الأنتصار على علماء الأمصار - المجلد الأول حتى 197
تصانيف
والمختار: القول بطهارته كما مر تقريره، فأما من قال بنجاسته فقد أبعد في نظره، ومن ادعى إجماعا في طهارته لم يكن مجازفا، فإنا نعلم من عادة السلف والخلف من الصدر الأول إلى يومنا هذا، عدم تحرزهم عن الأمواء المستعملة وهم يباشرونها مباشرة الأشياء الطاهرة وهم لا يخالفوننا في جواز شربه واستعماله في غير التطهر، ولو كان نجسا لما جاز ذلك فيه، كما لا يجوز في الأشياء المتنجسة من الأبوال والأرواث وغيرها.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روى أبو هريرة: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه)).
قلنا: جوابه من وجهين:
أما أولا: فلأنا قد قررنا فيما سبق أن الاستدلال بهذه الطريقة تضعف من جهة أنها تعويل على الاقتران من غير علة جامعة بينهما، فلا يقبل ما هذا حاله، وهي طريقة لأصحاب أبي حنيفة؛ لأنهم عولوا فيها على أن البول لما كان منجسا للماء فهكذا الاستعمال لما كان معطوفا عليه؛ لأن من حق المعطوف أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، ولهذا استحال عطف الشيء على نفسه، فإذا كان من حقهما التغاير فكيف يقال إن من حقهما الاستواء في الحكم!.
وأما ثانيا: فلأنه محمول على كون الماء قليلا قد تغير بمخالطة البول فلا يجوز الاغتسال به ولا فيه؛ لأجل نجاسته بالبول لا من أجل كونه مستعملا، فبطل ما توهموه.
قالوا: الأمة مجمعة على تضييعه في السفر والحضر وإراقته، وفي هذا دلالة على كونه نجسا.
قلنا: [هذا القول] فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولا: فلأن ما ذكروه من دعوى الإجماع فإنما هو إجماع مرسل لا يدرى بقصد الأمة فيه، فإنهم لم يصرحوا بمرادهم فيه، وما هذا حاله من الإجماعات فإنه لا حجة فيه.
وأما ثانيا: فهب أنهم أراقوه فلم يريقوه من أجل كونه نجسا، فما دليلكم على نجاسته؟ وليس الكلام إلا في نجاسته.
وأما ثالثا: فلأنا نقول: لعلهم أراقوه من أجل استغنائهم بغيره، أو من أجل كراهتهم واستقذارهم منه، فمطلق الإراقة له لا يكون حجة على تنجيسه.
صفحة ٢٤٦