وما أكثر ما عادت به الفجأة التي يمتاز بها طريق التفكير الديني من الفائدة. ولا يرى الإنسان كيف كان ممكنا تقدم العقل الإنساني بدونها. فإن الذهن محتاج إذا أراد تكوين نظرية علمية عن الظواهر الطبيعية إلى ملاحظات يكون قد حصلها من قبل مهما كان من تواضع النظرية المذكورة، وجزئيتها. لكن الملاحظة العلمية لا تكون ممكنة هي الأخرى إذا لم تكن نظرية أو افتراضا على الأقل. والتحكم المطلق هو عند كومت عقيم، بل لا يمكن لدى التدقيق تصوره. وليس لمجرد مجموعات الوقائع مهما قدر لها من كثرة العدد، أي مدلول علمي بذاتها. مثال ذلك التقريرات المثيورولوجية التي تملأ أعمدة القوائم وصحائف المجلدات، والتي لن تكون ملاحظات إلا إذا عمل الذهن حين جمعهما على تفسيرها مسوقا بفكرة تحقيق فرض من الفروض، سواء أكان ذلك الفرض مبهما أم معينا وحقيقيا أم خياليا.
فإذا أحرج الذهن بين هاتين الضرورتين المتساويتين في تحكمهما مع ضرورة البدء بالملاحظة للوصول إلى (صورة معقولة)، والبدء بتصور نظرية أيا ما تكون للوصول إلى استنباط ملاحظات متتابعة لجأ إلى طريق التفكير الديني حيث لا يحتاج تخيل قوى مشابهة لقوته منتشرة في أرجاء الطبيعة لأي ملاحظة تسبق هذا الخيال، ولكن متى تمخض الخيال عن هذا الفرض تبعته الملاحظة لتأييده أولا ثم لمحاربته بعد ذلك، ومن ثم يفسح الطريق ويبدأ تطور العلوم والفلسفة سيره خلال المبادئ تتعاقب بعد ذلك على نظام محتوم.
وذلك هو الحال أيضا من الجهة الخلقية. فلقد كانت الفلسفة الدينية هي الوحيدة التي استطاعت أول الخلق أن توحي إلى الإنسانية الضعيفة الجاهلة من الإقدام والثقة بالذات ما كفى لإنهاضها من غفلتها الأولى. ولو أن الإنسان علم في تلك العصور ما يعرفه إنسان اليوم من خضوع ظواهر الطبيعة لقوانين لا تبديل لها، لما دار في خلده أن معرفة هذه القوانين تجعل له على الطبيعة سلطانا ، بل لكان جهله قوة العلم داعية احتلال اليأس نفسه وعجزه دون القيام بأي مجهود. لكن طريقة التفكير الثيولوجية كانت أكثر تشجيعا. فقد تخيلت الظواهر ممكنا تحويرها وقدرت كل شيء ممكن الحدوث، وقررت أن لا مستحيل وأن لا محتوم وأن حدوث شيء أو عدم حدوثه هو رهن بإرادة الآلهة. وإذا كان الإنسان لا يقدر بنفسه من أمر الطبيعة على شيء، فإنه يقدر على كل شيء إذا هو نال رضا الآلهة أولي الشهوة الحاكمة؛ وكذلك كان الإنسان أشد ما يكون ثقة بسلطانه وقوته يوم كان ضعفه وعجزه على أشدهما.
ولقد كانت الفلسفة الثيولوجية لازمة من الوجهة الاجتماعية أيضا لبقاء الجمعية الإنسانية وتقدمها. ذلك بأن تبادل اشتراك أفراد الجمعية في العواطف، وتوافقهم في المصلحة لا يكفي لقيامها ولا لتقدمها، بل يجب لذلك اشتراكهم في الإيمان بعقائد معينة. ولا وجود لجمعية إنسانية بغير مذهب مقرر يتضمن أفكارا مشتركة. ولكن كيف لنا أن نتصور قيام مثل هذا المذهب إذا لم يكن ثمة نظام اجتماعي قائم؟ تلك حلقة مفرغة أخرى لم يكن للخروج منها سبيل إلا الفلسفة الثيولوجية التي وضعت من بادئ الأمر مبادئ مشتركة يدافع عنها أعضاء الجمعية طرا، ويزيدهم في دفاعهم هذا تحمسا أن بها تتعلق آمالهم ومخاوفهم لهذا العالم وللعالم الآخر إن كانوا من قد اعتقدوا به.
ولقد كان من أثر هذه الفلسفة الثيولوجية أيضا أن كونت في الجمعية طائفة معينة اختصت بالفكر والنظر.
وما أسرع ما قامت هذه الطائفة، وانفردت عن سائر الجماعة حتى أقامت التفرقة بين النظر والعمل تفرقة عادت لا شك بالتقدم العظيم برغم أنها كانت لا تزال صورة غير منظمة. ولا شك أن هذا التقدم كان بطيئا جدا، فإنا لا نزال نرى الناس إلى اليوم لا يقبلون راضين أي جديد لا يرون فيه فائدة عملية قريبة. وقد كان في يد هذه الطائفة بطبيعة وظيفتها سلطة أفادت الاجتماع في تقدمه أثمن الفائدة، كما أنها كانت تتمتع بالفراغ اللازم للإمعان في البحوث النظرية. قال كومت: (ولولا أن أنشئت هذه الطائفة فجأة لوقفت قوانا، وقد أصبحت عملية كلها عند حد من التقدم ما أسرع ما يقتصر على بعض طرق وآلات حربية وصناعية).
13
وهذه الخطوة الأولى هي التي استتبعت كل ما تلاها من أقسام العمل. فعلماؤنا وفلاسفتنا ومهندسونا هم أخلاف القسيسين الأولين والسحرة ونذر المطر.
إذن فطبيعة الإنسان تقتضي ظهور الفلسفة الثيولوجية فجأة، وظهورها هذا لا غنى عنه ولا سبيل لاجتنابه. وبعبارة أخرى فهو محتوم، ويجيء على أثره ما قد نسميه منطق التاريخ العقلي للإنسانية، ومن ثم تكون الفلسفة الثيولوجية قد مهدت السبيل لملاحظة الظواهر ملاحظة تدخل إلى العقول رويدا رويدا فكرة السنن الثابتة، وتجعل الفلسفة الثيولوجية بذلك محفوفة بالخطر حتى ليجيء عليها وقت تظهر فيه بالية مضرة. هنالك يبدأ الفكر يحل نفسه محل الخيال في توضيح الطبيعة وتفسيرها. وكلما سار هذا التطور إلى الأمام تبين ميل العقل الإنساني إلى طريقة التفكير الوضعية، وتفضيله إياها تفضيلا يصل في مختلف فروع العلوم إلى الاستئثار والتفرد بها بعد خلاف قد يطول أو لا يطول.
والحقيقة أن الحالة الثيولوجية لمعلوماتنا تحوي حتى في تلك اللحظة التي تكون فيها في ذروة السلطان (وذلك يكون بعد قليل من نشأتها) جراثيم تحللها وفسادها؛ وذلك لأنها لم تكن تامة التناسق في يوم من الأيام، فإن من بين الظواهر ما لم يغلب يوما على الناس نظامها، ولا هم تصوروها يوما تحت تصرف إرادات مطلقة التحكم، من ذلك ما ينقله كومت عن آدم سميث حين يلاحظ أن إله الثقل لم يوجد في أي زمن ولا في أي مكان. وكذلك فلقد أحس الإنسان من أول وجود الجمعية بشيء من أثر القوانين البسيكولوجية، وذلك لاضطراره أن يتفق مع أمثاله في طريقة الإحساس والعمل. من ذلك ينتج أن البذرة الأولى للفلسفة الوضعية ترجع في القدم إلى ما ترجع إليه بذرة الفلسفة الثيولوجية، وإن لم يكن نماؤها وتقدمها قد أبطأ أي إبطاء. ولما لم تكن الفلسفة الثيولوجية لذلك عامة لم تكن إلا مؤقتة. وإنما تكون خاتم الفلسفات أو طرائق تفسير الظواهر الطبيعية تلك التي تنطبق عليها جميعا، وبلا استثناء من أبسطها إلى أكثرها تركيبا. ذلك بأن هذه الفلسفة هي وحدها التي تحقق الوحدة التي لا غنى للذهن عنها.
صفحة غير معروفة