قال: وحدثني أبو أحمد الحارثي أيضًا: قال: حضرت هذا الكاتب وهو يشرب. وقد قل نبيذه، فكتب إلى صديق له رقعة يطلب منه نبيذًا ما رأيت أطرف منها، فقلت له: يا سيدي قد رأيت كتاب بغداد وطرقت الآفاق ما رأيت أحسن من هذه الرقعة، فأحب أن تأذن لي في نسخها، فقال: يا بابا، ونحن اليوم أين بقي ما نحسنه! قد نسيناه كله مع هذا القائد! انسخها .. وأعجبه ذاك، وكانت: "كتبت هذه الكلمات يا سيدي وزري أعني به قميصي ومن هو فاضلي ومولاي وأنا عبده ومتصنع له، أطال الله بقاءه، من منزلك الذي أنا ساكنه، وقد نقصت الدم من قفاك المرسوم بي، وليس وحق رأسك الذي أحبه عندي من نبيذك الذي تشربه شيء، فبحيلتي العزيزة عليك إن كان عندك من نبيذ اشربه فوجه إلي منه بما عسى الأسهل على يدي غير هذا الرسول، فإنه ثقة، أوثق مني ومنك، وإن أردت ألا تختمه فلا تفعل، فإن الصورة لا توجب إلا ذاك، فعلت عن شاء الله.
قال: وكنت يومًا عنده فجاءه صديق له من كتاب الديلم مجروحًا، فقال له: مالك؟ قال: جاء إلى الأمير اليوم كتاب من وكيله في إقطاعه فرمى به إلي وقال: اقرأه، وكنت قبل ذا إذا جاءه كتاب أخرج إلى المعلم حتى يقرأه علي وأحفظه، وأدخل فأقرؤه عليه، فلم أقدر اليوم أن أخرج من بين يديه، فقلت له باكيًا: أنا لو كنت أحسن أقرأ وأكتب كنت أكون كاتب الأمير علي بن بويه! فرماني بالزوتين فجرحني.
قال: وبلغني عن بعض قواد الديلم انه قال: كاتبي أحذق الناس بأمر الدواب والضياع وشراء الأمتعة والحوائج، وما له عيب إلا أنه لا يقرأ ولا يكتب!.
٢١٣ - وقال: حدثني محمد بن عبد الله التميمي قال: حدثني الهمذاني الشاعر قال: انحدرت أريد الحامدة، وكان في الوقت يليها الهيثم بن محمد العامل. فمدحته، فقال لي: لست ممن يعطي على المدح شيئًاأريأ، فلو هجوتني لكان أجدى عليك! قال: فأردت النهوض من مجلسه، فلما رأى ذلك قال: اجلس، فجلست، وجيء بمائدة لم أر مثلها، عليها من كل شيء حسن طيب شهي لذيذ، فأقعدني ناحية، وجعل يأكل ويقول: لو هجوتني لأكلت معي! وكلما مر لون وصفه ونعته وشهانيه وحسرني عليه، وأرانيه ومنعنيه، والروائح تقتلني، والمشاهدة تحسرني، إلى ان فرغ من الطعام، وجيء بالحلوى، وكانت الصورة فيه مثلها في الطعام، ثم جيء بغسول من دواري عجيبة طيبة، فغسل يده بها وهو يقول: لو هجوتني لأكلت مما أكلت وتحليت مما تحليت به وغسلت يدك من هذا! ثم أحضر الشراب وعبئ بحضرته مجلس ما ظننت أن مثله يكون إلا في الجنة حسنًا، بأصناف الفاكهة وألوان الرياحين والطيب والكافور والتماثيل والشمامات والمطبوخ القطربلي والنبيذ من الزبيب والعسل، وهو يقول: لو هجوتني لشربت من هذا وحبيت من هذا وتنقلت من هذا، قم الآن وكل ما تستحقه بمدحي، فقمت وجاءوني بطبق وسخ عليه أرغفة سود وقطع مالح ومرق سكباج أحمض من الفراق، وقليل تمر، فأكلت لفرط الجوع، وجاءوني بأشنان أخضر لم ينق يدي، وجئت فجلست عنده، فقال: اجعلوا بين يديه من الشراب مثل ما يستحق من مدحي! فجاءوني بقنينة زجاج أخضر غليظ وحش وقدح مثلها وسخين وحشين، وفي القنينة نبيذ دوشاب طري، وباقلي مملوح وباقة ريحان، فشربت أقداحًا، وهممت بهجائه وأنا أمتنع خوفًا من أن يكون ذاك يصعب عليه، وإنما يمازحني بما يقوله لي، وأنا أفكر في ذاك إذ خرج خمسين دينارًا فقال: الآن قد فاتك ما مضى، ولكن اهجني مستأنفًا حتى أعطيك لكل بيت دينارًا، فقلت إن كان لابد فاكتب وقلت:
جاءت بهيثم أمّهُ ... من بغيها وزنائها
فرمى إلي دينارًا، فقلت:
جاءت به من نتنهِ ... لا شكَّ يومَ خرائها
يا هيثمُ بنَ محمدٍ ... يا بنَ التي لشقائها
فقال: ما صنعت شيئًا! قلت: انتظر، قال: هات، فقلت:
أمستْ تناكُ بكسرةٍ ... وكذاك مهرُ نسائها
فرمى بقية الدنانير إلي، وقال: حسبك، ما أريد أجود من هذا ولا أكثر! هاتوا له مما أكلت؛ فقدم لي من جميع ما كان على المائدة فأكلت، وقدم لي من الشراب الذي بين يديه والتحايا والأنقال، فلما أراد القيام أمر لي بجائزة وخلعه فأخذتها وانصرفت من عند أحمق الناس وأجهلهم على الإطلاق.
1 / 56