1 - الدين والعلم1
2 - أوجست كومت وفلسفته1
3 - المعرفة أساس إيمان المستقبل1
4 - القدرية والجبرية أو الاختيار والاضطرار1
1 - الدين والعلم1
2 - أوجست كومت وفلسفته1
3 - المعرفة أساس إيمان المستقبل1
4 - القدرية والجبرية أو الاختيار والاضطرار1
الإيمان والمعرفة والفلسفة
الإيمان والمعرفة والفلسفة
صفحة غير معروفة
تأليف
الدكتور محمد حسين هيكل
الفصل الأول
الدين والعلم1
«... أما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة.»
1 ... فأما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة؛ لأنها خصومة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وأما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة؛ لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والواجب شيء والواقع شيء آخر، والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، والكمال الذي يظن العلم أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده؛ لأن العلم يعترف بأن الإنسانية، وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ومورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة. وإلى أن يكشف العلم - إن أتيح له أن يكشف يوما ما - عن هذه العوامل غير المعروفة، فالكمال العلمي لا يزال ظنيا وما يزال مبهم الحدود غير مقرر القواعد والأركان.
فإذا سمعت يوما أن بين الدين والعلم خلافا أو خصومة فاقطع بادئ الرأي بأن الخلاف والخصومة ليستا بين الدين والعلم، ولكنهما بين رجال الدين ورجال العلم، وأن أساسهما ليس في شيء من الدين لذاته ولا من العلم لذاته، ولكنه في سعي كل من هاتين الطائفتين سعيا أنانيا صرفا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى.
وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن بين رجال الدين علماء في العلم آخذون بأساليبه من غير أن يطعن ذلك في دينهم أو يغير من عقيدتهم، ومن بين رجال العلم من عمرت بالإيمان نفوسهم، وأخذوا في حياتهم بما يدعو الدين إليه من قواعد الكمال . وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن رجال الدين من إذا خلوت إليه أو خلا إلى نفسه رأيت الشك يملأ جوانب فؤاده فيعذبه أو يدفعه إلى السخر والاستهزاء من غير أن يخرجه ذلك من زمرة رجال الدين، ومن رجال العلم من يشك في طرائق العلم وأساليبه أكبر الشك، ويدعو لذلك إلى الأخذ بأساليب أخرى قد تكون إلى أساليب الدين أقرب.
ألم يكن رينان الكاتب الفرنسي الكبير من رجال الدين، ثم بلغ من خروجه على متعارف قواعد الدين أن رمي بالإلحاد وأن أضافه أهل طائفته إلى رجال العلم ليحاربوه بالوسائل التي يحاربون بها رجال العلم، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي الكبير يدعو إلى عدم التقيد بأساليب العلم الواقعي المقررة أن كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق، وإلى الأخذ بوحي الإلهام فيما لم يصل العلم إلى الكشف عن حقيقته. ووحي الإلهام أقرب إلى الأساليب الدينية، بل هو قاعدة المذاهب الميتافيزيقية التي أنكرها العلم أشد الإنكار. وكثيرا ما حارب الدينيون رجلا منهم بتهمة خروجه على الدين فلما أتى عليه الموت وتقضت شهوات الحياة وفي مقدمتها شهوة الحكم والسلطان، ودخل هذا الرجل حوزة التاريخ عاد جيل جديد من الدينيين فجعله من المقدسين والأولياء المقربين. بل إنك لترى رجال الدين يشتدون في خصومتهم لأشد رجال العلم إيمانا لا لشيء إلا أن هؤلاء المؤمنين العلماء عرضوا لميدان الدين بالبحث. وهذا ديكارت العالم الفيلسوف الفرنسي الكبير كتب في العلم خير كتبه وعلا بين الناس مقامه وفضله، ولم يعرض له رجال الدين إلا حين بحث على طريقته العلمية - التي تبدأ بإنكار كل شيء - في وجود الله وخلود الروح. ومع أنه انتهى إلى إثبات وجود الله وخلود الروح بأدلته العلمية، فقد حظر رجال الكنيسة على الناس قراءة هذا الكتاب، بل قراءة كتب الفيلسوف كلها، وكانت مباحة من قبل. كذلك كان الأمر مع روسو؛ فقد أثبت وجود الله وأظهر من قوة الإيمان وفضله وجماله ما ندر أن استطاع واحد من رجال الدين أنفسهم الوصول إليه؛ ولهذا قامت عليه قيامة رجال الدين فنفي من فرنسا ونفي من سويسرا والتجأ إلى إنجلترا ثم تركها وظل هائما على وجهه طريدا من الكنيسة بقية حياته. هذا، وربما جاز لنا أن نقرن إلى هذين الاسمين اسم عالم من علماء الإسلام هو الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ فلقد لقي في حياته من رجال الدين عنتا ورمي بالكفر والإلحاد، وهو صاحب رسالة التوحيد والقوة التي لم تعدلها في عصرها قوة للذود عن حياض الإسلام والمسلمين ضد من طعنوا عليه من أهل الأديان الأخرى.
ويزيدك دلالة على ما تقدم وعلى أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، بل هو بين رجال الدين ورجال العلم وأنه خلاف على السلطة ونظام الحكم قبل أن يكون خلافا على شيء آخر، ما كان من الخلاف بين طوائف رجال الدين أنفسهم حين انقسامهم إلى مذاهب مختلفة. فقد بدأ الخلاف بين أهل هذه المذاهب على أنه خلاف في المبادئ لذاتها، ثم سرعان ما انقلب خلافا غايته السلطة والحكم، وكلمة هنري الرابع: «باريس تساوي قداسا» - يقصد أن امتلاك باريس يستحق انتقاله من البروتستاتنية إلى الكثلكة - تدل على معنى كبير. وكل الفرق بين هنري الرابع وغيره أن هنري الرابع كان صريحا وأن كثيرين يذهبون مذهبه لو أنهم وجدوا ما يساوي ذهابهم هذا المذهب. فإذا لم يجدوه ورأوا في التعصب لرأيهم ما يساوي باريس تعصبوا لهذا الرأي أيما تعصب.
صفحة غير معروفة
الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم إذن هي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم جميعا، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم. وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال السياسة وأولياء الأمر في الدولة. ألم يكن ريشليو كبير وزراء فرنسا كاردينالا من أكابر الكرادلة. لكن مجده على التاريخ ليس مجدا دينيا بل هو مجد سياسي؛ لأن رجال الدين كانت لهم الغلبة على رجال العلم في عصره، فآلت إليهم شئون الدولة وقام أذكياؤهم وذوو الدراية والدربة في الشئون العامة منهم بالتقدم إلى مصاف الحكم. لكن هؤلاء كانوا يتبادلون المعاونة مع أهل طائفتهم من رجال الدين. فكانوا يعينونهم على الحياة ومرافقها وييسرون لهم أسباب العيش فيها بما في يدهم من سلطان يسمح لهم بالتحكم في خزانة الدولة. وكانوا يستعينون بما لأهل طائفتهم من رجال الدين من سلطان على المجموع وحكم على عقائده وعلى أعماله.
ولم تنج دولة من الدول ولم ينج عصر من العصور من هذا الصراع الطائفي. وهو طائفي محتوم؛ لأن رجل الدين ليس في الواقع رجل دين باختياره، ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، بل كل واحد منهم له هذه الصفة بالنشأة التي نشأها والبيئة التي تربى فيها وبالطائفة التي يسرته الحياة ليكون أحد أفرادها؛ فهو في خصومته غير مختار بأكثر مما يختار الجندي المدافع عن وطنه، هذا الجندي يستحمس ويستميت لا لأن له في ذلك مصلحة ذاتية، ولكنه يعلم أو يشعر شعورا لا سبيل فيه لريب أو شك أن هزيمة بلاده تخضعه لألوان من الذل يقاسيها بالاشتراك مع أهل بلاده جميعا، كذلك رجل الطائفة يسير وطائفته جنبا لجنب لمثل هذا السبب. والذي يخرج على طائفته متأثرا بعقيدة خاصة أو رأي شخصي مثله مثل الذين لا ينخرطون في سلك الجندية، ولو اعتبروا فارين وأعدموا لاعتقادهم بأن الحرب إثم وحشي لا يجوز لإنسان أن يقدم على اقترافه ولو تحمل في سبيل ذلك ما تحمل من النتائج.
ولم يكن فوز طائفة رجال الدين بالحكم، ولا كان فوز طائفة رجال العلم راجعا إلى الدين لذاته أو إلى العلم لذاته، بل كان راجعا أبدا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. واعتقاد المجموع بالصلاح لولاية شئون الدولة يرجع إلى اعتبارات عملية لا دخل للدين ولا للعلم فيها، وإنما الدخل لقوام الخلق وحسن البصر بالأمور وبعد النظر ودقة معرفة حاجات الدولة في الفترة التي يحكم المجموع فيها، سواء ما تعلق من هذه الحاجات بحكم الدولة في شئونها الداخلية وما تعلق بصلاتها بسواها من الدول.
ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوروبا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئا فشيئا، حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى. وإنما تغلبت طائفة رجال العلم أن نشأ المخترعون والاقتصاديون. وهؤلاء وأولئك جعلوا الناس أكثر حرصا على حياة أكثر رفها ونعمة. وقد تقدمت الاختراعات على يد رجال العلم إلى حد أيقن الناس معه أن رجال الدين - على حاجة الناس إليهم لهدايتهم في سبيل الله - أقل صلاحا للحكم وتنظيم شئون الدنيا من رجال العلم. وامتد هذا الاعتقاد وساد أوروبا كلها وانتقل مع الغزاة والمستعمرين الأوروبيين إلى أمم الشرق، وهو اليوم قد تغلغل في هذه الأمم حتى أصبح من البدهيات المسلم بها عند الناس جميعا، أن خير ما يجب أن يتحلى به رجل الدين الورع والزهد في الدنيا وزخرفها، والتقرب إلى الله للعبادة والانقطاع له بدرس الدين من غير تعرض لشئون الدولة ولا لنظام الحكم فيها.
وهذه تركيا مثل قوي من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة. ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة، وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني. وكلما ازداد الغرب والشرق اشتباكا، شعر الناس بأن العلم وما يكشف عنه من مخترعات جديدة وما يضعه من نظم اقتصادية وقواعد للعيش، وهو القدير على أن يهبهم من نعم الحياة جديدا وأن يرفع عنهم من بؤسها ما رزحوا تحت أعبائه سنين طويلة، إذن فسيبقى السلطان ونظام الحكم في يد رجال العلم. وستبقى الخصومة بينهم وبين رجال الدين قائمة. ولكن من شأن هذه الخصومة أن تكمن إذا قويت إحدى الطائفتين قوة تضطر الثانية للإذعان والخضوع، وأن تظهر إذا بدت للطائفة الضعيفة بارقة أمل من قوة.
وليس محققا أن تبقى السلطة أبدا لرجال العلم. فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه، فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدا. صحيح أن رجال العلم لا يقرون اليوم بهذا، إذ يذهبون إلى أن العلم يمتد سلطانه إلى كل ناحية من نواحي الحياة، وقد تكون دعواهم هذه صحيحة، لكنها قد تكون مبالغا فيها كذلك، فمن قبلهم قال الميتافيزيقيون: إن الميتافيزيقا تحل كل ما في الحياة من رموز وتصل إلى ما فيها من حقيقة. ومن قبل هؤلاء قال المتكلمون (التيولوجيون) مثل قولهم. واليوم يقوم جماعة الروحانيين وأضرابهم يقولون: بتفسير ما في الحياة على طريقة غير الطرائق العلمية المقررة. ولئن كان هؤلاء الروحانيون يتمسحون بالعلم وبطرائقه اليوم فقد تمسح العلماء من قبل بالميتافيزيقا وبالدين. فلما اطمأن العلماء إلى شيء من القوة نادوا باستقلالهم التام وأعلنوا طرائقهم الخاصة.
فإذا شعر الروحانيون وأضرابهم يوما بعقم العلم وبجمود العلماء واقتصارهم على المحافظة على القديم وعدم اجتهادهم لإحداث جديد، وإذا شعروا يوما بأن الناس قد أترعوا بآثار العلم فتاقت نفوسهم إلى جدة روحية أو نفسانية لا يستطيع العلماء في جمودهم تقديمها لهم - إذا شعر هؤلاء يوما ما بهذا - وقد يأتي هذا اليوم أو لا يأتي - فقد يعلن هؤلاء الروحانيون وأضرابهم استقلالهم عن العلم وطرائقه، وقد يتقدمون للناس يطلبون الثقة بهم وإيلاءهم الحكم ليتمكنوا من تقديم الغذاء الروحي الطامحة نفوسهم له. ويومئذ تقوم خصومة جديدة بين طائفة العلماء وطائفة الروحانيين وأضرابهم على السلطة والاستئثار بنظام الحكم، كالخصومة التي كانت وما تزال قائمة بين رجال العلم ورجال الدين.
على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدا. ولئن كانت بعض النزعات تقوم في الغرب لمحاربة القواعد الواقعية، فإن هذه القواعد ما تزال خصيبة في الإنتاج، وما تزال طوائف العلماء المختلفة تتجاذب كل منها الحكم إليها كما كان يتجاذبها أصحاب المذاهب المختلفة في الدين. وهذه المذاهب الاشتراكية والشيوعية التي تحارب المذهب الفردي في الاقتصاد ما تزال بعيدة عن أن تحقق أيا من الأسس التي قامت لتحقيقها. وما تزال غزوات العلم في الشرق في أول عهدها. وما يزال الأمل واسعا في أن يحقق العلم في الشرق من الرفاهية والنعمة والسعادة ما يمكن لحكمه زمنا طويلا.
وسواء لدينا أكان الحكم لهؤلاء أم أولئك من أهل الطوائف المختلفة، فنحن لا نملك من أمر ذلك شيئا. وكما أن الأصلح للبقاء بين الأفراد هو الذي يبقى، كذلك فإن الأصلح من الطوائف للحكم هو الذي يحكم. وكما أن النزاع بين الأفراد كان ولن يزال، كذلك فالنزاع بين الطوائف كان ولن يزال. وما دام العلم في تطور دائم فالنضال سيكون قاعدة هذا التطور. وإن أمكن أن يتطور النضال نفسه فيصبح سلميا بعد أن كان دمويا. لكن الأمر الذي لا نزاع فيه، والذي عرضنا من أجله لهذا البحث، هو أن الخصومة لم تكن يوما بين الدين والعلم وإنما كانت وستكون بين رجال الدين ورجال العلم، وسيكون أساسها وقاعدتها الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم.
2
صفحة غير معروفة
ما الدين وما العلم وما تعريف كل منهما تعريفا جامعا مانعا؟
الإسلام على خلاف سائر الأديان يتناول أمور الدين وأمور الدنيا ويحض على طلب العلم؛ فالعلماء عند المسلمين هم رجال الدين.
أساس العلم التطور والتجديد؛ ولذلك لا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد أو أن يجمد رجاله؛ ومن ثم سيسد أبدا حاجات البشر.
هذه وأمثالها هي المسائل والردود التي أدى إليها مقالنا عن الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم، وقد دلت هذه المسائل والردود على صدق نظريتنا من أن الدين والعلم لا خلاف بينهما؛ لأن لكل منهما ميدانا غير ميدان الآخر؛ وأن الخلاف منحصر بين رجال الدين ورجال العلم على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وقد تظهر المسألة الأولى، مسألة تعريف الدين والعلم، بريئة من الدخول في خصومة ما بين رجال الدين ورجال العلم لو أنها طرحت للبحث النظري ليس غير. لكنها وردت على لسان أقوام ظاهر من بقية عبارتهم اشتراكهم في الخصومة. ففقدت بذلك طهرها وبراءتها أن شابها الغرض وأدت إليها الخصومة.
ونحن لم نعرض للمسألة في مقالنا الماضي؛ لنثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم، ولكن لننفي الخصومة بين الدين والعلم ولنثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس هو في الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منهما، وأنها خصومة غايتها التسلط والحكم قبل أن تكون لها أية غاية أخرى. ونفي الخصومة بين الدين والعلم قد يحتاج إلى بعض إيضاح للمسائل التي ناقش بها بعضهم رأينا. ونعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الذين باحثونا أو أرادوا مباحثتنا سينتهون إلى الاتفاق معنا اتفاقا تاما وسيسلمون، سواء أكانوا من رجال الدين أم من رجال العلم، بأن الخصومة بينهم خصومة مادية محضة، العلم لذاته منها بريء، والدين لذاته منها بريء.
وأول ما نتقدم به للتدليل على رأينا الجواب عن سؤال السائل: ما العلم؟ وما الدين؟ ولا نريد منذ الآن أن نضع ما يسمونه تعريفا جامعا مانعا لكل منهما؛ لأن التعاريف كثيرا ما تجني على البحث الذي يؤدي إلى تصوير حقيقة واقعة من الوقائع، والدين والعلم واقعتان تاريخيتان في حياة الإنسانية. كما أن التعاريف كثيرا ما تؤدي إلى مناقشات جدلية لا طائل تحتها ولا نتيجة لها إلا زيادة التشعيب في المسائل التي يتناولها البحث تشعيبا لا ضرورة له، وكل أثره أن ييسر السبيل إلى الضلال.
على أنا نبادر من الآن لنقول: إنا لم نقصد بالعلم مجرد المعرفة، وإنما قصدنا به العلم الوضعي أو الواقعي كما يسمونه
Science Positive
ولم نقصد بالدين ديانة خاصة، بل قصدنا الأديان جميعا من غير تفريق بينها. ولو أنا قصدنا بالعلم مجرد المعرفة لكان الدين علما في رأي الوضعيين الذين ينظرون إليه كواقعة اجتماعية تاريخية؛ ولكان العلم بعض آثار الدين الذي أحاط بكل شيء علما.
ولا ريب في أن العلم قديم؛ لأن أبسط المعارف هي أولى درجات العلم، فمنذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها، ومنذ رأى المغرب والمشرق يتكرران كل يوم فعرف أن هذا بعض نواميس الوجود وإن لم يدرك سره، ومنذ رأى النجوم ولاحظ ثبات بعضها في اتجاه معين فاتخذ منه هاديا في مسراه - من ذلك الحين كانت هذه المعارف الأولى؛ وما تزال؛ نواة العلم. وعلى توالي الأجيال تكاثرت وتداولت هذه المعارف التي تقع تحت الحس، والتي استنبط الإنسان منها نظام حياته بين الموجودات الكثيرة المختلفة التي تقع تحت حسه وملاحظته. وبتكاثرها وتداولها استطاع الإنسان التقريب بينها ومقارنتها واستنباط قوانين الوجود وسننه منها، واستطاع أن يستفيد بعلمه هذه القوانين والسنن ما يزيده سلطانا على الوجود وتحكما فيه واستمتاعا به.
صفحة غير معروفة
والدين قديم أيضا. فمذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها وسبح النجوم في أفلاكها
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ، ومنذ رأى نظام هذا الكون العظيم نظاما عجيبا يعجز عقله الضعيف، وعلمه المحدود عن إدراك كنهه أو تفسيره، من ذلك اليوم آمن بأن هذا الكون المملوء بالمخاوف والآمال، والذي ينتهي هو فيه إلى الموت قبل أن يحيط بكثير من أمره خبرا؛ لا بد لوجوده ولتدبيره من قوة أعظم من الكون ومن كل ما فيه أضعافا مضاعفة، وبأن هذه القوة الخالقة المدبرة لا تحيط بها الأفهام ولا تدرك كنهها العقول.
العلم والدين - الوقائع التي تقع تحت الحس وتحيط بها الملاحظة، والإيمان الذي ينبعث إلى النفس حين مشاهدتها عظمة الكون ونظامه بأن لا بد لوجود الكون وتدبيره من قوة لا حدود لقوتها - العلم والدين قديمان، إذن متجاوران في النفس الإنسانية منذ الأزل الإنساني. وسيظلان متجاورين فيها ما بقي في الكون غيب لا بد للإنسان معه الالتجاء إلى الإلهام حين تفسير الوجود. والإنسانية حريصة على تفسير الوجود؛ لأنها حريصة على أن تطمئن لمكانها منه ومستقبلها فيه.
ولما كانت المشاهدات الإنسانية، سواء منها ما أحاط به الحس وحدده وما أحاط به وعجز عن تحديده؛ هي مصدر العلم ومبعث الإيمان. ولما كانت هذه المشاهدات في بداية أمرها قليلة محدودة يسهل على عقل الرجل أن يدركها جميعا - فقد نشأ من تجاور العلم والدين في النفس الإنسانية ما يكاد يكون تضامنا بل تمازجا؛ فالمعلومات التي تقع تحت الحس تقاس إليها المعلومات التي لا يحيط بها الحس إحاطة كافية، وينهض الكل دليلا ملموسا على ما هدى إليه الإلهام، والإلهام يفسر ما تعجز الحواس عن تحديده تفسيرا يكفل للإنسان الهوى في حياته. وكذلك تضامن الشعور والإدراك، القلب والعقل، والإيمان والعلم، في وضع سنن الحياة الإنسانية التي تكفل سعادة الإنسان في الحياة وبعد الموت.
وكان هذا التعاون والتضامن في أول الأمر تعاونا وتضامنا بين قوتين غير متكافئتين. فإن علم الإنسان المحدود ومعارفه القليلة كانا ضئيلي الفائدة جدا إلى جانب ما يفيده إيمانه في الحياة من قوة على الحياة، فلم يكونا ليدفعا عنه غائلة المعتدي ولا ثوران الطبيعة، ولا كانا يؤديان إليه من نعمة الحياة المادية أكثر مما تهديه إليه سجيته الفطرية. أما الإيمان فكان يحل له - فيما يظن - كل العقد ويبلغه كل الغايات ويرشده إلى الوسيلة إليها. والجماعات تخضع في نظام حكمها لطريقة التفكير التي تهديها السبيل لتحقيق غاياتها ومآربها؛ لذلك خضعت للإيمان الصادر عن الإلهام وأسلمت رجال الدين ولاية الأمر.
ولما كانت الإنسانية بحاجة مع ذلك إلى الاستفادة من علمها المحدود ومعارفها القليلة، فقد كانت معارف الحس بعض ما انصب عليه الإيمان الملهم وسلكه في نظامه. وبهذا التطابق سارت الإنسانية قرونا طويلة يحس المجموع فيها السكينة إلى العيش والطمأنينة إلى الحياة وإلى الموت وإلى ما بعدهما.
في هذه القرون الطويلة أسلمت الإنسانية قيادها إلى أولئك الدعاة الصالحين الذين هدوها سبل الخير، وكان العلماء بعض طوائف هذه الإنسانية السعيدة. وقد أسلموا هم الآخرين القياد إلى الهداة؛ لأن علمهم كان أقصر من أن يقدم للإنسانية غذاء ماديا كافيا أو غذاء قلبيا كافيا أو غذاء روحيا كافيا، لكنه كان مع ذلك نواة العلم الوضعي أو العلم الواقعي الذي أنتج اليوم من الثمرات أغزرها مادة وأقواها سلطانا. •••
وفيما كان رجال العلم - وأقصد العلم الواقعي - قانعين دائما بحظهم هذا، راضين بقناعتهم أو كارهين لها، قائمين في خدمة السلطان، دائبين على طرائقهم في البحث في هذا الكون وأسراره وسننه، يؤمن منهم من يهدي الله قلبه إلى الإيمان، ويداخل منهم من يداخله الشك في هذا الهدى إن وجد فيه ما لا يقبله عقله ولا يطمئن إليه تفكيره، ثم يعلن شكه وإن تعرض من أجل ذلك إلى ضروب القسوة وألوان العذاب - في هذه الأثناء، وكانت هذه الأثناء أجيالا وعصورا وقرونا ترجع إلى القدم هي الأخرى ، قام جماعة التجريديين (الميتافيزيقيين) وسطا، أو بالأخرى صلة، بين الطرفين. والذي يستطيع أن يتوسط أو أن يصل بين الإيمان بالوحي وتقرير الواقع هو العقل؛ لذلك كان العقل المحض هو أداة التجريديين للوصول إلى ما سموه الحقيقة المطلقة. فما أقره العقل ولو أعوزه الدليل المحسوس كان حقا، وما نفاه العقل ولو أيده الوحي كان مفتقرا للدليل كي يثبت. وواسطة العقل في التدليل المنطق؛ ولذا كان المنطق من أقدم العلوم الإنسانية، أو الفنون الإنسانية إن شاء العلماء الواقعيون.
وكثيرون من التجريديين كانوا مؤمنين إيمانا صادقا، وعليهم وعلى أدواتهم في البحث والتدليل اعتمد رجال الدين أزمانا طويلة. على أن من هؤلاء التجريديين من كانوا كذلك ملحدين إلحادا صريحا، ومنهم من كانوا يؤمنون بأن في العلم مادة حياته ووجوده، كما يؤمن المؤمنون بأن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش. وقد قوي سلطان التجريديين بعد أن تعددت الأديان واتخذ بعضهم من تعددها وسيلة للمقارنة بينها والتشكيك فيها. ومن هؤلاء التجريديين (الميتافيزيقيين) من كان يؤيد دينا بعينه، ومنهم من كان يؤيد الإيمان بالله وبالروح وخلودها وبالبعث والحساب. وأنت واجد من هؤلاء التجريديين - أو الفلاسفة كما كانوا يدعون - عددا غير قليل إلى جانب كل دين يؤيده ويعززه. فثم فلاسفة إسلاميون وفلاسفة مسيحيون وفلاسفة إسرائيليون وفلاسفة غير هؤلاء يؤيد كل منهم الدين بحجة العقل المحض. وأنت واجد كذلك من الفلاسفة عددا غير قليل يؤيد الإيمان لذاته، يثبت الله والروح والبعث، ثم يداخله الشك في الأديان على أنها منزلة من عند الله، وإن كان يعترف لأصحابها بكل عظمة وسمو وتفوق، ويراها ظاهرات اجتماعية آمن الناس بها؛ لأن قلوبهم في حاجة إلى الإيمان؛ ولأن موضع الإيمان من نفوسهم لا يمكن أن يبقى خلاء لا يملؤه شيء.
وقد ازداد التجريديون - أو الفلاسفة إن شئت - شوكة في أوروبا بعد عهد الإصلاح وتضاعفت قوتهم، وقويت شوكتهم بعد انقسام المسيحيين إلى كثالكة وبروتستانت وأرثوذكس وما جاور هذه من المذاهب الأخرى. ذلك بأن أهل هذه المذاهب بدءوا يتناحرون ويهدم بعضهم بعضا . وكان مما يطعن به بعضهم على بعض أن مذهبا من المذاهب لا يسلم به العقل. خذ مثلا المسألة الجوهرية التي قام عليها النزاع بين لوثر وخصومه والتي أدت إلى الانقسام: مسألة حق الغفران وبيع براءاته. فهل يسلم العقل أو لا يسلم بأن لرجال الدين أن يغفروا ذنوب غيرهم؟ وامتد النزاع إلى غير هذه من المسائل فتقدم التجريديون كل ينصر جانبا بحجة العقل المحض ومنطقه. وأدت هذه النهضة في الفلسفة إلى تقدم في التفكير وإلى سعي في استنباط الأدلة من الواقع المحسوس، فإلى تقدم في العلم الوضعي الذي كان إلى ذلك الحين ما يزال في خدمة الدين والفلسفة، وكان أصحابه ما يزالون طائفة ضعيفة الحول والسلطان. وشجعت هذه النهضة قوما على الإنكار والإلحاد وعلى التبرم بكل هذه المضاربات النظرية التي يصوغها منطق العقل حججا وبراهين، بل قواعد ومذاهب، والتي لا تستقيم ولا تقوى على الوقوف إلا ريثما يهدمها منطق العقل بحجج وبراهين مثلها. وقام النزاع بين التجريديين (الفلاسفة) حادا قويا. هذا يثبت وذاك ينفي، هذا يقيم مذهبا وذاك ينقضه. وبقي رجال الدين بعيدين عن المعركة لا يشتركون فيها اشتراكا يلفت إليهم النظر أو يستهوي إليهم الأفئدة، ولا يقومون فيها بعمل أكثر من إصدار القرارات والأحكام ضد الفلاسفة الذين يعتقدونهم لهم خصوما.
صفحة غير معروفة
واتجه الناس إلى الفلاسفة؛ لأنهم رأوا طريقة تفكيرهم أقرب إلى هداهم في سبيل الحياة لتحقيق مآربهم منها. ومعنى هذا الاتجاه أنهم أسلموهم قياد الحكم. ورأى رجال الدين ذلك فعز عليهم أن يفلت الحكم من يدهم. لكن استبقاء الحكم لم يكن أمرا ميسورا لهم بعد الذي كان من جمودهم وعجزهم عن أن يقدموا للإنسانية غذاء جديدا. فقاموا بحركة دوران لا تخلو من مهارة. ذلك أنهم رأوا بين التجريديين مؤمنين بالدين حريصين على تأييده. ورأوا الملوك أكثر إلى هؤلاء الفلاسفة المؤمنين ميلا فانضموا إليهم وأيدوهم واثقين من أن اشتراكهم وإياهم في الإيمان يستبقي لهم شيئا من السلطة غير قليل، وما داموا لم يستطيعوا الاستئثار بها جميعا فبعض الشر أهون من بعض. وفي مقامهم هذا وجهوا كل قوتهم لمحاربة الفلاسفة الذين لا ينصرون الدين المسيحي. وكانت حربهم المؤمنين من هؤلاء الفلاسفة الذين يقفون عند تأييد الإيمان بالله والروح والبعث من غير أن يؤيدوا الدين أشد من حربهم الفلاسفة الملحدين. ذلك بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يحاربون من القواعد التي وضعها رجال الدين وجعلوها من الدين ما لا يثبت أمام العقل، وكانوا في نفس الوقت يؤيدون الإيمان الذي لا غنى للمجموع عنه. وهذه الطريقة أشد خطرا على سلطة رجال الدين من طريقة الملحدين؛ لأن الملحدين يهدمون الإيمان الثابت ولا يقيمون بناء غيره يحل محله؛ فهم بذلك بعيدون عن أن ينالوا تأييد المجموع، بعيدون عن أن يصلوا لثقة المجموع بهم كي يحكموه، وطبيعي وهذه هي الحال أن يوجه رجال الدين قوتهم لمقاتلة أمثال ديكارت وروسو وغيرهم من المؤمنين الذين ينافسون المتدينين في الوصول إلى تأييد المجموع إياهم وحكمهم إياه. وكيف لا يجزع الدينيون من المؤمنين، وقد حاول غير واحد من هؤلاء المؤمنين أمثال روسو أن يقيم دينا جديدا يحله محل الأديان المقررة.
على أن وصول الفلاسفة المتدينين للحكم دفع طبقة الفلاسفة كلها للصف الأول من طوائف الجمعية. ولم يكن من تأييد رجال الدين الفلاسفة المتدينين إلا أن زادت المعركة بين الفلاسفة أوارا وشدة، وفي سبيل النصر فضح الفلاسفة المؤمنون والفلاسفة الملحدون جميعا مخازي الكثيرين من رجال الدين، وأظهروا المجموع على شره هؤلاء وشهواتهم وحبهم المال، وتهالكهم على الملاذ وحرمانهم المجموع من كثير من أسباب نعمته وسعادته. وفي هذه الأثناء كلها كان العلم يزداد انتشارا ورجاله قوة، ويفكرون في الوسيلة لإسعاد المجموع من طريقه. •••
لم تكن المباحث العلمية إلى ذلك الحين بعيدة عن المباحث التجريدية (الفلسفية)، ولم يكن العلم ورجاله طائفة محددة تأبى الخضوع لغيرها والفناء فيه. بل كانت العلوم الوضعية التي استقلت فيما بعد وأصبحت جزءا من مجموع الفلسفة الوضعية - ولا نقول: الديانة الوضعية أو ديانة الإنسانية كما قال أوجست كومت؛ لأن أحدا لم يؤمن بهذه الديانة - كانت العلوم الوضعية في خدمة التجريد بعد أن كانت قبل ذلك في خدمة اللاهوت (أو الكلام أو الثيولوجيا ). لكن هذه العلوم بدأت منذ القرن السادس عشر تستقل بنفسها استقلالا صحيحا. وقد عاونها على هذا الاستقلال أن غزرت مادتها، واتسع مدى بحثها فاستطاعت أن تتوقع إخضاع المعارف كلها لطريقتها: طريقة الملاحظة والمقارنة والاستنتاج لمعرفة سنن الكون الثابتة بالدليل المحسوس، والتي لا سبيل فيها إلى خلاف أو جدل. على أن فروعا من المعارف كانت إلى ذلك الحين - وما يزال بعضها إلى اليوم - أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم، وإن كانت كفنون أقرب إلى العلوم منها إلى التجريد (الميتافيزيقا)؛ لأن موضوعاتها مما يمكن تصور وقوعه تحت الملاحظة.
هذه الفروع من المعارف هي الخاصة بالإنسان وبالجماعة الإنسانية، كالمباحث النفسية وكالاقتصاد السياسي وكالاجتماعيات. (ولست بحاجة إلى أن أبين هنا الفرق بين الفنون في هذا السبيل من البحث والمعلومات الفنية والفنون الجميلة، فهو فرق يعرفه كل من درس المبادئ الأولية في البحث العلمي).
قضى حسن الطالع أن يقرر الاقتصاد السياسي نظرية تقسيم العمل والتخصص فيه. وإن كانت هذه النظرية مقصورة في أول أمرها على الأعمال المادية عموما وعلى العمل الصناعي خصوصا. فلما انفرج أمام العلم وأمام العقل أفق البحث والنظر تسربت النظرية الاقتصادية إلى ميادين العمل العلمي والعمل العقلي، وترتب عل ذلك أن تخصص كل عالم وكل مفكر لما يسر له. فترتبت على ذلك نتيجته الطبيعية وازداد إنتاج البحوث العلمية والعقلية ازديادا عظيما، وجاء الوقت الذي قضى بتقسيمها وتقديم الصالح للجماعة ونظامها وحكمها على ما هو أقل منه صلاحا، وعلى ما لا يحتاج إليه الإنسان إلا لرياضة عقله ورياضة نفسه.
وسنحت فرصة هذا التقسيم على أثر الثورة الفرنسية. فقد جاءت هذه الثورة في وقت بلغ فيه النضال بين التجريديين من متدينين ومؤمنين وملاحدة أشده، ووقف فيه رجال الدين وراء التجريديين المؤمنين ينصرونهم بالطعن على عقيدة خصومهم، ووقف هؤلاء الخصوم يظهرون الناس على ما خفي من فضائح رجال الدين ومخازيهم، ويدلونهم على أن أولئك الذين يتظاهرون بالورع والتقوى وبالزهد في الدنيا، وباطل زخرفها وغرور متاعها أكثر الناس رذائل وخطايا، وأحرصهم على اكتناز الأموال وإن أظهروا التعفف عنها، ويشيرون لهم باليد واللسان إلى انكداس الأموال المرصودة على الكنائس والتي يتخذها رجال الدين وسيلة إلى لذتهم وإلى إفساد الضمائر والذمم، ويطلعونهم من الأمور على ما يؤكدون معه أن القلنسوة والطيلسان لا يستران إلا نفاقا وكذبا وإلا ذمما خربة، ونفوسا خاوية من كل فضيلة وضمائر معروضة للبيع عرض السلع. وقضى الحظ أن يكون صاحب إنجيل الثورة الفرنسية السياسي جان جاك روسو ... وروسو كان مؤمنا أشد الإيمان، ولكنه كان مع احترامه التام لأصحاب الأديان، يعتبرهم عظماء هدوا العالم في عصورهم على النحو الذي كان يمكن هداية الناس من طريقه، كما كان خصما لرجال الدين في عصره لدودا. وكان له إلى جانب تعاليمه السياسية الحرة التي اهتدى الناس بها إبان الثورة نظرية في الدين جديدة هي نظرية الديانة الطبيعية التي تقف عند الإيمان بالله وبالروح وباليوم الآخر، وتذر لصاحب السيادة في الدولة تدبير طقوس هذه الديانة كما تذر له تدبير شئون الدولة السياسية، وفي طبائع المجاميع إذا وثقوا بزعيم أن يتبعوه في كل أفكاره؛ لذلك كانت سياسة روسو وديانته الطبيعية التي وضعها ونظرياته في التربية وآراؤه في الحرية تطبق إبان الثورة الفرنسية في أوسع دائرة ممكنة. على أن أمد ذلك لم يطل إلا ريثما استغل نابليون هذه الثورة لمجد نفسه، فوجه النفوس غير اتجاهها الأول، وإن جاهر بأنه إنما ينشر بحروبه مبادئ الثورة ويقضي على خصومها. فلما قضى نابليون وانقضى بانقضائه سحره الناس وبهرهم به، عادوا يفكرون في أمر الثورة ويريدون جني نتائجها. وفي سبيل هذه الغاية انصرف كثير من المفكرين يضعون من صور أنظمة الحكم ما يرونه كفيلا بحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى الثورة. على أن واحدا من هؤلاء المفكرين ذهب غير مذهبهم، ورأى أن تصور النظم لا يكفي ما دام طريق التفكير لا يتفق وهذه النظم. هذا المفكر العظيم هو أوجست كومت صاحب الفلسفة الوضعية أو الواقعية. وأول من نظم عقد العلوم الوضعية في النظام الذي ساد أوروبا من ذلك الحين، والذي ما يزال صاحب السيادة برغم الحملات العنيفة التي توجه إليه، والتي تكاد ترج أساسه من حين إلى حين.
ونظرية كومت الأساسية هي ما يسميها قانون الحالات الثلاث
2
ويفسرها بأن العقل الإنساني في تصويره الوجود مر بحالات ثلاث: الأولى: الحال الثيولوجية أو اللاهوتية والثانية: هي الحال التجريدية وهاتان هما ما مر بك بيانه. والحال الثالثة: هي الحال العلمية التي تبحث من طريق الملاحظة والمقارنة والاستقراء عن سنن الكون وقوانينه الثابتة. وهذه الحال لا تثبت ولا تنفي من قواعد الإيمان، ومقررات الأديان ما لا يخضع لطرائق البحث العلمي. بل للعالم أن يؤمن أشد الإيمان وأن يكون متدينا أشد التدين من غير أن يجني ذلك على علمه شيئا؛ لأن ميدان الإيمان والدين غير ميدان العلم ولا ينقض مقررات العلم الثابتة، فلا محل لأن يحارب العلم ما ليس من خصائصه وما لا تتناوله طرائق بحثه.
وقد نظم كومت العلوم الوضعية فجعل الرياضة مبدأها وعلم الاجتماع غايتها؛ فاشتملت بذلك كل ما يحتاج إليه الفرد وما تحتاج إليه الجماعة لنظامها المادي والعقلي في الحياة ولحسن صلاتها بالكون كله. ولم تدع جانبا إلا المضاربات النظرية فيما وراء المادة - أو ما وراء الطبيعة - مما لا يخضع للطرائق العلمية. وقد أراد أن يقيم على أساس هذه العلوم (الديانة الإنسانية) لهذه المجاميع؛ لكنه لم ينجح لأن طبيعة العلم دوام التطور، في حين أن طبيعة الدين تقتضي الثبات والاستقرار. ولذلك بقي اسم كومت مقرونا بالفلسفة الوضعية. ودخلت ديانة الإنسانية ودين الطبيعة الذي وضعه روسو في صف المضاربات النظرية.
صفحة غير معروفة
استقر هذا النظام الفكري الذي وضعه كومت، وانتشر في العالم المتحضر كله وأخصب في نتائجه وانضوت تحت كنفه كل البحوث الاجتماعية والنفسانية، بل انضوت البحوث الروحية هي الأخرى تحت كنفه، وعلى مقتضاه تكيفت نظم الحكم في العالم، وأصبح رجال السياسة وأرباب الدولة من أنصاره وأعوانه، وتضاءل التجريديون، واكتفى رجال الدين بميدانهم يقومون فيه بالإشراف على حياة الإيمان في النفوس وقوة العقائد في القلوب، وقيام الناس بالفروض والسنن إشراف إرشاد وهداية لا إشراف حكم وسلطان.
أترى رجال الدين راضين بهذا الحظ من الحياة العامة؟ ليس الجواب سهلا. ولكنهم قانعون به راضون بقناعتهم أو كارهون لها قائمون اليوم في خدمة السلطان وذوي السلطان، قيام رجال العلم يوم كان السلطان لرجال الدين. وستظل الحال كذلك ما دام العلم قادرا على إرضاء عقول الجماعة، قديرا في نفس الوقت على سداد حاجاتها المادية. فمن الحق علينا أن نقول: إنه منذ فتحت العلوم للصناعات المختلفة الأبواب واسعة، وأتاحت للإنسان العادي من أسباب النعيم والترف ما لم يكن يطمع فيه رئيس قبيلة أو ملك من ملوك العصور الأولى، آمن الناس بأن العلم هو وحده الذي يقوم بسداد حاجات الفكر وأغراض الحياة المادية معا، وأن نظام الحكم وتصوير غايات الحياة يجب لذلك أن تتفق معه، وأن رجاله يجب أن يمسكوا بيدهم تصريف مقاليد الدولة وأن يلوا أمورها. وإلى أن يقفل في العلم باب الاجتهاد ويجمد، ويبقى رجاله حفاظا لتراث الماضي، فستبقى الحال كما هي اليوم.
على أن الحظ الذي قسم لرجال الدين ليس من شأنه أن يجعلهم أبدا راضين. وهم إذا وجدوا يوما من الأيام للسلطة منفذا نفذوا منه. وإذا كانت الحرب بينهم وبين رجال العلم اليوم هادئة، فذلك لما قدمنا في مقالنا السابق من أن الغلب غير مأمول اليوم فيه. •••
هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا، فرجال الدين فيه هم كذلك العلماء؟ وهل يسد العلم أبدا حاجات البشر؛ لأن أساس العلم التطور والتجديد فلا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد، ولا يمكن أن يجمد رجاله؛ هاتان المسألتان نتناولهما بالبحث فيما تبقى من هذا الفصل.
3
قبل الحديث عن الإسلام وهل هو على خلاف سائر الأديان إذ يشمل أمور الدين والدنيا، فرجال الدين هم فيه العلماء كذلك. وعن العلم الوضعي، وهل يسد أبدا حاجات البشر - أريد أن أوضح فكرتي الأساسية من أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، ولكنه بين رجال الدين ورجال العلم بعدما رأيت من بعض الكاتبين ما شعرت معه بأن أساء تقدير حدود الفكرة، فظن أنها تعني أن كل رجل من رجال الدين إنما ينصر الدين ويعززه ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم، وأن كل عالم من العلماء إنما يعمل لزيادة العلم بسطة وقوة؛ ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم. فتوجيه الفكرة هذه الوجهة والاعتراض عليها بأن الغزالي أو ابن رشد أو «كانت» أو «أوجست كومت» لم يكن ينصر الدين أو العلم ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم بعيد كل البعد عن حسن تفهمها وإدراك حدودها. فخصومة رجال الدين ورجال العلم خصومة طائفة لطائفة، أو عقلية لعقلية - على حد تعبير بعضهم. وابن حنبل وروسو وكومت إنما كان ينصر كل منهم فكرة معينة تلتف حولها طائفة الدينيين أو طائفة التجريديين أو طائفة العلماء. وتغلب طائفة من هذه الطوائف معناه خضوع الجمهرة الكبرى من الناس لتيار تفكيرها. وإذا تغلب تيار فكري وضع أصحابه نظام الحكم وأقاموه وتولى أنصاره تنفيذه.
فسواء أكان هؤلاء الأفراد في نضالهم لسؤدد فكرتهم مدركين أم غير مدركين في سبيل تنظيم الحكم وولايته، فتلك نتيجة محتومة لنضالهم. وما أكثر ما يعمل الناس لتحقيق غايات محتومة بالطبيعة ثم هم لا يدركون - أو بالأحرى لا يكادون يدركون - أنهم يعملون في سبيل هذه الغاية. أوليس الحب في أدنى درجاته مثله في أسمى درجاته، إنما يرمي لغاية طبيعية محتومة هي تخليد النوع وتحسينه؟ •••
والآن نعود إلى موضوعنا. فهل الإسلام دين كسائر الأديان في أسسه وغاياته، أو هو يختلف عن سائر الأديان أن كان يشمل أمور الدين والدنيا، والعلم بعض أمور الدنيا؛ فرجال الدين الإسلامي هم لذلك العلماء؟
يقص القرآن الكريم نبأ من سبق محمدا
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة
من الأنبياء والمرسلين، ويبين في وضوح أنما كان يرسل الله لقوم رسولا بالهدى والبينات إذا فسق هؤلاء القوم وضلوا السبيل، واتخذوا من دون الله أربابا. ولقد كان مبعث الرسل - عليهم السلام - ينحصر في قسم ضيق من المعمورة المعروفة في ذلك الحين؛ لأن كثيرا من سائر الأقسام كان في درك من الهمجية فلا يستطيع أهله الوصول لإدراك ما في الأديان من معاني الإيمان، وكان الرسول يبعث بعد أن يحرف المتكلمون كلام الرسول الذي سبقه عن مواضعه، ويدخلون عليه من الأباطيل والخرافات ما يفسده ويضل تابعيه، وكان كل دين ينقسم إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. فأما العقائد فظلت واحدة في الأديان كلها: الإيمان بالله وبالروح وبالبعث. وأما العبادات فتحورت بعض الشيء بتسلسل الأديان وإن بقيت قريبة الشبه بعضها من بعض؛ فالصلاة والصيام والزكاة والحج تراها في اليهودية والنصرانية والإسلام مع فرق قليل أو كثير في الطقوس التي يقوم بها أهل كل دين عنها فيما يقوم به أهل الدين الآخر، والعقائد والعبادات فروض واجبة الأداء على كل متدين وإلا كان مقصرا في دينه وفي حق الله. والعقائد غير قابلة بطبيعتها للتطور؛ لأنها قائمة لما بين الفرد وربه غير متعلقة بالجماعة؛ وهي لذلك واحدة في الأديان جميعا. أما العبادات فهي وإن قامت بين الفرد وربه إلا أنها تتصل بالجماعة في أن الأفراد من أهل الدين الواحد يؤدونها لله وتيرة واحدة؛ وهي لذلك دليل على أن الفرد على دين الجماعة، ويمكن لها إذن أن تؤمن له.
وقد تناولت الأديان جميعا الأخلاق على خلاف بينها في الشدة والهوادة في الأمر بها أو النهي عنها، وإن جعلت المثوبة عليها والجزاء عنها في الدار الآخرة لا في هذه الدار الدنيا.
فأما المعاملات فاختلفت الأديان في مبلغ تناولها إياها. فمنها من لم يمسسها إلا مسا خفيفا كالمسيحية ف «لا تزن ولا تسرق» وما إليها من الأوامر المتصلة بعلاقات الناس بعضهم ببعض هي بعض ما يعتبر من المعاملات. لكن المسيحية لم ترتب على مخالفة هذه الأوامر عقابا دنيويا، بل رتبت عليها عقابا دينيا. أما اليهودية والإسلام فتناولا المعاملات أكثر مما تناولتها المسيحية؛ وإن كان تناولهما إياها لم يتعد الحدود والقواعد العامة؛ لأن المعاملات تتطور بتطور الجماعة. فوضع أنظمة محدودة لكل دقيقة وجليلة لا يتفق مع هذا التطور.
وهذه العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات مما اشتملته الأديان، إنما نزل به الوحي على الرسل من عند الله؛ وهي لذلك ثابتة في أصولها لا يصح أن تخضع لحكم التطور.
وكالأديان المنزلة سائر الأديان. فالبوذية والبرهمية وغيرهما تنقسم كل منها إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. وبعض هذه الأديان تحدث عن المعاملات أكثر مما تحدث عنه أي دين منزل.
ولقد يكون الإسلام بين الأديان المنزلة أكثرهم تنظيما للمعاملات، وإن كان ما ورد في القرآن الكريم عنها لم يتعد القواعد العامة كما قدمنا. وكان تنظيم المعاملات التي تعاقبت بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين خاضعا لتطور الجماعات الإسلامية في حدود كتاب الله وسنة رسوله.
هذا وأما العلم الوضعي القائم على أساس الملاحظة والاستنباط، فيتناول ما يتناول من أمور الوجود لمعرفة السنن والقوانين العامة التي تحكم نظام الوجود. وقد اصطلح العلماء على تقسيم العلوم النظرية التي تتناول هذه السنن والقوانين تقسيما يتفق مع نظام تدرجها من العموم والبساطة. فما تناول من هذه العلوم كل الوجود كان أعمها وما لم يحتج إلى غيره من العلوم لاستنباط سننه وقوانينه كان أبسطها. وقد اختلفوا بعض الشيء في طريق التقسيم، ولكن خلافهم لا يؤثر في نظام تدرج العلوم وتبويبها بما يجني على هذه العلوم، أو يؤثر في سنن الوجود التي تقررها.
وأعم العلوم وأبسطها في نظر أوجست كومت الرياضيات، فهي في غير حاجة إلى أي علم آخر لاستنباط سننها، وهي تتناول الوجود وما فيه جميعا. ويلي الرياضيات في العموم والبساطة الفلك، فالطبيعة فالكيمياء فالفسيولوجيا فعلم الاجتماع. ويسير عليك إذا قرنت هذه العلوم التي تقوم عليها الفلسفة الواقعية (أو الوضعية) إلى ما جاءت به الأديان من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، ثم قرنت أصل الدين وهو الوحي إلى أصل العلم وهو الملاحظة والاستقراء أن ترى اختلاف الميدان الذي يتناوله كل منهما، وأن تحكم بأن هذا الاختلاف لا يدع بينهما مجالا لخلاف، إلا أن يتحكك رجال العلم في تفاصيل ليست من أصول الدين وقواعده في شيء، أو أن يتحكك رجال الدين في تفاصيل ليست من أصول العلم وقواعده في شيء.
والمقارنة تظهرك كذلك على أن موقف الإسلام من العلم كموقف الأديان الأخرى سواء بسواء. فالعلم لا يمس العقائد والعبادات إلا على أنها مواضع درس وبحث كظاهرات اجتماعية قامت بين الجماعات الإنسانية منذ كانت الجماعات الإنسانية، من غير تعرض إلى ما تحتويه هذه العقائد والعبادات من حقيقة مطلقة أو غير مطلقة، بل العلم لا يقر المضاربات التجريدية فيما وراء الطبيعة مما كان يقيمه الميتافيزيقيون على أساس ما يسمونه منطق العقل وحده. وقد عقد هربرت سبنسر فصلا في المجلد الأول من مجلدات (فلسفته التوفيقية) وهو المجلد الذي جعل عنوانه (المبادئ الأولية)، وجعل لهذا الفصل عنوانا «ما لا يمكن العلم به
Un Knowable » تناول فيه الخلق والخالق، وأثبت بمنطق العقل المحض أن لهذا الخلق خالقا مستقلا عنه مريدا في خلقه قائما بتدبيره. ثم أثبت بمنطق العقل المحض أن هذا الخلق لا يمكن أن يكون له هذا الخالق المستقل عنه، وأن القوة والمادة ليستا منفصلتين ولا هما من جوهر مختلف، وأن العالم تديره سنن الضرورة. وأنت إذ تقرأ هذا الفصل الذي لخص فيه سبنسر حجج المؤمنين والطبيعين، تنتهي وإياه إلى أن منطق العقل المحض لا يستقيم معه الدليل العلمي في هذه المسألة وفي أمثالها، وأن هذه المسائل ليست إذن من تناول العلم، وإن العلم في غير حاجة لتناولها بالإثبات أو النفي، وإن تناولها كظاهرات للدرس والتبويب واستنباط السنن وقوانين الاجتماع.
صفحة غير معروفة
أما الأخلاق والمعاملات فيتناولهما العلم تمام التناول، وينفي فيهما ويثبت ما شاء له النفي والإثبات. ولقد تنتهي مقررات العلم في هذا الباب الذي لم يبلغ بعد حد الكمال العلمي إلى ما يخالف مقررات الدين فيه. مثال ذلك مسألة الربا وتحريم الدين له وتحليل العلم الاقتصادي إياه، ومسألة العقوبات التي وردت في الكتب المنزلة كقطع يد السارق، ورجم الزاني مما ورد في القرآن الكريم، وما قال العلم الجنائي بتحويره. على أن هذا الخلاف ليس خلافا بين الدين والعلم؛ لأنه لا يتناول أصول الدين ولا ينقض سنن العلم، بل هو خلاف على تفاصيل ليس الخلاف عليها محرما في الدين ولا في العلم، وكيف يكون خلافا في أصول الدين، وقواعد الإسلام خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا؛ وليست المسائل التي قدمنا من هذه القواعد في شيء. وكيف يكون خلافا في أصول الدين لا يتسامح الناس فيه، وقد قال تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك . فمثل هذا الخلاف مما تقع عليه المغفرة قطعا، وهذا الخلاف لا يمس كذلك أصول العلم الاجتماعي وما ينضوي تحته مما لا يزال في سبيل التطور، ثم هذه المسائل التي عليها الخلاف لا تمس أصلا ثابتا من أسسه ولا قاعدة مقررة من قواعده.
ولقد أورد صديقي الدكتور طه حسين في بحثه الذي نشر في الأسبوع الماضي
3
أمثلة على الخلاف كمسألة خلق الإنسان الأول بالإرادة على ما يقرر الدين، وبالتطور على ما يقول العلم وكغير هذه من المسائل التي يراها أساسية. وقد يكون هذا الخلاف صحيحا لو أن طرائق الدين والعلم كانت واحدة، وأن تصور الدين والعلم للحوادث كان واحدا. أما والطرائق مختلفة والتصور مختلف والغايات مختلفة - والميدان لذلك مختلف - فتصوير الخلاف بين الدين والعلم مثله مثل تصوير الخلاف على بيت بين رجلين؛ لأن أحدهما رآه من ناحية والآخر رآه من ناحية أخرى، البيت هو هو. والرجلان هما المختلفان.
ثم إن الدين يرى الرياضيات والطبيعة والكيمياء إلخ علوما، ويفرض معرفتها ولكن فرض كفاية لا فرض عين؛
4
لأنها ليست من جوهر الدين. والعلم يرى المباحث الفلسفية فيما وراء الطبيعة مما يتناوله الدين على أنه جوهري، ويفرض معرفتها فرض كفاية لا فرض عين؛ لأنها مما يسلك في نظام العلم. فما هو فرض عين في كل من الدين والعلم هو فرض كفاية في الآخر. وما كان الخلاف على فرض الكفاية خلافا في الجوهر.
لكن الخلاف كان وما يزال قائما بين رجال الدين ورجال العلم. وهو خلاف على السلطة ونظام الحكم - كما بينا من قبل - وقد انتصر رجال العلم، ونظموا الحكم واستأثر أنصارهم به في كل أنحاء العالم المتمدن، وبقي لرجال الدين الإشراف على قيام ما هو جوهر الدين في النفوس إشراف نصيحة وإرشاد لا إشراف حكم وسلطان.
والمسلمون في ذلك كغير المسلمين؛ لأن طبائع الأديان واحدة كما تقدم. •••
صفحة غير معروفة
هل يسد العلم أبدا حاجات البشر فيبقى العلماء وأنصارهم مستأثرين لذلك بالسلطة وبتنظيم الحكم؟
هذه هي المسألة الثالثة التي أثارها بحثنا في الدين والعلم. ورجال الدين الذين يرون أن المادة والقوة ليستا منفصلتين، وأنهما من جوهر واحد، وأن المادة تستحيل إلى قوة كما أن القوة تستحيل إلى مادة، وأن العالم وحدة في الوجود والمكان والزمن، وأن أساس الإيمان هو ضعف الفرد وضعف الجماعات التي لم تقف من أسرار الكون على كثير ينجيها من الخوف من الموت، ومما يجر إليه هذا الخوف من ألوان التسليم والإيمان أما هؤلاء فيرون أن العلم لن يفلس، وأنه سيسد حاجات البشر كلها، وسيصل يوما في القريب أو في البعيد إلى هتك حجب الغيب أو على الأقل؛ لإثبات أن هذا الغيب ليس حقيقة تخشى، بل هو وهم يخافه الناس اليوم؛ لأنهم لم يؤمنوا بعد بأنه وهم. ويقيم هؤلاء دليلا على صدق نظريتهم أن المشتغلين بعلم الأرواح في هذه الأيام يأخذون أخذ العلماء الواقعيين في طريقة البحث، فإذا وصل هؤلاء إلى إثبات علمهم الروحاني، وإلى استنباط قوانينه وسننه وإلى وضعه الوضع العلمي الذي يبيح لكل إنسان يريد الوقوف على الحقيقة أن يقف عليها من طريق أدواته العلمية - يومئذ توضع مسألة الأرواح من نظام العلوم فوق مسألة علم الاجتماع وعلم النفس، أما إن عجز الروحانيون أخيرا وتبين أنهم يدورون حول تصورات الطريق إلى إثباتها بوسيلة من الوسائل الكثيرة التي ما يزال العلم يبدعها كل يوم، فيكون ذلك دليلا على أن ليس لهذا العلم الذي يريدون إثباته قوام، فيزول لذلك خطره وينقشع عن الناس كابوسه، ويقتنعون بأن ليس بعد الحياة شيء، وبأن الحياة غاية الحياة، وأن الحياة تطور أزلي أبدي الإنسان فيه كفرد ذرة تافهة سريعة التطور؛ وكجنس لا يمتاز كثيرا عن سائر الأجناس إلا من حيث إنه - فيما نظن - أرقاها في سبيل التطور ، وأدناها إلى مرتبة أسمى من مرتبته الحالية، ومن كل ما في الوجود من مراتب.
أما الفلاسفة المؤمنون فيرون العلم في صورته وبطرائقه الوضعية أقصر من أن يحيط بأسرار الكون، وبالغيب العظيم الذي يكتنف الإنسان، ويذكرون أن الإنسانية، وإن بلغت ما بلغت من الرقي، وإن تفتق عقلها عما يتفتق عنه من ذكاء ومهارة، وإن أحاطت بما أحاطت به مما حولها من الكائنات، فستظل أبدا عاجزة عن كشف سر الوجود. ذلك بأن الإنسانية جزء صغير من الكون. هي جزء صغير في الكم وفي الحيز الذي تشغله وفي الزمان الذي بدأت فيه، والذي تنتهي إليه إذا قدر للكون من صور التطور ما يجعل غيرها من الكائنات أسمى منها مقاما ومكانة. فمحال عليها وهذه حالها أن تحل لغز الوجود حلا وضعيا بطرائق العلم الحالية. ثم إن العلم يقرر أنه لا يبحث عن أسباب الأشياء ولماذا كانت فحسب؛ وإنما يبحث عن كيف الأشياء والقوانين والسنن التي تحكم هذا الكيف، وأسباب الأشياء ولماذا كانت تشغل تصور الإنسان وخياله وتطلب إليه دائما أن يجد ما يرضي هذا التصور الذي لا يطمئن إلى الظلام، كما لا يطمئن العقل إلى الجهل. وإذا كان الناس قد شغلوا بالعلم الوضعي وبلغ من شغفهم به أنهم زعموه، يوما، قديرا على حل كل معضلة؛ فذلك لأنه كشف عنهم ضر الجمود في عصر كان الجمود فيه قتالا، وكان رجال الدين هم مثال الجمود وصورته. أما وقد حطم الجمود وقد بالغت المعاول في تحطيمه حتى بلغت ذلك النور الذي كان يضيء ظلمات الغيب والذي اختفى في هذه الهياكل الخربة التي كانت معدة في الماضي لتكون المنارة التي يشع منها ويضيء من خلالها، فقد صار واجبا أن تقوم منائر أخرى غير خربة ينبعث الإيمان من خلالها حيا قويا نزيها عن شبهات المادة وظلمها متصلا بأسمى أسباب الكون، فتسير الإنسانية على هداه، ولا يضل السواد السبيل بارتكاسه في حمأة الحيوانية الدنيا التي ارتكس فيها أولئك الجامدون الذين عبدوا المال أكثر من عبادتهم ربهم.
ومحاولات الفلاسفة والعلماء الوضعيين في هذا الباب دليل قاطع بصدق هذا الرأي في نظر أصحابه. فدين الطبيعة الذي حاول روسو وضعه؛ وديانة الإنسانية التي أراد أوجست كومت أبو العلم الواقعي بعثها. هما بعض هذه المحاولات. ثم إن الذين يشتغلون بالروحيات والروحانيات في الوقت الحاضر، وإن اشتغلوا بها على طرائق العلم فليس لهم من دافع إلى هذا الاشتغال إلا من يحيط بهم من ظمأ النفوس إلى الإيمان ونفورها في نفس الوقت من رجال الدين وإيمانهم. يؤيد ما سبق في نظر أصحابه دائما هذا الاتجاه الذي تسير نحوه أوروبا - منشأ العلم ومهبطه - منذ وضعت الحرب أوزارها، والذي تبتغي به أن تجد في الشرق مهبط الوحي ومبعث الديانات هدى دياجير ظلمة القلوب. فلو أن العلم كان يسد أبدا حاجات البشر لظل إيمان الناس به على ما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ولما اضطرب الناس في أوروبا ومن بينهم عدد كبير من العلماء يريدون إيمانا كإيمان العجائز. •••
ونحن لا نقطع أي الرأيين حق. فنحن لم نؤت ذكاء يخترق حجب المستقبل، ويكشف ستاره ولم نؤت جرأة العليم بالإيمان وبالعلم وبالدين، فنقضي قضاء الجريء الذي لا يعرف التردد. لكنا قانعون بموقف الشك بين هذه المضارب الفكرية الظريفة. وكل الذي نقطع به أن الخلاف ليس بين هذه المضاربات لذاتها، ولكنه خلاف كان ولن يزال على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. فالسلطة إنما يليها الذين يستطيعون سداد حاجات الجماعة العقلية والنفسية والمادية. وولاية الحكم غريزة في النفس يسعى إليها الإنسان ما استطاع لذلك سبيلا. وأنت ترى الرجل الساذج من القرية إذا سمحت له ظروفه يوما من الأيام أن يكون له على غيره سلطان سعى لذلك سعيه، وعمل للظفر منه بغايته، وكالرجل الساذج غيره من الناس. فتلك فطرة عامة لا تقتصر على الإنسان وحده، وسبيل تحقيقها في الجماعات أن تسد حاجة الجماعات. والعلم ورجاله يسدون اليوم هذه الحاجة؛ ولذلك ولي هؤلاء الرجال وأنصارهم الحكم. فإذا ظلوا في مثل موقفهم ظل الحكم لهم. وإن تغلب غيرهم عليهم انتقل الحكم إلى هذا الغير.
وكذلك كانت الخصومة بين الرجال لا بين العلم ولا بين الأفكار من حيث هي. كانت الخصومة للاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وكل الذي ترجوه الإنسانية في تطورها أن يسير بها أولو الأمر فيها إلى أسمى ما ترجوه من غايات النظام والتقدم والسلام.
الفصل الثاني
أوجست كومت وفلسفته1
«لقد أخلصت حياتي لأستنبط من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها.» (1) أسس فلسفة كومت
كل مذهب جديد في الفلسفة يمت؛ وإن ظهر فذا غريبا؛ بلحمة نسب ضيقة للمذاهب التي سبقته، كما يرتبط بما حوله من الأصوات العامة ارتباطا يعدل تلك اللحمة متانة واتصالا، وإن كان أقل منها ظهورا ووضوحا. فهو متضامن مع الشئون الاجتماعية كافة تضامنا يجعل تأثره بما في البيئة المحيطة به من المظاهر الدينية والفلسفية والاقتصادية والعقلية لا يقل عن أثره فيها؛ لذلك ليس يكفي درس المذهب الجديد على أنه وحدة قائمة بذاتها مستقلة عما سواها. بل يجب النظر إليه ضمن المجموع العام الذي لا تتضح أهم أركانه إلا به.
صفحة غير معروفة
وهذه القاعدة - وهي إحدى قواعد الطريقة التاريخية التي أكثر كومت من ترديدها - تنطبق تمام الانطباق على مذهبه. فمراجعة نصوصه وحدها لا تكفي لفهم نظريته فهما تاما، ولا لتقدير فكرته العامة على وجه الضبط، ولا تكفي لمعرفة الأسباب التي أدت بالمؤلف ليجعل لبعض نظرياته خطرا خاصا. وللوصول إلى ذلك كله يجب أن نقف مع مراجعة النصوص على الظروف التاريخية التي ظهر المبدأ في أيامها، وعلى حركة الأفكار العامة التي عاصرته، وعلى المؤثرات التي أثرت في نفس الفيلسوف أيا كان نوعها.
فالعصر الذي ظهرت فيه الفلسفة الواقعية (الوضعية) كان متأثرا بالثورة الفرنسية أكثر مما كان متأثرا بأي حدث آخر. وذلك ما قرره كومت صراحة. فلولا الثورة ما ظهر مبدأ التقدم ولا كان العلم الاجتماعي الذي بني عليه، ولا الفلسفة الواقعية التي جاءت على أثرهما. لكن هذه الهزة الاجتماعية غير العادية أحدثت حركة كبيرة في دائرة المضاربات الفلسفية والسياسية ، وقد اختلفت نتائج هذه الحركة باختلاف قوة الأذهان التي صادفتها وعبقريتها، وإن كانت بعض الظواهر الخاصة قد لفتت كبار المفكرين وضعافهم على السواء. من ذلك مثلا أن كان كل مفكر من الذين ظهروا في بدء القرن التاسع عشر يسائل نفسه: أي نظام يجب أن يقوم على أثر الثورة؟ ولم يكن الشكل الذي يريدونه للحكومة كل همهم من سؤالهم، بل كانوا يريدون أيضا الاهتداء إلى المبادئ الأساسية لنظام الاجتماع، وكانت هذه المسألة لا تحتمل في نظرهم إمهالا من الوجهة العلمية كما كانوا يحسبونها أم المسائل من الجهة النظرية. وهذه المسألة في صورها المختلفة هي التي شغلت «شاتوبريان» كما شغلت «فورييه» «وسان سيمون»، وتعلق بها «يوسف دمتر» كما عقلها «كوزن كومت».
على أنهم كانوا جميعا متفقين على نقطة أولية هي وجوب التجديد. فالعصر المضطرب الذي تداعى يجب أن يعقبه عصر نظام. وعبارة سان سيمون في هذا المعنى قوية غاية القوة إذ قال: «لم تخلق الإنسانية لتقيم في الخرائب والأطلال الدارسة». لكن الاضطراب الثوري والرجة التي تلته والهزة الاجتماعية التي جاءت على أثرهما كانت كلها من القوة والشدة، بحيث لم يستطع أحد معه أن يقدر نتائج الثورة تقديرا دقيقا. فكم من النظم كان يظن أنها تحطمت فإذا هي لم يصبها إلا بعض الاضطراب. وكثير من النظام القديم تخطى الأزمة سليما لم يصب بأذى. غير أن هذه الظاهرة التي لم تفت رجال سنة 1830 كانت لا تزال غامضة أمام الجيل الذي سبقهم، فلم يميزها وخيل إلى أهله أن النظام القديم دكت أعاليه وأسافله وأن واجبا عليهم لذلك أن يعيدوه، أو يخلقوا نظاما اجتماعيا جديدا، وكانوا في ظنهم هذا محتفظين بروح الثورة التي اعتبرها أهلها كما اعتبرها العالم المتمدن فاتحة لتشيد الإنسانية نظاما سياسيا واجتماعيا جديدا، لكن هذا المطمع العظيم لم يتحقق برغم أعمال الجمعيات الثورية وكفاية النوابغ الذين كانوا في الكنفنسيون
Convention ؛ بل تعاقبت الديركتوار
Le Directoire
والإمبراطورية بعد ذلك وبقيت المسألة كما كانت: كيف السبيل إلى تنظيم الجمعية بعد ما انهار النظام القائم؟
لذلك انصرفت المضاربات الفلسفية في مبدأ القرن التاسع عشر إلى المسائل الدينية والاجتماعية. صحيح أن تقدم العلوم الواقعية تقدما واضحا مطردا كان أمرا لا ريبة فيه، ولا يجوز إنكاره في بحث غايته استظهار فلسفة أوجست كومت. لكن عناية كومت بالمسائل العلمية كل تلك العناية إنما كان يقصد بها إلى حل المسألة الاجتماعية، وكانت كل غايته من الفلسفة أن يضع الأسس العقلية لبناء الجمعية، وأن يضع كذلك قواعد دين يحل محل الكثلكة التي كانت قد أتمت في نظره مهمتها.
قال رانك: «القرن التاسع عشر قرن إصلاح»، وتلك عبارة دقيقة تصور أحد مظاهر هذا القرن الخطيرة من جهته التاريخية. ولقد أراد به أهله أن يكون عصر إصلاح حقا. فكان الإصلاح وجهة معظم المبادئ الفلسفية التي صورت كنه طبيعة ذلك العصر، على أن هذا الإصلاح كان يثبت غير قليل من النتائج التي اكتسبت في أثناء الأزمة ويعضدها، كما أن نظريات جديدة استدعاها تقدم الصناعة الكبرى، جعلت بعيدي النظر من المفكرين يحسون تمام الإحساس بأن العصر الذي رغب الناس أشد الرغبة في انتهائه لم يكن في الحقيقة إلا عند أوله ومبتدئه.
واعتقد أوجست كومت كما اعتقد كثير من معاصريه أنه مبعوث لوضع «النظام الاجتماعي الجديد». لكنه كان يخالف من سواه في النظر. فكل من أولئك المصلحين كان يبدأ ما يرتئيه من مشروعات النظم صالحا لحل المسألة الاجتماعية، ويصرف كل مجهوداته بعد ذلك لتبرير رأيه. ولما كانت هذه المسألة في نظرهم لا تحتمل إمهالا، فقد قصروا أفكارهم عليها، أما كومت فكان يرى هذه الطريقة عقيمة محققة الخذلان. ذلك بأن المسألة الاجتماعية لا يمكن حلها مباشرة، بل يجب قبل التعرض لها حل مسائل أخرى نظرية صرفة، وهي هاته المسائل التي يجب البدء بها إذا كان للإنسان هم غير الاستكثار من الأحلام السياسية والأوهام الاجتماعية.
فالنظم عند كومت تابعة للأخلاق، والأخلاق تابعة للعقائد. ومن العبث وضع مشروعات نظم جديدة ما لم تكن الأخلاق قد رتبت، ونظمت وما لم يكن أساس هذا النظام مذهبا فكريا قد تم وضعه وقبلته النفوس كلها على أنه الحق، وآمنت به ما آمنت أوروبا بآي الكثلكة في القرون الوسطى. والمسألة الاجتماعية تبقى لا حل لها ما لم توضع فلسفة جديدة تكون أساسا لحلها.
صفحة غير معروفة
لهذا نزع كومت إلى الفلسفة وقصر نفسه أول الأمر عليها، وكان مما كتب في سنة 1824: «إني أعتبر كل مناقشة تقوم بشأن النظم من أتفه السفاسف، ما لم يكن نظام الجمعية من الوجهة الروحية قد كمل أو قارب الكمال».
2
طرافة كومت أنه جعل يبحث في العلم والفلسفة عن المبادئ التي يبنى عليها النظام الاجتماعي الذي كان غاية كل مجهوداته؛ وبذلك خالف معاصريه من المصلحين في الوسيلة، وإن اتفق معهم في الغرض. فهو مثلهم يريد وضع سياسة معينة. لكنه يريدها سياسة وضعية أساسها نظام أخلاقي ومذهب فلسفي وضعيان كذلك. ولئن كانت هذه السياسة هي علة وجود المذهب، ومن أجلها وضعه كومت فإنها إذا فقدت مبرر وجودها ومصدر سلطانها، وأصبحت من شوارد الخواطر. فالفلسفة لازمة لتكون أساسا للسياسة، كما أن السياسة لازمة لتكوين الفلسفة وبعث روح التناسق والوحدة فيها.
والآن فأي سبب دعا كومت ليتعرض لتلك المسألة الكبيرة التي شغلت أذهان كل معاصرية على نحو اختص به هو من دونهم؟ ليس في مقدورنا بسط ترجمته هنا بسطا مستفيضا يفيض على هذه المسألة نورا يجلوها، ولكنا نكتفي فنذكر أنه كان من أسرة كاثوليكية ملكية. وعلى الرغم مما ذكره من تركه عقائد عشيرته السياسية والدينية لأول ما بلغ الثالثة عشرة من عمره، فإن العقائد الدينية لم تمح من نفسه بمقدار ما كان يظن. فقد بقي كل حياته شديد الإعجاب بالكاثوليكية، وهو لا ينكر ذلك ولكنه يعزوه إلى ما تأثر به من كتابات جوزف دمتر. غير أنه مهما يكن قد تذوق كتاب (البابا) فإن هذا الميل الخاص يرجع بعضه إلى ما تركته الطفولة من آثار بقيت مستكنة في نفس حساسة سريعة التأثر.
وكانت الرياضيات أول ما اشتغل به ذهنه بطريقة جدية. فلما دخل مدرسة الهندسة؛ وقد قبل فيها وسنه دون السن القانونية بسنة، بدأ يدرس العلوم الطبيعية وجعل في الوقت نفسه يفكر فيما كتب مونتسيكو وكوندورسيه، ثم مال إلى الفلسفة بمعناها الحقيقي وانصرف إلى قراءة الأيقوسيين وفرجيزن وآدم سمث وهيوم، وتبين أن هذا الأخير أرقى من سائرهم بكثير. فلما خرج من مدرسة الهندسة بقي في باريس وجعل في وقت واحد يلقي دروسا تقوم بمعيشته، ويكمل دراسته العلمية بالتلقي على دلامير وبلانفيل والبارون تنار، وبإدمان قراءة فونتنل ودالمبرت وديدرو؛ ويمعن بوجه خاص في قراءة كوندورسيه الذي استجمع مادة فلسفة القرن الثامن عشر وأوضحها. وفيما كان يقرأ ديكارت ومن جاء بعده من كبار الرياضيين كان يتتبع بتمعن والتفات أعمال الطبيعيين والبيولوجيين أمثال لامارك وكوفييه وجال وكابانيس وبشا وبروسيه وكثيرين غيرهم، على أن علمه نما لهذه العلوم الجديدة من الأهمية الفلسفية مما أشار إليه ديدرو من قبل لم ينسه درس المسائل التاريخية والاجتماعية. فقد قرأ الأمليين
Les idéologues
أمثال المسيو بونالد - المفكر العظيم النشاط - وجوزف دمتر الذي ترك في نفس كومت أكثر من كل كاتب آخر، أعمق الأثر وأبقاه.
وإذن فلقد كان كومت، من قبل أن يعرف سان سيمون، ملما بقسم عظيم من المادة التي كانت قوام مبدئه في المستقبل. وذلك ما تشهد به رسائله إلى صديقه فالا. ولكن مؤلفاته لم تخرج إلى ذلك الحين عن موضعين مختلفين. فكان بعضها خاصا بالمسائل العلمية (الرياضيات والطبيعة والكيمياء والعلوم الطبيعية) والبعض الآخر أميل للمسائل السياسية (كالتاريخ والسياسة والمسائل الاجتماعية).
وقد التقى كومت بسان سيمون سنة 1818 فسحر به وتهالك عليه، وجعل يشتغل معه أربع سنوات كان في خلالها يحبه ويحترمه احترام التلميذ أستاذه، ويغذو نفسه من أفكاره ويشترك وإياه في مؤلفاته ومشروعاته، ويدعو نفسه (تلميذ المسيو سان سيمون)، لكنه انفصل عن هذا الأستاذ المحترم المحبوب في سنة 1822. فماذا ترى كان قد حصل؟
إن الأسباب التي تقدم بها كومت لم تكن إلا ذات أهمية ثانوية. ولكن الأستاذ وتلميذه كانا لا بد مفترقين عاجلا أو آجلا لما بينهما من التباين المطلق. فلقد كان سان سيمون لنبوغه وحدة خاطره يلقن بالكثير من الأفكار والآراء الجديدة التي ينتج في المستقبل أكثرها ويفرخ . ولكنه كان سريع الإثبات، قليل التدليل، ليس عنده من الصبر ما يسمح له بالوقوف طويلا عند موضوع معين؛ ليتعمق في النظر فيه نظرا مرتبا. أما كومت فكان على العكس من صاحبه يرى رأي ديكارت أن الفهم واجب كل الوجوب في المسائل العلمية، وأن (التماسك المنطقي) آكد دليل للحقيقة؛ لهذا لم يكن له أن يكتفي بمقالات سان سيمون المتقطعة زمنا طويلا، ولكنه أخذ ما صح من تلك الإلهامات المتواترة غير المرتبة، وإن حسب أن مذهبه إنما هو الذي أثبت لها قيمتها العلمية؛ لأن مذهبه هو وحده الذي استطاع أن يرتبها ويردها إلى أصولها.
صفحة غير معروفة
من ذلك يظهر أن أثر سان سيمون في كومت كان عظيما، وأن عبقرية كومت الفلسفية مؤكدة لا يأتيها الشك. وأكثر ما كان من أثر سان سيمون أنه أوحى إلى كومت بمجموع من الأفكار العامة والآراء الخاصة التي أخذ بها فيما قرر من فلسفة التاريخ، كما أنه عرف كيف يجمع بين الفرعين اللذين ألف فيهما من قبل مفردا كلا عن الآخر، وذلك باستنباط علم يكون اجتماعيا وسياسة تكون علمية. ولولا سان سيمون لما جال بخاطر كومت أن يوفق بين هذين الفرعين من فروع العلم بعد أن كان يعمل في كل منهما مستقلا، أو لجاءه هذا التوفيق متأخرا. لهذا ليس لنا أن نغمط سان سيمون ما يعترف له به كومت نفسه من أنه وجه تلميذه في أكثر السبل موافقة لذهنه ولنبوغه.
ولم تتم الخلطة الفكرية بينهما يوما ما. وإذا كان كومت قد وصل إلى دخيلة أفكار سان سيمون (وإن لم يكن قد أخذ بها جميعا)، فإن سان سيمون أساء فهم طرف من فكرة كومت لضعف تربيته العلمية، حتى إن ما كتبه عن قانون الجاذبية التامة لا بد أن يكون قد استثار اشمئزاز كومت. لهذا لم يترك كومت دراسته الرياضية حتى حين كان متحمسا لسان سيمون متهالكا عليه بكل ما فيه من شباب وعطف. ولقد كتب لفالا في 28 سبتمبر سنة 1819 يقول له: «إني اليوم وسأبقى دائما أعمل في فرعين من فروع البحث: الفرع العلمي والفرع السياسي. ولولا ما أذكره دائما من فائدة العمل العلمي لبني الإنسان لما اهتممت له، بل لعدلت به حل الألغاز اللفظية. ثم إن بي لبغضا شديدا لما لا أرى له فائدة من الأعمال العلمية قريبة كانت هذه الفائدة أو بعيدة. أما الأعمال السياسية فيأخذني إليها أنها تستهوي الفكر وتشحذ الذهن ولولا ذلك لكنت أكثر هوادة في الاشتغال بها برغم كل ما عندي من ميل للإنسانية»،
3
فلما أرسل لصديقه بعد سنة من ذلك مجموعة كراسات سياسية ميز فيها بين ما له، وما لسان سيمون أخبره أنه فضلا عن هذا يشتغل بجد في أعماله الرياضية، وأنه يريد الدخول في منافسة أعلنتها (الأنستيتو
L’institut )، وقد كان يطمع من ذلك في الدخول في أكاديمية العلوم.
وفي سنة 1822 ظهر كتيب كومت (فكرة عن المسائل العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية)، وفيه ذلك التوفيق بين فرعي العلوم. وقد ذكر في مفكرة كومت مبنيا على اكتشافه: ترتيب العلوم وقانون الحركة الاجتماعية
Dynamique Sociale . ولئن لم يكن الكتاب هو السبب الأهم فإنه كان الفرصة التي حدثت عندها القطيعة ما بين كومت وسان سيمون. فقد رأى كومت تلك اللحظة حاسمة في تاريخية تفكيره إذ حوى هذا الكتيب مجموع نظريته المقبلة. ثم دلت المقدمة التي وضعها له سان سيمون على أنه لم يفهم مرماه. فاستقل كومت بعد إذ عثر فيها على ما كان يبحث عنه من سنين من غير أن يتبينه، وكرس بقية حياته لما وصل إليه وما كان قد وضع له فكرته، ولم يبق له أن يتساءل كيف يوفق بين بحوثه العلمية ودراسته السياسية. وقد وضع تدرج العلوم الفلسفي جاعلا الطبيعة الاجتماعية في مركز التاج منها.
كتب كومت في 8 سبتمبر 1824 ما يأتي: «عن لي في أثناء أعمالي الفلسفية الكبرى أن أنشر بعض كتب خاصة عن النقط الرئيسية للرياضيات مما كنت قد تبينته من زمن طويل، ثم وصلت أخيرا لربط هذه النقط بأفكاري العامة عن الفلسفة الوضعية، فسمح لي ذلك أن أستظهرها من غير أن تنقطع وحدة الفكرة عندي. هذه الوحدة اللازمة لحياة كل مفكر».
4
وكتب في 27 فبراير سنة 1826 في خطاب شائق إلى ديلانفيل يشرح شرحا واضحا الفكرة التي تولد منها مذهبه قال: «إن فكرتي في اعتبار السياسة طبيعة اجتماعية، وذلك القانون الذي اكتشفته عن أحوال العقل الإنساني الثلاثة ليسا إلا فكرة واحدة نظر إليها من جهتين مختلفتين: جهة الطريقة وجهة العلم. ومتى تقرر ذلك فسأبين أن هذه الفكرة تكفي تمام الكفاية، وبطريق مباشر لسد الحاجة العظيمة التي تحسها الجمعية الحاضرة من جهة النظر ومن جهة العمل معا. وأظهر أن ما من شأنه أن يبعث إلى المستقبل التماسك والمتانة بإقامة نظام ترتاح إليه الأذهان هو أيضا ينظم الحاضر قدر المستطاع، إذ يقوم أمام رجال السياسة كأساس يبنى عليه العمل المعقول».
صفحة غير معروفة
5
ومن ذلك الحين أصبحت حياة كومت مكرسة لإنفاذ برنامجه إنفاذا مرتبا متينا، فجعل يؤلف وينشر بانتظام تام فلسفة العلوم والتاريخ والأخلاق والسياسة والديانة الوضعية. وليس معنى ذلك أن فكرة كومت بقيت جامدة فقد تطورت فيما بين سنة 1822 وسنة 1857. ولكن تطورها كان بحيث يستطيع الملاحظ الدقيق الذي قرأ (فكرته عن المسائل العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية) أن يترسم خطاها من ذلك الحين. فلم يكن لكومت إلا مبدأ واحد تطور. وتمت فكرته فيما بين ما نشره حين كان في سن العشرين إلى يوم أن ظهر كتابه عن (التوافق الذاتي)
La synthese subjective .
ولقد طعن على تناسق هذا المبدأ ووحدته، وإن كومت نفسه ليميز في حياته بين حالين متعاقبتين. كان هو في أولاهما - على حد قوله من غير تواضع باطل - أرسطو؛ ثم صار في الثانية القديس بولس. وإنما هيأ مؤسس الفلسفة الأسباب لوضع الديانة «فقد أخلصت حياتي لأستخلص من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها».
على أن جماعة من أكبر أصحاب كومت، وأكثرهم مناصرة له في مبدئه أمثال لتريه، قد وقفوا عن اتباعه في حالته الثانية ولم يقنعهم ما عندهم من الإعجاب بالفيلسوف لينضموا إلى القديس.
ولتريه وأصحابه أحرار في الوقوف عن ترسم كومت إلا إلى حد معين ، وهم أحرار أن يقبلوا فلسفته ويرفضوا ديانته، ولو أنهم وقفوا عند ذلك لما كان لكومت إلا أن ينعي سوء منطقه، ويبرأ من (أولئك الوضعيين غير الناضجين الذين لا تزيدهم دعواهم الذكاء ذكاء ولا فطنة). ولكنهم على العكس من ذلك هم الذين اتهموا كومت بالخطأ والتناقض قائلين: إنه خان مبادئه الأولى وإن الطريقة الذاتية
Méthode subjective ، التي لجأ إليها في الثانية أفسدت ما أوصلته إليه الطريقة الموضوعية في حاله الأولى من ثمين النتائج، مدعين أنهم في وقوفهم عند (دروس الفلسفة الوضعية) أكثر إخلاصا لفكرة كومت الرئيسية من كومت نفسه، وأنهم فيما يقولون من ذلك إنما يدافعون عن الفلسفة الوضعية الحقة في وجه مؤسسها ومنشئها.
ولقد دفع كومت عن نفسه هذه التهم التي حزت في كبده، وبلغت من نفسه لصدورها من أولئك الذين عدهم أشد أصحابه إخلاصا وأكثر أصدقائه وفاء. وإن ما سنجيء به في هذا الكتاب قمين أن يظهر خطأهم ويبين أن طريقتي كومت ليستا متنافيتين، بل تكمل إحداهما الأخرى كما تكمل حاله الثانية حاله الأولى.
صحيح أن أفكار كومت وكتاباته أخذت صبغة صوفية في السنين العشر الأخيرة من حياته، وأن صلته القصيرة بمدام دفو، ثم موت هذه الصديقة «القديسة» هزا مشاعره هزة شديدة، وأن هذه المشاعر والعواطف تحولت في نفسه إلى أفكار دخلت خلال طريقته ومذهبه في وقت كان يعمل فيه لتأسيس ديانة للإنسانية، زعم أنه سيكون لها على النفوس سلطان يعدل ما كان للمسيحية عليها، وأن اهتياج عواطفه واهتمامه بالديانة الجديدة التي يقيمها وشعوره بالرسالة القدسية الملقاة عليه شعورا متحكما كان من شأنها أن تؤثر في المبدأ الذي قرره في المدة السالفة؛ لهذا لم تظهر فلسفة العلوم والتاريخ في (السياسة الوضعية) على الطريقة التي ظهرت بها في (الفلسفة الوضعية). ولكن ذلك كان مقصودا. وإن كومت ليفسر اختلاف العبارة وطريقة الشرح والعرض في هذين الكتابين باختلاف الغاية التي رمى إليها كل منهما. أما المبدأ الفلسفي فقد بقي فيهما واحدا لم يتغير، وكل ما يمكن موافقة لتريه عليه أن عرض المبدأ من الجهة الدينية في (السياسة الوضعية) أفسد ظاهره فلا يستطيع من قصر قراءته على هذا الكتاب أن يصل إلى فكرة المبدأ الدقيقة التي وضعت في (دروس الفلسفة الوضعية)؛ ولهذا السبب عينه أشار كومت على كل من قرأ كتاب السياسة أن يرجع إلى كتابه «الرئيسي الأكبر».
على أن المدقق الذي يطلع على (الدروس) يجد فيها إشارات وعلامات تنبئ عن كتابه السياسة وتبشر به. ولو أن كومت اكتفى بالإشارة إلى ما جاء من ذلك في «الدروس» لكفى ذلك ردا على أصحابه الخارجين عليه. لكنه عمل خيرا من هذا. فلقد طبع في آخر الجزء الرابع من كتاب السياسة الوضعية ست رسائل مما كتب في أيام صباه ما بين 1818 و1826 حوت، خلا النقط الجوهرية لفلسفته، فكرته في أن الفلسفة ليست إلا مقدمة بسيطة، وأن العمل الأهم والغاية العليا إنما هما الديانة الوضعية التي أعدت الفلسفة لتكون أساسا لها ترتفع فوقه. بل لقد كانت هذه روح كل تلك الرسائل. ومن ثم صحت حجة كومت وقوي مركزه فيما يتعلق بوحدة مبدئه وكسب الخصومة من منازعه لتريه.
صفحة غير معروفة
بين كومت غير مرة في رسائله لجون ستوارت مل - وكانت فيما بين سنة 1841 وسنة 1846 أي: في الفترة التي تشمل ختام حاله الأولى وبدء حاله الثانية - محل تماسك قسمي أعماله وموضع تباينهما. وقد يكون مفيدا أن ننقل هنا نص ألفاظه، قال: «يجب أن يختلف القسم الثاني من حياتي الفلسفية عن القسم الأول منها اختلافا عظيما، وبالأخص في العواطف. إذ يجب أن تحتل من نفسي محلا حقيقيا، وإن لم يكن ظاهرا يضارع ما يحتله العقل منها، فإن التنظيم العظيم الذي اختص به عصرنا يجب أن يشمل العواطف كما يشمل الأفكار، بل إن هذه الأخيرة هي التي يجب تنظيمها أولا، وإلا فاتنا تكوينها تكوينا صحيحا فترتكس في نوع من التصوف فيه ما فيه من إبهام لا حد له؛ ولهذا كانت وجهة كتابي الرئيسي مخاطبة العقل دون سواه، فبنيته على أساس من البحث وما يلزمه من المعارضة والمناقشة، وغايتي من ذلك اكتشاف المبادئ العامة الصحيحة، وتكوينها بالتدرج من أبسط المسائل العلمية إلى أرقى المضاربات الاجتماعية»،
6
فلما تم ذلك لكومت انتقل لتنظيم العواطف على اعتبار أنها (النتيجة اللازمة لتنظيم الأفكار والأساس الذي لا أساس غيره لقيام الأنظمة).
وإذن فهذا القسم الأخير عمل قائم بذاته، ولقد ظن كومت أن شخصا سواه كان يستطيع أن يقوم به فتنتهي مهمته هو عند تأسيس الفلسفة التي تضع حدا (للفوضى العقلية)، ثم يكون بناء الأخلاق والديانة على أساس من هذه الفلسفة، ووضع حد للفوضى الخلقية والسياسية من عمل صاحب يخلفه. على أن إدمان العمل والحظ الحسن قد سمحا له هو بإتمام هذا العمل. وقد رأى منذ سنة 1845 (تحت تأثير مدام دفو الصالح) مجموع حاليه والفرق بينهما، وقدر في الثانية وجوب جعل الفلسفة ديانه كما جعل من العلم فلسفة في الحال الأولى.
وغرضنا من هذا الكتاب درس فلسفة كومت من غير تعرض إلى التحول الذي طرأ على هذه الفلسفة فجعلها ديانة، وليس اختيارنا هذا الغرض اختيارا تحكميا. فلدينا - تبريرا له - ما رأينا من تقرير كومت نفسه أن فلسفته وديانته قد يقوم بوضع كل منهما شخص مستقل عن الآخر.
قد يتساءل بعضهم عن الفرق بين المركز الذي اخترناه لأنفسنا، ومركز لتريه (والوضعيين غير الناضجين). وجوابنا أن الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين نظر المؤرخ والمقرر. فإن لتريه وأصحابه قد نظروا من هذه الجهة الأخيرة، ورفضوا لذلك فكرة (تنظيم العواطف) والطريقة الذاتية وديانة الإنسانية، وأخذوا كوضعيين، القسم الأول من المبدأ ولم يأخذوا القسم الثاني. أما نحن فقد وضعنا أنفسنا موضع المؤرخ، وللمؤرخ الحق في تحديد موضوعه من غير أن يترك دقيقة، ولا جليلة من المبدأ الذي يعرضه. ونحن أبعد من أن ندعي مع لتريه أن الشطر الثاني من مذهب كومت يضعف الشطر الأول ويناقضه، بل لقد قررنا أن مجموع القسمين يكون كلا واحدا وضع كومت فكرته في كتاباته الأولى، وأنه كان على حق حين وضع في صدر كتابه (اسياسة الوضعية) تلك الكلمة الجميلة التي قالها الشاعر الفيلسوف: إنما الحياة العظيمة فكرة يصورها الشباب وتنفذها الرجولة .
ولم ندرس إلا الشطر الأول من حاليه؟ لم لا نحترم مجموع ذلك الكل، ونحن نرى أن لتريه قد أخطأ في إنكار تناسقه؟ أجل إنا لنحترمه فلا نجتزئ من المبدأ استبدادا شيئا مما جعله كومت قسما منه، ولئن جعلنا الفلسفة الغرض الفرد من ذلك الكتاب فإنا سنجعل حاضرا أمام الذهن دائما ذلك المجموع الأعم الذي وضعه كومت فيه، فذلك شرط لازم لا يكون بدونه هذا البحث دقيقا وافيا. ولكنا متى التزمنا بهذا الشرط فنحن في دائرة حقنا، إذا نحن وجهنا إلى الفلسفة وحدها كل مجهوداتنا.
لتصوير تاريخ مبدأ من المبادئ طريقتان: فإما أن يقف المؤرخ نفسه في الموقف الفكري للفيلسوف الذي يدرسه مستعيدا أفكار ذلك الفيلسوف الرئيسية على الوجه الذي كان قد رآها به، ثم يقدر على طريقته أيضا أهمية المسائل المختلفة من غير أن يخرج عليه في التمييز ما بين المهم والثانوي منها، ويكون التأريخ في هذه الحالة أشبه شيء بترجمة عقلية للمؤلف. وإما أن يعمل المؤرخ لاستجلاء دخيلة المذهب قصد الوقوف على ما بنى من مبادئ وأفكار، ثم يضع نفسه بعيدا عنه وفوقه ويجتهد ليمركزه في محله من التطور الفلسفي العام، وبهذه الطريقة يتيسر فهم المذهب في مجموعه فهما دقيقا حيث يراه الإنسان، ويرى مبلغ اتصاله بما سبقه وما عاصره، وما جاء بعده من المبادئ. ثم إن الإنسان ليستطيع في هذه الحالة الأخيرة أن يفرق ما بين الأفكار الثانوية الأهمية القليلة البقاء مهما يكن من رأي صاحبها فيها. وإنا لنأخذ عن كومت في هذا المقام تفرقة كان يكثر من تقريرها، فكان يعطي أولى هاتين الطريقتين الأفضلية لمن أراد البحث والتنقيب، ويعطي هذه الأفضلية ثانيتهما فيما يتعلق بالتأريخ.
وتطبيق الطريقة الأولى في النظر إلى مذهبه يسوق المؤرخ؛ ليكون معه في اعتبار الفلسفة الوضعبة تمهيدا، وتحضيرا لديانة الإنسانية التي كانت الغرض والغاية من مجهودات تلك الفلسفة. ومهما وجب على المؤرخ في مثل هذه الحالة أن يوسع بهذه المقدمة اللازمة المؤلف الأساسي الذي وضع فيه كومت الأساس الفكري لمبادئه السياسية والدينية، فهو مكلف أن يجعلها تابعة لهذه المبادئ وأن يضع في المكان الأول فكرة (إعادة نظام الجمعية) وآي ديانة الإنسانية وبناء سلطان روحي، وسائر ذلك القسم من عمل كومت الذي أراد أن يقوم مقام (برنامج الكاثوليكية في العصور الوسطى)، وكله الثقة أنه سيؤدي غرضها خيرا مما قامت هي بأدائه.
ولكن عبقرية كومت لم تظهر على أكملها في هذا القسم من عمله. كلا! ولا كان هذا القسم أخصب مواضع فكرته. فإن مسألة إعادة نظام الجمعية لم تكن من وضعه هو بل كانت منتشرة في البيئة التي ظهر فيها أول شبابه، إذ كانت كل آمال الجيل الذي نشأ معه متجهة إلى إعادة النظام ووضع شروط التقدم وتحديد الصلات بين مقتضيات الخلق، وضرورات السياسة وإقامة ديانة تملأ ذلك الفراغ الذي خيل للناس أن الكثلكة تركته وراءها، وكل ما جاء في (السياسة الوضعية) لا يزيد على مشروعات المدرسة السان سيمونية التي ظهرت في سنة 1830، وإن اختلف الأساس الذي قامت عليه كل من الفكرتين. فكل ما عملته هذه السياسة أنها تأخرت ثلاثين سنة عن المشروعات المماثلة لها لا لشيء إلا أن كومت أراد إقامة نظامه على أساس من الفلسفة ومن الأخلاق، فصرف في هذا المجهود النظري زهرة شبابه وعنفوانه، ولكن الفكرة ذاتها ترجع في نفسه إلى الثلث الأول من ذلك القرن كما تدل عليه النشرات التي أعاد كومت طبعها. فلما ظهرت فيما بين سنة 1850 وسنة 1857 لم تكن من الجيل الجديد الذي نشأ في ظروف سياسية واجتماعية مخالفة لظروف جيل كومت، فلم تجد إلا نفوسا غير مكترثة لها لاشتغالها بمسائل أخرى ظهرت، فاستلفتت الأذهان واستشعر الناس الحاجة إلى حلها على عجل. وبذلك لم يبق لفلسفة التاريخ أن تستفز من النفوس ما كانت تستفزه من قبل، وضعف ما كان في النفوس من شوق لظهور ديانة جديدة، وبرهنت الكثلكة أن قوة الحياة فيها لا تزال موفورة لم تصب بسوء.
صفحة غير معروفة
لهذا فإن عبقرية كومت والاحتياطات التي ظن أنه اتخذها لإقامة نظامه الاجتماعي على أساس معقول، كل ذلك لم يمنع فكرته أن يصيبها ما أصاب غيرها من الأفكار المشابهة لها مع بعض اختلاف في الزمن الذي لزم لذلك. حقا أن (السياسة الوضعية) وغيرها من الكتب التي كتبها كومت في حاله الثانية تكثر فيها الآراء الثاقبة الدقيقة. ومن المفيد أن يبحث الإنسان عما يصل إليه تفكير العقل الكبير في أي موضوع من الموضوعات، ولكن هذا الجزء من عمله، وإن حسبه هو صاحب المركز الأول أبعد من أن يحتفظ بهذا المركز في نظر المؤرخ.
وسبب ذلك أن كومت لا يمثل فيه إلا جيله، أما في فلسفته فهو ممثل عصره والقرن بأجمعه. ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على ذلك؛ فإن تاريخ الحياة الفكرية لذلك القرن تشهد به كل خطوة من خطاها؛ إذ كان هذا المذهب من بين المذاهب التي ظهرت في فرنسا في القرن التاسع عشر الوحيد الذي تخطى حدود هذا الوطن ورسم بطابعه المفكرين الأجانب. فقد لقيت فلسفة كومت أول ظهورها في إنجلترا وهولندا عطفا لم تلقه في فرنسا نفسها، واستمد منها ستوارت مل وهربرت سبنسر وجورج لويس وجورج اليت وعدد غيرهم من فلاسفة الإنجليز وكتابهم، ثم هي لا تزال إلى اليوم تجد من بين رجال إنجلترا النوابغ من يدافع عنها. وإذا لم يكن من فلاسفة الألمان من اتصل بكومت صلة جان ستوارت مل به، فإن الروح الوضعية تمتد في الكليات الألمانية وتنتشر من نحو ثلاثين سنة. ويكفي مقنعا بذلك ملاحظة ما هناك من اطراح الأفكار المتافيزيقية (ما بعد الطبيعة) والمذهب الذي يقام على أساس العلوم الخلقية والاجتماعية، أما في الممالك اللاتينية في العالمين، فأثر كومت ظاهر على أشده، سواء في ذلك إسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية. ولم تخل أمريكا الشمالية من الجمعيات الوضعية. بل لقد لقي كومت فيها أيام حياته أصحابا أكثر ما يكونون لمذهبه إخلاصا.
أما السبب الأهم في إذاعة الفلسفة الوضعية في فرنسا، فكانت كتابات ذينك المؤلفين المحبوبين إلى الرأي العام تين ورينان. فلقد عملا من غير أن يكونا وضعيين لنشر مذهب كومت أكثر مما عمل لتريه وكل الوضعيين معا.
حقا لقد أفاد تين كثيرا من سبينوزا ومن هيجل. أجل أفاد من كندياك أكثر مما أفاد منهما. وهو يتصل من المعاصرين بستوارت مل وسبنسر. ولكنه إنما كان يصدر عن كومت متخذا إياهم بعد ذلك سبيله ووسيلته. ففكرته في تاريخ الأدب وفي النقد وفي فلسفة الفنون والمجهودات التي صرفها لينقل إلى العلوم الخلقية طريقة العلوم الطبيعية كل ذلك يرجع إلى أوجست كومت بنوع خاص. وكتابه في تاريخ أدب الإنجليز هو تطبيق للنظرية الوضعية التي تجعل تطور الفنون والآداب خاضعا لأحكام معينة وقوانين محتومة تجعلها متضامنة مع تطور الأخلاق والأنظمة والعقائد. أما نظرية الزمن والوسط، وهي إحدى نظريات تين الرئيسية، فلم تكن مجهولة في القرن الثامن عشر، ولكن فضل تعميمها يرجع إلى كومت في مقاربته ما بين لاماركه ومونتسكيو. وكومت هو الذي أفاد تين التعريف العام لفكرة الوسط تعريفا جامعا بين أن يكون بيولوجيا واجتماعيا.
وأما ما قاله رينان عن كومت فكان غاية في القسوة، ويمازجه شيء من التحقير والازدراء. وعلى الرغم من ذلك فقد اعترف أن كومت سيكون بلا شك من أعلام ذلك العصر كما أنه لم يسلم من التأثر به أعظم الأثر. ولئن كان واجبا ألا ننسى المصادر الأخرى الفرنسية والأجنبية التي أوردها ذلك العقل الكبير، فإن اعتباره التاريخ (علم الإنسانية الأقدس) وانتظاره منه أن يحل الإيمان بفكرة التقدم الوضعية محل آي الكثلكة القديمة عن القدرة العليا، وإدراكه أن الحقيقة والخير ليسا حقائق خالدة جامعة، بل هما يتحققان رويدا بمجهودات الأجيال المتعاقبة، كل ذلك يرجع الفضل فيه إلى كومت بمبلغ ما يرجع إلى هيجل.
ونحسب هذين المثلين يكفيان لإظهار ما وصلت إليه الروح الوضعية من سعة الانتشار.
وقد بلغ من اختلاط هذه الروح بالفكرة العامة في عصرنا الحاضر حتى أصبح الإنسان لا يكاد يلاحظها، مثلما أنه لا يهتم للهواء الذي يستنشقه. فتأثر بها التاريخ والقصص والشعر ثم عادت هذه الفروع كلها، فزادت في تلك الروح انتشارا. وكذلك عن كومت صدر علم الاجتماع الحاضر؛ وعنه إلى حد ما صدر علم النفس بطريقته العلمية ؛ ولهذا كله فلا يكون مجازفا من يعتبر الفلسفة الوضعية مظهر الميول والأفكار المميزة لعصرنا الحاضر.
وإذن فوقوفنا من عمل كومت عند الفلسفة التي تكون أكثر أقسامه عبقرية وحياة وخصبا، ليس هو إلا الأخذ بالحقيقة التي يرى بها التاريخ. ولا يهمنا إن لم يعتبر كومت هذا القسم إلا مقدمة بسيطة. فكم كان المجهود النظري يقوم به أحد المفكرين لينشئ فوقه عملية أكثر فائدة وأخلد أثرا من تلك النتائج نفسها. (2) المسألة الفلسفية
يرى كومت أن القصد من الفلسفة أن تقوم أساسا للخلق وللسياسة وللدين. فهي ليست غاية لذاتها ولكنها وسيلة لغاية لا يمكن الوصول إليها بدونها. ولو اعتقد كومت يوما أن في الإمكان إعادة نظام الجمعية من غير البدء بنظام الأخلاق أو إقامة الأخلاق من غير أن يسبقه تنظيم العقائد، إذن لما ألف - على الأغلب - ستة أجزاء في دروس الفلسفة الوضعية التي شغلته ما بين سنة 1830 وسنة 1842، بل لتخطاها إلى ما كان أسمى منها فائدة وأكثر جدوى.
ولكنه اقتنع من أول أمره أن أقصر الطرق أسوؤها، ورأى أن كل مجهود يصرف لإقامة النظام الديني أو السياسي أو الخلقي يذهب عبثا إذا لم يسبقه إعادة النظام العقلي؛ لهذا جعل أول همه إقامة فلسفة جديدة لا غنى عنها للوصول إلى الغاية الاجتماعية التي كان يرمي إليها. وبذلك أصبحت هذه الفلسفة غرضا في ذاتها ولو مؤقتا.
صفحة غير معروفة
إذن فسينظم كومت العقائد. ومعنى ذلك أنه سيحل إيمانا مبنيا على الحجة والدليل محل الإيمان الموحى به والذي خبا ضوءه. ولن يكون ذلك الإيمان المتعقل مشابها في شيء للديانة الطبيعية التي قامت في القرن الثامن عشر، فإن تلك الديانة لم تكن إلا نوعا مختلا ضعيفا من أنواع الإيمان بما فوق الطبيعة تظهر الفكرة الدينية من خلال منطقه الميتافيزيقي عن الألوهية. أما الإيمان المتعقل فيستمد أصوله ومسوغات وجوده من العلم الوضعي، (الواقعي). ويومئذ لا يكون التنافر الذي يرى بين كلمتي (الإيمان) و(الدليل) إلا تنافرا ظاهريا وإن كان ما سيوضع من القواعد يراد به أن يكون موضع (إيمان)، نظرا لما يجب للأغلبية العظمى من الناس من الأخذ بالنتائج التي قررتها الفلسفة الوضعية. وسيبقون دائما قلائل أولئك الرجال الذين يجدون من الوقت ويصلون من كمال العلم إلى ما يمكنهم من فهم هذه النتائج واستقصاء أدلتها. أما من سوى هؤلاء فلن يكون منهم لها سوى الخضوع والاحترام. ولكن الفارق بين هذا الإيمان المتعقل وبين ما عرفته الإنسانية إلى يومئذ من آي الدين أن الأول لا يحوي شيئا لم يثبت بعد تمحيصه بالطريقة العلمية ولا شيء فيه يخرج عن دائرة المعلومات النسبية، وأن كل ما فيه يمكن في لحظة إثباته أمام كل ذي بصيرة يستطيع تتبع ما يدلي به من الحجة والدليل.
وهذا النوع من الإيمان حاصل بالفعل فيما يتعلق بعدة حقائق علمية. فجميع المتمدينين يؤمنون اليوم بنظرية (النظام الشمسي
Système Solaire ) التي يرجع الفضل في اكتشافها إلى كوبرنيك وكبلر ونيوتن، وقل منهم من هو بحيث يفهم الإيضاحات التي بنيت النظرية عليها. ولكنهم يعلمون أن ما هو موضع إيمانهم هذا هو موضع علم وبحث عند الآخرين، وأنه يكون كذلك بالنسبة لهم لو أنهم وصلوا من العلم لما يؤهلهم له. إذن فليس معنى الإيمان هنا التنازل اختيارا عن تعقل طريقة تفوق مدى العقل، بل التسليم الذي لا يضيع على صاحبه حق التعقل. وأساس هذا التسليم أن ليس في وسع إنسان في كل لحظة أن يستعمل حق النقد. ومن رأي كومت وجوب قصر هذا الحق في العمل عند أضيق حدوده. وإن كان الأصل وجوده لكل رجل ذي بصيرة ما بقي. وعلى ذلك يكون معنى الإيمان المتعقل هو هذه الفكرة: (لو أن الناس جميعا كانوا بحيث يستطيعون استقصاء آياته لوصلوا جميعا وبلا استثناء لفهم مبادئه ونظرياته، ولسلموا بها كلهم).
فيجب إذن ألا تكون كلمات (العقيدة) و(الإيمان) مثارا هنا لشبهة. فإن ما اشتغل به كومت من (تنظيم العقائد) لم يشمل منها إلا ما كان ممكن التوضيح والاستظهار. وهو هنا متفق مع فكرة سان سيمون الذي كان يعتبر الديانة كأساس من أسس النظام السياسي، ثم إن كومت - في أول حاليه على الأقل - لم يدخل في الإيمان شيئا من المسائل الغيبية أو العواطفية أو غير العقلية التي تنطوي عليها هذه الكلمة عادة، وتجعلها لذلك معارضة في أغلب الأحيان للتعقل، بل قصد بالإيمان كل ما يعتقده الإنسان خاصا بأي مسائل يمكن أن يصل إليها علمه. وانما حدا به إلى ذلك ما ظهر من عدم اكتفاء العقل الإنساني بتلك التفاسير المثلية أو الميتافيزيقية التي كان يعلمها الفلاسفة والقساوسة الناس عن العالم وعن الإنسان، والتي كانت موضوع العقائد إلى حينئذ. فاتخذت الفلسفة الوضعية طريقا غير ذلك الطريق، وجعلت تحل العرفان بقوانين الحوادث محل هذه التفاسير. ومن ثم أصبحت المسألة عند كومت ... الوصول من طريق العقل لإقامة مجموعة حقائق خاصة بالإنسان والجمعية، والعالم يسلم بها الناس جميعا.
وقد وقر في نفس كومت على أثر ذلك فكرتان: أولاهما: أن الأفكار والعقائد والتصورات الخاصة بهذه الأمور كانت في ذلك اليوم فوضى، والثانية: أن حالتها الطبيعية المعقولة أن تكون منظمة.
أما النقطة الأولى فغنية عن كل دليل. ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على الجمعية الخاصة ليعلم أن الاضطرابات التي تهز جوفها وتهددها بالخراب، إذا هي لم تهتد إلى أساس ثابت يقوم بناؤها عليه ليس مرجعها أسبابا سياسية فحسب، بل هو نتيجة اضطراب خلقي يرجع هو الآخر إلى اضطراب فكري منشؤه عدم وجود قواعد مشتركة بين كل العقول وعدم قيام مبادئ وعقائد يسلم بها الناس جميعا. وليس يكفي لوجود جمعية إنسانية وبقائها وجود شيء من الشبه بين العواطف، كلا ولا قيام المصلحة المشتركة بين أفرادها، بل يجب مع هذا وقبل كل شيء وجود اتفاق فكري تحققه مجموعة عقائد مشتركة.
فإذا رأيت جمعية من الجمعيات يعمل فيها فساد مزمن لا تظن أن طرق العلاج السياسية تنتج في شفائه، فاعلم أن السبب الأصيل لذلك الفساد إنما هو اختلال النظام العقلي، وأن المفاسد الأخرى ليست إلا مظاهر لهذا الاختلال. وتلك في رأي كومت هي حال جمعيتنا الحاضرة؛ فلم تبق تحكمها سلطة عقلية ولا روحية، وبلغت من ذلك حتى فقدت مجرد الشعور بانحلال تلك السلطة. فلم يبق بين العقول نظام مشترك تقره ولم يبق النقد السلبي الهادم مبدأ، إلا أتى عليه وأقام الفرد نفسه الحكم الأوحد في كل مسائل الفلسفة والخلق والسياسة والدين يأخذ منها ما يشاء، ولو لم يكن عنده من العلم ما يؤهله لهذا الاختيار، ويحسب أن ما أخذ به ليس أقل مما أخذ به سواه، وأنه لا يصدر إلا عن نفسه. وهذا التشتت بين العقول (أو ما يقول عنه كومت أخيرا هذه الثورة فيها) هو ما نسميه حالة الفوضى.
ولكن مثل هذه الحال هي الحال العادية الصرفة للجمعيات الإنسانية. وإن الحال النظامية لا تظهر إلا نادرا وبصفة استثنائية. وهذا زعم فاسد الأساس، ولو أنه صح يوما لما بقيت الجمعيات ثم لما تقدمت، وإنما الصحيح أن أزمنة الفوضى العقلية هي أزمنة استثنائية، وأن الناس في كل جمعية عادية يربطهم معا خضوع عام لمجموع معين من المبادئ والعقائد. والتاريخ شاهد يؤيد هذا الرأي. فإن جمود مدنيات الشرق الأقصى مرجعه الأول ما يمتازون هم به عنا من الثبات العقلي. وقد اطمأنت الجمعيات القديمة (اليونانية والرومانية) إلى فكرة معينة عن الإنسان وعن المدنية وعن العالم لم يطرأ عليها طول مدة بقاء هذه الجمعيات إلا قليل من التغيير. ثم كان للمسيحية في أوروبا سلطة عجيبة في مدى القرون المتوسطة، فأقام النظام الكاثوليكي (الذي يعتبر منتهى ما تصل إليه الحكمة السياسية) بناء من العقائد اطمأنت له كل النفوس، وأسلمت قيادها له وانحلال هذا البناء أقوى من معظم الشرور التي نتخبط في حمأتها. من ذلك يتبين أن الفوضى العقلية حال غير عادية، ومرض سماه كومت (لمرض الغربي) ولو طال أمد هذا المرض لأصبح قاتلا فإما أن تستسلم الجمعية له فتهلك، وإما أن تعاود العقول توازنها بالخضوع لمبادئ مشتركة والتسليم بها.
من ذلك يظهر أن مسألة إعادة نظام العقائد تزدوج، فيصبح ثمة من جهة مسألة فلسفية صرفة ترمي إلى إقامة مجموعة مبادئ عقائد صالحة ليسلم بها الناس جميعا، ومن جهة أخرى مسألة اجتماعية تبحث في الوسيلة لجمع العقول والأذهان إلى هذا الإيمان الجديد، على أن هذه الفكرة ليست إلا ظاهرية. فإن حل المسألة الأولي يجر حتما إلى حل المسألة الثانية؛ ذلك لأن صفة النظام عند المجموع أساسها الأول ما في نفس كل فرد من الاضطراب، وانقسام العقول فيما بينها أصله انقسام كل عقل على نفسه. فلو أن عقلا واحدا أمكنه أن يقيم التوازن في نفسه لانتقل هذا التوازن بفضل المنطق وحده إلى ما حوله ومن جاوره. وإذن متى أنشئت الفلسفة أصبح أمر تحقيق الباقي موكولا ليد الزمن. وحسبنا بحث الأفكار والعقائد القائمة في إحدى النفوس، والنظر فيما يلزم لإحلال التوازن محل الفوضى فيها بمعنى أن يحل فيها «توازنا منطقيا كاملا».
لما أراد ديكارت أن يبلو معلوماته بمبدأ الشك لم يحتج إلى أكثر من تعرف المصادر التي جاءت هذه المعلومات عنها. وكذلك فعل كومت. فإنه لما أراد تحقيق التوافق المنطقي لآرائه اكتفى بالنظر في الطرائق التي أوصلتها إياه، حتى إذا اكتشف أن أيا من بينها لا تتفق مع سواها كان قد وجد سبب الاضطراب العقلي، ومنشأ المفاسد التي تثقل كاهل الجمعية الحاضرة، وكان كذلك قد وجد الدواء. والدواء هو السعي لاستبعاد هذا التناقض؛ فإن الوحدة والتوافق هما أول ما يتطلبه الفكر الإنساني بطبيعته، والفهم متناسق بفطرته فلا يكتفي بآراء محشودة في الذهن ولا تتفق مع المنطق، ومهما يكن التناقض مجهولا من صاحبه فإن ذلك لا يمنعه من أن يحس به، وكل فكرة عندنا تستدعي وجود مجموع أفكار مرتبطة بها وصلت إلينا من نفس الطريق الذي وصلت منه تلك الفكرة، وهذا المجموع جزء من كل أعظم منه يتم في أنفسنا، وتجمعه فكرة عامة عن العالم.
صفحة غير معروفة
وقد وجد كومت في نفسه وفي نفوس معاصريه طريقتين عامتين من طرائق التفكير لا يتفق وجودهما معا من غير تعارض ولا تناقض. ولم تستطع إحداهما إلى يومنا هذا التغلب على الأخرى تغلبا حاسما. فهو يفكر عند النظر في عدة مجموعات من الحوادث تفكير عالم نشأ في مدرسة هيز وجاليليه وديكارت وتابعيهم، فلا يفكر في تفسير هذه الحوادث بأسبابها، ويقنع أن أوصلته الملاحظة أو أوصله الاستقراء لمعرفة قوانينها لما تسمح له به معرفة تلك القوانين من المداخلة أحيانا في شأن الحوادث؛ ليحل محل النظام الطبيعي نظاما صناعيا أكثر اتفاقا مع حاجاته، وهذا هو ما صير المظاهر الميكانيكية والفلكية والطبيعية والكيماوية، بل البيولوجية في نظره، موضوعات للعلم النسبي والوضعي (الواقعي).
ولكن متى كانت المسائل المراد النظر فيها راجعة أصولها إلى دخيلة ضمير الإنسان، أو متعلقة بالحياة التاريخية والاجتماعية، فهنالك تغلب على النفس وجهته مناقضة لتلك الوجهة الأولى. فلا يقتصر الذهن عندئذ على البحث وراء قوانين الظواهر، بل يزعم لنفسه القدرة على تفسيرها، ويندفع يريد الوصول لماهيتها وسببها. فهو يبحث في أمر الروح الإنسانية وفي علاقتها بحقائق العالم الأخرى، وفي الغاية التي يجب على الجمعية أن ترمي إليها وفي أحسن الحكومات الممكنة، وفي العقد الاجتماعي وفي غير ذلك من المسائل التي يرجع في كلها إلى طريق التفكير (الميتافيزيقي). وهذا الطريق لا يتفق مع الأول بحال من الأحوال. ومع ذلك نراهما قائمين اليوم معا في كل النفوس.
وإن سير الجماعات ليظهر لنا كيف حدث ذلك. ولكن أيا كانت أسبابه التاريخية فإن حقيقته ثابتة للعيان. فلا يستطيع الذهن الإنساني اليوم أن يتقبل كلا، ولا أن يرفض بتاتا أيا من هاتين الطريقتين من طرائق التفكير. فهو يشعر تمام الشعور أن ما قررته العلوم الوضعية لا يمكن رفضه أو التخلص منه. وأن لا سبيل للرجوع إلى تفاسير ميتافيزيقية أو دينية للظواهر الفلكية أو الطبيعية. ولكن يرى أيضا أن الصور الميتافيزيقية والدينية لازمة عنده ولا غناء له عنها. وذلك طبيعي ما دام العقل الإنساني يريد لسد حاجته إلى الوحدة والتناسق اللذين هما مطلبه الأعلى فكرة عامة تحيط بكل أنواع الظواهر. وهذه الفكرة هي ما سماه كومت جماع التجارب، أو هي في كلمة واحدة (الفلسفة).
ولم تثبت طريقة التفكير الوضعية إلى اليوم قدرتها على سد هذه الحاجة، إذ إنها لم تنتج إلا بعض علوم معينة، ولما كان العلم الوضعي خاصا وجزئيا فقد قصر بحثه على مجموعة محدودة من الظواهر وقف عليها كل أعماله التحليلية والتنسيقية بدقة محمودة كانت أساس قوته، ولم يقدم يوما ما على تنسيق كل الحقائق التي وصل إليها علمنا. بل اختص الديانات والميتافيزيقيات بهذا العمل الذي لا يزال إلى يومنا هذا سبب وجودها الأهم، ذلك بأنه عمل يجب القيام به لما يطمح إليه العقل الإنساني بالضرورة، وبطبعه من الوحدة وما يرجوه من تحصيل فكرة عن العالم. فخير له إذن أن يبقى متعلقا بهذه الحلول التي تقدمها له الديانات والميتافيزيقيات، مهما تكن حلولا خيالية من أن يترك المسائل الفلسفية معلقة أمامه ولا جواب عليها. ومما تقدم يظهر أن الروح الوضعية في زمننا الحاضر (حقيقة)، ولكنها (خاصة) والروح الدينية الميتافيزيقية (عامة) ولكنها (خيالية). وليس في إمكاننا أن نضحي (حقيقة) العلم ولا (عمومية) الفلسفة. فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق.
لدينا لذلك ثلاثة حلول لا رابع لها: (1)
فإما أن نصل إلى توفيق يمكن معه وجود طريقتي التفكير من غير تضارب. (2)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الدينية الميتافيزيقية. (3)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الوضعية. •••
يظهر الحل الأول لأول وهلة مقبولا أكثر من الأخيرين. إذ لم لا يتفق بحيث الأنواع المختلفة من المظاهر الطبيعية على طريقة وضعية مع فكرة ميتافيزيقية أو دينية عن الوجود. وأي مانع يمنع تصور المظاهر بسنن لا تبديل لها، وأن نبحث في الوقت نفسه من طريق آخر السبب الذي يجعلنا نفهم العالم والطبيعة على عمومها. ومتى كان ذلك وتحرر العلم الوضعي من حكم الدين والميتافيزيقية، ضمن ذلك العلم لهما مثل ما وصل إليه من الاستقلال، وتحددت بذلك على طريقة تزداد كل يوم دقة، النطاق الصحيح للعلم الوضعي من جهة ونطاق التطورات التي تتعدى التجارب من الجهة الأخرى.
وإن كومت ليخبرنا أن هذا التوفيق ظهر معقولا زمنا طويلا، وأن الأفكار الدينية والميتافيزيقية لا تزال إلى يومنا هذا هي الصور الجامعة التي قامت في النفس الإنسانية عن الوجود. ولقد أدت هذه الأفكار بذلك وظيفة ضرورية لولاها لما وجد العلم الوضعي ولما تقدم. ولكن لما كان هذا العلم هو وارثها فهو كذلك عدوها، وتقدمه يجر حتما تدركها. وما في التاريخ من تراجح آي الدين والميتافيزيقية من جهة والمعلومات الوضعية من الجهة الأخرى يدل على أن التوفيق بينهما لا يمكن أن يدوم.
صفحة غير معروفة
ولا يكون انقضاء التناقض بين طريقتي التفكير نتيجة معركة منطقية فاصلة تنهزم فيها الديانات والفلسفات؛ فليس على هذا الشكل تنتهي الآيات والفكر ولكنها تختفي بإهمالها، كما يقول كومت، اختفاء الطرق غير المستعملة. وهل هي كانت إلا كطرائق للذهن الإنساني الذي أراد أن يحيط مجموع الأشياء بنظره من قبل أن يتم درسها. ولم يكن للعقل أن يتقدم للإنسان بهذه المعلومات الحقة إلا متأخرا، وبرغم الجهود الطويلة التي قام بها العلم، ولقد كانت المعلومات التي تقدم بها متواضعة كل التواضع ونسبية كلها؛ لهذا لجأ الإنسان إلى الخيال طالبا هذه المعلومات دفعة واحدة ومطلقة كلها. ولكنه ترك هذه التفسيرات الدينية والمنطقية رويدا رويدا على نسبة تقدمه في بحث المظاهر بحثا وضعيا، وعود نفسه أن يردها إلى مناطق تزداد بالزمن بعدا من غير أن يهمل قطعا التنقيب عن أسباب الأشياء. ولكنه أصبح لا يهتم بتقدير الأسباب للظواهر التي وصل فيها إلى فكرة وضعية بحتة، وصار يكتفي بما يعلم من خضوع هذه الظواهر لقوانين معينة. ومتى اعتادت الأذهان تصور كل الظواهر من كل الأنواع على هذا النحو، وأصبحت فكرة قوانين هذه الظواهر أيا تكون متعارفة كذلك لا يبقى لطريقة التفكير الميتافيزيقية وجود، وبالاختصار فمتى أصبح العلم كله وضعيا أصبحت الفلسفة وضعية كذلك.
فإنا لا نملك النظر للأشياء إلا من جهة واحدة، وكل ما كان من معلوماتنا «حقيقيا» ينصب على الظواهر وقوانينها. فإذا أصبح نظرنا لكل أنواع الظاهرات مأخوذة واحدة بعد الأخرى مكيفا على الطريقة الوضعية لم يبق لنا، إذا أخذناها معا ونظرنا إلى مجموعها، أن نفكر فيها بطريقة مختلفة عن الطريقة الوضعية بل معارضة لها.
والواقع أن وجود هاتين الطريقتين من طرق التفكير معا سيبقى ما دامت الروح الوضعية لم تصل إلى تمام انتشارها، وما بقي جزء قل أو كثر من الظاهرات الطبيعية يفسر بماهيته وسببه وغايته. ولكن هذه الحال لن تدوم إلى الأبد. بل كلما تقدمت الروح الوضعية اضمحل مركز الصورة الدينية الميتافيزيقية من العالم وتلاشى. فعلينا إذن أن نختار بين الطريقتين إذ لا سبيل إلى وحدة التفكير، ولا إلى التماسك المنطقي التام إلا هذا الاختيار.
وهذا الاختيار الذي ألجأنا إليه عدم إمكان التوفيق يدفعنا للنظر في الأخذ بطريق التفكير الوضعي كلا أو اطراحه كلا. ولقد رأى المحافظون
traditionalistes - وأخصهم يوسف دمتر - هذا الوجه من أوجه المسألة مما دعا كومت للاعتراف لهم بكبير الفضل. ودمتر لا يرى لجمعيتنا سلاما إلا في العودة التامة لطريق التفكير الديني. وهو لذلك يحارب الروح الفلسفية الحديثة في أصلها، وإن شئت ففي الأصول المتعددة التي أخذت عنها، فهو يناضل كومت مناضلته فلسفة القرن الثامن عشر التي أخذت عنها، ولا يراعي لباكون أكثر مما راعى للوك من حرمة، ولا يرحم أنصار الإصلاح الأول أكثر من رحمته باكون؛ ذلك لأنه علم أن القرن الثامن عشر إنما هو النتيجة الشاملة التي جهزها القرنان السادس والسابع عشر، وأن هذه القضية المنطقية العظمى المخربة ترجع أصولها إلى أعمال التحليل والإفساد التي بدأت منذ القرن الرابع عشر؛ ولهذا فهو متفق مع نفسه فيما سعى إليه من منازلة هذا العمل الشيطاني لإرجاع أوروبا إلى ما كانت عليه حالها العقلية الدينية في العصور الوسطى، فإن إعادة سلطان البابا الروحي يقطع الطريق على الفوضى العقلية والخلقية، وهناك ترجع الكثلكة إلى النفوس أرفع حاجاتها وهي الوحدة.
وهذا الحل يكفي أمام الخيال لمواجهة فروض المسألة. ولكنه غير ممكن الحصول في الواقع؛ لأن التاريخ لا يرجع إلى منبعه. ويجب لإخضاع الأذهان من جديد إلى السلطان الروحي الذي كانت تقبله طوعا في العصور المتوسطة أن نعيد حولها مجموع الظروف التي كانت تحيط بها في ذلك الحين. لكن كيف لنا أن نمحو من التاريخ اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة وغير ذلك من الأمور الاجتماعية الكبرى. ثم ما هو السبيل لنتجاهل وجود كوبرنك وكبلر وجاليليه وديكارت ونيوتن وسائر مؤسسي العلوم الوضعية. ولئن أمكن المستحيل واستطعنا أن نستعيد الوحدة العقلية والخلقية التي كانت قائمة في الجمعية المسيحية أيام العصور الوسطى، فكيف لنا أن نمنع القوانين الطبيعية التي وصلت إلى حل هذه الوحدة مرة أن تعود إلى مثل ذلك مرة أخرى.
وما دام ذلك غير ممكن فقد أصبح الإنسان مسوقا حتما لقبول الحل الثالث والأخير. ما دام التوفيق بين طريق التفكير الوضعية والطريق الأخرى غير ممكن. وما دام السلطان المطلق لا يمكن أن يكون لطريق التفكير الدينية الميتافيزيقية. وما دام واجبا للعقل الإنساني الأخذ بفلسفة، فلم يبق إلا أن تنشأ هذه الفلسفة من طريق التفكير الوضعي وحده. ولا شيء فيما نرى يمنع تحقيق ذلك. بل إن آخر قضايا الروح الدينية الفلسفية ليست من المتانة فلا تمحى. وهذه الروح (الخيالية) بماهيتها لا يمكن أن تصبح حقيقة يوما من الأيام. أما الروح الوضعية فليست (خاصة) إلا عرضا، ومن الممكن جدا أن تصل إلى العمومية التي تفتقدها. وإذ ذاك يمكن إقامة فلسفة جديدة تحل معها مسألة (التماسك المنطقي التام) المنشود.
فالصعوبة كلها إذن هي في تعميم طريقة التفكير الوضعية. ويجب للوصول إلى ذلك أن تمتد هذه الطريقة إلى الظواهر التي لا يزال الناس يتصورونها عادة على طريقة التفكير الدينية الميتافيزيقية. هذه هي الظراهر الخلقية والاجتماعية، وسيكون هذا العمل هو الاكتشاف الرئيسي لكومت. فإنه سينشئ (طبيعة اجتماعية)، ويكون بها قد نفى ما بقي للدين وللفلسفة من سبب في الوجود، وأقام على أساس من العلم الوضعي فلسفة وضعية كذلك، وعندئذ تتحقق (وحدة الفكر) ويكون من أثر هذا التوازن العقلي قيام التوازن الخلقي والتوازن الديني للإنسانية. (3) قانون الحالات الثلاث
قد يعتبر إنشاء علم الاجتماع في مذهب كومت بدء وغاية في وقت معا. فإنك لترى الطريقة الوضعية تصل معه من جهة إلى حكم أرقى الظاهرات وأشرفها وأكثرها تركيبا. وهنا يكون علم الاجتماع أرفع مراتب الروح الوضعية، وبذا يصل إلى أرقى درجات العلوم، ومن ثم يحكمها جميعا. ثم إنك من الجهة الأخرى ترى الفلسفة الوضعية، وقد أصبحت ممكنة الوجود تنشأ من عنده لتقيم مبادئ الخلق والسياسة.
قال كومت في أول «الدروس»: (إن إنشاء علم الاجتماع سيسمح للفلسفة الوضعية أن تكسب صفة العمومية التي لم تكن بعد قد أفادتها، وستصير بذلك قادرة على أن تحل محل الفلسفة الدينية والميتافيزيقية التي لا تمتاز اليوم بصفة حقيقية غير هذه العمومية).
صفحة غير معروفة
7
ثم استنتج في آخر «الدروس» ما يأتي: (إن خلق علم الاجتماع أقام اليوم الوحدة الأساسية في مذهب الفلسفة الحديثة كله).
8
ولقد خلق هذا العلم الذي يرجع إليه كل ما سواه من يوم أن اكتشف كومت قانون الحالات الثلاث. فإن إقامة هذا القانون تخرج (الطبيعة الاجتماعية) عن أن تكون مجرد فكرة فلسفية لتصبح علما وضعيا. ولقد أحس بهذا القانون بل حدده في القرن الثامن ترجو ثم كوندرسيه ثم الدكتور بوردن. ولكن كومت ينسب - على الرغم من ذلك - اكتشافه لنفسه. على أنه إذا كان عدلا أن نعترف لسابقيه بما لهم من حق، فحق كذلك أن نقر كومت على أن أحدا منهم لم يتصور المدى العلمي لذلك القانون وشتان بين مجرد استنباط الوقائع، وبين فهم عظيم أهميتها والاهتداء من بينها إلى القانون الأساسي الذي يحكم مجموع تقدم الإنسانية. وإليك كيف يتقدم به كومت في (فكرة عن الأعمال العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية - 1822):
إن طبيعة العقل الإنساني تقضي على كل فرع من فروع معلوماتنا أن يمر في أثناء سيره حتما، وعلى طريق التعاقب بثلاث أحوال نظرية مختلفة: الحال الدينية أو التخيلية، والحال الميتافيزيقية أو المطلقة - ثم الحال العلمية أو الوضعية.
9
ولقد ذكر كومت هذه الفكرة في الدرس الأول من دروس الفلسفة الوضعية، ثم أضاف إليها ما يأتي: (وبعبارة أخرى فإن الذهن الإنساني بطبيعته يستخدم على التعاقب في كل أبحاثه ثلاث طرائق من طرق الفلسفة يختلف كل منها في جوهره عن الآخرين بل يعارضهما. فالطريقة الدينية أولا ثم الطريقة الميتافيزيقية ثانيا والطريقة الوضعية أخيرا. وينشأ عن ذلك ثلاث فلسفات أو مذاهب عامة عن تصوراتنا لمجموع الظواهر تنفي كل منها ما بعدها. فالأولى هي نقطة البدء اللازمة للعقل الإنساني، والثالثة هي حاله الثابتة النهائية، وأما الثانية فلم تعد إلا لتكون سبيلا بينهما).
10
وكلمتا الدينية والميتافيزيقية يقصد بهما هنا معنى معينا أدق التعيين، فكومت يقصد بالدين مذهبا عاما في تصور مجموع الظواهر يرجع قيام هذه الظواهر إلى إرادة الآلهة، ولا يريد به المضاربات والتفكيرات الدينية التي يعتبرها الناس عادة علما منطقيا أو قدسيا. بل إنه لا يفكر أقل التفكير في درس الحقيقة الموحى بها. وإنما يشير بهذا الاسم إلى تفسير ظواهر الطبيعة بأسباب تحكمية فوق الطبيعة. فمعنى الديني التخيلي. وكومت يسمى هذه الطريقة في التفسير أيضا «التصورية» أو «المثالية». وعلى هذا المعنى نراه يتساءل: إذا لم يكن كل منا يذكر أن أفكاره الرئيسية كانت دينية أيام طفولته ميتافيزيقية في شبابه طبيعية في رجولته.
11
صفحة غير معروفة