(27) وا لأ لفاظ الدالة على الذي يعرف ما هو كل واحد مما هو مشار إليه وليست في موضوع هي ألفاظ لا تصرف أصلا، أي لا تجعل لها كلم. والدالة على سائر المقولات الأخر متى أخذت من حيث ينطوي فيها المشار إليه بالقوة فلها أشكال، ومتى أخذت دالة عليها من حيث هي مفردة في النفس عن المشار إليه الذي في موضوع فلها أشكال أخر. وكثير من التي يدل عليها من حيث هي مفردة عن المشار إليه تجعل لها كلم . فإذا جعلت لها كلم وحصلت هذه المراتب الأربع من المعارف - أعني علم المشار إليه أولا، ثم أنه هذا الإنسان وهذا الأبيض، ثم الإنسان والأبيض، ثم الإنسان والبياض - ابتدأت التسمية حينئذ، إذ كانت النفس تتشوق إلى الدلالة على ما لا تفي الإشارة بالدلالة عليه. فإن الذي يشار إليه هو هذا الأبيض لا البياض ولا الأبيض على الإطلاق، وهذا الطويل لا الطول ولا الطويل على الإطلاق - ولكن الطويل والأبيض هو أقرب إلى المشار إليه من الطول والبياض.
( 28 ) فإذا انتزعت القوة الناطقة هذه الأشياء بعضها عن بعض، عادت فركبت بعضها إلى بعض ضروبا من التركيب تتحرى بها محاكاة ما هو خارج النفس من التركيب، فيصير لها بعضا إلى بعض تركيب القضايا فتحدث الموجبات والسوالب، وبعضها تركيب تقييد واشتراط، وبعضها تركيب اقتضاء مثل الأمر والنهي، وغير ذلك من أصناف التركيبات.
(29) فتحدث حينئذ ألفاظ وتقدر، ويقع تأمل لها وإصلاح، وان يتم المحاكاة بها للمعقولات، وتحدث به أصناف الألفاظ، ويدل بصنف صنف منها على صنف صنف من المعقولات، فتحصل الألفاظ الدالة أولا على ما في النفس. وما في النفس مثالات ومحاكاة للتي خارج النفس. وإنما قلنا " أولا " أن انفراد المعاني المعقولة بعضها عن بعض ليس يوجد خارج النفس وإنما يوجد في النفس خاصة. والألفاظ ينفرد بعضها عن بعض مدلولا بها على المعاني التي ينفرد في النفس بعضها عن بعض.
(30) والألفاظ هي أشبه بالمعقولات التي في النفس من أن تشبه التي خارج النفس. ولذلك أنكر خلق أن يكون كثير من التي تدل عليها الألفاظ موجودة أو صادقة، مثل " البياض " و" السواد " و" الطول " ، بل يزعمون أن الموجود هو " الأبيض " لا " البياض " و" الطويل " لا " الطول " . بل أنكر كثير منهم أيضا أن يكون " الأبيض " و" الإنسان " موجودا، بل الموجود - زعموا - هو " هذا الإنسان " و" هذا الأبيض " و" هذا الطويل " . بل أنكر أيضا كثير من الناس أن يكون ما يدل عليه المشار إليه ليس بكثير، فأبطلوا وجود المعقولات. غير أن هذه مخالفة المحسوس ومخالفة المعارف الأول وخروج عن الإنسانية. لأن في طباع الإنسان أن ينطق بألفاظ وفي طباعه أن يدل ويعلم، وأن تحصل الأشياء في ذهنه معقولة بالحال التي وصفت. وليس يمكن أن يكشف ما غلط فيه هؤلاء إلا أن توضع الناطقة والتعليم والتفهيم فيما بيننا وبينهم، وإلا لم يكن بيننا وبين النبات والحجارة فرق. فأما إذا وضعنا حيوانا وإنسانا، لم يكن بد من التعليم والتفهيم، بل تجعل ذلك بما شئت من الأمور بعد أن تكون مفهمة أو دالة من بعض لبعض. وإذا كان كذلك عادت المعقولات على ما رتبت.
(31) وظاهر أن التسمية إذا حصلت بالألفاظ وأصلحت على مر الدهور إلى آن أن تحصل الصناعة، وجد فيها ما هو مشتق وما هو غير مشتق، ووجد فيها ما يدل على معان منتزعة عن المشار إليه وعلى ما يدل على هذه المعاني بأعيانها من حيث المشار إليه موصوف بها - وهذا بعضه يدل على ما هو المشار إليه وبعضه يدل على غيره من المعقولات. والمعاني المنتزعة هي متأخرة بالزمان عنها من حيث يوصف بها المشار إليه ومن حيث ينطوي فيها بالقوة المشار إليه. وأما الألفاظ الدالة عليها، فإنه ينبغي أن تكون هناك ألفاظ مشكلة بأشكال تدل عليها من حيث هي منتزعة مفردة عن المشار إليه، وألفاظ أخر تدل عليها من حيث المشار إليه منطو فيها بالقوة.
صفحة ٨