وإذا كان الإسلام قد جعل ل «أهل الكتاب» وضعا خاصا، فلم يكن معنى ذلك طمس الحدود القائمة بينه وبينهم. وحيثما أرادت جماعات أهل الكتاب أن تعيش في ظل الحكم الإسلامي، كان عليها أن تخضع لشروطه وأحكامه. وكان النظام المعبر أوضح تعبير عن هذا الوضع هو نظام دفع الجزية للدولة الإسلامية. وعند هذه المرحلة تبين منذ البداية بأجلى صورة أن الإسلام والعروبة ليسا شيئا واحدا. كانت الجزية تطلب أيضا من المسيحيين العرب، وكان هذا مبدأ جديدا لم يستطع الذين طبق عليهم أن يفهموه فهما تاما. فالأمير جبلة بن الأيهم - الذي كان آخر أمراء دولة الغساسنة العربية الذين حكموا منذ نهاية القرن الخامس دولة مسيحية صغيرة على الحدود السورية للدولة البيزنطية - هذا الأمير أثبت في صراعه مع المسلمين أنه خصم خطر، على الرغم من الهزيمة التي كان قد مني بها أمامهم مع حلفائه البيزنطيين. وقد كان على استعداد لإعلان خضوعه للخليفة لو وافق على إعفائه من الجزية، ولكن عمر أصر على موقفه، وصمم على التمسك بالمبدأ حتى ولو رجع جبلة للانضمام إلى صفوف البيزنطيين. كذلك رفضت قبيلة بني تغلب المسيحية أداء الجزية المفروضة على غير المسلمين، كما هددت هي الأخرى باللجوء إلى البيزنطيين. ولما كان بنو تغلب قد اشتهروا بأنهم محاربون أشداء، فقد عمد عمر إلى نوع من التنازل الشكلي، إذ أمر بأن تعتبر الجزية زكاة شبيهة بالزكاة المفروضة على المسلمين وإن جعل قيمتها مساوية لقيمة الجزية. ونحن لا نعلم إن كانت هذه الأخبار تتفق في تفاصيلها مع الوقائع التاريخية، ولكنها تعبر، على كل حال، عن الصعوبات التي واجهها التصور الإسلامي الجديد الذي لا يحدد الوضع القانوني بالانتماء إلى الشعب بل بالانتماء للدين.
أما عن معاملة السكان غير المسلمين في المناطق التي تم فتحها فقد أوجدت الدولة الإسلامية نظاما بسيطا وعمليا، وهو نظام ظل متبعا حتى العصر الحديث، بل ما زال محتفظا ببعض ملامحه حتى يومنا الحاضر. فكما أن المسلم لم يكن في البداية يواجه الدولة بوصفه فردا، بل بتوسط القبيلة ومن خلال انتمائه إليها، فكذلك لم يتوجه الإسلام لسكان البلاد المفتوحة باعتبارهم أفرادا، بل توجه إلى المجموع أو إلى الجماعة الدينية. وقد تم هذا بشكل طبيعي بسبب لجوء المسئولين عن السلطة في أغلب الأحوال إلى الهرب، بينما بقي رجال الكنيسة المحلية - الذين عاشوا في ظل الدولة البيزنطية في حالة صراع مع الدولة الأرثوذكسية - مع جماعاتهم الدينية وكانوا هم الممثلين لها في التعامل مع الفاتحين الجدد. وقد عقد المسلمون مع الجماعات الدينية معاهدات تضمن حمايتها، ويتعهد فيها المغلوبون بدفع الجزية للدولة الإسلامية في مقابل عدم المساس بممتلكاتهم ولا التدخل في شئونهم الخاصة. وكان رجال الدين مسئولين أمام الدولة عن الالتزام بنصوص المعاهدة، كما أصبحوا بذلك هم الرؤساء المدنيين لجماعاتهم. كان القانون الديني هو المعمول به داخل هذه الجماعات، وفي القرون اللاحقة اتخذت سلسلة من القرارات والتعليمات التي أكدت الوضع المتدني لغير المسلمين تمييزا لهم من المسلمين. وعلى سبيل التمحك في السلطة التي كان يتمتع بها الخليفة العظيم سميت هذه التعليمات «شروط عمر»، ولكن الأمر الثابت المؤكد هو أن الخليفة العادل لم يكن له أي شأن بها لا من قريب ولا من بعيد. صحيح أن المسيحيين واليهود لم يكونوا متساوين في الحقوق تماما مع المسلمين، ولكنهم في العهود السابقة لم يتمتعوا في معظم الأحيان بأي مساواة في الحقوق مع البيئة التي كانت تحيط بهم، ولذلك شعروا في ظل الدولة الإسلامية بتحسن أوضاعهم نتيجة عدم تدخلها في شئونهم. أما بالنسبة للفرس فقد سار التطور في مسار آخر مختلف؛ إذ لم تلجأ طبقة النبلاء أو الكبراء من ملاك الأراضي إلى الهرب من المسلمين، وإنما أعلنت خضوعها لهم وأسرعت بالدخول في الإسلام لكي تحتفظ بسلطتها ونفوذها. بذلك اندمجت بلاد فارس بسرعة نسبية في المجتمع الإسلامي.
والجدير بأن يذكر أن التنظيم القبلي العربي ظل قائما في هذا المجتمع. فالمسلم العربي كان بطبيعته ينتمي إلى الإسلام عن طريق قبيلته، أما غير العربي الذي دخل في الإسلام فلم يكن ليستطيع أن يفعل ذلك إلا من خلال انتمائه أو بالأحرى تبعيته لإحدى القبائل العربية. ومع ذلك فلم يكن هذا سوى إطار تمت فيه مع مرور الزمن تغييرات جوهرية . كان معنى الإسلام هو الخلاص من الشرك والوثنية ومن الصراعات القبلية، أي كان معناه الخروج من المجتمع البدوي والرعوي على الإطلاق. وفي ظل الإسلام توجه العرب بعيدا عن الصحراء وفي اتجاه المدينة. وكلمة الهجرة، التي تدل على هجرة النبي، عليه الصلاة والسلام، وصحبه من مكة إلى المدينة، سرعان ما استخدمت بعد ذلك للدلالة على تخلي إنسان عن الحياة القبلية ودخوله في الجماعة الإسلامية، وكان هذا يحدث له بوجه عام بصفته محاربا، ولم تكن الحياة في أثناء الحملات العسكرية لتختلف كثيرا عن حياة البدو خلال الغارات التي اعتادوا أن يشاركوا فيها سعيا وراء الغنائم. ولكن الفرق بين الحالين كان يتضح بعد الانتهاء من الحرب. وقد أمر عمر، رضي الله عنه، الجيوش الإسلامية أن تؤسس مدنا جديدة في المناطق المفتوحة وتقيم فيها. وبهذه الطريقة نشأت مدن البصرة والكوفة والموصل في العراق، كما نشأت في مصر مدينة الفسطاط التي صارت بعد ذلك نواة القاهرة.
ومن المحتمل أن القوات الإسلامية كانت تقوم في أثناء الحملات العسكرية بإطعام نفسها بنفسها، ولكنها عندما كانت تضطر إلى لزوم المدن العسكرية كانت الدولة هي التي تتولى مهمة إمدادها بالمؤن التي تحتاجها. وقد طور عمر نظام توزيع الغنائم - الذي كانت الدولة قد أخذته عن شيوخ القبائل - وجعل منه نظاما ضريبيا شديد الإحكام؛ إذ كانت الدولة تقوم بدفع هبات من دخولها للمستحقين للإعالة والرعاية. وكان من حق كل مسلم حر من حيث المبدأ أن يكون واحدا من هؤلاء المستحقين، ولكن هذه الهبات كانت من الناحية العملية مقصورة على المحاربين المقيمين في المدن العسكرية وعلى عائلاتهم، بالإضافة إلى سكان العاصمة التي كانت في المدينة المنورة. وقد أمر عمر - رضي الله عنه - بإعداد قوائم تسجل فيها أسماء المستحقين لإعالة الدولة، وكانت هذه القوائم منظمة تنظيما دقيقا حسب أسماء القبائل.
وقد أدت إعالة الدولة للمسلمين وتركيزهم في المدن الجديدة المعسكرة إلى عزلهم عن المجتمعات المحلية. وكان هذا أمرا ضروريا عندما كان يتحتم وضعهم على أهبة الاستعداد وتحت تصرف الدولة. وينسب إلى عمر إصدار قرار يحظر على المسلمين الاستيلاء على أراض زراعية في المناطق التي فتحت، بل يحظر عليهم الاشتغال بحرفة الزراعة، وإذا كان من المحتمل أن مثل هذا القرار لم يصدر أبدا، فمن المؤكد أن عددا كبيرا من المسلمين من بين القادة والجنود البسطاء قد استولوا على أراض زراعية كبيرة وصغيرة وقاموا بفلاحتها. والمهم أن هذا الخبر يدل على وجود بعض المناقشات التي كانت تدور حول سياسة الحكومة. وقد كان من حق الدولة، تبعا للتقاليد البدوية، أن تحتفظ بنصيب محدد من الغنائم، وأن تقوم بتوزيع الأنصبة المتبقية. ولكن الدولة اتجهت بدلا من ذلك إلى تعظيم مواردها لتتمكن من الوفاء بمهامها وواجباتها المتنامية. ومن هنا نشأت بعد ذلك النظرية التي تقول إن كل الأراضي التي فتحت ملك للدولة، وذلك لكي تستطيع أن تفيد جميع المسلمين - بما فيهم الأجيال التالية - من خراجها، وقد أرجع هذا التنظيم أيضا إلى عمر، رضي الله عنه.
كانت أقل التنظيمات التي أقامتها الدولة الإسلامية المبكرة قدرة على البقاء هي تلك التي استهدفت عزل العرب. وكانت المزايا التي تعود على المرء من الدخول في الإسلام قد شجعت الأعداد الكبيرة من الفرس والسوريين والمصريين على الإسراع بالدخول في الإسلام. واندفع سكان المناطق المحيطة بمدن العسكر الجديدة للإقامة فيها، كما وجد العرب من مصلحتهم أن يعيشوا في المدن العريقة بالأقاليم المفتوحة. وبعد وفاة عمر بوقت قصير انتقل مركز الثقل للدولة من المدينة إلى دمشق ذات التاريخ التليد. ونما المجتمع الإسلامي الجديد وازدهرت حضارته في مراكز المدن الواقعة خارج شبه الجزيرة العربية. والواقع أن جذور هذا التطور ممتدة في السياسة التي انتهجها عمر، كما هي موجودة بشكل خاص في تلك الحقيقة التي تقول إنه في حقبة الفتوح الإسلامية التي بدأت على يديه لم يسمح أبدا - بالرغم من حرصه على المصالح العربية - بأن يوحد بين الإسلام والعروبة، بل تمسك بالطابع العالمي الشامل للإسلام. ولعل شيئا لم يؤثر في تطور الإسلام منذ ظهوره مثل هذه السياسة التي يرجع الفضل فيها لعمر بن الخطاب.
من المشكوك فيه أن يكون الخليفة العظيم قد فكر في النتائج المترتبة على سياسته، وقد نجد هنا مادة جديدة تصلح لمناقشة السؤال القديم عن التاريخ وهل هو من صنع الأفراد أو الأبطال؟ والمؤكد أن عمر لم يكن ليتابع مثل هذه المناقشة أو يفهمها، فهو في القرارات الحاسمة التي أصدرها لم يكن مجرد فرد حر، وإنما كان يشعر بأنه مجرد أداة لتنفيذ خطة إلهية. ولكنه اتخذ قرارات فاصلة. وعندما اتهم ذات مرة بضعف الإيمان لأنه رفض أن يذهب إلى مكان انتشر فيه وباء الطاعون أجاب بقوله: «أجل، إني لأهرب من مشيئة الله إلى مشيئة الله!» وهذه العبارة تلخص جهود علم الكلام عند المسلمين في التوفيق بين ضرورة الفعل الإنساني من ناحية، وبين الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة من ناحية أخرى. وكون عمر هو الذي نطق بهذه العبارة لهو دليل كاف على شخصية هذا الخليفة القدوة والنموذج الصانع للمعايير. وسواء صدقت نسبة العبارة إليه أو لم تصدق؛ فإنها تتسق مع شخصيته التاريخية.
لقد كان من أهم عوامل ضعف الإسلام في العصور المتأخرة أنه تشبث بالتراث بشكل عبودي. وربما كانت القدرة الفائقة على استلهام المواقف والقرارات الجديدة الحاسمة من التراث، وعلى ضوء المصلحة العامة للجماعة - أي على ضوء العقل وحده - ربما كانت هذه القدرة الفائقة هي أعظم خصال هذا الخليفة العظيم. وربما كان هو الذي أطلق الدفعة الأولى لجمع الوحي الإلهي في القرآن الكريم، وإن كان يروى عنه في الوقت نفسه أنه اعترض على تدوين الأخبار المتعلقة بأعمال النبي، عليه السلام، وأقواله لكي يحول دون وجود شيء ينافس القرآن الكريم.
وقد كان قرار عمر بتهجير غير المسلمين كافة خارج شبه الجزيرة العربية - وذلك على خلاف التعاليم المأثورة عن النبي عليه السلام - دليلا تاريخيا آخر على تلك القدرة على اتخاذ القرار الحر. وليس من قبيل الصدفة أن نجد خلال التاريخ الممتد للشريعة الإسلامية أن أولئك الذين يستشهدون بعمر أو يهيبون به هم دائما الذين يبحثون عن طرق جديدة لاختراق التراث الذي تزايد جموده مع الزمن، والذين يعطون الصدارة لمتطلبات التطور التاريخي، والمصلحة العامة، والعقل.
الفصل الحادي عشر
صفحة غير معروفة