18
وواضح من هذا العرض المبسط تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية الفكرية بعامل واحد هو العامل الأخلاقي، وأن الحياة قبل المذهب الطبيعي كانت جنة وانقلبت بعد ظهوره إلى نار في ثنائية تطهرية بين الحق والباطل، الخير والشر، الصواب والخطأ، العلم والجهل. كما أنه ينكر أي ثورة تقوم على الظلم والجور، تلك الثورة التي لم تقم في عهد البراءة الأولى قبل الدنس والخطيئة في المذهب الطبيعي. كما أن نقد تطبيق حد السرقة على الضعيف وترك الشريف حديث عن الرسول. ولماذا الدفاع عن الملكية الخاصة والإسلام أقرب إلى الملكية العامة لما تعم به البلوى؛ كالماء والكلأ والنار! وما العيب في نقد التجارة وأخلاق التجار كما فعل ابن خلدون؟ وهل القتل وسيلة التعامل مع المفكرين؟ (3)
الأمة الإسلامية: جاءتها الشريعة، وعلمتها هذه العقائد والخصال، فبسطوا سلطانهم على الأمم في الشرق والغرب، كسرى وقيصر. والباقي دفع الجزية. ثم ظهر الطبيعيون في القرن الرابع بمصر تحت اسم الباطنية وخزانة الأسرار الإلهية، وانبثوا في كل أرجاء العالم الإسلامي خاصة في إيران. ودلسوا على المسلمين عن طريق إثارة الشك في القلوب حتى يضعف الإيمان، والإقبال على الشاك في حيرته ليمنوه بالنجاة وهدايته، وخداعه بدعاتهم للتشكيك في الشريعة بأن لها ظاهرا وباطنا، الظاهر للمحجوبين والباطن للمستنيرين، ثم إسقاط التكاليف عن المستنيرين والوقوع في الإباحية والشك في الحلال والحرام، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والفضائل والرذائل. هي مجرد ألفاظ لمعان مخيلة وليس لها حقيقة واقعية. وأفكار الألوهية والإقرار بالمذهب الطبيعي عن طريق التنزيه، فالله منزه عن المخلوقات، لا موجود ولا معدوم. وإثبات الاسم وإنكار المسمى سفسطة، بالإضافة إلى قتل معارضيهم الذين يكشفون أمرهم، والجهر بالآراء بعد التمكن من السلطة، وإبطال التكاليف، ورفع الأحكام الظاهرة والباطنة. فالقيامة من القائم بالحق، فقاموا بالتأويل. أصبح الكمال نقصا والنقص كمالا. انحل الإيمان، وانتهت السعادة، وفسدت الأخلاق، وعم الجبن والخور والخوف والكذب والمنافع الشخصية والخيانة والشهوات البهيمية حتى أتى الاستعمار الفرنسي على سوريا. فلم يستطع الناس المقاومة. فقتل الأبرياء، حوالي مائتي عام أثناء الحروب الصليبية، مع أن الإفرنج كانوا خائفين من المسلمين قبل أن تفسد عقائدهم. ثم قام أوباش التتر والمغول مع جنكيزخان، واخترقوا بلاد المسلمين، وهدموا المدن. كل ذلك بسبب تفشي تعاليم الدهريين والقضاء على الأخلاق الإسلامية الراسخة في القلوب. فكانت أسباب السطوة الغربية على البلاد. ثم عادت الأخلاق الإسلامية، وطردت الأمم الإفرنجية من سوريا، وصدوا هجمات جنكيزخان ولكن دون العودة إلى مكانتهم الأولى. وكان ذلك بداية الانحطاط منذ الحروب الصليبية أي منذ تفشي الآراء الباطنية الدهرية كسم قاتل.
19
واضح من هذا العرض أيضا أن الدهرية هي الشماعة الوحيدة التي تعلق عليها أخطاء البشر، والعامل الأوحد في انهيار الأمم. ويعتبر الأفغاني الباطنية من الدهرية مع أنهم من غلاة الروحانيين، فالمادة لديهم روح، وأقرب إلى النزعات الصوفية الإشراقية. كما يرى أن التنزيه طريق لإنكار الألوهية مع أنه إثبات لها دون تجسيم أو تشبيه. كما يتبنى تصورا آليا لحركة التاريخ، وكأن العودة إلى الأخلاق مفتاح سحري يقلب الهزيمة نصرا، والسقوط نهضة، ويصحح ما فعلته الدهرية، الشر الكامن في كل عصر. (4)
الأمم الشرقية: ويعني الأفغاني بالأمم الشرقية شمال العراق، منطقة كركوك. فقد أنكر الدهريون هناك الألوهية. وظهروا في لباس المهذبين. ولونوا الظواهر بألوان المحبة. وادعوا طلب الخير للأمة وهم حملة العلم والمعرفة بما حفظوا من كلمات ناقصة. ولقبوا أنفسهم بالهادين وهم أهل غباوة ورذيلة. يستعملون العقل والمعرفة في تبين وجوه الغدر والاختلاس. تسودهم الشهوة وحب الدنيا.
20
ولا يعطي الأفغاني جديدا في هذا الوصف، ولا يبين كيف قامت الدولة بالإيمان وانهارت بالدهرية. هم أقرب إلى الشيعة الباطنية بهذا الوصف ولا يمثلون أمة جديدة يضرب بها المثل. (5)
الأمة العثمانية: ويفرد الأفغاني نموذجا من الأمة العثمانية وكأنها ليست جزءا من الأمة الإسلامية. ويعتبر الدهريين سبب خيانة العثمانيين لصالح الروس. يعدون أنفسهم أبناء العصر الجديد. فالإنسان حيوان، والأخلاق ضد الطبيعة، وضعها تحكم العقل وتطرف الفكر. أنكروا الشرف والحياء والأمانة والصدق والعفة والاستقامة، فجلبوا المذلة على الأمة.
21
صفحة غير معروفة