4 (من أبناء البشر).
يقول السماويون، فليمتحن الإنسان كل شيء،
حتى يمكنه، بعد أن يشتد (عوده) بالغذاء،
أن يتعلم الشكر على كل شيء،
ويفهم حرية الانطلاق إلى حيث يشاء.
5
والانطلاق هنا بمعنى الانفتاح على كل جديد ممكن، والتهيؤ للسفر والتنقل والرحيل. وليست حرية الرحيل التي يتحدث عنها الشاعر شيئا هينا يمكنه أن يقوم به ببساطة على أي نحو شاء. إنما هو شيء يستلزم الفهم الدقيق، ويتطلب من الإنسان عناء التعلم الجاد.
قضى هلدرلين السنوات القصيرة التي تمتع فيها بقواه العقلية في سفر ورحيل لا ينقطع. ففي الرابعة عشرة من عمره غادر بيت أمه إلى بلدة دنكندورف، وفي السادسة عشرة انتقل إلى «ماولبرون»، وفي الثامنة عشرة إلى مدينة توبنجن، حيث استجاب لتوسلات أمه بدراسة اللاهوت، وعاش في مدرسة الدير خمس سنوات. وفرغ من دراسته فترك المدينة الصغيرة الحالمة على ضفة «النيكار» وأقام ما يقرب من العام في بلدة فالترزهاوزن ثم غادرها ليقيم ستة شهور في مدينة «يينا» التي كانت كعبة الفلسفة المثالية حينذاك. وفي ديسمبر سنة 1795م دخل بيت عائلة جونتار كمعلم خصوصي، ثم انتقل في خريف سنة 1798م إلى مدينة باد هومبورج. ولم تطل إقامته في هذه المدينة أكثر من سنتين، عاش بعدها ستة شهور في مدينة شتوتجارت. وفي سنة 1801م قام بزيارة قصيرة لبلدة «هاوبتفيل» لم تزد عن أربعة شهور ثم قضى بقية السنة في بلدة نورتنجن التي سبق ذكرها عند الكلام عن نشأته وصباه. وفي شتاء سنة 1802 سار على قدميه متجها إلى مدينة «بوردو» الفرنسية، ليعود منها في الصيف وقد اضطربت حالته العقلية والنفسية اضطرابا شديدا. ولجأ مرة أخرى في صيف سنة 1804 إلى مدينة «هومبورج» ولكن حالته ازدادت سوءا، فنقل في شهر سبتمبر سنة 1806م إلى مستشفى مدينة توبنجن. ومرت سنة أخرى قبل أن يسلم للنجار «تسيمر» الذي تولى رعايته. وبقي الشاعر الذي تخلى عنه ملاكه الحارس أو شيطانه الملهم ستا وثلاثين سنة - أي ما يزيد على نصف عمره - في نفس المكان فلم يغادره إلا إلى التراب.
لعل السطور السابقة قد أعطت القارئ صورة عن هذه الحياة القلقة التي لم تستطع أن تجد الأمن والهدوء في أي مكان. شاء الحظ أن يظل صاحبها دائما «على الطريق»، أن يقضي أيامه القليلة التي سبقت ليل جنونه الطويل بين السفر والتجوال بدون أن يهدأ في مكان أو يطمئن لإنسان . لذلك كان عليه أن يبدأ باستمرار، أن يواجه المطلق وحده. ولم يبق أمامه لكي يستمر في الحياة إلا أن يتجه للحياة نفسها ليستمد منها القدرة على التجدد والبقاء. ولذلك ظل «نبع الحياة» هو وطنه الوحيد، وظل الالتصاق «بجذر الوجود» والإنصات إلى دبيب القوى الكامنة النامية فيه هو ملاذه وملجأه، والفزع إلى الخالدين والسماويين والمقدسين عزاؤه ورسالته.
إنه يعبر عن تجارب هذه الحياة التي قضاها في الرحيل والتجوال - بالمعنى الظاهر والباطن معا - في واحدة من أجمل قصائده، وهي قصيدة «خيالية المساء» أو «فانتازيا المساء»،
صفحة غير معروفة