المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

زكي نجيب محمود ت. 1414 هجري
137

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

تصانيف

إذا سألك سائل عن نفسه وحاله وما يصيبه ... وإن سألك عن دوام ما هو فيه ... هكذا يفصلون لك مواقف الحيرة والسؤال وطرائق النظر إلى النجوم لإيجاد الحلول: «إذا سئلت عن عمر إنسان فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن كان بيت الحياة قد انصرف عنه كوكب، فإن الكوكب الذي يتصل به القمر يدل على ما بقي من عمره ... وإذا سألك سائل هل يصيب مالا؟ وكم مقدار ما يصيب؟ ومئات الأسئلة التي من هذا القبيل، يجاب عنها بالنظر إلى أجرام السماء! لماذا؟ وكيف؟ إن أساس الفكرة عندهم هي أن الإنسان عالم صغير يتأثر بالكون الذي هو العالم الكبير، ولكنه لا يؤثر فيه، «وعلم النجوم علم واسع، وهو علم العالم الأعلى السماوي الحاكم للعالم الأرضي، فذلك عالم علوي كبير وهذا عالم صغير سفلي ... وأفعال العالم الكبير تظهر في العالم الصغير، والعالم الصغير ليس له فعل يظهر في العالم الكبير»» (ص367). «واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن من أحسن ما وصل الناس إليه من هذه الصناعة وأجل معارفها، أن يعلموا كيفية أحوال الملوك والسلاطين وولاة الأمور والعهود والأمراء والقواد وولاة الحروب والوزراء والكتاب والعمال والقهارمة، وابتداءات الدول وعواقبها ومدة أعمار المواليد ومواليدها، وما يظهر منهم في الأزمنة ويعلمونه في الأمكنة، فإن ذلك من العلوم المخزونة والأسرار المكنونة والأخبار المدفونة، مما استخرجتها الحكماء وعلمتها العلماء، بما قد وقفوا عليه ووصلوا إليه من أخبار السماء بالوحي والإلهام وصدق الرؤيا» (ص369). بعبارة أخرى، فكأنهم يريدون القول بأن علم النجوم والرؤيا وما إليهما تكفينا عن كل علم وكل بحث عن حقائق العالمين! أفتريد مثلا دالا على اللامعقول خيرا من هذا المثل؟

ونعيد هنا إلى ذاكرة القارئ ما قد أسلفناه منذ حين، وهو أنه واجد عند إخوان الصفا - ونحن نتخذهم نموذجا للنظر في تراث الأسلاف - مزيجا عجيبا من المعقول واللامعقول، وكأن الضربين عندهم على درجة سواء، فانظر إليهم كيف يقولون - بعد أن أفاضوا في الحديث عما يستطيعه العارف بعلم النجوم من الكشف عن الغيب المخبوء - انظر إليهم كيف يقولون في فقرة واحدة - سننقل الآن بعضها إليك - إن قدرة الإنسان على معرفة الأحداث، ماضيها وحاضرها ومستقبلها جميعا، إنما تستند إلى معرفة الإنسان لمجموعة العلوم مضافا إليها صفات خلقية ومهارات عملية، وليس علم النجوم وحده، وخصوصا إذا فهم على نحو ما يفهمه العامة، بكاف لأحد، يقولون في الفقرة التي أشرت إليها (ص386-387) ما يأتي: «... إن جميع ما يحدث في العالم البشري، والخلق الأرضي، بتدبير فلكي وأمر سماوي؛ إذ كان العالم السلفي مربوطا بالعالم العلوي في جميع أموره وأحواله (إلى هنا والنظرة أساسها اللاعقل واللاعلم لكنهم يستطردون فيقولون): إن فضيلة العلم هي الموجبة للإنسان اسم الإنسانية التي يتهيأ له بها الوصول إلى الصورة الملكية والرتبة السماوية والعلم بالأمور الغائبة عن العيان، والمتقدمة بالزمان ، والمستقبلة الكيان، هي من أشرف العلوم وأجلها، ومعرفة ذلك تكون بعد الحذق بالصنائع كلها والتمهر فيها، وطيبة النفوس وسلامة القلب، والتسليم لما يكون، وقلة الجزع والخوف بما لا بد منه ...» فبماذا نوجه أنفسنا في عصرنا العلمي هذا الذي نعيشه، أو الذي - على الأصح - نود أن نعيشه مع سائر أهله، إذا لم نؤسس توجيهنا على هذا المبدأ الذي تلخصه العبارة الأخيرة من أقوال إخوان الصفا؟ فالإنسان - كما يقولون - إنسان بمقدار ما يحصله من علم ومن مهارة عملية، ثم من خلق يشمل الإخلاص في العمل والشجاعة في مواجهة الحياة ومشكلاتها، وبعدئذ يمضي الكاتبون الإخوان في حديثهم فيقولون - تأييدا لنظرتهم العلمية الصحيحة التي نريد تخليصها من خرافة السحر - يقولون: «لعل كثيرا ممن يقف على رسائلنا هذه، يظن أن مرادنا في وضعها هو تعليم علم النجوم، ولعمري إن ذلك من أحد أغراضنا فيها (لاحظ أن علم النجوم عندهم في هذا السياق هو جزء من غرض واحد بين أغراض أخرى كثيرة، يقصدون إليها عندما يوجهون دعوتهم إلى تحصيل العلم)؛ لأننا نحب لإخواننا - أيدهم الله - أن يقفوا على جميع العلوم ويتعلموها ولا يجهلوها، إذا كان مذهبهم (لعلهم يريدون: إذ كان مذهبنا) هو النظر في جميع العلوم واستقراؤها كلها والإحاطة بمعرفة ظواهرها وبواطنها.»

غير أنهم ما كادوا يفرغون من كتابة الأسطر القليلة الماضية، حتى انتكسوا من جديد إلى الموقف اللاعقلي يساندونه؛ إذ ينتقلون إلى فصل جديد يبدءونه: «إذا أردت أن تعرف هل الحمل واحد أو اثنان، فانظر إلى الطالع ... إلخ، وإذا أردت أن تعرف متى تلد الحامل؛ ليلا أم نهارا؟ فانظر إلى الطالع ... إلخ، وإذا مات الجنين في بطن أمه، وخشي عليها في إخراجه الموت، وأرادوا إخراجه، فليخرجوه والقمر ناقص في الضوء هابط في الجنوب ... وإذا وقعت النطفة في الرحم، دبرها زحل في الشهر الأول، ودبرها المشتري في الشهر الثاني، ودبرها المريخ في الشهر الثالث فصيرها دما، وفي الشهر الرابع تنفخ الشمس فيها الحياة بإذن الله، وفي الشهر الخامس تركب فيه الزهرة التذكير والتأنيث، وفي الشهر السادس عطارد يصير فيها اللسان والأسنان، وفي الشهر السابع القمر يتم فيها الصورة، وإن ولد في تدبير القمر عاش، وإن تأخر رجع في الشهر الثامن إلى تدبير زحل، فإن ولد في الشهر الثامن - وهو لزحل - مات، وإن ولد في التاسع حين يعود التدبير إلى المشتري نجا بإذن الله، وكان منه ما قدر له أن يكون في حياته ... والوقوف على أسرار ذلك يكون بالزجر والكهانة» (ص390). فها هي ذي صورة كاملة يرسمونها للجنين منذ تقع نطفته في الرحم، إلى أن يولد ثم يحيا حياته التي قدرت له، والأمر فيها جميعا للنجوم، والطريق إلى معرفتها إنما هو علم النجوم!

ويأخذ «الإخوان» بلا ملل في ذكر عدد كبير من مواقف الحياة المغلقة على البشر إلا أن يستعينوا عليها بالسحر، وقد لا تكون تلك المواقف المستعان عليها بذات خطر يستوجب تمزيق النظام الكوني من أجله، كأن يشرحوا لك كيف تعلم ما في الكتاب قبل أن تفض ختامه، أو كيف تعلم إن كان من جاءك بخير قد صدقك القول أم كذب، ثم يقفون وقفة أطول عند الطريقة التي يستعان بالنجوم فيها على معرفة السارق في حالات السرقة، ويبدءون هذا الجزء من حديثهم بهذه القصة: «كان لنا صديق من فضلاء الناس وخيارهم من إخواننا، وكان يستعين في معيشته بصناعة النجوم، فحضرته يوما وقد جاءه رجل فجلس عنده وقال له: قد جئتك لتخبرني عما في نفسي. فأخذ الطالع وقومه وجود الحساب وأحسن العمل وصدق العلم وأصاب الحكم، فقال له: تسأل عن شيء سرق؟ قال: نعم، ما هو؟ فأخبره عن جنسه. فقال: كم هو؟ فأخبره عن كميته. فقال: فمن أخذه؟ وهل الآخذ ذكر أم أنثى، حر أم عبد؟ فذكره. فقال: كم سنه؟ فذكره. فقال: أين ذهب؟ فأخبره. فقال: كيف هو؟ فأعلمه . فمضى في طلبه ثم عاد وقد أصاب ...» (ص397).

ويطول بنا الحديث لو طفقنا ننقل عن «الإخوان» ما ذكروه وفصلوه من أمور السحر والتنجيم والتعزيم، فلنختم كلامنا عنهم في هذا الصدد بقصة رووها في آخر رسالتهم عن هذا الموضوع ، راجين أن يكون ما ذكرناه كافيا لرسم صورة عن وقفتهم اللاعقلية إزاء هذا الجانب من جوانب النظر:

في غضون حوار أجراه «الإخوان» المؤلفون بين حكيم وتلميذه، قال التلميذ للحكيم، بعد أن سمع كل ما سمعه عن أعاجيب السحر والتنجيم: «هل بقي في هذا الباب ما لم يأت عليه الشرح في هذا المعنى؟ فقال الحكيم: ليس قدر ما ذكرنا إلا كقدر قطرة من بحر، وإن في علم روحانيات الكواكب ومعانيها عجبا عجيبا، ومما شاهدت من عجب هذا العالم أني كنت بجزيرة «أوال» (وهي جزيرة بناحية البحرين)، وكان بها رجل من المتصلين بحبل الله، عالما بهذا العلم، فقصدته زائرا، فرأيت قوما من أهل البلد قد دخلوا عليه وشكوا إليه غمهم بمحبوس لهم قد حبسه أمير البلد في جناية جناها، قالوا: قد طرحنا أنفسنا على الوزير والحاجب وخواص الأمير، فلم ينفعنا ذلك، وقد بذلنا له من الرشوة بحسب طاقتنا فلم يقبل، وقد ذكر لنا عنه أنه قال: لا بد لي من قتله. فأطرق ذلك الفاضل إطراقة، ثم رفع رأسه وقال: الليلة في آخرها صاحبكم عندكم فامضوا ولا تشعروا أحدا بما ألقيته إليكم. فخرج القوم من عنده فقلت له - على طريق الملاعبة: قد أوحي إليك أن الأمير الليلة يطلق هذا المحبوس؟ قال لي: سوف ترى! فقلت: ولا يجوز أن يطلقه غدا؟! فقال: إن تأخر إطلاقه الليلة لم يصح إطلاقه إلى ستة أشهر وكسر، وإنما قد اتفق سعادة لهذا المحبوس أن جاءني هؤلاء القوم في هذا اليوم.

واشتغل بحديث آخر، وخرجت من عنده، فلما كان من الغد أتيته مسلما، فوجدت القوم الذين جاءوه بالأمس قد سبقوني إلى عنده وهم شاكرون له بما بشرهم به من تخلية المحبوس، ويسألونه عن عمله بذلك، فقال لهم: الطالع الذي دخلتم به شهد أن محبوسكم في هذه الليلة يطلق، ولم يكشف لهم عن حقيقة الأمر.

ورأيت غلاما شابا مصفر اللون قد نهكه الحبس والقيد، فأقبل الشيخ على الشاب فقال له: حدث هذا الرجل كيف خلاك الأمير البارحة، فالتفت إلي الشاب الذي كان محبوسا، فقال: إني كنت محبوسا في المطمورة مطروحا، وأنا مكبل بالحديد، وقد هددني السجان في آخر يوم أمس، وقال: إن الأمير قد أنفذ بأن يحمل إليه قوم قطعوا الطريق، وإنه ينتظر أولئك، وإنه يصلبك في جملتهم. ذكر لي هذا عند اصفرار الشمس، فبكيت طول ليلي، ولم يحملني النوم أصلا، فبينا أنا كذلك - وقد عبر من الليل النصف الأول - إذ سمعت حركة شديدة، وباب المطمورة يفتح، ففزعت وشلت رأسي إلى السماء مستعينا بالله تعالى، وإذا الجماعة من الخدم قد نزلوا، وحملني أحدهم بحديدي، فأدخلت على الأمير، فإذا به قائم، فلما رآني قال: حطوه برفق. واستدعى من فك الحديد عني، وسألني أن أجعله في حل مما فعل بي، وأمر بأن أجعل في جملة خدمه، وأثبت لي رزقا جاريا مع خاصته، وأفرج عني، وهذه حالي.

وقاموا فخرجوا من عنده، فجددت السؤال للشيخ، ورغبت إليه أن يعلمني السبب في تخليته؛ إذ لم يقل لهم إنه سيخلي الليلة عن غير فائدة، فقال: لا يمكنني أن أخبرك في هذا اليوم، فإن صبرت ثمانية وعشرين يوما أعلمتك. فقلت له: إني من الصابرين. فلما انقضت الأيام جددت السؤال، فقال: هؤلاء القوم الذين جاءوا حدثوني بحديث المحبوس، قوم أخيار يلتزمني أمرهم، ورأيتهم مغمومين بهذا المحبوس، فقلت لهم ما قلت، ولما كان في تلك الليلة على ساعتين من الليل، تجردت وعملت نيرنج المريخ، وقصدت بالنيرنج الأمير والمحبوس، فأطلقه كما رأيت.

فقلت للشيخ: أحب أن تعلمني سبب إطلاقه له. فقال: سبب ذلك أن الأمير رأى فيما يرى النائم كأن قد دخل عليه رجل أشقر أزرق، على رأسه شعر، وهو مكشوف الرأس، وبيده سيف مجرد، يقول: إن لم تخل في هذه الساعة فلانا ابن فلان المحبوس عندك، وجاءت الليلة، قطعت رأسك بهذا السيف ! فكان هذا سبب التخلية له، فاستطرفت ذلك واستعظمته.»

صفحة غير معروفة