حسبي ما قدمت من مبادئ جوهرية قررها الإسلام أساسا للحضارة الإنسانية، فليس يتسع المقام لسرد سائر المبادئ، وهو لا يتسع لتفصيل الفكرة في أي من المبادئ التي قدمت. وهذا الذي قدمت يرسم أمام النظر إطارا عاما للفكرة الإسلامية في الحياة ونظامها.
ونظام الحكم في الإسلام هو النظام الذي تتحقق في ظلاله الفكرة العامة، كما تتحقق المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية في تطورها الدائم نحو الكمال. (5) الحكومة الإسلامية والتشريع
وقد رأينا نظام الحكومة الإسلامية اختلفت صورته، فهو في عهد الخلفاء الراشدين غيره في عهد بني أمية، وهو في هذين العهدين غيره في عهد بني العباس. ومن غير الميسور أن نختار نظاما من هذه النظم فندعو للعودة إليه، فنظام الحكم لا يتأثر بالمبادئ وحدها، بل يتأثر كذلك بالبيئة التي يقوم فيها، وبالأحداث التي تمر بهذه البيئة، وبالتطور الفكري والعلمي الذي ينتهي الناس إليه.
وقد تأثر نظام الحكم في الممالك الإسلامية بهذه العوامل تأثرا بينا، ناقض بعض المبادئ التي أشرنا إليها في هذا الحديث مناقضة ظاهرة، فليس طبيعيا أن نسمي هذا النظام نظاما إسلاميا سليما، وليس طبيعيا كذلك أن نعود بنظام الحكم الإسلامي إلى الفكرة العربية الأولى.
فالتطور الذي مر به العالم خلال القرون الثلاثة عشر الأخيرة يجعل هذا العود غير مستطاع، لكن هذا ليس معناه أن نظام الحكم الإسلامي لا يستطاع تطبيقه في عصرنا الحاضر، وإنما معناه أننا يجب أن نجعل هذا النظام قائما في حدود تفكيرنا، محققا في نفس الوقت للفكرة العامة وللمبادئ التي وضعها الإسلام أساسا للحضارة الإنسانية لا يحيد عنها ولا يجري على نقيضها.
ولن يعترض أحد بأن مراعاة التطور الفكري والعلمي الذي انتهى الناس إليه والملاءمة بينه وبين النظام الإسلامي للحكم فيه ما يخالف المبادئ الإسلامية، ما دام النظام الذي يقوم تكون غايته تحقيق هذه المبادئ، وما دام النظام نفسه يقوم في حدود هذه المبادئ.
خذ مبدأ المساواة مثلا، أشرنا إلى أن مبادئ الإسلام الأساسية لقيام الحضارة الإنسانية تفرض تساوي الناس جميعا أمام الله، وانطباق سنته - جل شأنه - في الكون على الجميع على السواء. هذا المبدأ يجعل للناس جميعا حقا ثابتا في الاشتراك في الحكم عن طريق الشورى، ويجعل الحاكم والمحكوم متساويين أمام القانون وأمام ما أمر الله به وما نهى عنه. وذلك قول أبي بكر حين بويع بالخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.» فكل نظام تراعى فيه هذه المساواة، وتكون وسيلته الشورى نظام إسلامي، سواء أكان هذا النظام من نوع خلافة الراشدين، أم من نوع إمارة المؤمنين على عهد الأمويين، أم من نوع آخر تتحقق به هذه المساواة.
ومثل آخر نسوقه، وفيه من الدلالة على مراعاة التطور ما يشهد بأن النظام الإسلامي لا يقف في سبيل كل تطور تمليه مصلحة الجماعة، ما دام متفقا مع مبادئ الإسلام العامة، فالأسرة هي الحجر الأول في بناء الجماعة الإسلامية كما قدمنا، لكن الأسرة الإسلامية تقوم على أساس المودة والرحمة، ولا تقوم على أساس جامد من الإكراه الذي يشقى به الناس، فإذا خيف الشقاق بين الشريكين اللذين يكونانها - الزوج والزوجة - وجب العمل على إزالة هذا الشقاق، فإن أمكنت إزالته فذاك، وإلا افترق الزوجان على ما في ذلك من مضرة هي دون مضرة الحياة القائمة على أساس من الشقاق، ولهما أن يتراجعا ليعيدا للأسرة كيانها. وفرقة الزوجين هي الطلاق، والطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وذلك لتيسير المراجعة.
ومع ذلك، رأى عمر بن الخطاب أن الناس أسرفوا في الطلاق الثلاث دفعة واحدة، فأجازه واعتبره عقوبة لهم على تسرعهم وعلى خروجهم على أمر كان لهم فيه أناة، وظل الأمر في شأن الطلاق على رأي عمر قرونا كثيرة، وها نحن أولاء نعود إلى ما كان الأمر عليه في حياة رسول الله، وفي حياة أبي بكر، فلا يقع الطلاق ثلاثا إلا واحدة ليتراجع الزوجان وتستقر الأسرة.
والأمر في تعدد الزوجات كالأمر في الطلاق، تطور من التقييد الذي جاء في القرآن إلى الإطلاق من القيد في عهد التدهور والانحلال، وهو الآن يعود إلى ما يتفق والمبدأ الذي أقره الإسلام دون حاجة إلى تشريع خاص، وهو وحدة الزوجة إلا لحاجة ماسة.
صفحة غير معروفة