وقد عني الكندي بالفلسفة السياسية؛ فألف نظرية في الأعداد التوافقية، التي ذكرها أفلاطون في كتاب السياسة، وكان الكندي جدليا ماهرا، وبهذا تفسر كثرة أعدائه أيضا.
ويعد عمله العلمي - على الخصوص - من الأهمية بمكان، ويخمن أنه ترجم كتاب جغرافية بطليموس، الذي كانت توجد له ترجمة سريانية سابقا،
4
وأحصى مقالات أقليدس، وألف عن كتب هذا العالم الهندسي وعن المجسطي لبطليموس. وكثر عدد مؤلفاته في الرياضيات والفلك، وعني بالآثار العلوية؛ وذلك بسبب ما أخذ على نفسه من مناهضة الأفكار المانوية في تركيب السماء ونظرية النور والظلام.
وفضلا عن ذلك، فقد حمل على المانوية في مؤلف خاص، ولم يكن الطب غريبا عنه، وإن لم يزاوله على ما يظهر، ثم إنه عرف الموسيقى، وعلم هذا الفن علما وعملا. ويتألف من أهليات الكندي العلمية إحدى مميزات عبقريته، ويظهر أنه بذل مثل تلك العناية بالعلوم الطبيعية والعلوم النظرية، عادا إياها أساسا ضروريا للفلسفة وقسما متمما لها، ويحمل أحد كتبه عنوان «لا تنال الفلسفة إلا بعلم الرياضة». ولا يرى أنه التفت إلى التصوف كثيرا، خلافا لكبار الموسوعيين الآخرين.
وحديثا نشر الدكتور ألبينو ناجي ترجمات لاتينية لثلاث رسائل ألفها الكندي،
5
فاثنتان من هذه الرسائل تحملان عنوان الجواهر الخمسة والعقل، وتعالج النظريات المألوفة في السكلاسية العربية. ومن الممتع إظهار الحال التي تبدو بها هذه النظريات في القرن الثالث من الهجرة بقلم فيلسوفنا. فالجواهر الخمسة - التي يرى من الأصلح أن يعبر عنها بكلمة أكثر لزوما؛ أي بالأشياء الخمسة - هي التي توجد في جميع الجواهر كما قيل، وهي الهيولي، والصورة، والحركة، والزمان، والمكان.
وأسلوب الكندي في هذه الرسائل متين، كثير الإيجاز، غير خال من الجمال، وإليك كلمته - على علاتها - عن الهيولي: «الهيولي، هي ما يقبل ولا يقبل، والهيولي هي ما يمسك ولا يمسك، والهيولي إذا ارتفعت ارتفع ما هو غير لها، وأما إذا ارتفع ما هو غير لها فهي نفسها لا ترتفع، ومن الهيولي كل شيء، وهي ما يقبل الأضداد دون فساد، والهيولي ليس لها حد بتة.»
وللصورة صنفان؛ فأما أحدهما فيؤلف الجنس، ولا يكون قسما من المبادئ البسيطة التي نتكلم عنها، وأما الآخر فيصلح لتمييز الشيء من جميع الأشياء الأخرى بالجوهر والكمية والكيفية وبقية الأجناس العشرة، وهناك الصورة التي تؤلف كل شيء، «وتوجد في الهيولي البسيطة قوة، بها تكون الأشياء من الهيولي، وتلك القوة هي الصورة، وفي هذا دليل على أن الصورة موجودة بالقوة، فمثلا من الحرارة واليبوسة اللتين هما بسيطتان - إذا اجتمعتا - تكون النار، وإذن فالهيولي في الحرارة واليبوسة البسيطتين. أما الصورة فهي النار، ولكن القوة هي تلك التي - إذا اجتمعتا - تصير بالهيولي نارا ... فأقول - إذن - إن الصورة هي الفصل الذي به ينفصل شيء عن الأشياء الأخرى بالبصر، والبصر هو علم ذلك.» ولا يدل هذا التحديد على فهم تام لرأي أرسطو، ولا على حيازة كاملة للفكرة السكلاسية، وإنما يشعر هنالك بنظرية في طريق التكوين. ومع ذلك، فإن من الصواب أن يذكر أن لاتينية هذه الترجمة رديئة .
صفحة غير معروفة