ولم تجد كل الآلام التي قاستها حبيبته الأولى «لويزة ناست» ولا كل العتاب الذي وجهته إليه من تغيير قراره بالبعد عنها. إن حبها لم يستطع أن يشبع شوقه إلى الحب الحقيقي الذي ستعبر عنه هذه الأبيات من قصيدته السابقة عن الراين:
من الذي بدأ
بإفساد أواصر الحب،
وجعل منها قيودا؟
والجواب عسير عن هذا السؤال، ولكنه يشير إلى جانب من طبيعته المظلمة الملغزة في نظر أصدقائه ومعارفه، ويعبر عن حيرته من نفسه التي لا تطمئن لشيء ولا تستطيع أن ترتبط بإنسان بحيث تعطيه وتضحي من أجله وتفنى فيه.
كان هلدرلين في هذه الأثناء قد انتقل إلى المعهد الديني في مدينة «توبنجن» فدخله في أكتوبر سنة 1788م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الماجستير. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية وما بعد الطبيعة، والتاريخ والرياضة والفيزياء واللغتين اليونانية والعبرية. ثم اتجه بعد إتمامها إلى اللاهوت الخالص فأخذ يتعلم الأصول والجدل وتفسير النصوص والأخلاق، وأصبح من حقه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ بشرط أن يدرس معها اللاهوت!
وكان هذا المعهد الديني في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل كان في الأصل أحد الأديرة الأوغسطينية الرابضة عند أقدام «الشلوسبرج». إن أسواره أشبه بأسوار السجون، وغرفه العتيقة الخشنة أشبه بالزنزانات الرطبة التي تنفذ إليها الريح والمطر والثلج. والطلبة يتكوم بعضهم بجانب بعض اتقاء للبرد؛ إذ لم تكن التدفئة تصل إلا لثلاث عشرة غرفة في المعهد كله، بحيث لم يكن الواحد منهم يستطيع أن يكتب خطابا بغير أن تلتهمه عين جاره .. وكان نظام التربية يقضي بالتجسس على الطلبة ومراقبتهم مراقبة شديدة، وكان هذا يثير ثائرة هلدرلين ويجرح شعوره بالفردية والكبرياء جرحا عميقا .. ومع ذلك فقد ظل يحتمل هذه الحياة القاسية ويصبر على قيودها ومكارهها، مستجيبا لتوسلات أمه المسكينة التي لولاها ما قضى في هذا الدير يوما واحدا. ها هو ذا يعبر عن سخطه على الوصاية المفروضة عليه فيقول:
لم أعد أطيق هذا!
أن تسير خطى الصبي أبدا أبدا،
خطاه القصيرة المحسوبة كل يوم
صفحة غير معروفة