ويميز مؤلفنا ستة أنواع للحركة وفق العنعنات المشائية، وهي: حركة الكون والفساد في الجوهر، وزيادة الكمية ونقصانها، وتغير الصفة، والحركة في المكان، مستقيمة كانت أو دائرية. وكان تحديد المكان يزعجه كما كان يزعج أرسطو، فقد قال: «أما المكان، فقد اختلف فيه الفلاسفة بسبب غموضه وخفائه، فقال بعضهم: إنه لا يوجد مكان بتة، وقال بعضهم إنه جسم كما قال أفلاطون، وقال بعضهم إنه موجود، لكنه ليس جسما.» ورأى اتباع رأي أرسطو، فرفض الرأي القائل إن المكان جسم، وقال: «إن المكان هو السطح الذي هو خارج الجسم.» ويكون المكان هيولي ذات بعدين، ويلاحظ الكندي - كعالم طبيعي - أن المكان لا يزول برفع الجسم، فالهواء يأتي إلى المكان الذي جعل فيه فراغ، والماء يأتي إلى المكان الذي ذهب منه الهواء.
وكذلك مبدأ الزمان أدى إلى اختلافات بين الفلاسفة، فبعضهم قال إنه الحركة بنفسها، وقال بعض آخر إنه ليس إياها. ويؤكد مؤلفنا أننا نرى الحركة مختلفة في أشياء مختلفة، وذلك مع أن الزمان في الكل يكون على نوع واحد ونمط واحد؛ ولهذا، فإن الزمان ليس الحركة، وإنما يجب لتحديد الزمان أن يقال: إن الوقت هو الذي يجمع الماضي والمستقبل، وإن كان الوقت لا يدوم بذاته. «وليس الزمان في شيء سوى القبل والبعد، وهو ليس سوى العدد، وهو عدد عاد للحركة.» وهذا العدد من الأعداد المتصلة.
ويدرك من الوجه الذي عرضت به هذه المبادئ - حتى بهذا الأسلوب - ما لما بعد الطبيعة لأرسطو من تأثير مباشر، وعلى ما يمازج ذلك الفكر من ارتباك وضعف قليلين، فإنه يلاحظ في ذلك المؤلف جهد كريم نحو النظام والوضوح.
وعلم النفس لدى الكندي، كما يسميه في رسالة «العقل» الموجزة، هو على ذات النقطة فيما بعد الطبيعة عنده، فالمذهب كان قد أوضح وكثف بما فيه الكفاية، ولكن مع عرضه - بعد - قليلا من عدم الشفوف وعدم الرشاقة في كثير من النقاط؛ وذلك أن المؤلف يزعم أنه يروي رأي أرسطو وأفلاطون، مفترضا أنه واحد من حيث النتيجة، ويميز أربعة أنواع، أو درجات، للعقل: ثلاثة منها داخل النفس وواحدا منها خارجها . وأول هذه الأنواع الثلاثة التي في النفس، هو بالقوة، وثانيها بالفعل على وجه تمارس النفس به هذا الفعل متى تريد، وذلك كالكاتب الذي يمارس فن الكتابة، وثالثها هو هذا العقل الذي هو في حال الاستعمال فعلا، وذلك ككتابة الكاتب.
وأما النوع الذي يوجد خارج النفس، فهو العقل الفعال، وسنرى ما لنوع العقل هذا من الشأن الكبير في فلسفة الفارابي وفلسفة ابن سينا، وقد تكلم عنه الكندي «إن كل ما كان بالقوة يخرج إلى الفعل بآخر، هو ذلك الشيء بالفعل؛ فإذن النفس عاقلة بالقوة وخارجة بالعقل الأول «العقل الفعال»، بشيء من القوة.» فقال: ومتى اتحدت النفس بالصورة المعقولة، نظرا إلى العقل الفعال، فإن هذه الصورة والعقل يكونان الشيء عينه في النفس، بيد أن العقل الذي يكون بالفعل دائما، خارج النفس؛ أي العقل الفعال، ليس المعقول عينه، ولا مكان لهذه المطابقة في غير النفس.
وكان للكندي تلاميذ، ويظهر أن نفوذه الشخصي كان عظيما، واثنان من هؤلاء التلاميذ يستحقان الذكر؛ فأما أحدهما فهو أحمد بن الطيب السرخسي، الذي يذكر المسعودي له رسائل في الجغرافية وموجزا في المنطق،
6
ويعزو إليه حاجي خليفة شرحا على الرسالة الذهبية لفيثاغورس، وكان في البداءة معلما للمعتضد، ثم صار نديما له، ولكنه أظهر من الغفلة ذات يوم ما أفشى مع سرا ائتمنه هذا الأمير عليه؛ فأمر بقتله سنة 286، وقد كان أحمد السرخسي مفضالا ممتازا، وكاتبا بارعا.
وأما تلميذ الكندي الآخر المعتبر، فهو أبو زيد بن سهل البلخي، ولا ريب في أن أبا زيد البلخي كان دون أستاذه أهمية بدرجات، وإنما يعد أحسن ثروة بالنسبة إلينا؛ وذلك أن أحد كتبه المهمة انتهى إلينا، فنشر وترجم إلى الفرنسية من قبل مسيو كليمان هوار،
7
صفحة غير معروفة