات الفكرية، وكل خيط في هذه الرقعة التي تشابكت خيوطها هو «تراث»، فإذا أحسسنا نحن المشاهدين استحسانا هنا ونفورا هناك، إذا أيدنا رجلا ضد رجل، وفكرة على حساب فكرة، كان ذلك دليلا أقوى الدليل على أن بعض التراث صالح لنا دون بعض، وأن طلاسم السحر التي أحطنا بها كلمة «التراث» حتى أوشكت على التقديس، يجب أن تفك لتبصر عيوننا أين ما يصلح من التراث لنحييه وأين ما لا يصلح لحياتنا فنوكل أمره إلى رجال التاريخ.
ونبدأ القصة من بدايتها فنقول: إنه بعد أن بويع علي في المدينة بعد مقتل عثمان، رفض العثمانية (أتباع عثمان) تأييد البيعة، وما هو إلا أن أخذ رجل منهم أصابع نائلة (امرأة عثمان) التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه، وقصد إلى الشام، حيث كانت ولاية البلاد لمعاوية، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا، وأرادوا الثأر لعثمان. وكان كلما رفع معاوية القميص والأصابع، وفتر الناس عن طلب الثأر، حرضه عمرو بن العاص أن يعيد القميص والأصابع إلى الأنظار، قائلا له: حرك لها حوارها تحن، فيعلقها.
وهكذا بقي أهل الشام، بولاية معاوية، على قلق استبد بهم، يرفضون أن يبايع للمؤمنين أمير بعد عثمان، إلا إذا أخذ القصاص من قتلته، وقد حدث أن بويع علي في المدينة، فبعث بمن يتولى إمارة الشام، لكن هذا المبعوث لم يكد يدخل أرض الشام حتى اعترضته جماعة من الفرسان من أتباع معاوية.
قالوا: من أنت؟
قال: أمير.
قالوا: على أي شيء؟
صفحة غير معروفة
قال: على الشام.
قالوا: إن كان بعثك عثمان فأهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.
قال: أوما سمعتم بالذي كان؟
قالوا: بلى.
رفض أهل الشام تحت إمرة معاوية بيعة علي، وعاد مبعوثه إليه ينبئه بما حدث، فرأي علي كأنما فتنة كالنار على وشك أن تلتهب، لكنه أمسك إلى حين، وأرسل رسولا إلى معاوية يطلب منه الطاعة، فاستخف معاوية أمر الرسول، وتمهل، ثم أرسل بدوره رسولا إلى علي، ودفع إليه طومارا مختوما عنوانه: من معاوية إلى علي، وأعاد رسول علي معه، وقد أوصى معاوية رسوله أنه إذا دخل المدينة رفع الطومار ليراه الناس، وقد فعل، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض على بيعة علي، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتابا.
قال علي: ما وراءك؟
أجاب: آمن أنا؟
قال علي: نعم، إن الرسول لا يقتل.
قال: ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالثأر.
قال علي: ممن؟
صفحة غير معروفة
قال: من خيط رقبتك، لقد تركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق.
قال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله؛ فإنه إذا أراد أمرا أصابه، اخرج!
قال: وأنا آمن؟
قال علي: وأنت آمن (راجع الكامل لابن الأثير، ج3).
ورأى علي أن لا مفر من القتال مع معاوية، فما إن فرغ من حربه مع عائشة وطلحة والزبير في وقعة الجمل عند البصرة، وقد كان هؤلاء خرجوا على بيعته، حتى انصرف إلى الكوفة لينظر في أمر معاوية، يرسل إليه الرسل أولا؛ ليرى ماذا يكون من أمره قبل أن يغامر في قتاله، فلما قدم رسول علي على معاوية، ماطله هذا واستنظره، ثم قرر أن يتأهب للقتال، ملزما عليا دم عثمان؛ بدعوى أن عليا قد آوى القاتلين.
كان الرجل الذي يشير على معاوية ماذا يفعل وماذا يقول وكيف يكيد، هو عمرو بن العاص، هذا السياسي الداهية، الذي كان فيما يفعل ساعيا لدنياه دون آخرته، ولقد قالها صراحة مرتين؛ قالها مرة لولديه إذ هم في طريقهم إلى دمشق بعد بيعة علي، وقالها مرة أخرى لمعاوية حين لقيه في دمشق فأعرض عنه معاوية، فواجهه عمرو بالعتاب: «والله لعجب لك! إنني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أرادنا هذه الدنيا»، وإني لحريص على أن يلتفت القارئ إلى عمرو في هذا الموقف بكل ما اكتنفه من مكيدة وتدبير، وأن يذكر منذ الآن أن عمرا هذا، في موقفه هذا، هو جزء من تراثنا، كما أن عليا جزء آخر، ومعاوية جزء ثالث، فلئن كان أحد الثلاثة تسيره خشية الله بما تستلزمه هذه الخشية من مثل عليا في النوايا والسلوك، فاثنان تسيرهما الرغبة في الدنيا وما فيها من جاه وسلطان.
ولن نضيع وقت القارئ في ذكر تفصيلات وقعة صفين بين الفريقين؛ فذكرها تمتلئ به كتب التاريخ، وما إلى كتابة التاريخ قصدنا، ولسنا من رجاله، وإنما نذكر ما نذكره هنا لنضع العناصر الأساسية لصورة كانت هي الإطار الذي تجسد فيه الطابع الذي يميز الفكر العربي في أولى مراحله، وأعني الركون إلى حكم الفطرة بغير تدليل ولا تحليل ولا برهان، وهي صورة - كما أسلفنا القول - امتزج فيها الأدب بالحكمة، ثم امتزج هذان معا بفروسية وسياسة.
بحث علي لعسكره عن موضع ينزل فيه بحيث يتمكنون من ماء الفرات، لكن معاوية كان قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح، وأخذ شريعة الفرات، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيزه، فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا، فأتوا عليا فأخبروه بعطش جنوده، ولا ماء إلا ما كان في حوزة معاوية ورجاله، وأشار المشيرون على معاوية ألا يخلي بين عسكر علي وبين الماء حتى يموتوا عطشا: «امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، اقتلهم عطشا قتلهم الله!»
لم يكن عندئذ بد أمام رجال علي من القتال في سبيل الماء أولا، وألقى علي في ذلك خطبة يقوي بها عزيمة رجاله، جاء فيها: «رووا السيوف من الدماء، ترووا من الماء؛ فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين، ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية.»
بدأ القتال بين الفريقين؛ أهل العراق تحت راية علي في ناحية، وأهل الشام بإمرة معاوية في ناحية أخرى، وإنهم ليقتتلون آنا، ثم يتبادلون الرسل آنا، في مبارزات ومحاورات شهدت ضروبا أسطورية من الفروسية، ونماذج رائعة من الأدب، ولا بأس هنا من الوقوف بالقارئ لحظة لنعرض عليه أمثلة من حوارهم البليغ، الذي كانت عبارته تنطوي على سياسة بارعة ودهاء (راجع ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج1).
صفحة غير معروفة
فلما حل شهر المحرم من سنة سبع وثلاثين للهجرة، جرت موادعة بين علي ومعاوية؛ توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم؛ طمعا في الصلح، واختلفت بينهما إبان تلك الفترة الرسل؛ من هؤلاء كان عدي بن حاتم مبعوثا من علي فجرى بينه وبين معاوية حوار هذا بعضه:
عدي :
إنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء، ونصلح ذات البين؛ إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل!
معاوية :
كأنك إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا ... لقد دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما لطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد عليه ذلك، فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقلتهم، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
وبعث معاوية بدوره إلى علي حبيب بن مسلمة:
حبيب :
إن عثمان كان خليفة مهديا، يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولونه من أجمعوا عليه.
علي :
ما أنت وهذا الأمر؟ اسكت؛ فإنك لست هناك، ولا بأهل له.
صفحة غير معروفة
حبيب :
والله لتريني بحيث تكره!
علي :
وما أنت؟! لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا! اذهب فصوب وصعد ما بدا لك!
فلما انسلخ شهر المحرم، خرج معاوية وعمرو بن العاص، يكتبان الكتائب ويعبئان الناس، وكذلك فعل علي أمير المؤمنين، وقد أوصى جنوده بهذه الوصية الآتية التي اجتمع فيها خلق الإسلام في أرفع مداركه: «لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم؛ فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ...»
وبعد قتال فيه المبارزة بين قرن وقرنه، وفيه اللقاء بين جماعة وجماعة، لاحت لمعاوية وعمرو الدلائل القاطعة بأن الهزيمة لاحقة بهما، فعدلا عن القراع إلى الخداع، ولا عجب، فهنالك كان الرأي لعمرو بن العاص، الذي ورد في نهج البلاغة قول ابن أبي طالب فيه: «... إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإل (الإل: القرابة، وقطع الإل هو قطع الرحم)، فإذا كان عند الحرب، فأي زاجر وآمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته (يولي الأدبار)، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أتية (الأتية: العطية).»
نقول: إنه لما لاحت علامة الهزيمة لمعاوية وعمرو، وأشار عمرو على سيده باللجوء إلى الخديعة، خرج رجل من أهل الشام فنادى: يا أبا الحسن، يا علي، ابرز إلي! فخرج إليه علي.
الرجل :
إن لك يا علي لقدما في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك، يكون فيه حقن هذه الدماء؟
علي :
صفحة غير معروفة
وما هو؟
الرجل :
ترجع إلى عراقك، فنخلي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا، فتخلي بيننا وبين الشام.
علي : ... إن الله - تعالى ذكره - لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم.
أيقن معاوية أن قد سدت أمامه المسالك، فسأل عمرو بن العاص ماذا يرى ولم يعد من الهزيمة مهرب؟ فأجابه السياسي الداهية، الذي لم يتورع - كما قال عنه علي في عبارته التي أسلفناها - أن يقيم سياسته على خداع:
عمرو :
إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله؛ هو يقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم، ولكن ألق إلى القوم أمرا: إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا؛ ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم؛ فإنك بالغ به حاجتك في القوم.
معاوية :
صدقت.
فما هو حتى أصبح الصباح، فإذا الناس يرون المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح، وقد استقبلوا عليا بمائة مصحف، وميمنة جيشه بمائتي مصحف، وميسرته بمائتين فكان عدد المصاحف المرفوعة على أسنة الرماح خمسمائة، ثم قام المنادون ينادون في علي وجيشه: يا معشر العرب! الله الله في النساء والبنات والأبناء، من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم! الله الله في دينكم! هذا كتاب الله بيننا وبينكم!
صفحة غير معروفة
فحدث ما توقعه عمرو بن العاص، وهو أن دب بين جماعة علي دبيب الخلاف، فأما علي نفسه، فابتهل إلى ربه قائلا: «اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنك أنت الحكم الحق المبين»، وأما أصحاب علي فطائفة منهم قالت: القتال، وطائفة أخرى قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب - وعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها.
9
وفي خليط شديد من الحركة والصوت، أخذت صيحات الرجال تعلو من كل جانب ، تدعو إلى الموادعة، فخطب علي في الناس ليردهم إلى صواب: «أيها الناس! إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص ومن معهما ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا، فكانوا شر صغار، وشر رجال، ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها باطل! إنهم ما رفعوها لأنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة؛ فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.»
فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا، مقنعين في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود - وبعض هؤلاء هم الذين صاروا خوارج فيما بعد - فنادوا عليا باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي! أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم!
فقال لهم: ويحكم! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
وكان قائد من قواد علي ساعتئذ في قلب معركة مع جند معاوية، وهو الأشتر، وقد أوشك على نصر حاسم، فأصر هذا الفريق الداعي إلى التحكيم، أن يبعث علي في طلب الأشتر من موقعه من ميدان القتال، فأرسل علي رسولا ليأتيه بالأشتر فقال الأشتر للرسول: قل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
ولم يكد الرسول يبلغ مكان علي ليبلغه إجابة الأشتر، حتى علت أصوات المعركة، وبدا الأمر كأنما الشتر بجيشه قد ظفر بالنصر، فأحاط المعارضون بأمير المؤمنين:
قالوا: والله ما نراك أمرته إلا بالقتال.
قال: أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون؟!
قالوا: فابعث إليه فليأتك ، وإلا فوالله اعتزلناك ، فبعث علي مرة أخرى برسول يحمل الأشتر على ترك المعركة والحضور إليه، وعلى مضض استجاب الأشتر، ولم يكد يبلغ مكان أمير المؤمنين ومن التفوا به يعارضون المضي في القتال، حتى صاح في غضب: يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم! ... أمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت في النصر.
صفحة غير معروفة
قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.
قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟! فأنتم الآن حين أمستكم عن قتالهم مبطلون! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون؟! فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم، وأنهم خير منكم، في النار.
قالوا: دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله، وندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا.
قال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى لقاء الله! فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ...
فسبوه وسبهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم، ثم كفوا جميعا لما أمرهم علي أن يكفوا، وأطرق هو لحظة إلى الأرض، ثم قال في الناس معاتبا: أيها الناس! إن أمري لم يزل معكم على ما أحب، إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوكم فلم تترك، وإنها فيهم أنكى وأنهك، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
وبعد أخذ ورد بين أنصار علي، ثم بعد تبادل الرسائل بين علي ومعاوية، اتفق الجميع على مبدأ تحكيم القرآن فيما هم فيه، فبعث علي قراء من أهل العراق، وبعث معاوية قراء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف، فنظروا فيه وتدارسوا واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، ويميتوا ما أمات القرآن ، ورجع كل فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص، وأما أهل العراق، ومنهم كان جيش علي (وهم الذين كانت منهم الفئة التي صارت خوارج فيما بعد) فقالوا: لقد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري.
وها هنا حاول علي أن يحمل رجاله الذين اختاروا أبا موسى الأشعري ليتكلم عنهم، على أن يعدلوا عن اختيارهم هذا، وأخذ يعرض عليهم اسما بعد اسم؛ لعلهم يوافقون، لكنهم أصروا على اختيارهم.
واجتمع الموفدان، وأخذا في كتابة الوثيقة التي يكون عليها الموادعة بين الفريقين، فاقترح أن تبدأ هكذا: «هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان ...»
فقال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!
وقال عمرو بن العاص: بل نكتب اسمه واسم أبيه، إنما هو أميركم، فأما أميرنا فلا.
صفحة غير معروفة
ثم انتهت المجادلة بتنازل علي عن ذكر إمرته في الوثيقة، فجاءت آخر الأمر هكذا: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ...»
فلما تم الكتاب، وشهدت فيه الشهود، قرئ على صفوف من أهل الشام فرضوا به، لكنه لما قرئ على صفوف من جماعة علي، صاح منهم فتيان قائلين: «لا حكم إلا لله» ... وما لبثت هذه العبارة أن سرت في سائر الصفوف، فلم يعد يخلو صف منها من قائل أو أكثر، يصيحون: لا حكم إلا لله، فنحن لا نحكم الرجال في دين الله، لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، لا حكم إلا لله، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.
وظن علي أول الأمر أن المعارضين لوثيقة الموادعة، القائلين «لا حكم إلا لله»، قليلون لا يعبأ بهم، فما هو إلا أن سمع النداء يأتيه من كل ناحية: لا حكم إلا لله، الحكم لله يا علي لا لك! لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم، وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا زللنا وخطؤنا، فرجعنا إلى الله وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا، وتب إلى الله كما تبنا، وإلا برئنا منك!
فقال علي: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟!
كان هؤلاء هم من أطلق عليهم بعد ذلك اسم «الخوارج»؛ على أن فئة الخوارج هذه لم تكد تعلن خروجها على التحكيم، حتى انقلبت فيما بعد تيارا سياسيا عميقا، أخذ يتفرع فروعا.
ونعود إلى عملية التحكيم كيف سارت، وإلام انتهت؛ فقد أخذ الحكمان يتقارعان الرأي بالرأي على مسمع من الناس، وشاء دهاء عمرو بن العاص أن يقدم أبا موسى على نفسه في الكلام؛ تمهيدا لمكيدة يدبرها، فيقول له مثلا: إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه قبلي، وأنت أكبر مني سنا، فتكلم أنت، وكان مرمى الخديعة هو أنه إذا ما جاءت لحظة الخلع، فيعلن كل منهما خلع صاحبه، تكون البداية لأبي موسى، فيخلع صاحبه عليا، ثم يجيء دور الكلام لعمرو، فيأبى ... وذلك هو ما حدث.
عمرو :
أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟
أبو موسى :
أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا.
صفحة غير معروفة