(44) وأما الجمهور والخطباء والشعراء فيتسامحون في العبارة ويجوزون فيها. فلذلك يجعلون لكل اثنين قيل أحدهما بالقياس إلى الآخر مضافين، كانا موجودين باسميهما الدالين عليهما من حيث لهما ذلك النوع من الإضافة، أو كانا موجودين باسميهما الدالين على ذاتيهما، أو كان أحدهما مأخوذا باسمه الدال عليه من حيث له الإضافة التي لهما والآخر مأخوذاباسمه الدال على ذاته. وبهذا يرسم المضاف أولا، إذ كان المضاف في بادئ الرأي هذا رسمه. فلذلك رسمه أرسطوطاليس في افتتاحه باب المضاف في كتاب " المقولات " بأن قال " يقال في الأشياء إنها من المضاف متى كانت ماهياتها تقال بالقياس إلى الآخر بنحو من أنحاء النسبة - أي نحو كان " ، أراد بقوله " ماهيتها " ما تدل عليه ألفاظها كيف كانت على العموم، كانت تدل عليها من حيث هي أنواع الإضافة التي لها، أو كان المدلول عليها بألفاظها ذواتها. فلذلك لما أمعن أرسطوطاليس في تلخيص معاني المضاف لزم عنها ما يبين بأن الرسم الأول ليس فيه كفاية في تحديد المضاف. فحينئذ خص المضاف بالرسم الآخر، فتم له معنى المضاف معنى واحدالحقه حد المضافات ولم يخل أصلا.
(45) فهذه هي المضافات وهذه هي الإضافة وهذه هي الأسماء التي ينبغي أن يحتفظ بها في المضاف والإضافة. وجميع ما تسمع نحويي العرب يقولون فيها إنها مضافة فإنها داخلة تحت المضاف الذي ذكرناه على الجهات التي عند الخطباء والشعراء وعلى الرسم الأول الذي رسم به أرسطوطاليس المضاف في كتابه في " المقولات " . غير أنها مضافات فرط المضيف أو تجوز أن يجعل إضافات بعضها إلى بعض إضافة معادلة، وليست هي على الرسم الأخير الذي رسم به أرسطوطاليس المضاف في ذلك الكتاب. وأنت فينبغي أن لا تسمي المضاف إلا ما كان داخلا تحت الرسم الأخير، وهي ما كانت إضافة أحدهما إلى الآخر إضافة معادلة.
الفصل العاشر:
الإضافة والنسبة
(46) وأما ما سبيله أن يجاب به في جواب " أين الشيء " فإنه إنما يجاب فيه أولا بالمكان مقرونا بحرف من حروف النسبة، وفي أكثر ذلك حرف في، مثل قولنا " أين زيد " فيقال " في البيت " أو " في السوق " . فإن الأسبق في فكر الإنسان من معاني هذه الحروف هو نسبة الشيء إلى المكان أو إلى مكانه الذي له خاصة أو لنوعه أو لجنسه. ويشبه أن تكون هذه الحروف إنما تنقل إلى سائر الأشياء متى تخيل فيها نسبة إلى المكان. والمكان لما كان محيطا ومطيفا بالشيء، والشيء المنسوب إلى المكان محاط بالمكان - فالمحيط محيط بالمحاط والمحاط محاط به بالمحيط - فالمكان بهذا المعنى من المضاف. وأيضا فإن أرسطوطاليس لما حد المكان في " السماع الطبيعي " قال فيه " إنه النهاية المحيط " . فقد جعل المحيط جزءا من حد المكان، وجعل ماهيته تكمل بأنه محيط، وإنيته ما به محيط، والمحيط محيط بالمحاط والمحاط به هو الذي في المكان. فإن كان معنى قولنا " في " أنه محاط، فقولنا " في " ههنا إنما يدل على مضاف. فيكون ما يجاب به في جواب " أين " من المضاف، فأين إذن من المضاف.
(47) غير أنه إن كان معنى قولنا " زيد في البيت " ليس نعني به أنه محاط بالبيت - وإن كان يلزم ضرورة أن يكون محاطا بحسب حد المكان - ، وكان قولنا " في البيت " ليس نعني به هذه النسبة بل نسبة أخرى لا تدخل في المضاف، كانت مقولة أين ليست من المضاف. ويعرض لها أن تكون من المضاف لا من جهة ما هي مقولة أين ومن حيث يجاب بها في جواب سؤال " أين " .ويكون معنى حرف في ههنا نسبة أخرى غير نسبة الإضافة. فإن كان يلحقها مع ذلك نسبة الإضافة، فتكون لها نسبتان إلى المكان، وتكون إحداهما هي التي يليق أن يجاب بها في جواب " أين " ، والأخرى تصير بها من المضاف.
صفحة ١٥