48

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

إن لم يقروا بما يطلب منهم، وينطقوا بما سئلوا أن ينطقوا به، ويحكموا بالحكم الذي أراده المأمون من غير تردد، أو مراجعة، فنطقوا جميعاً بما طلب منهم، وأعلنوا اعتناق ذلك المذهب.

ولكن أربعة ربط الله على قلوبهم، واطمأنوا إلى حكم الله، وآثروا الباقية على الفانية، لم يرضوا بالدنية فيما اعتقدوه فأصروا على موقفهم إصراراً جريئاً، وهم أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجادة، فشدوا في الوثاق، وكبلوا بالحديد، وباتوا ليلتهم مصفدين في الأغلال، فلما كان الغد أجاب سجادة إسحاق فيما يدعوه إليه، خلوا عنه وفكوا قيوده، واستمر الباقون على حالهم.

وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم، وطلب الجواب إليهم، نفرت نفس القواريري، وأجابهم إلى ما طلبوا، ففكوا قيوده وبقي اثنان، الله معهما، فسيقا في الحديد، ليلتقوا بالمأمون في طرسوس، وقد استشهد ابن نوح في الطريق.

والذين أجابوا طلب منهم أن يواجهوا المأمون أحراراً وقدموا كفلاء بأنفسهم، ليوافوه بطرسوس كأخويهم.

٥٠ - وبينما هم في الطريق نعى الناعي المأمون، ولكنه عفا الله لم يودع هذه الدنيا من غير أن يوصي أخاه المعتصم بالاستمساك بمذهبه في القرآن، ودعوة الناس إليه بقوة السلطان، وكأنه فهم أن تلك الفكرة التي استحوذت على رأسه وبين واجب الاتباع، لا يبرأ عنقه منها من غير أن يوصي خلفه به، فوصاه.

فقد جاء في مطلع وصيته: ((هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعاً على نفسه أنه يشهد هو، ومن حضره أن الله عز وجل وحده، لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق، وما سواه مخلوق ولا يخلو القرآن أن يكون شيئاً له مثل كل شيء، ولا شيء مثله تبارك وتعالى وجاء في وسط الوصية: «يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في خلق القرآن)).

ولهذه الوصية لم تنقطع المحنة بوفاة المأمون، بل اتسع نطاقها، وزادت ويلاتها

47