ولقد طالما تحدث العلماء والكتاب الاشتراكيون عن هذا التفاوت في حظوظ الناس، ونسبوه إلى فساد النظم التي تقوم الجماعات الإنسانية عليها. وليس يحدثنا التاريخ الذي نعرفه عما كان قبل أفلاطون من صور الاشتراكية، ولذلك ألف كثيرون أن ينعتوا أفلاطون «أبا الاشتراكية» ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر لم يفتأ الاشتراكيون يتحدثون في هذا التفاوت في وسائل إزالته، ويقيمون من المذاهب ويقترحون من النظم ما يرونه كفيلا بتحقيق الغاية التي يرمون إليها.
والأكثرون من العلماء والكتاب ينظرون إلى المسألة من ناحيتها الاقتصادية البحتة. والأمر كذلك في عهدنا الحديث بنوع خاص. ولا ريب في ذلك، والنظام الاجتماعي في هذا العهد يقوم على أساس اقتصادي صرف، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقات الأمم بعضها ببعض، تخضع خضوعا تاما لما بينها من صلات اقتصادية، بل لا عجب في ذلك وقد أقام كثير من الفلاسفة قواعد الخلق على أساس اقتصادي، وقد نادى كثيرون بأن تاريخ الإنسانية لا تفسير له إلا في نظمها الاقتصادية، وأن حضارات العالم في الأزمان المختلفة إنما تكيفت بتطور نظم العالم الاقتصادية. لا مفر لمن يجعل هذه الناحية وجهة نظره للحياة، ثم يكون من دعاة الاشتراكية، أن يجعل غاية همه في الدعوة إلى إزالة ما بين الناس من التفاوت المادي، ليرتفع الظلم عن عاتق الأكثرين، ولتكون الكثرة من الناس أكثر بالحياة سعادة، وعنها رضا.
ولقد أثبت تعاقب القرون أن إزالة هذا التفاوت أمر غير مستطاع، وأن إقامة الاشتراكية على أساس من المساواة بين الناس في حظوظهم المادية، لا يزيل الظلم الذي يذكرونه، فمقدرة الناس على العمل في الحياة تتفاوت، ومتاعهم بنعم الحياة يتباين؛ ففيهم القوي والضعيف، وفيهم الصحيح والمريض، وفيهم المتهالك على لذائذ العيش ومن يرى الزهد فيها لذة تفوق كل لذة، ولا سبيل إلى التسوية بين هؤلاء جميعا، وعلى أساس يرضى الجميع عنه.
الديمقراطية الحقة
ثم إنك لا تستطيع أن تنكر على الفرد ذاتيته، ولا تطمع في أن تصل من الجماعة إلى العدل المطلق، لا بد إذن من مزاج يحقق خير الجماعة وحرية الفرد في ظل العدل الإنساني. وتحقيق هذا المزاج يجب أن تراعى فيه ذاتية الفرد وكيان الجماعة لا من الناحية المادية وحدها بل من النواحي الإنسانية المختلفة، ومن بينها الفطرة والعاطفة والهوية، ومن بينها الغرائز الاجتماعية التي تقيم الأسرة، وتقيم المدنية، وتقيم الجماعة الإنسانية بوجه عام.
وهذا المزاج هو ما قصد إليه الإسلام، فهو لم ينكر ذاتية الفرد، ولم ينكر حقه في التملك، ولم يغفل الغرائز المختلفة التي تحركه في الحياة، لكنه قدر إلى جانب ذلك أن الجماعة يجب ألا تبلغ من حماية الذاتية الفردية حدا يزيد القوي قوة والضعيف ضعفا، ويكون لذلك سببا في تداعي الجوانب السامية في نفس الإنسان، جوانب الإيثار والمحبة، وما إليها من عواطف أصيلة في النفس هي قوام الأسرة وهي قوام الجمعية كلها. وتحقيق هذا المزاج هو الأساس الأول للاشتراكية الإسلامية. وهذا الأساس يقوم على مبادئ تكفل رفع الظلم الذي يشكو الناس منه، والذي أدى منذ أقدم العصور إلى التفكير في الاشتراكية ومحاولة تنظيمها لتكون صالحة للحياة العملية في الجماعات.
ولم ينكر غير الشيوعيين مثل هذا المزاج، فكثير من المبادئ الاشتراكية لا تنكر الملكية الفردية إنكارا مطلقا، ولا تنكر الأسرة ولا التوارث. وبعض هذه المذاهب يقر الملكية الصغيرة في الزراعة والصناعة والتجارة، وإن أنكر الملكية الكبيرة فيها جميعا. ومنها من يدعو إلى الاشتراك المطلق في مواد الإنتاج، ويقر الفردية في التمتع بثمرات هذا الإنتاج. ومنها كذلك ما يجعل العمل أساس توزيع الثمرات، يتخذ العمل بديلا من رأس المال الذي يقوم النظام الفردي على أساسه.
هذا التعدد في صور الاشتراكية، هو الدليل على أن الإنسانية تحاول منذ القدم أن تهتدي إلى نظام يزيل الإجحاف الناشئ عما بين الناس من تفاوت في حظوظهم المادية. ولم تذهب هذه المحاولات عبثا، فلم يستقر النظام الفردي بصورة مطلقة في الحياة الاجتماعية إلا في فترات وجيزة. وأنت ترى اليوم صورا من الاشتراكية تجاور النظم الفردية في الحياة الاقتصادية للأمم كلها. وما تقرر من حقوق مشتركة للجميع، كالتعليم والصحة والتعاون وما إليها، ليست إلا بعض هذه الصور تقررها الجماعات للخير العام من ناحية، وإقرارا لمبادئ العدل بين الأفراد من الناحية الأخرى.
وهذا التجاور بين النظم الفردية والنظم الاشتراكية في الجمعية الواحدة أمر طبيعي، بل هو وحده الطبيعي، فالجماعة الإنسانية - على أي أساس أقمتها - لا يمكن أن تنهض إلى الكمال الواجب عليها، إلا إذا كفلت للفرد حريته في النشاط الذاتي، وحقه في المتاع العادل بثمرات هذا النشاط، ثم حالت في نفس الوقت بينه وبين الضغط على نشاط غيره، وبينه وبين ما لغيره من حق في ثمرات نشاطه والمتاع بها، بذلك يكفل تضامن الجهود في توجيهها لخير الجميع.
والمبادئ الإسلامية في التنظيم الاجتماعي تحقق هذا كله، فهي تقر الملك والأسرة والميراث كما قدمنا، وتعتبرها نظما أساسية في الحياة الاجتماعية. لكنها تقدر ما في قيام الملكية الكبيرة واستمرارها من خطر الطغيان من جانب الأغنياء، والشعور بالظلم الناشئ عن تفاوت الحظوظ المادية من جانب الفقراء؛ لذلك عملت للحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة على أساس غير المجهود الذاتي، ولبلوغ هذه الغاية حرم القرآن الكريم الربا، وجعل نظام الميراث وسيلة فعالة لتجزئة الملكية الكبيرة. وفي تجزئتها، وفي تسهيل انتقال أجزائها من فرد إلى فرد، ومن أسرة إلى أسرة، ما يزيل الخوف من ألم النفوس لتفاوت الأرزاق تفاوتا ظالما.
صفحة غير معروفة