وقال جماعات منهم إمام الحرمين، والإمام الرازي إنه لفظي، بمعنى أن القائلين بأن الواجب الكل -وهم المعتزلة - عنوا به أنه لا يجوز الإخلال بكلها، ولا يجب الإتيان به، لكنهم فروا من انتفاء وجوب بعضها، لما فيه من التخيير بين واجب وغيره، بناء على قاعدتهم في أن الأحكام تابعة للمصالح، فإن كان بعض الخصال ليس فيه مقتضى للوجوب لم يصح التخيير بينه، وبين ما فيه ذلك، وإلا لزم القول بوجوب الكل.
صاحب المتن: وقيل: الواجب معين، فإن فعل غيره سقط، وقيل: هو ما يختاره المكلف.
الشارح: «وقيل الواجب» في ذلك واحد منها «معين» عند الله تعالى، إذ يجب أن يعلم الآمر المأموربه، لأنه طالبه ويستحيل طلب المجهول «فإن فعل» المكلف المعين فذلك، وإن فعل «غيره» منها «سقط» الواجب بفعل ذلك الغير، لأن الأمر في الظاهر بغير معين. قلنا: لا يلزم من وجوب علم الآمر المأموربه، أن يكون معينا عنده، بل يكفي في علمه به أن يكون متميزا عنده عن غيره، وذلك حاصل على قولنا لتميز أحد المعينات المبهم عن غيره من حيث تعينها.
المحشي: فإن قلت: يمنع من كونه لفظيا الثواب والعقاب على الكل، قلت: قد نقل الآمدي عن المعتزلة أنه لا ثواب، ولا عقاب، إلا على البعض، وإن جرى في الاحتجاج عليهم، على مقتضى قولهم الواجب الكل كما صرح هو بذلك. قوله: «ما ذكر» أي من أنه يثاب بفعلها ثواب فعل واجبات. ويعاقب بتركها عقاب ترك واجبات.
قوله: «في ذلك» أي في الأمر بواحد منها مما ذكر. قوله: «معين عند الله» أي ولا يختلف بالنسبة للمكلفين بخلافه في القول الآتي.
الشارح: «وقيل: هو» أي الواجب في ذلك «ما يختاره المكلف» للفعل، من أي واحد منها، بأن يفعله دون غيره، وإن اختلف باختلاف اختيار المكلفين للاتفاق على الخروج عن عهدة الواجب بأي منها يفعل، قلنا: الخروج به عن عهدة الواجب، لكونه أحدها، لا لخصوصه، للقطع باستواء المكلفين في الواجب عليهم ...
المحشي: قوله: «بل يكفي في علمه به أن يكون متميزا عنده عن غيره» تحريره: أن العلم الذي لا يتحقق الإيجاب بدونه أن يعلم الآمر الواجب على حسب ما أوجبه، فإذا أوجب واحدا مبهما من أمور معينة، وجب أن يعلمه كذلك، وإلا لم يكن عالما بما أوجبه، وهو محال.
قوله: «أي الواجب في ذلك» يعني الواجب المعين عند الله ما يختاره المكلف، بقرينة ما ذكره بعد، من أن الأقوال غير الأول، متفقة على نفي إيجاب واحد لا بعينه مع كون القول بذلك مع ما قبله من تفاريع القول بأن الواجب واحد معين عند الله، كما أفاده كلام العضد وغيره، وإن أوهم كلام كثير -كالمصنف- خلافه، هذا وكلام الشارح في ما يأتي في تحريم واحد لا بعينه، يقتضي موافقة الكثير. قوله: «من أي واحد منها» بيان ل «ما يختاره المكلف».
الشارح: والأقوال غير الأول للمعتزلة، وهي متفقة على نفي إيجاب واحد لا بعينه، كنفيهم تحريم واحد لا بعينه -كما سيأتي-، لما قالوا من أن تحريم الشيء أو إيجابه، لما في فعله أو تركه من المفسدة التي يدركها العقل، وإنما يدركها في المعين. وتعرف المسألة على جميع الأقوال: بالواجب المخير، لتخيير المكلف في الخروج عن عهدة الواجب بأي من الأشياء يفعله، وإن لم يكن من حيث خصوصه واجبا عندنا.
المحشي: قوله: «والأقوال غير الأول للمعتزلة» فيه تجوز، فإن الأخير منها، قيل: والثالث يسمى قول التراجم، لأن كلا من الأشاعرة والمعتزلة تنسبه إلى الأخرى، فاتفق الفريقان على بطلانه.
إذا فعل الكل أوترك الكل فما الحكم؟
صاحب المتن: فإن فعل الكل، فقيل: الواجب أعلاها.
الشارح: «فإن فعل» المكلف على قولنا «الكل» وفيها أعلى ثوابا وعقابا وأدنى كذلك، «فقيل الواجب» أي المثاب عليه ثواب الواجب، الذي هو كثواب سبعين مندوبا، أخذا من حديث رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان. «أعلاها» ثوابا.
المحشي: قوله: «فإن فعل المكلف على قولنا الكل» محل ما رتبه عليه إذا جاز الجمع بين الكل كخصال الكفارة، بخلاف ما إذا لم يجز، كجماعة استعدوا للإمامة بعد موت الإمام، فعلى المكلفين نصب واحد منهم، ولا يجوز زيادة عليه، فلا يأتي فيه ما رتبه على ذلك.
صفحة ٥٢