القيام بأعمال جاهلية تأنف منها الطباع وتأباها الشرائع الإنسانية، مثل اغتيال معارضيهم والغدر بهم والفتك بآلاف الأرواح البريئة وإراقة الدماء الشريفة بالحيلة والمكر. وهي أساليب لا ترتبط بالطبائعيين بالضرورة، تستغلها كل القوى السياسية التسلطية للتخلص من الخصوم رأسمالية أو اشتراكية. وممارسة العنف ظاهرة اجتماعية لها أسبابها في بنية المجتمع، العنف القاهر الذي يولد العنف المحرر.
15
وواضح من هذا الوصف السلبي للوسائل التي يتبعها النيتشريون لتحقيق مقاصدهم التصورات الشائعة في الثقافة الشعبية تحت أثر أجهزة الإعلام الغربية الرأسمالية أو العربية الإسلامية الخاضعة للنظم التسلطية الرجعية. مع أن أصحاب الطبائع أيضا لديهم القدرة على كشف الزيف والنفاق والخديعة بالدين وبالمثالية. يتسمون بالصدق والإخلاص للمبادئ، ويستشهدون في سبيل الحرية والعدالة والمساواة بين البشر. وارتبطوا بالنزعة الإنسانية والأممية وتوحيد القوى الثورية ضد الاستعمار العالمي، وهو أيضا ما كان يعمل له الأفغاني بوحدة قوى الشرق التحررية في مواجهة قوى الاستعمار الغربية.
16
وأخيرا، يستقرئ الأفغاني التاريخ ويبين كيف انهارت الأمم التي تبنت المذهب الطبيعي، أمة وراء أمة، وكأن المذهب الطبيعي لم يقدم أي شيء إيجابي مثل تقدم العلم، وكأنه لم يكن رد فعل على التصور الخرافي الوهمي للطبيعة، فيتحدث طويلا عن
مطلب في بيان الأمم التي خضعت للذل، وضرعت للضيم بعد العزة والشرف . ويعدد ست أمم هي: (1)
الأمة اليونانية (الكريك): كانوا قليلي العدد، وورثوا العقائد الثلاث، خصوصا الحياء، أي الأنفة والكبرياء. واستطاعوا مقاومة الفرس. ووصلوا إلى درجة عالية من العلوم، وثبتوا ثبات الأبطال. امتد سلطانهم إلى الهند بصفة الأمانة، فكانوا يرجحون الموت على الخيانة كما هو الحال في قصة تيمستوكليس القائد اليوناني الذي نبذه الناس وطردوه، ففر ولجأ إلى أرتكزيس ملك فارس، فأمره بمحاربة اليونان، فأبى وانتحر بالسم. ثم ظهر أبيقور، واتبعه الدهريون، وأنكروا الألوهية، وجعلوا الإنسان معجبا بنفسه مغرورا يظن أن الكون العظيم خلق لخدمة وجوده الناقص، وهو أشرف المخلوقات والعلة الغائية لجميع المظاهر الكونية. قاده الحرص والجنون والخرف إلى الاعتقاد أن له عوالم نورانية وحياة أبدية بعد هذا العالم، فيها سعادة دائمة وليس فيها شقاء. فقيد نفسه بالسلاسل والتكاليف مخالفا نظام الطبيعة العادل، ووقف في وجه رغباته وحرم نفسه من الحظوظ الفطرية وهو لا يختلف عن الحيوانات. وما يفتخر به من الصنائع أخذه تقليدا للحيوانات. فالنسيج من العنكبوت، والبناء من النحل، وإنشاء القصور والصوامع وادخار الأقوات من النمل، والموسيقى من البلبل. فإذا كان هذا حاله من النقص فلا يزيد متاعبه والاغترار بأنه يزيد على الحيوانات والنبات والاعتراف بوجود حياة أخرى. بل عليه ترك التكاليف والتمتع بالبدن والأخذ باللذة وعدم ترك أي فرصة، ولا ينقاد إلى أوهام الحلال والحرام واللائق وغير اللائق. فهذه أمور وضعية تقيد بها الناس جهلا. فالإنسان ابن الطبيعة. ترك الناس الحياء واعتبروه ضعفا للنفس، وارتكاب كل قبيح دون انفعال أو خجل في المجاهرة، هتك الأبيقوريون ستار الحياء، وأراقوا ماء الوجه، واستحلوا أموال الناس حتى سموا بالكلاب دون رادع أو زاجر، تنبح في الأسواق. وكانت النتيجة أن سقط اليونان إلى حضيض البلاد، وكسد سوق العلم والحكمة، وانتهوا إلى الذل واللؤم، وتحولت الأمانة إلى خيانة، والحياء إلى وقاحة، والوقار إلى سفل، والشجاعة إلى جبن، ومحبة الوطن إلى أنانية. وتهدمت الأركان الستة، ووقعوا في أيدي الرومان عبيدا بعد أن كانوا أسيادا.
17
بهذا العرض الخطابي الإنشائي يحمل الأفغاني تبعة انهيار الحضارة اليونانية إلى عامل وحيد، ومذهب أوحد هو المذهب الطبيعي. والتاريخ لا يتحرك بعامل واحد بل بمجموعة من العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أن ما يعرضه الأفغاني ليس كله شرا، مثل أن الإنسان سيد المخلوقات، خلق الكون لتسخيره له، وأن هناك حياة بعد الموت كلها سعادة دون شقاء، وأن الإنسان مكلف على الأرض، وأن نظام الطبيعة عادل، وأن الإنسان قادر على السيطرة على رغباته وانفعالاته، وأنه لا يجوز تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. وهل من مظاهر السيادة استيلاء اليونان على فارس والهند والروم ومصر؟ (2)
الأمة الفارسية: كانت للأصول الستة فيها، نسق الأفغاني الديني الأخلاقي، أعلى مكانة أحقابا طويلة حتى وصلوا إلى درجة عالية من الشرف. تمثلوا الصدق والأمانة فكان أول تعليم ديني عندهم دون كذب وكما عرضت لذلك الشهنامة. وامتداد الملك حتى ظهر مزدك الفيلسوف الدهري، وادعى أنه أتى لرفع الجور والظلم. فنزع منهم الخصال، وادعى أن كل القوانين الموضوعة تؤدي إلى الظلم، وقائمة على الباطل، وأن الشريعة الدهرية هي الباقية لا تنسخ، وموجودة عند الحيوانات. فقد جعلت الطبيعة حق الطعام والشراب والبضاع مشاعا بين الناس دون تخصيص. فلماذا يحرم الإنسان نفسه ما أحلت الطبيعة باسم الشريعة والأدب؟ وبأي حق تكون الملكية خاصة وهي مشاع بين الناس؟ ولماذا حظر النساء والميل لواحدة دون الأخرى، والأنثى للذكر والذكر للأنثى؟ البيع والشراء اغتصاب وظلم، وتطبيق حد السرقة على الفقير المحروم. القوانين جائرة تمنع كل شيء، والطبيعة محررة تبيح كل شيء. شاعت هذه التعاليم فعم الغدر والخيانة، وانتهى الحياء، وغلبت الدناءة والسفالة، وسادت الصفات البهيمية. فقتل أنو شروان مزدك وشيعته. ولكنه لم يقض على أفكارهم التي علقت بالعقول حتى هاجمهم العرب وانهزموا مع الروم.
صفحة غير معروفة