كومت لا يشير في ذلك إلى ما يأخذه الطفل من التعاليم الدينية عن أهله بل إلى ميله السليقي الذي يجعله يفسر الظواهر الطبيعية بإرادات لا بقوانين. إذن فالدين يرادف هنا تصور أسباب الأشياء كأثر قوي، وهي إن تكن علوية فهي تشابه الإنسان في تفكيره وإرادته.
كذلك لا يجعل كومت للميتافيزيقي ذلك المعنى الواسع الذي يعطى له عادة، ولا يتعرض إلا عرضا لعلم الموجود في اعتباره موجودا ولا للمادة ولا للعناصر الأولى، وإنما ينظر إليها كوسيلة لتفسير الظواهر التي تنتجها التجارب - فافتراض أثير لتفسير ظواهر الضوء والكهرباء في الطبيعة هو من أمثلة الميتافيزيقية. ومثله افتراض العنصر الحيوي في الفسيولوجيا، وافتراض الروح في البسيكلوجيا (علم النفس). فالميتافيزيقا ترادف الغرض المطلق كما يقول كومت، وهي ليست في حقيقتها إلا طريقة التفسير الأولى قد ذهب لونها، واعتراها الذبول والذهول وهي تزداد تدرجا في ذلك كلما أنتجت زيادة الدقة في ملاحظة الظواهر الطبيعية التباعد عن إسناد هذه الظواهر إلى إرادات خاصة، وإخضاعها لقوانين معينة.
لنحذر إذن من أن نعطي كلمتي (الميتافيزيقا) و(الدين) كامل معنيهما. إذن فلو استنتج مستنتج من قانون الحالات الثلاث أن تدرج الإنسانية يزيدها كل يوم بعدا عن التدين؛ لتنتهي عند حالة أخيرة لا يكون فيها للدين محل مثلا لكان ذلك أغرب الخلط في فهم مذهب كومت. فإن تقدم الإنسانية سيسوقها إلى حال ستكون دينية قبل كل شيء، وترتب فيها الديانه حياة الإنسان كلها، ولا نحسب كومت يأبى أن يعرف الإنسان بما عرفه كثيرون غيره من أنه حيوان متدين، وقد يمكن تطوير تاريخ الإنسانية من بعض وجوهه تطورا يسيرا من الديانة الأولى (ديانة عبادة الأصنام)؛ ليقف عند (الديانة النهائية). لكن الغرض من قانون الحالات الثلاث ليس هو تصوير تطور الإنسانية الديني، وإنما هو خاص بسير العقل الإنساني؛ فهو يذكر الفلسفات المتعاقبة التي أخذ ذلك العقل بها في تفسير الظواهر الطبيعية، وهو بالاختصار قانون تطور «الفكرة».
ولا شك في أن الذين أخطأوا الفهم لم ينظروا إلى ذلك القانون إلا في الدرس الأول من «الدروس»، حيث ذكر منعزلا عن تطبيقاته. ولكن هذا الخطأ لا يبقى له محل إذا رجع الإنسان إلى الجزء الرابع من «الدروس»، حيث وضع ذلك القانون في المكان الواجب له عند الكلام عن الحركة الاجتماعية، فإذا رجع الدرس الثامن والخمسين من الجزء السادس ارتفع كل إبهام.
على أن تقرير كومت لهذا القانون في الصحائف الأولى من (دروس الفلسفة الوضعية) لم يكن عن غير حكمة. فإن قانون التطور العقلي للإنسانية، أعني قانون الحالات الثلاث هو بالنسبة لعلم الاجتماع كما يتصوره كومت القانون الأهم للحركة الاجتماعية، وبالتالي للعلم الاجتماعي كله. فإن العامل العقلي هو أهم كل العوامل الاجتماعية التي ينشأ تقدم الإنسانية عن تطورها المصطحب المتضامن. فهو بذلك حاكمها جميعا بمعنى أنها كلها تتعلق به أكثر بكثير مما يتعلق هو بها. وعليه فتاريخ الفنون والأنظمة والأخلاق والحقوق والمدنية على العموم لا يمكن فهمها من غير الرجوع إلى تاريخ التطور العقلي، أي: تاريخ العلم والفلسفة، في حين أن هذين يمكن مع شيء من التدقيق فهمهما من غير الرجوع لما سواهما.
فهذا التطور هو إذن العماد الأهم الذي تترتب حوله باقي أنواع المظاهر الاجتماعية. والقانون الذي يعبر عنه هو كذلك القانون (الأساسي) الأول و(الأعم) بالمعنى الذي قصده كومت من هذه الكلمة الأخيرة. فالإشارة إلى هذا القانون وذكره، فيه التقدم بتبرير العلم الاجتماعي كله، وتدليل واقعي على أن العلم الاجتماعي ليس ممكنا فحسب، بل إنه موجود بالفعل، ومن هنا تلك المكانة العليا التي يضع كومت فيها قانون الحالات الثلاث. •••
يقدم كومت إثبات هذا القانون في شكلين متغايرين؛ فهو يستند لذلك على التاريخ أولا. والتاريخ يشهد حقيقة أن كل فرع من فروع معلوماتنا مر بهذه الحالات الثلاث من غير أن يرجع القهقرى أبدا، ولئن كان صحيحا أن الأكثر منها لم يصل بعد إلى الحالة الوضعية، فإنه قد لوحظ أن هذه قد سارت حتى الآن في الطريق الذي سار فيه غيرها مما وصل إلى تلك الحالة.
والتحقيق التاريخي يكفي لإثبات ذلك عند الضرورة على شريطة أن يكون كاملا، ولكن كومت لا يكتفي به ويدعي إلى جانبه استنتاج قانون الحالات الثلاث من الطبيعة الإنسانية. ويتقدم لإثبات ذلك من طريق مباشر مستقل. بل إنه ليرى التاريخ على ما فيه من حجة ودليل غير واضح الصورة في هذا الباب، ويرى الاستعانة بالبسيكولوجيا للوصول إلى الوضوح المطلوب. قال: (يجب أن ندقق في تحديد العوامل العامة المختلفة المأخوذة من معرفتنا الطبيعة الإنسانية معرفة مضبوطة، والتي جعلت التعاقب المحتوم للظواهر الاجتماعية غير ممكن اجتنابه من جهة وضروريا من الجهة الأخرى، ما دام نظرنا متجها بكله إلى تطورها العقلي الذي يحكم سيرها العام أكثر من كل ما سواه).
12
فلم يكن الذهن الإنساني قادرا أن يبدأ بتفهم الطبيعة إلا على الشكل الديني من أشكال الفلسفة؛ ذلك لأن هذا النوع هو الوحيد الذي يظهر فجأة ولا يحتاج أن يسبقه غيره. وعليه ترى الإنسان أول ما يتصور القوى يتصورها على مثال نفسه، ويتفهم الظواهر بجعلها شبيهة أعماله حيث يحسب نفسه عليما كيف تنتج هذه الأعمال، نظرا لما عنده من إحساس بمجهوده وشعور بإرادته. وهذا التفسير التصويري ملازم لطبيعتنا حتى لنرانا في كل لحظة على أهبة الاستسلام له. ولو أنا اليوم نسينا النظام الوضعي لحظة وتقنا للبحث عن طريقة حدوث بعض الظواهر، فسرعان ما يجيئنا خيال مبهم من قوة تشابه قوتنا إلى حد ما. وإن أولئك الميتافيزيقيين الذين يجعلون من الله شخصا لهم عند كومت أشد من كل أمثالهم، الذين يدعون معرفة صورة الله، تمشيا مع أنفسهم.
صفحة غير معروفة