وأود قبل أن أختم هذا الحديث، أن أذكر أن نظام الحكم لا يقصد به التفاصيل التي يراها بعضهم كل شيء، إنما يقصد بنظام الحكم في الإسلام تحقيق الفكرة السامية والمثل الأعلى والمبادئ العامة التي أرادها الإسلام أساسا للحضارة، فإذا حقق النظام هذا الغرض، وإن تجاوزته بعض التفاصيل، كان النظام الإسلامي القدير على التطور مع تقدم الإنسانية في تفكيرها وعلمها وفنها. وإن هو وقف عند التفاصيل دون تحقيق الغرض الأسمى، كان نظاما جامدا متداعيا كالنظم التي قامت في عهود الانحلال.
وبعد بذلك عن أن يكون نظام الحكم في الإسلام كما أراده صاحب الوحي للإسلام أن يكون.
والواقع أن نظام الحكم شيء، والتشريع والقانون شيء آخر، نظام الحكم هو الإطار العام الجدير بالثبات والاستقرار لتحقيق الأغراض الإنسانية السامية، فلا تعتريه الغير إلا إذا عجز عن تحقيق هذه الأغراض، أو كان إدخال التعديل عليه كفيلا بأن يجعله أدنى إلى تحقيقها. أما التشريع والقانون فيتطوران في حدود هذا النظام المستقر على أنهما أداة الحركة والنشاط. والنظام الإسلامي الذي أردنا في هذا الحديث أن نصوره هو النظام الذي تتحقق بقيامه المبادئ الإسلامية والمستمد من الإيمان الحق بالله، وبثبات سنته في الكون ثباتا ندركه بعقولنا الحرة وتفكيرنا المتصل، وأن نتعاون فيما بيننا على أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يؤدي الفرد واجبه لله وللجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها لله وللأفراد جميعا.
الجزء
الاشتراكية والديمقراطية في الإسلام
الفصل الأول
الاشتراكية الإسلامية
(1) وجهة الاشتراكية الإسلامية
لم يطبق النظام الاشتراكي في الحياة الاقتصادية لأمة بأسرها إلا في هذا العهد الحديث، وذلك منذ أصبحت الشيوعية النظام الأساسي لروسيا السوفيتية. والشيوعية صورة من صور الاشتراكية الكثيرة المتباينة، وهي أكثر هذه الصور تطرفا وأشدها إمعانا في إنكار الملكية الفردية. وهذه الشيوعية تناقض المبادئ الإسلامية كل المناقضة، فهي تنكر الملك والميراث والأسرة، والملك والميراث والأسرة نظم جوهرية في الحياة الإسلامية. هذا التباين، بل هذا التناقض الصريح بين الإسلام والشيوعية، يقتضينا ونحن نبحث في الاشتراكية الإسلامية أن ندع الشيوعية جانبا، وأن ننظر فيما عداها من صور الاشتراكية حتى نرى أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف بين هذه الصور والاشتراكية الإسلامية.
ويجمل بنا قبل أن نواجه هذا البحث أن نذكر أن الفكرة الاشتراكية التي نشأت منذ ألوف من السنين، إنما نشأت صيحة ألم لما بين الناس من التفاوت في حظهم المادي من الحياة، وأنها كانت ترمي دائما إلى محو هذا التفاوت حتى تقضي على نتائجه الاجتماعية، وفي طليعتها التباغض والحسد والنضال المستتر حينا، الواضح حينا آخر، وحتى تزيل ما يشعر به المحرومون من ألم الحرمان.
صفحة غير معروفة